محمّد باقر الوحيد البهبهاني
المحقق: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة العلامة المجدّد الوحيد البهبهاني
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٥
وكذا إذا ثبت صحّته من خصوص مثل ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) ، و ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٢) ، و ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (٣) ، لأنّ الحلّية تنافي النهي والحرمة ، وكذا وجوب الوفاء.
وكذا استثناء قوله ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (٤) ، لأنّه استثناء من النهي والحرام.
فظهر أنّ النهي في مثل ذلك أيضا يقتضي الفساد عندهم بلا شكّ ولا شبهة ، إذ النهي يقتضي خروج ذلك عن العمومات عندهم ، كما لا يخفى على المطّلع على أقوالهم وطريقتهم ، فإنّهم صرّحوا بأنّ الأحكام الخمسة متضادّة ، وأنّ اجتماع الضدّين في الحكم الواحد من المحالات عندهم ، وإن تعدّدت الجهة والحيثيّة وظهر ذلك التعدّد ، مع أنّه ربّما لا يظهر ذلك فيما نحن فيه ، فتدبّر.
نعم ، لو كان الصحّة ثابتة من غير أمثال العمومات المذكورة ، فالنهي لا يقتضي الفساد ، لأنّ الصحّة عبارة عن ترتّب أثر شرعي ، فلا ينافي ذلك النهي والحرمة ، لأنّ الحرام كثيرا ما يترتّب عليه الآثار الشرعيّة ، فإنّ الشارع مثلا قال : إذا التقى الختانان فقد وجب عليه الغسل والمهر والعدّة والرجم وغير ذلك (٥) ، وإذا دخل أحد بزوجته وهي حائض ـ مثلا ـ عالما عامدا يكون حراما بلا شبهة ، ومع ذلك يجب عليه المهر كاملا وعليها العدّة ، وعليهما الغسل.
لكن يتداخل الغسلان في الحائض على القول بالتداخل ، وكذا يترتّب
__________________
(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.
(٢) البقرة (٢) : ٢٧٥.
(٣) النساء (٤) : ٢٩.
(٤) النساء (٤) : ٢٩.
(٥) تهذيب الأحكام : ١ / ١١٩ الحديث ٣١٤ ، وسائل الشيعة : ٢ / ١٨٤ الحديث ١٨٧٩.
عليه سائر ما يترتّب على الدخول بالزوجة ، وكذا الحال في الدخول بالأجنبية. وغير ذلك من المعاملات وأحكامها ، فتدبّر.
فساد العبادات بالنهي
أمّا العبادات ، فجلّ الشيعة ـ بل كاد أن يكون كلّهم ـ اتّفقوا على أنّ النهي فيها يقتضي الفساد (١) ، لأنّ الصحّة فيها عبارة عن موافقة الأمر ، وما هو مثل هذا المعنى ، والعبادة أمر راجح ومأمور به قطعا ، والمرجوحيّة ضدّه ، فضلا عن أن يكون حراما.
ولذا يقولون : إنّ العبادة المكروهة معناها أنّها أقلّ ثوابا (٢) ، وإلّا فهي راجحة عندهم من دون مرجوحيّة ، وربّما يقولون : إنّ الكراهة تتعلّق بما هو خارج عن نفس العبادة أو جزئها أو شرطها.
ومن هذا حكم بعضهم بصحّة مثل البيع وقت النداء ، مصرّحا بأنّ النهي تعلّق بأمر خارج (٣) ، وهو ترك السعي إلى الجمعة والاشتغال عنها.
الخامس :
تحقّق شرائط مورد البيع ، فإنّ البيع هو نقل ملك عين إلى آخر بعنوان المبايعة العرفيّة أو اللغويّة أو الاصطلاحيّة على حسب ما مرّ.
وربّما زيد على ذلك كونه بصيغة مخصوصة (٤) ، وربّما قيل بأنّ البيع هو نفس
__________________
(١) لاحظ! الذريعة للسيّد المرتضى : ١ / ١٨٠ ، عدّة الأصول : ١ / ٩٩ ، معالم الأصول : ٩٦.
