بلغة الفقيّة - ج ٢

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٥

لأنا نقول : نمنع أولا كون العموم فبها عموم الحكمة حتى يتوقف على إحراز ذلك ، بل هو عموم سرياني بالوضع ، بناء على الأقوى من تعلق الأحكام بنفس الطبائع السارية في جميع مصاديقها وأفرادها لأنها من حيث وجودها ولا بالطبائع الموجودة ، وثانيا نمنع الإهمال ، كيف والأصل في كلامه هو البيان ، بل هو الظاهر هنا بقرينة المقابلة للربا سيما مع تمسك العلماء بعمومها في موارد عديدة ، فظهر لك تمامية صغرى الدليل وكبراه وصح الاستدلال بالآية الشريفة على المدعى من إفادة المعاطاة الملك.

الثاني من الأدلة قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) بتقريب أن المعاطاة تجارة لغة وعرفا فتدخل في حكم المستثنى ، وهو الجواز والإباحة وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ـ على ما حكى عنهم ـ بالنصب على ان (كان) ناقصة ، والتقدير : الا أن تكون التجارة تجارة عن تراض ، وأموالكم أموال تجارة حذف المضاف وأقيم

__________________

أو غيرها كالإرث ، غاية الأمر أنه ملك آني لا يترتب عليه شي‌ء من آثاره سوى الانعتاق المتوقف على سبق الملك ، وأما عدم تحقق الملك أصلا وتنزيل الملك على الشراء وكون التعبير عنه بالملك تسامحا ـ كما ذكره سيدنا وقواه ـ مع انه لم يرد في الروايات ذكر للشراء وجلها عبر فيها : إذا ملك الرجل والدية إلخ وإذا ملكهن وإذا ملكن نعم في رواية ابن سنان : «إذا اشترى الرجل أباه أو أخاه فملكه فهو حر» وهي ـ أيضا ـ ظاهرة فيما ذكرناه : من ترتب الحرية على الملك المترتب على الشراء.

وما ذكره ـ قدس سره ـ بعد التنزل : من كون الترتب على الملك وتقدمه على الانعتاق بالطبع بدعوى كون الشراء ـ مثلا ـ سببا للملك والانعتاق معا غير ان الأول مقدم على الثاني بالذات ، لا بالزمان ، ولعله لما قد يقال من أن التأخر في الزمان مستلزم لتأخر المعلول عن علته ، ولو

١٠١

المضاف اليه مقامه ، والباقون بالرفع على ان (كان) تامة بمعنى أن تقع تجارة ، وعلى التقديرين فالظاهر كون الاستثناء منقطعا ، لأن المستثنى ـ وهو التجارة عن تراض ـ ليس من جنس الباطل الذي هو المستثنى منه المشعر بعليته للحكم وهو الإباحة ، والنهي عن الأكل كناية التصرف عبر به لكونه من أعظم التصرفات ، والحكم التكليفي مستلزم للحكم الوضعي ، فالصحة مدلول عليها بالالتزام وجواز مطلق التصرف مدلول عليه بالعموم المستفاد

__________________

بمقدار آن ولكنه ـ مع ذلك ـ هو خلاف المتفاهم العرفي المنزل عليه كلامهم عليهم السلام.

والظاهر أن سيدنا إنما عدل عن ثالث الوجوه واستضعفه لتصريح الروايات الأول بعدم الملكية أصلا بالنسبة إلى مواردها ، مضافا الى أن مقام الأبوين لا يناسب التملك ، وكذا المحارم ، ولكن الظاهر أن المنفي في الروايات الملك المقتضى للاسترقاق واتخاذ العبودية نحو سائر المماليك مما لا يناسب مقام الأبوين ، والذي لا يتناسب مع المحارم اتخاذهن إماء له وسراري كغيرهن من الإماء. كما ان مالا يناسب الولد رقيته وعبوديته لأبويه.

والحاصل ان روايات الباب على طائفتين ، فطائفة تنفي أصل الملك بالنسبة إلى الأبوين والولد والمحارم ، وتثبته لما سواها من الأرحام ، وطائفة تثبت الملك لهم ولكنه المتعقب للعتق والتحرر بالنسبة الى ما تنفيه الاولى ، ومقتضى الجمع رفع اليد عن ظهور إحدى الطائفتين لأظهرية الأخرى ، والمدعى أظهرية الطائفة الثانية في تحقق الملك بالنسبة إلى مواردها ، ولكنه المتعقب للتحرر ، فلتكن هي القرينة الصارفة لظهور الطائفة الأولى في نفي تحقق الملك.

وبالجملة ، لم يتضح مورد من الموارد التي ذكرها سيدنا ـ رحمه الله ـ لم يطرد فيها تحقق النقل الاعتباري في البيع.

١٠٢

من حذف المتعلق ، والحكم بالإباحة المطلقة يعم جميع أقسام التجارة عن تراض التي منها المعاطاة والا لكان بعضها باطلا داخلا في المستثنى منه وكان من جنسه والمفروض كونه خارجا عنه ، فالتجارة عن تراض بجميع أقسامها التي منها المعاطاة صحيحة وكان أكل المال بها أكلا بالحق لا بالباطل إلا ما خرج بالدليل.

لا يقال : ان هذا النحو من الاستثناء مسوق لإفادة شرطية المستثنى نحو : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، ولا صلاة إلا بطهور ، المستفاد منه عموم حكم المستثنى منه دون حكم المستثنى ، ضرورة عدم صحة الصلاة بمجرد الطهور أو الفاتحة بل مسوق لبيان بطلان كل صلاة فاقدة لهما لا صحة كل صلاة مشتملة عليهما وبالجملة لا عموم في المستثنى حتى يتمسك به في المقام بل هو مهمل لا إطلاق فيه وانما ذكر لإفادة محض الشرطية وعموم حكم المستثنى منه.