(٢) راجع! مجمع الفائدة والبرهان : ٢ / ٤٧ ، جامع المقاصد : ٢ / ٣٧ ، مشارق الشموس : ٣٧٢.
(٣) لاحظ! القواعد والفوائد : ١ / ١٩٩ القاعدة ٥٧.
(٤) لاحظ! مفتاح الكرامة : ٤ / ١٤٥ ـ ١٤٦.
تلك الصيغة (١) ، وربّما قيل : يتحقّق البيع في المنفعة أيضا (٢) فلا بدّ من معلوميّة كون المبيع ـ مثلا ـ ممّا يملك شرعا ، ومعلوميّة الإذن في النقل شرعا ومعلومية تحقّق النقل والخروج من ملك البائع ، ومعلوميّة تحقّق الدخول إلى ملك المشتري وعدم المانع من الخروج والدخول شرعا ، ومعلوميّة أنّ الصيغة هل هي معتبرة شرعا أو لغة أو عرفا أو هي نفس البيع ، أو ليست بمعتبرة أصلا ، وغير ذلك.
وبالجملة ، الحكم بتحقّق الصحّة ، وترتّب الآثار شرعا ، مثل الانتقال بعنوان اللزوم أو الجواز ، وغير ذلك من الآثار الشرعيّة يتوقّف على الثبوت من الشرع ، ومن لوازم الانتقال تعيّن الشيء بحسب الواقع ، إذ غير المعيّن كيف ينتقل؟!
نعم ، يتحقّق الانتقال في الأمر الكلّي الّذي هو قدر المشترك بين أفراده والكائن مع مشخّص ، وهو معيّن والتشخصات خارجة ، وشروط لتحقّقه.
وأمّا التعيّن عند المتبايعين ، فلعلّه يرجع إلى الغرر والسفه وكون الشيء معرضا للنزاع بين المسلمين والناس.
وربّما يظهر النهي عن مثله من الأخبار ، مثل ما ورد في باب السلف (٣) وبيع التمر (٤) وبيع الدينار غير الدرهم (٥) ، وغير ذلك ، فليلاحظ وليتأمّل.
هذا ، مع ادّعاء الإجماع فيما ادّعوه فيه ، فتأمّل.
__________________
(١) لاحظ! مفتاح الكرامة : ٤ / ١٤٥ ـ ١٤٦.
(٢) لاحظ! المكاسب للشيخ الأنصاري : ٧٩.
(٣) وسائل الشيعة : ١٨ / ٢٨٣ ـ ٢٨٦ الباب ١ من أبواب السلف.
(٤) وسائل الشيعة : ١٨ / ١٤٨ الباب ١٤ من أبواب الربا.
(٥) وسائل الشيعة : ١٨ / ٨٠ الباب ٢٣ من أبواب أحكام العقود.
المناهي العامّة
ثمَّ اعلم أنّ المناهي الواردة بالعنوانات العامّة عندهم ، مثل النهي عن بيع الغرر (١) والضرر (٢) والمسكر (٣) والخبائث (٤) والميتة (٥) وما لا منفعة معتدّا بها له ، لأدائه إلى السفاهة ، فيدخل في عموم ما دلّ على فساد معاملة السفيه وحرمتها (٦).
وكذا النهي عن بيع الحرام ، لما ورد من أنّ الله تعالى إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه (٧) ، ولعلّه يظهر ذلك من فحاوى الأخبار أيضا (٨).
وكذا النهي عن البيع الّذي هو إعانة في الإثم (٩) ، والّذي هو إسراف (١٠) ،
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليهالسلام : ٢ / ٥٠ ، الحديث ١٦٨ ، عوالي اللئالي : ٢ / ٢٤٨ ، النهاية لابن الأثير : ٣ / ٣٥٥.
(٢) عوالي اللئالي : ١ / ٢٢٠ الحديث ٩٣ ، وسائل الشيعة : ٢٥ / ٢٤٧ الباب ١٢ من كتاب احياء الموات.
(٣) وسائل الشيعة : ١٧ / ٢٢٣ الباب ٥٥ من أبواب ما يكتسب به.
(٤) قرب الإسناد : ١٧٢ ، مستدرك الوسائل : ١٣ / ٦٤ الحديث ١٤٧٥٦.
(٥) وسائل الشيعة : ١٧ / ٩٣ و ٩٤ الأحاديث ٢٢٠٦١ و ٢٢٠٦٤ و ٢٢٠٦٥.
(٦) وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٦٠ الحديث ٢٢٧٥٢ و ٣٦١ الحديث ٢٢٧٥٣ ، جامع أحاديث الشيعة : ١ / ٤٢١ الأحاديث ٧٢١ ـ ٧٢٣.
(٧) لاحظ! عوالي اللئالي : ١ / ١٨١ الحديث ٢٤٠ ، بحار الأنوار : ١٠٠ / ٥٥ الحديث ٢٩ ، مستدرك الوسائل : ١٣ / ٧٣ الحديث ١٤٧٨٧.
(٨) الكافي : ٥ / ٢٣٠ ، تهذيب الأحكام : ٧ / ١٣٥ الحديث ٥٩٩ و ١٣٦ الحديث ٦٠١ ، وسائل الشيعة : ١٧ / ٢٢٣ ذيل الحديث ٢٢٣٨٣ و ٢٢٥ الحديث ٢٢٣٨٨.
وورد في حاشية ب العبارة التالية : ( قد ورد في الأخبار المنع عن الانتفاع بالميتة مطلقا ). كما ورد أيضا العبارة التالية : ( في العوالي : عن النبي صلىاللهعليهوآله : إنّ الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم ثمنها ، وفيه أيضا عنه صلىاللهعليهوآله : لعن اليهود ، حرّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها. وفي أخبار الكتب الأربعة عنه صلىاللهعليهوآله في الخمر : إنّ الّذي حرّم شربها حرّم ثمنها ).
(٩) وسائل الشيعة : ١٧ / ٨٤ ذيل الحديث ٢٢٠٤٧.
(١٠) لاحظ! مجمع الفائدة والبرهان : ٨ / ٥٢.
وبيع النجس الّذي لا يقبل الطهارة (١) إلّا الدهن للاستصباح (٢) أو أعمّ منه ، أو العذرة (٣) أيضا كما قال به بعض المتأخّرين (٤) ، وربّما يظهر هذا النهي من إجماعهم (٥) ، وفحاوى الأخبار (٦) ، فليلاحظ.
وكذا يظهر من كلام القدماء أيضا ، فلينظر.
وقس على ما ذكرنا حال الإجارة وغيرها ، فتأمّل.
ومن المناهي العامّة ، قول المكلّف : لا أفعل إلّا بالعوض ، فيما ثبت وجوب عطائه عينا كان أو منفعة ، عينيّا كان الوجوب أو كفائيّا ، إذا كان الوجوب من مثل الخطاب بأفعل مطلقا ، لأنّ القول بأنّي لا أفعل إلّا بالعوض عصيان ، كأن يقول : لا أصلّي اليوميّة ، أو : لا أصلّي على هذا الميّت إلّا أن تعطوني اجرة.
وأمّا ما ثبت وجوبه لأجل حصول النظام ورفع الضرر ، مثل الصناعات ، ووجوب بيع الأعيان المحتاج إليها ، عينيّا كان الوجوب ـ كما هو الحال في الفروض النادرة ـ أو كفائيّا ـ كما هو الحال في الفروض الشائعة ـ يجوز أخذ العوض ، لأنّ القدر الثابت من العقل والنقل هو القدر المشترك بين الإعطاء مجّانا وبلا عوض
__________________
(١) وسائل الشيعة : ١٧ / ١٠٠ الحديثان ٢٢٠٨٣ و ٢٢٠٨٤.
وورد في حاشية ب : ( والظاهر أنّ العجين النجس حكمه حكم المائع الّذي لا يقبل التطهير ، كما يظهر من الأخبار ، إلّا أن يقال : يجوز التطهّر بجعله خبزا يابسا غاية اليبوسة ).
(٢) وسائل الشيعة : ١٧ / ٩٨ الأحاديث ٢٢٠٧٦ ـ ٢٢٠٧٩.
وورد في حاشية ب : ( وقد ادّعى ابن إدريس الإجماع على الاستصباح تحت السماء ، لا السقف ) [ السرائر : ٢ / ٢٢٢ ].