لأنا نقول : لا يتم ذلك بناء على ما هو الظاهر من كون الاستثناء منقطعا ـ كما قيل ـ لأن مغايرة المستثنى للمستثنى منه بالجنسية في المنقطع لا يستلزم كون ما عدا المستثنى من جنس المستثنى منه كلية حتى يؤخذ بعموم الحكم فيه ، بل غايته ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى ولو لمغايرته له في الموضوع والجنسية ، فيكون الكلام حينئذ مسوقا لبيان حكم المستثنى فقط وانما ذكر المستثنى منه توطئة لذلك ، فهو نظير قولك : لا تأكل الحرام الا ما كان كدا باليمين ، المسوق لبيان حلية ما حصل بالكد لا حصر الحلال فيه وحرمة ما عداه. نعم لو كان التعبير لا أكل بالحق إلا ما كان تجارة عن تراض ، لكان قياسه بنحو لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ، في إفادة الشرطية وعموم المستثنى منه وإهمال المستثنى حسنا.

هذا ويمكن تمامية ذلك على القول بكون الاستثناء متصلا ـ كما عن بعض ـ بإضمار شي‌ء ، والتقدير : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وان تراضيتم

١٠٣

فالمستثنى منه حينئذ يعم التجارة وغيرها مع التراضي وغيره ، وكان كل ذلك أكلا بالباطل إلا ما كان تجارة عن تراض.

الا انه يضعفه ـ مضافا الى لزوم الحذف والإضمار حينئذ ـ الالتزام بالنسخ أو كثرة التخصيص المستهجن لعدم حصر أسباب حل الأكل والجواز بالمستثنى وهو التجارة عن تراض ، ضرورة انه ـ كما يحل بذلك ـ يحل بالهبات والوقوف والصدقات والوصايا وأروش الجنايات وسائر النواقل الشرعية والإباحات بقسميها الشرعية والمالكية ، فكيف يكون مطلق غير التجارة عن تراض أكلا بالباطل ، ولا كذلك على المنقطع لرجوعه الى ذكر السبب الخاص لا حصر الأسباب به ، فتبين بذلك ظهور الاستثناء في المنقطع وعليه يتم الاستدلال بالآية على المدعى ، نعم ربما يخدش الدليل بوجه آخر وهو ان الإباحة المستفادة من الحل في المستثنى مرددة بين معنيين الإباحة المسببة عن الملك التي هي من آثاره والإباحة المجردة عنه المقابلة له وان عمت سائر التصرفات حتى المتوقفة على الملك ، والاستدلال انما يتم على ارادة المعنى الأول وهو موقوف على قرينة معينة مفقودة في المقام ، فيكون مجملا لا يصلح الاستدلال به على المدعى.

ودعوى ان حلية ما يتوقف على الملك كالبيع والعتق ونحوهما كما هو المفروض من كون الإباحة مطلقة تصلح أن تكون قرينة لإرادة الإباحة المسببة عن الملك.

يدفعها لزوم الملك عند التصرف الخاص لا تحققه من الأول.

والجواب عنه ـ مضافا الى ما عرفت من أن الإباحة المطلقة المحيطة بجميع جهات التصرف في العين ترادف ملكية الرقبة ـ لزوم التخصيص وعدم جواز التصرف المتوقف على الملك لو أريد بالإباحة المجردة ، لأن عمومها المستفاد من حذف المتعلق يعارضه ما دل على توقف هذه التصرفات الخاصة كالبيع

١٠٤

والعتق والوقف والوطء على الملك تعارض العام والخاص المطلق فيجب تخصيص العام به ، ولا يلزم ذلك لو أريد بها الإباحة الناشئة عن الملك وحيثما دار الأمر بين ما يلزم تخصيصه لو أريد وما لا يلزم تخصيصه ، تعين الثاني بحكم أصالة العموم الكاشفة عن المراد والرافعة للإجمال نظير ما تقدم في الخاص المجمل المصداقي حيث يرتفع الإجمال عنه بأصالة العموم.

ودعوى الفرق بينهما بأن المقام من الدوران بين العامين أحدهما مخصص والآخر غير مخصص وهذا بخلاف الخاص المردد بين ما يوجب تخصيص العام به وما لا يوجب ذلك ، وبعبارة أخرى مرجع الشك في المقام الى نفس العموم لا الى تخصيص العام.

يدفعها ان ذلك ، وان كان مسلما وليس في كونه من الشك في التخصيص بدرجة الوضوح مثل الخاص المجمل المصداقي ، إلا انه يرجع اليه بعد التأمل فتأمل ، فيصلح حينئذ ان تكون أصالة العموم قرينة معينة للمعنى المراد من الإباحة المستفادة من حكم المستثنى في الآية الشريفة.

ان قلت : ان المشهور من أهل القول بالإباحة المجردة بل جلهم ـ عدا من شذ منهم كالمحكي عن الشهيد في تعليقه على القواعد ـ يقولون بجواز جميع التصرفات حتى المتوقفة على الملك ، ولا يقولون بتخصيص عموم الإباحة بتلك التصرفات حتى يدور الأمر بين التخصيص وعدمه ، ويقولون بدخوله آنا ما قبل ذلك التصرف في الملك للجمع بين ما دل على جواز تلك التصرفات من الإجماع والعموم المستفاد من حذف المتعلق وما دل على توقفها على الملك وأصالة عدم الملك بالقبض والتعاطي حينئذ فلا قرينة على إرادة أحد المعنيين من الإباحة ان لم نقل بظهورها في المجردة عن الملك.

قلت : ضرورة الجمع والالتجاء الى الدخول في الملك آنا ما قبل التصرف متوقف على ثبوت مقدمات لا دليل لهم على بعضها ، لأن التزامهم بجواز

١٠٥

تلك التصرفات : ان كان من جهة عموم حذف المتعلق فيلزمهم تخصيصه بما دل على توقفه على الملك لا خصيته منه مطلقا وان كان من جهة الإجماع على جوازها فلا يعلم تحققه ممن يقول بالإباحة المجردة بل لعله من جهة الإباحة المسببة عن الملك ، نعم لو كان عدم الملك عند القبض والتعاطي مدلولا عليه بدليل اجتهادي معتبر لكان الالتجاء الى الملك آنا ما قبل التصرف حسنا ولكن ليس عليه دليل إلا الأصل المأخوذ في مجراه الشك ويرتفع الشك بظهور العموم المستفاد من حذف المتعلق المعتضد بالإجماع والشهرة المحققة على جواز التصرفات المتوقفة على الملك في إرادة الإباحة المسببة عنه من حكم المستثنى فتكون الآية الشريفة بمعونة ما ذكرنا واردة على استصحاب عدم الملك بالقبض مؤيدا بلزوم ما يستبشع منه العقل من الدخول في الملك بمجرد الإرادة للتصرف وان الإرادة من المملكات والنواقل فافهم.

الثالث ـ قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» والاستدلال به على المدعى مبني أولا ـ على شمول العقد للمعاطاة اما بناء على تفسيره بمطلق العهد ـ كما وقع في صحيحة ابن سنان وتفسير بعض أهل اللغة به الشامل حينئذ للمعاطاة قطعا أو بناء على كفاية مطلق التوثيق الشامل للتوثيق القولي والفعلي بناء على تفسيره كما عن أكثر أهل اللغة بالعهد الوثيق أو المشدد احترازا عما لا وثوق فيه أصلا كالعهود القلبية التي من المعلوم عدم وجوب الوفاء بها ، بل لا بد من كون العهد القلبي منكشفا بما يوجب الوثوق به من الكواشف مطلقا ولو كان الكاشف فعلا ومنه المعاطاة ، وحمل ما ورد في تفسيره بمطلق العهد على بيانه في الجملة ، وثانيا ـ على ارادة وجوب العمل على طبق ما يقتضيه العقد ، ان لازما فلازما وان جائزا فجائزا ـ كما عن بعض ـ فجواز الرجوع في العقود الجائزة وحرمة التصرف في العين بعده هو مقتضى العقد الجائز فيجب الوفاء به بناء على ذلك والحكم التكليفي المستفاد من الأمر بالوفاء مستلزم للصحة ، إذ الفاسد لا يجب الوفاء

١٠٦

به. واما بناء على اختصاصها بالعقود القولية ، إما بدعوى انصراف العقد اليه ، أو بدعوى ظهور الوثوق والتشديد المقيد بهما العقد في اللغة والوثوق التام لا في الجملة الغير الحاصلة إلا بالقول لعدم المجال معه إلى الإنكار ولا مسرح لإبداء عذر معه ربما يكون مسموعا عند العقلاء لو كان الكاشف عما في القلب هو الفعل فالعهد الفعلي اى الكاشف عما في الضمير بالفعل ربما لا يحصل منه الوثوق التام بإمكان إبداء عذر مخالف له مقبول عند العقلاء ، لعدم صراحة الأفعال في الكشف عن الباطن بخلاف الأقوال التي هي صريحة في ذلك مع بناء العقود على المداقة حسما للعناد وقطعا لمثار الفساد فلا يشمل المعاطاة قطعا ، كما لا يشملها أيضا لو قلنا باختصاصها بالعقود اللازمة كما عن الأكثر بدعوى ظهورها في لزوم الوفاء بما جرى عليه العقد وعدم جواز نقضه بفسخ ونحوه لان المدعى جواز الملك دون لزومه ، فالاستدلال به موقوف على إحراز مقدمتين كل منهما في حيز المنع : شمول العقد للمعاطاة ، وتعميمه للعقود اللازمة والجائزة ، كيف وظاهر الأكثر استفادة اللزوم منها ولذا يستدلون بها على أصالة اللزوم في العقود كما يظهر ذلك لمن راجع كلماتهم في موارد عديدة.

لا يقال : انا نمنع ابتناء الدليل وتوقفه على المقدمة الثانية لأن التفكيك بين اللزوم المستفاد من الآية وبين الصحة المدلول عليها بالملازمة ممكن في الحجة ان لم ينفكا في الوجود ، وبعبارة اخرى : انا نلتزم بتخصيص اللزوم المستفاد منها بغير المعاطاة لما دل على عدمه فيها ونقول بالصحة فيها أيضا ، وما الآية إلا كالرواية المشتملة على ما لا يقول به أحد فإنها لا تسقط عن الحجية في غيره من مداليلها ، وبالجملة ليست آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» إلا كآية «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» و «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ» في إفادتها اللزوم والصحة بالملازمة معا وانتفاء اللزوم لدليل لا يوجب انتفاء الصحة

١٠٧

اللازمة ـ كما في الآيتين ـ حيث استدللنا بهما على الصحة في المعاطاة ولم نقل باللزوم فيهما مع كون اللزوم مستفادا منهما أيضا ولذا استدل بهما أيضا على أصالة اللزوم في البيع.

لأنا نقول : جهة مفاد الصحة في الآيتين غير جهة مفاد اللزوم فيهما لأن الصحة مستفادة فيهما من الحكم بالحل والأمر بالأكل الدال هنا على الإباحة واللزوم ولو بعد الرجوع بفسخ ونحوه مستفاد من العموم في الأحوال أو الأزمان ، فجهة مفاد الصحة غير جهة مفاد اللزوم يمكن التفكيك بينهما في الحجة ، ولا كذلك آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإن الصحة فيها مستفادة من نفس الأمر بالوفاء الدال على اللزوم ولا يمكن التفكيك بينهما في الحجة أيضا لوحدة جهة الإفادة فانتفاء اللزوم المستفاد من الأمر بالوفاء ابتداء لدليل مستلزم لانتفاء الصحة المستفاد منه بالتبع والملازمة فافهم فإنه دقيق

الرابع ـ قوله عليه السلام : «الناس مسلطون على أموالهم» والتقريب فيه : ان المراد بتسلط الإنسان على ماله هو القدرة عليه بمعنى نفوذ تصرفاته فيه ، ومقتضى عموم السلطنة نفوذ جميع التصرفات التي منها المعاطاة إذ المنع عنه سلب للقدرة عليه من هذه الجهة وهو ينافي العموم المستفاد من الحكمة أو حذف المتعلق.