(٣) وسائل الشيعة : ١٧ / ١٧٥ الباب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به.
(٤) مفاتيح الشرائع : ٣ / ٥١ ، ومال إلى هذا القول الأردبيلي رحمهالله في : مجمع الفائدة والبرهان : ٨ / ٣٩.
(٥) لاحظ! تذكرة الفقهاء : ١ / ٤٦٤ ، مجمع الفائدة والبرهان : ٨ / ٤١.
(٦) وسائل الشيعة : ١٧ / ١٧٥ الباب ٤٠ من أبواب ما يكتسب به.
والإعطاء بالعوض.
بل الثابت منهما بعنوان الضرورة أو اليقين جواز الإعطاء بالعوض وعدمه بغير العوض ، إلّا في فرض نادر غاية الندرة لو تحقّق ، وهو عدم تمكّن المحتاج المضطرّ من العوض حالّا ولا مؤجّلا بوجه من الوجوه ، فإنّه حينئذ يجب الإعطاء بغير العوض ، إلّا أنّه له أن لا يعطي ما لم يشتره منه فيحسبه مكان زكاته وأمثالها ، وإن لم يشتره فله أن يجبره بالشراء بوساطة حاكم الشرع إن كان ، وإلّا فبالمؤمنين حسبة ، وإن لم يكونوا فله أن يعطي بقصد العوض ويأخذه قهرا حفظا إيّاه عن الهلاك.
على أنّ النظام لا يحصل في غير صورة نادرة ، إلّا بجواز أخذ العوض وعدم الإعطاء بغير العوض.
الأجرة بإزاء العبادات
وأمّا العبادات ـ واجبة كانت أم مستحبة ، لاشتراط قصد القربة والإخلاص فيها ـ فلا يجوز أخذ الأجرة بإزائها إذا فعلها المكلف أصالة ولنفسه.
وأمّا فعلها نيابة وبعد الاستئجار ، فلا مانع من أخذ الأجرة ، إذ حال الاستئجار لم تكن واجبة عليه ، ولم يكن هناك قصد قربة ، وأمّا بعد الاستئجار فهي حينئذ واجبة عليه البتّة ، يتأتّى منه قصد القربة والإخلاص حينئذ بل يجب.
ولا فرق فيما ذكر بين الحج ، وغيره من العبادات الّتي يجوز فعلها للغير ، ولذا يشمله عموم ما دلّ على صحّة الإجارة (١) ، وورد في غير واحد من الأخبار أنّ
__________________
(١) النساء (٤) : ٢٩ ، المائدة (٥) : ١ ، وسائل الشيعة : ٢١ / ٢٩٩ الحديث ٢٧١٢٧.
الإتيان بالعبادات عن الميّت ينفعه وتصل إليه (١).
وإذا لم يتحقّق الاستئجار ، وفعلت لله تعالى بعنوان الإخلاص ، ثمَّ اعطي شيء وهو لا يعلم ، فلا مانع أصلا.
ومع العلم لو لم يؤخذ ، أريد كمال الأجر والشكور من الله تعالى ، فبخ بخ.
ولو أخذ ، فلا أعلم الآن مانعا منه أيضا.
والله هو العالم بأحكامه.
تمّت الرسالة.
__________________
(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٢٧٦ ـ ٢٨٢ الباب ١٢.
رسالة
في أصالة الصحّة والفساد في المعاملات
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على أشرف الخلق محمّد وآله الطاهرين.
أمّا بعد ،
فيقول الأقلّ الأذلّ ، محمّد باقر بن محمّد أكمل عفى الله عنهما :
فاعلم يا أخي ، أنّ المهم والمقصود الأصلي في المعاملات هو الصحّة والفساد. في كثير من المواضع يحكم الفقهاء بالفساد ، والغافل عن حقيقة الحال إذا رأى دليلا على الفساد يقبل ، وإذا لم ير يطعن على الفقهاء ، ويقول بالصحّة ، مدّعيا أنّ الأصل هو الصحّة حتّى يثبت خلافه فلم يثبت ، ولا يتفطّن بأنّ الأصل عدم الصحّة لا الصحّة ، لأنّ الصحّة عبارة عن ترتّب الأثر الشرعي ، فهي حكم شرعي بل ربّما يكون أحكاما شرعيّة إذا كان المترتّب آثارا شرعيّة ، كما هو الغالب.
ولا شبهة في أنّ الحكم الشرعي موقوف على الدليل الشرعي فيما لم يكن
الحكم شرعيّا.
على أنّه إذا كان الأصل هو الصحّة ، يلزم أنّ يكون كلّ من يعامل معاملة يكون شارعا أو شريك الشارع في الشرع والتشريع ، وأن لا يكون التشريع حراما.
فإن قلت : الفقهاء يستدلّون بأصالة الصحّة.
قلت : يتمسّكون بها في موضع ثبت حكم من الشرع صحّة وفسادا ، ولا يدري أنّ الواقع من المسلم هل يكون من الصحيح ، أو الّذي ثبت فساده ، فيقولون : الأصل صحّة ما وقع منه ، حملا لتصرّف المسلم على الصحّة ، وهو إجماعي ، وظاهر من الأخبار (١). وأمّا إذا لم يعلم حكم شرعا ، فكيف يمكنهم القول بأنّ الأصل ثبوت الحكم شرعا إلى أن يثبت عدم ثبوته شرعا؟!
فإن قلت : ربما نراهم يتمسّكون بهذا الأصل ، فما لم يعلم حكمه يثبتون به حكمه.
قلت : لعلّ المراد من الدليل مثل العمومات. ولو ظهر أنّ مرادهم غيره ، فلا شبهة في توهّم المتمسّك ، إلّا أن يريدوا منه مجرّد قراءة صيغة تلك المعاملة ، وإعطاء كلّ واحد من المتعاملين ما له بطيب نفسه منه ، فمنعهما عن الأمرين (٢) تكليف لم يثبت من الشرع ، والأصل عدمه ، والأصل براءة ذمّتهما.
مع أنّ « الناس مسلّطون على أموالهم » ، كما ورد في النصّ (٣) ، وورد أيضا « لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه » (٤).
__________________
(١) لاحظ! بحار الأنوار : ٦٥ / ٢٠٠ الحديث ٤ و ٧١ / ١٦٥ الحديث ٢٩ و ٧٢ / ١٩٦ الأحاديث ١١ ـ ١٦.
(٢) في ب : ( فإنّ منعهما عن الأمرين ).
(٣) عوالي اللئالي : ١ / ٢٢٢ الحديث ٩٩ و ٢ / ١٣٨ الحديث ٣٨٣ و ٣ / ٢٠٨ الحديث ٤٩.
(٤) عوالي اللئالي : ٢ / ١١٣ الحديث ٣٠٩.
لكن ليس هذا صحّة المعاملة ، إذ لم يترتّب على المعاملة أثر أصلا ، مثل نقل الملك ولزومه وغير ذلك ، بل العوضان باقيان على حالهما السابق من أنّ كلّ واحد منهما يتصرّف الآخر في ماله ليس بمعاملة (١) ، فإنّ ثمرة البيع هي النقل وغير ذلك ممّا هو معروف.
فظهر ممّا تلوناه ، أنّ الأصل في المعاملة الفساد وعدم الصحّة ، إلّا أن يثبت الصحّة بدليل ، من إجماع أو نصّ خاص أو عام ، مثل ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٢) وأمثاله.
فإن قلت : غاية ما ثبت ممّا ذكرنا أنّ الصحّة لا يثبت إلّا بدليل ، لأنّ الأصل الفساد ، وعدم الصحّة ، لأنّ الفساد شرعا أيضا يحتاج إلى دليل شرعي ، فكيف يكون الأصل الفساد؟! قلت : قبل وقوع المعاملة المشكوكة حالها كان الثمن مال المشتري والمبيع مال البائع ، ولم يكن خيار وأمثال ذلك من مراتب البيع ، فالأصل بقاء الكلّ على ما كان عليه وعدم تحقّق تغيّر أصلا ، ولا يترتّب أثر (٣) مطلقا ، وهذا عين الفساد.