وناقش في ذلك شيخنا المرتضى (في مكاسبه) بما يرجع ملخصه الى أن غاية ما يستفاد من الرواية هو عموم السلطنة بالنسبة إلى أنواع التصرفات بحيث لو شك في قدرته على نوع خاص منها حكم بالعموم ، وأما بالنسبة إلى كيفية حصوله وسبب تحققه ، فلا عموم فيها لأنها لم تكن مسوقة لبيان الأسباب الموجبة لها ، فهي مهملة من هذه الحيثية وان كانت مطلقة من حيثية أنواع التصرف ، وبالجملة ، فالقدر المسلم من العموم هو العموم بحسب الكم لا بحسب الكيف.

١٠٨

وهو كلام حسن متين لولا ظهورها بحكم التبادر في إمضاء ما هو المتعارف عند الناس في أنحاء تصرفاتهم في أموالهم كما وكيفا ، فهي ناظرة الى ما هو المتعارف عندهم الذي منه المعاطاة كيف ولو كان المقصود منها خصوص الأنواع الثابتة شرعا لكان ذلك تأكيدا لأدلة تلك الأسباب للاكتفاء بها حينئذ عنه ولذا لو لم تكن أدلة تلك الأسباب لوجب حمل الرواية على الإمضاء لما هو المتعارف بينهم وهو واضح بحكم الوجدان والتبادر ، فالرواية وافية في إثبات المدعى.

الخامس ـ السيرة القطعية الجارية بين الناس من العوام والخواص خلفا عن سلف في معاملاتهم بالمعاطاة بقصد التمليك والتملك عند التعاطي وترتب جميع التصرفات عليه حتى المتوقفة على الملك ، مع بنائهم على حلية ذلك وجوازه ، لا أنها منبعثة عن عدم المبالاة منهم.

فلا وجه للمناقشة فيها أولا بمنع قيامها على الموضوع من قصد التمليك بالمعاطاة كما ذهب اليه شيخنا في (الجواهر) حيث جعل محل النزاع في المعاطاة هو ما كان منها بقصد الإباحة لا بقصد التمليك ، وثانيا بمنع ترتب التصرفات المتوقفة على الملك عليه ـ كما تقدم عن الشهيد في تعليقه على القواعد ـ وثالثا بمنع كونها الكاشفة بل هي كبعض سيرهم الناشئة عن قلة المبالاة في الدين والتسامح في أحكام سيد المرسلين ـ كما احتمله شيخنا المرتضى في (مكاسبه).

إذ السيرة في المقام تنحل بالتحليل إلى الأمور الثلاثة قائمة على كل واحد منهما بحكم الوجدان ، ومن نظر الى ذلك بعين الإنصاف وجانب طريق الاعتساف وجدها أوضح من الشمس وأبين من الأمس غنية عن البيان غير محتاجة إلى البرهان.

نعم قد يناقش في السيرة بوجه آخر وهو أن اعتبارها انما هو من

١٠٩

حيث كشفها عن تقرير الامام وإمضائه ، وإلا فعمل الناس من حيث هو عملهم ليس بحجة ، وإحرازه يتوقف على شروط : منها ـ عدم الردع لهم مع تمكنه منه وهو غير معلوم في المقام اما بناء على الاكتفاء بما دل على توقف تلك التصرفات على الملك عن الردع ، فتكون تلك الأدلة كافية في الردع أو لاحتمال وجود مانع عنه يكون بسببه غير متمكن من الردع ، وإحراز عدم المانع بالأصل لا يجدي فيما كان اعتباره من حيث القطع بالكشف وليس هو من الدليل الظني حتى يكون الأصل فيه معتبرا.

لا يقال : على الأول لا تعارض بين أدلة تلك التصرفات نحو «لا عتق إلا في ملك» «ولا وطء إلا في ملك» وبين السيرة المفيدة للملك حتى تصلح تلك الأدلة للردع بل هي محققة لشرط صحة التصرف وهو الملك ، لأنا نقول : الحكم بصحة التصرف موقوف على إحراز الملكية قبله والمفروض كونها مستفادة من السيرة على التصرفات فاستفادة الملكية من السيرة متأخرة في المرتبة عن التصرف ، فكيف يكون شرطا لصحته نعم المتيقن تحققه منهم قبل التصرفات هو اعتقاد الملكية والمتوقف عليه التصرفات نفس الملكية لا اعتقادها ، وبعبارة أخرى : الحكم بصحة التصرف موقوف على ثبوت الملك فلو توقف ثبوت الملك على صحة التصرف لزم الدور المحال ان قلت : ان الردع المعتبر عدمه في كشف العمل عن الإمضاء انما هو الردع عن خصوص ما عليه العمل والسيرة ولذا لا يكتفى في ردع من شرب الخمر ـ مثلا ـ بعمومات الكتاب والسنة الدالة على حرمته بل يجب ردعه وزجره عنه بالخصوص ان جوز عليه الارتداع مع ان العمومات أظهر دلالة في المنع عن العمل الشخصي من تلك الأدلة في مورد المعاطاة فكيف تصلح ان تكون رادعة عنه.