وأصالة البقاء إجماعي ، مضافا إلى استصحابه وظهوره من الأخبار (٤) ، مع أنّ عدم الدليل دليل عدم الحكم عندنا ، كما هو الحال في سائر الأحكام الشرعيّة ، فتأمّل.
والحاصل ، أنّ فساد المعاملة لا يحتاج إلى دليل ، بل الأصل الفساد ، وإنّما المحتاج إليه هو الصحّة ، ودليلها غالبا هو العمومات ، أو الإطلاقات.
__________________
(١) في ألف : ( يتصرّف الآخر في ما ليس له بمعاملة ).
(٢) البقرة (٢) : ٢٧٥.
(٣) في ب : ( ولا ترتّب أثر ).
(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٨ / ٢١ الباب ٩ من أبواب الخيار و ٢٣ الباب ١٠ من أبواب الخيار.
ولا بدّ أن تكون المعاملة فردا حقيقيّا للعام ، فمجرّد إطلاق لفظه عليها لا يكفي ، لأنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، فلا بدّ من مراعاة أمارات الحقيقة ، وأن يكون من الأفراد المتبادرة المتعارفة للعام إن كان الاستدلال من الإطلاقات ، لانصرافها إلى الأفراد المتعارفة والشائعة ، بل وإن كان الاستدلال بالعمومات أيضا ، على إشكال.
ولا بدّ أن يكون الأمران بالنسبة إلى اصطلاح زمان الشارع ولسانه ، ولو كان بكونه من أصالة العدم والبقاء ، وما ماثلها في موضع يجري فيه.
ولا بدّ أن تكون أيضا مستجمعة للشرائط الشرعيّة الثابتة المذكورة في مواضعها ، وأن تكون خالصة من الموانع الشرعيّة والموانع العامّة ، مثل معاملة ما لا نفع فيه أصلا ولا نفع منه نفعا معتدّا به عند العقلاء ، أو يكون له نفع معتدّ به لكن بحيث يرتكب المعاملة لتحصيله (١) عند العقلاء ، والكلّ سيجيء.
وحجّة فسادها أداء معاملتها إلى السفاهة ، فيدخل في عموم ما دلّ على فساد معاملة السفيه (٢).
ومثل النهي عن بيع الغرر (٣).
ومثل معاملة الضرر ، لقوله صلىاللهعليهوآله : « لا ضرر ولا ضرار » (٤) ، وغيره.
وإن كان الضرر على النفس فهو داخل أيضا في السفاهة.
__________________
(١) في ب : ( لكن لا يجب يرتكب المعاملة لتحصيله ).
(٢) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٧ / ٣٦٠ الحديثين ٢٢٧٥٢ و ٢٢٧٥٣.
(٣) لاحظ! عيون أخبار الرضا عليهالسلام : ٢ / ٤٥ الحديث ١٦٨ ، عوالي اللئالي : ٢ / ٢٤٨ الحديث ١٧ ، وسائل الشيعة : ١٧ / ٤٤٨ الحديث ٢٢٩٦٥ ، مسند أحمد بن حنبل : ١ / ٣٠٢.
(٤) لاحظ! عوالي اللئالي : ١ / ٣٨٣ الحديث ١١ و ١ / ٢٢٠ الحديث ٩٣ و ٢ / ٧٤ الحديث ١٩٥ و ٣ / ٢١٠ الحديث ٥٤ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ٣٢ الأحاديث ٢٣٠٧٣ ـ ٢٣٠٧٥.
ومثل النهي عن بيع الحرام وشرائه ، لما رواه « الغوالي » عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « إنّ الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرم ثمنه » (١).
ومنه أيضا ، عنه صلىاللهعليهوآله : « لعن الله اليهود ، حرّم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها » (٢).
وفي أخبار الكتب الأربعة عنه صلىاللهعليهوآله في الخمر : « إنّ الّذي حرّم شربها حرّم ثمنها » (٣).
ولعلّه يظهر من فحاوى أخبار أخر أيضا (٤).
والمراد ما له أهليّة الأكل والشرب إلّا أنّ الشارع حرّمها ، فلا يشمل مثل التراب وغيره ممّا يحرم أكله وشربه ويصحّ بيعه.