قلت ما ذكرته حسن ، ان كان وجوب الردع من باب الأمر بالمعروف

١١٠

والنهي عن المنكر واما ان كان من باب الإرشاد الواجب بيانه على سفراء الله ـ سبحانه وتعالى ـ لما دل على أن التكاليف ألطاف واجبة كما فيما نحن فيه فتكفي العمومات ونحوها في الإرشاد وبيان الأحكام الإلهية ، وان استدل على اعتبار السيرة بوجوب الأمر بالمعروف وجوب الإرشاد أيضا إلا أن بين مورديهما عموما من وجه وما نحن فيه من مورد الإرشاد الذي تكفي في بيانه العمومات ونحوها حينئذ فتكفي تلك الأدلة نحو «لا عتق إلا في ملك ولا وطء إلا في ملك» إرشادا للمنع عن نحو هذه التصرفات في المأخوذ بالمعاطاة.

والجواب عنه : اما عن الأول فقد يقال أولا : ان تلك الأدلة غير ناظرة الى ما عليه السيرة من المعاطاة لتصلح ان تكون ردعا لهم بل ليست مسوقة الا لإفادة مجرد الشرطية وبيان الحكم الكبروي وأين ذلك من مفاد السيرة الذي هو من الحكم الصغروي وبمنزلة الموضوع من الكبرى وثانيا مع التنزل لنا ان نمنع كفاية ذلك للإرشاد بعد قيام احتمال تحقق الملك بالمعاطاة على حسب معتقدهم لكونه بيعا عرفا فيكون السكوت عن ردعهم حينئذ لتحقق الشرط وبعبارة أخرى السكوت عن ردع من أعتق المأخوذ بالمعاطاة كما يحتمل ان يكون للاكتفاء عنه بقوله (لا عتق إلا في ملك) يحتمل أيضا ان يكون لتحقق شرط العتق وهو الملك ، ومع قيام الاحتمالين يكون مجملا لا يصلح للإرشاد والبيانية.

واما عن الثاني وهو الشك في التمكن منه الذي مرجعه الى الشك في وجود المانع دون أصل المقتضى فاجراء الأصل فيه وفي أمثاله مما لا شك فيه ، وهو من الأصول العقلائية لا ينافي قطعية الكشف عن الإمضاء بالعمل وإلا لم يبق محل للسيرة ومورد للتمسك بها أصلا ، كما لا ينبغي الاعتناء باحتمال كون السكوت عن الردع لمصلحة اقتضت إخفاء الحكم الإلهي

١١١

وتأخير بيانه ـ كما توهم ـ فان ذلك ونحوه من الاحتمالات الوهمية والخيالات السوداوية لا ينبغي الاعتناء بها ولا الإصغاء إليها.

وبما ذكرنا ظهر لك تحقق السيرة وحجيتها للكشف عن إمضاء المعصوم وتقريره.

فاذا القول بإفادة المعاطاة الملك المتزلزل دون الإباحة المجردة هو الأقوى ، للأدلة المذكورة التي مقتضاها ـ وان كان لزوم الملك كما نسب الى المفيد ـ الا أنه يخرج عنه بالخصوص بالإجماع الظاهر المصرح به في جملة من العبائر ، بل عن بعض دعوى الاتفاق على عدم اللزوم : إما لعدم الملكية فيكون من السالبة بانتفاء الموضوع على القول بالإباحة أو لتزلزلها بناء على الملكية ، فالقول بإفادتها الملك اللازم احداث قول ثالث.

هذا وتظهر الثمرة بين القول بالملك المتزلزل والقول بالإباحة المجردة في أمور : وليعلم ان ما نذكره من الثمرات انما هو بحسب اقتضاء القاعدة ، والا فقد يخرج عنها لدليل يكون منها بمنزلة التخصيص لها ، إذ القاعدة بمنزلة الدليل العام فتكون الثمرة في مورد التخصيص خارجة عنه حكما لا موضوعا :

الأول ـ نماء العين المأخوذة بالمعاطاة (١) وبيان حكمه على كل من

__________________

(١) النماء : هو ما يحصل في العين من الزيادات الحسية ، سواء كان متصلا بها غير قابل للانفصال عنها كالسمن في الحيوان والنمو في الأشجار أم كان قابلاً للانفصال عنها ، وكانت له حالتان : اتصال في حال وانفصال في أخرى كاللبن والهيض والنتاج في الحيوان ، والثمر في النخيل والأشجار.

والكلام فيه ـ وفي المنافع مما لم يكن حسيا في الخارج كسكنى الدار ـ تارة ـ على المختار من إفادة المعاطاة الملك الجائز ، واخرى ـ بناء على إفادتها الإباحة.

١١٢

القولين في موضوعها من قصد المتعاطيين التمليك أو الإباحة وعلى كل من القولين في الأول أيضا من إفادتها الملك أو الإباحة ، المجردة.

وجملة صورها : هو أن النماء : اما ان يكون منفصلا عن العين ، أو متصلا بها ، وعلى الأول فأما أن يكون تالفا حقيقة أو حكما أو موجودا وعلى التقادير ، فالكلام فيه مرة مع عدم رجوع المالك بالعين وأخرى مع الرجوع بها.

__________________

فأما بناء على إفادتها الملك الجائز ، فالحكم فيما هو غير قابل للانفصال واضح ، فإنه يتبع العين في الملك ، إذ هو جزء منها غير قابل للانفكاك عنها ، وأما ما كان قابلاً للانفصال ، فالمنفصل منه لا ينبغي الإشكال في عدم تبعيته للعين في تزلزل الملك ، إذ هو نماء ملك ملكه : بتبع ملك الأصل بعد المعاطاة ، والأصل فيه اللزوم ، وما ثبت بالإجماع على الجواز فإنما هو بالنسبة إلى أصل العوضين ، فلا وجه لرجوعه الى المالك الأصلي بتبع العين لو رجع بالمعاوضة ، وهو واضح. وأما ما كان من النماء القابل للانفصال متصلا بالعين حين الرجوع بالمعاوضة فربما يقال : انه بتبع العين بالرد الى المالك الأصلي عند الرجوع بالمعاوضة ، ولكنه على إطلاقه مشكل. نعم لا يبعد ذلك في مثل الصوف والشعر ، وان بلغ أو ان جزهما ، بل اللبن في الضرع وان استحلب ، ونحو ذلك مما يعد في العرف بمنزلة الجزء من العين. أما مثل ثمر الشجر ـ خصوصا عند أو ان الاقتطاف ـ وحمل الدابة فالحكم بتبعيته للعين في الرجوع الى المالك بالرجوع بالمعاوضة مشكل ، بل قوى سيدنا ـ قدس سره ـ فيما سيأتي من كلامه عدم التبعية في مثل ذلك ، وبالجملة كل ما لم يتضح كونه بمنزلة الجزء من العين فالأصل بقاؤه على ملك مالكه المنتقل إليه الأصل بالمعاوضة وعدم عوده الى المالك الأصلي بتبع العين عند الرجوع بها هذا بناء على إفادة المعاطاة الملك الجائز ، وأما بناء على إفادتها الإباحة

١١٣

فنقول : لا إشكال في أنه يترتب على ملكية العين النماء لأنه نماء ملكه فيكون مملوكا له كنماء المبيع في زمن الخيار ، بل لعله اولى منه لوجود القول فيه بتوقف الانتقال على مضي زمن الخيار وفي رجوع المالك به لو رجع بالعين وجهان ، والأقوى : العدم ، لان التزلزل في الأصل : اما للإجماع على عدم اللزوم فيه ، أو لأصالة عدم اللزوم في الملك ، وكل منهما منتف في النماء. أما الإجماع فإنا لم نحققه على جواز الرجوع بالنماء لو رجع بالعين

__________________

دون الملك فربما يقال ـ كما يظهر من سيدنا الخال ـ ان النماء مملوك لمالك العين مباح التصرف للأخذ مع القول بكونها مالكية للاذن الضمني أو يشاهد الحال ، وأما ان قلنا بكونها شرعية وقلنا بها لخصوص الدليل ، فيشكل لتعلق الإباحة بالعين وقصور دليلها بالنسبة إلى الإباحة النماء ، وعليه فلا يجوز التصرف فيه وان جاز في الأصل اللهم إلا أن يقوم إجماع أو سيرة قطعية فتأمل. انتهى.

هذا ولكن الذي يظهر مما ذكره الشيخ الأكبر كاشف للغطاء في مقام استبعاد القول بالإباحة من استلزام التفكيك بين العين والمنفعة بالقول بالإباحة في العين والملك في المنفعة ـ التسالم على عدم الفرق بين القول بالملك والقول بالإباحة في ملكية المنافع والنماءات لمن انتقل المال اليه وعدم تبعيتها للعين في مجرد الإباحة.

ولكن حكى شيخنا الأنصاري ـ قدس سره ـ عن بعض تبعية النماءات للعين في الارتجاع الى المالك على القول بالإباحة. وعلى كل فالظاهر عدم الفرق بين القولين في ملكية النماء لمن انتقل المال اليه وعدم تبعيته للعين في الرجوع الى المالك ولو قلنا بالإباحة ، وذلك للنبوي المعتبر «الخراج بالضمان» وان ناقش شيخنا الأنصاري في سنده.

ولكن الذي يظهر من المحكى عن (مبسوط الشيخ) ـ قدس سره ـ

١١٤

لا محصلا ولا منقولا ، وأما الأصل فإن قلنا باقتضائه اللزوم في الملك وان خرجنا عنه في الأصل بالإجماع فواضح ، وان قلنا باقتضائه الجواز فإنما نقول به في الأصل لاستصحاب بقاء العلقة للمالك الأول الحاكم على استصحاب الملك للثاني لكونه مسببا عنه كما عرفت سابقا والنماء لم يكن مملوكا للأول وانتقل عنه حتى يستصحب بقاء العلقة فيه ، فيبقى استصحاب الملك فيه سليما عن المعارض ومقتضاه اللزوم.

__________________

من البحث عن مقدار دلالته : هو الفراغ عن اعتبار سنده ، فالظاهر كونه من النبويات المتلقاة بالقبول لدى الفريقين.

فالمحكي عن الشافعي في (مختلف الحديث) وعن ابن ماجة في (صحيحه) وعن أبي داود في (سنته) أنهم رووا ـ جميعا ـ من طريق مسلم ابن خالد مسندا عن عائشة أن رجلا ابتاع عبدا فاستعمله ثم ظهر على عيب ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وآله برده بالعيب ، فقال المقتضى عليه : قد استعمله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : الخراج بالضمان ، انتهى.

والمحكى عن (غوالي اللئالي) أنه روي عنه صلى الله عليه وآله : أنه قضى بأن الخراج بالضمان ، ومعناه : أن العبد مثلا يشتريه المشتري ، فيغتله حينا ثم يظهر على عيب به فيرده بالعيب ، انه لا يرد ما صار اليه من غلته وهو الخراج ، لأنه كان ضامنا له لو مات ، انتهى.

وقد استند اليه أبو حنيفة ـ في قضية ـ أبي ولاد عند اكترائه بغلا من الكوفة إلى قصر بني هبيرة في طلب غريم له فخالف وركبه الى النيل ثم منه الى بغداد ثم منها إلى الكوفة وأرجعه بعد خمسة عشر يوما ، فخاصمه صاحب البغل في كراه وتراضيا بأبي حنيفة ، فقضى لهما بسقوط الكرى بعد إرجاع البغل سليما. فان مستند قضاء أبي حنيفة استفادته من قوله صلى الله عليه وآله : «الخراج بالضمان» أن ضامن مال الغير والمتعهد به ـ ولو

١١٥

نعم ربما يتوهم المناقشة فيه بدعوى أن ملكية النماء متفرعة عن ملكية الأصل ومنبعثة عنه فيكون النماء تابعا له في كيفية الملك من التزلزل.

وليس بشي‌ء بعد اقتضاء الدليل للاختلاف بينهما في الكيفية من التزلزل في الأصل واللزوم في النماء ، ومحض التبعية والتسبيب في الملك لا يصلح دليلا للاتحاد في الكيفية.

نعم ربما يمكن صحة دعوى التبعية بناء على تعدد ماهية الملك اللازم والمتزلزل لاستحالة تولد ماهية من ماهية أخرى تخالفها ، ضرورة اعتبار السنخية بين العلة والمعلول ، وأما بناء على وحدتها وانما الاختلاف في المرتبة شدة وضعفا

__________________

كان غاصبا له ـ فخراجه ومنافعه غير مضمونة عليه لمالكه ، وانما يضمن له نفس المال خاصة ، فإن أربعة إليه سليما لا يضمن له منافعه المستوفاة فضلا عن الفائتة تحت يده.

هذا ولكن الاستناد إلى النبوي ـ في عدم ضمان الغاصب خراج المغصوب لمالكه ـ غير صحيح ، فإنه مضافا الى عدم المناسبة بين ضمان العين بحكم الشارع وجعله بعموم «على اليد ما أخذت حتى تؤدي» وبين مجانية المنافع رد الصادق عليه السلام عند ما حكى له أبو ولاد قضاءه بقوله عليه السلام :

في مثل هذا القضاء تحبس السماء ماءها والأرض بركاتها. فالمتعين كون المراد بالضمان في النبوي المذكور هو بمعناه المصدري الحاصل يجعل واختيار من الضامن بمبادلة ومعاوضة. وعليه فالمراد أن من تعهد بمال وضمنه بعوضه باختياره وجعله ، فخراجه وما يتحصل منه من منافعه ونمائه له مجانا ، فلو حصل فسخ للمعاوضة بخيار للفاسخ أو تفاسخ منهما لا يضمن كل منهما لصاحبه ما تحصله من المنافع والنماء ، وذلك ما تقتضيه مناسبة الحكم للموضوع فان الغرض المهم والغاية من الاقدام على ضمان العين بعوضها كون خراجها له مجانا ، وعليه فيختص ذلك بالضمان المعاوضي ، ولا يشمل ما سواه من

١١٦

كما قويناه ـ فلا ، لانتفاء ما يوجب ضعفه في النماء من استصحاب العلقة للمالك الأول.

هذا ولا ينقض بنماء المبيع الخياري مع كونه في الأصل متزلزلا بالخيار وفي النماء لازما ، لان التزلزل فيه انما هو من جهة الشرط ، لقوله صلى الله عليه وآله «المؤمنون عند شروطهم» أو من دليل خارج كخيار العيب ونحوه ، لا من سببية البيع التي مقتضاها اللزوم لولا الشرط ونحوه ، بخلاف سببية المعاطاة للملك المتزلزل فان السبب بنفسه سبب له ، وأما على القول بكون مفادها الإباحة فالنماء مملوك لمالك العين مباح التصرف للأخذ ، ان

__________________

ضمان اليد ونحوه مما لم يكن يجعل من الضامن.

ثم ان صاحب (الوسيلة) ـ قدس سره ـ عمم الحكم باستحقاق الضامن الخراج لما إذا كان الاقدام على الضمان بالعقد الفاسد أيضا كالصحيح قال فيها ـ على ما حكى عنه ـ في ذيل فصل عقده لبيان البيع الفاسد ما هذا لفظه : «فاذا باع أحد بيعا فاسدا وانتفع به المبتاع ولم يعلما بفساده ، ثم عرفا واسترد البائع المبيع لم يكن له استرداد ثمن ما انتفع به أو استرداد الولد ان حملت الام عنده وولدت لأنه لو تلف لكان من ماله ، والخراج بالضمان فان غصب إنسان أو سرق مال غيره أو أمة غيره أو حيوان غيره وباع من آخر ثم استخرج مالكه من يده شرعا وكان المبتاع عارفا بالحال لم يكن له الرجوع على البائع وان لم يكن عارفا كان له الرجوع عليه بالثمن وما عزم للمالك ، انتهى. وظاهره وان كان الاختصاص بالضمان الاختياري بالمعاوضة وعدم التعميم لما إذا كان الضمان يحكم الشارع وجعله ولكنه عمم الضمان المعاوضي لما إذا كان بعقد صحيح ممضى أو فاسد ملغى.

هذا ولكن الأقوى ما ذهب اليه المشهور من الاختصاص بصورة ما إذا كان الاقدام على الضمان بمعاوضة صحيحة ممضاة من الشارع وهو الذي تقتضيه

١١٧

قلنا بكون الإباحة مالكية للاذن الضمني ، أو بشاهد الحال ـ كما تقدم ـ وإن قلنا بكونها شرعية وقلنا بها لخصوص الدليل ، فيشكل لتعلق الإباحة بالعين وقصور دليلها بالنسبة إلى إباحة النماء وعليه فلا يجوز التصرف وان جاز التصرف في الأصل اللهم الا أن يقوم عليه إجماع أو سيرة قطعية فتأمل.

__________________

مناسبة الحكم للموضوع على ما ذكرنا فان مجرد الاقدام على الضمان بمعاملة فاسدة غير ممضاة من الشارع وجودها كالعدم كيف يمكن ان يكون فيه اقتضاء لملكية المنافع والنماءات للضامن مجانا ، والحاصل ، اختصاص القاعدة بالضمان المعاوضي الصحيح مما لا ينبغي الريب فيه.

ثم ان قاعدة «الخراج بالضمان» تختص ـ بمقتضى مناسبة الحكم للموضوع ـ بالضمان المعاوضي الذي أقدم عليه المتعاقدان وتعهد به كل منهما لصاحبه في أصل المعاوضة ، فإنه المناسب لكونه سببا لملك الخراج ، أو كونه عوضا عنه على ما هو مفاد باء الجر في قوله عليه السلام : الخراج بالضمان ، ولزوم ذلك وعدم رجوعه للمالك الأصلي لو حصل فسخ أو انفساخ للعقد. وأما ما تفرع على ذلك وكان تبعا له الثابت بالتعبد أو من ناحية الشرط الضمني في العقد وهو ضمان ما انتقل المال منه المستفاد من قاعدة التلف قبل القبض ، فلا مناسبة لكونه مشمولا لقاعدة الخراج بالضمان.

فما يحكى عن الشيخ ـ قدس سره ـ في (المبسوط) : من حكمه بأن نماء المبيع المردود بخيار العيب قبل القبض للبائع مستدلا عليه بحديث الخراج بالضمان ومفسرا للخراج بالفائدة والضمان بمن يكون المال يتلف من ملكه والأصل قبل القبض في ضمان البائع بالمعنى المذكور فالخراج له. انتهى.

فإنه مبني على استفادة كون قاعدة الخراج بالضمان شاملة للضمان التبعي أيضا. والحاصل ان الضمان الأصلي في المعاوضة والضمان التبعي متنافيان في

١١٨

هذا مع وجود النماء ، وأما مع التصرف فيه بتلف ونحوه فلا رجوع عليه ببدله وكذلك لا رجوع له ببدل المنافع المستوفاة أيضا. ويجري الكلام مثله فيه على القول بكون المعاطاة ما كان بقصد الإباحة كما تقدم من شيخنا في (الجواهر) في موضوع المعاطاة.

هذا كله واضح بالنسبة إلى النماءات المنفصلة عن العين ، وأما المتصلة بها ، فقد قوى التبعية فيها للعين في جواز الرجوع شيخنا (في الجواهر) حيث قال : «واما المتصلة كالسمن والصوف والشعر الباقيين على الظهر واللبن الباقي في الضرع فتتبع العين على الأقوى».

قلت : ويحتمل قويا لولا السيرة الممنوع تحققها الاقتصار في التبعية على ما يصدق عليه أنه جزء منها كالسمن والشعر والصوف وان بلغ أو ان

__________________

المفاد بالنسبة إلى ملك الخراج ولزومه ، فالاصلي يقتضي بقاءه على ملك من انتقل المال اليه بالعقد ، وعدم انتقاله الى من انتقل المال منه بانفساخ للعقد للتلف قبل القبض ، والتبعي مقتضاه عكس ذلك وكون الخراج للمنتقل منه بعد الانفساخ ، وحيث قلنا باختصاصها بالضمان الأصلي وانه لا مناسبة لشمولها للتبعي فلا اشكال ، كما ان القاعدة موردها الضمان المنجز فالمعلق مثل : أعتق عبدك عنى أو تصدق بمالك عنى وعلي ضمانه بكذا أو نحو ذلك مما يكون الضمان فيه معلقا على تحقق المضمون ولم يكن فعليا ، لا يكون مشمولا للقاعدة ، فلا وجه لكون الضامن مالكا لمنافع العبد بضمانه التعليقي.

إذا عرفت ذلك فنقول : الكلام في المعاطاة انما هو مبني على كون موضوعها ما قصد المتعاطيان فيها حصول الملك ، وانها معاوضة صحيحة ممضاة من الشارع المقدس بعموم آية (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وآية «التجارة عن تراض» وأنها لازمة كما نسب الى المفيد ـ قدس سره ـ أو جائزة مفادها الملك الجائز اللازم بأحد الملزمات ـ كما هو المختار ـ أو انها مفيدة ـ للإباحة وانما يحصل الملك

١١٩

جزهما دون ما لا يصدق عليه إلا كونه نماء لها كثمار الأشجار ، سيما عند أو ان اقتطافها ، بل ويقوى عدم التبعية أيضا في التزلزل فيما كانت العين له كالوعاء نحو الحمل في بطن امه ، ولذا لا يدخل الجنين في بيع الأمهات إلا بالشرط على الأشهر خلافا للشيخ في (محكي مبسوطه) وأما اللبن فهو من الاجزاء الداخلة في المبيع حيث انه ينشخب من عروق في الضرع الشخاب الدم من العرق ، وليس الضرع وعاء له حتى يكون نسبته اليه نسبة الحمل الى الحامل.

هذا بناء على ما قويناه في العين من الملك المتزلزل وفي النماء باللزوم وعدم التبعية لها في التزلزل. وأما بناء على التبعية في الملك المتزلزل أو الإباحة المجردة فالحكم بها في المتصلة أوضح منها في المنفصلة.

الثاني ـ في التصرفات المتوقفة على الملك وهي أمور :

منها ـ البيع ، فيصح على القول بالملكية ويقع باطلا أو فضوليا على القول بالإباحة فإن كان هناك إجماع على الجواز ، فلا بد على القول بها من الالتزام بدخوله آنا ما في ملك البائع ، للجمع بين الأدلة وهو التزام بخلاف القواعد المقررة إلا انه يمكن تطبيق الصحة على القاعدة ، وان قلنا بالإباحة غير أنه يقع للمالك دون البائع لتحقق الإذن الضمني أو بشاهد

__________________

بأحد الموجبات ـ على ما هو المشهور ـ وعلى كل فالضمان فيها معاوضي ممضى فان كلا من المتعاطيين أقدم على ضمان ما أخذه من صاحبه بما دفعه اليه من العوض على كل من المباني المذكورة ، غاية الأمر بناء على المشهور ما حصل بالتعاطي لكل منهما هو الإباحة المطلقة فيما أخذه من صاحبه وحصول ما قصده من الملك يتوقف على أحد الموجبات له ، وهو لا ينافي كون الضمان معاوضيا ، فهي مشمولة لقاعدة (الخراج بالضمان) ولا وجه لعدم الشمول لها بناء على الإباحة كما لا يخفى.

١٢٠