ومن الموانع ، النجاسة الّتي لا تقبل التطهير إلّا الدهن للاستصباح ، كما سيجيء.
ودليل المنع في نجس العين هو الإجماع ، والاستقراء يؤيّده ، وكذا دليل المنع فيما لا يقبل التطهير ، واستثني من ذلك الكلب والكافر على النحو الّذي سيذكر ، وفي الموانع السابقة أيضا ربّما ادّعوا الإجماع ، كما سيجيء ، وسيجيء أيضا بعض الموانع الأخر والموانع الخاصّة.
وفي « الفقه الرضوي » : « كلّ مأمور به ممّا هو صلاح للعباد (٥) وقوام لهم في
__________________
(١) عوالي اللئالي : ١ / ١٨١ الحديث ٢٤٠ و ٢ / ١١٠ الحديث ٣٠١.
(٢) لاحظ! الهامش السابق!
(٣) الكافي : ٥ / ٢٣٠ الحديث ٢ ، من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٤ ، تهذيب الأحكام : ٧ / ١٣٦ الحديث ٦٠١. الاستبصار : ٣ / ٥٥ الحديث ١٧٩ وهو منقول بالمعنى.
(٤) لاحظ! وسائل الشيعة : ١٧ / ٩٢ الباب ٥ من أبواب ما يكتسب به.
(٥) في النسخ : ( ممّا كذا على العباد ) ، وما في المتن أثبتناه من المصدر.
أمورهم من وجوه الصلاح الّذي لا يقيمهم غيره ، ممّا يأكلون ويشربون ، وينكحون ، ويستعملون ، فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وهبته ، وعاريته. وكلّ أمر فيه الفساد ممّا قد نهي عنه من جهة أكله وشربه ولبسه ونكاحه وإمساكه لوجه الفساد [ ممّا قد نهي عنه ] مثل الميتة والدم ولحم الخنزير والربا وجميع الفواحش ولحوم السباع والخمر وما أشبه ذلك فحرام ضارّ للجسم وفساد للبدن (١) » (٢).
وفيه أيضا ، « اعلم يرحمك الله ، أنّ كلّما يستعمله (٣) العباد من أصناف الصنائع مثل الكتابة والحساب والتجارة والنجوم والطبّ وسائر الصناعات [ والأبنية ] والهندسة ، والتصاوير ما ليس فيه مثال [ الروحانيّين ، وأبواب ] صنوف الآلات الّتي يحتاج إليها ممّا فيه منافع وقوام ومعايش (٤) ، وطلب الكسب ، فحلال كلّه : تعليمه والعمل به ، وأخذ الأجرة عليه. وإن قد تصرّف بها في وجوه المعاصي أيضا مثل استعمال ما جعل للحلال ، ثمَّ يصرف إلى أبواب الحرام ، [ في ] مثل معاونة الظالم وغير ذلك من أسباب المعاصي ، مثل الإناء والأقداح [ وما أشبه ذلك ، ولعلّة ] ما فيه من المنافع جائز تعليمه وعمله ، وحرم على من يصرفه إلى غير وجوه الحقّ والصلاح [ الّتي ] أمر الله تعالى بها دون غيرها ، اللهم إلّا أن يكون صناعة محرّمة أو منهيّا عنها مثل الغناء ». إلى آخر ما قال (٥).
__________________
(١) كذا ، وفي المصدر : ( وفاسد للنفس ).
(٢) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليهالسلام : ٢٥٠ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
(٣) كذا ، وفي المصدر : ( كلّما يتعلّمه ).
(٤) كذا ، وفي المصدر : ( وقوام المعايش ).
(٥) الفقه المنسوب للإمام الرضا عليهالسلام : ٣٠١ ، وما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.
فإن قلت : النهي في المعاملات لا يقتضي الفساد ، فكيف جعلته مانعا عن الصحّة؟!
قلت : مختار بعض الفقهاء أنّه يقتضي الفساد مطلقا (١). وأمّا على ما اختاره المشهور من عدم اقتضائه الفساد فإنّما يمنع الصحّة في موضع يكون مثبت الصحّة منحصرا في مثل قوله تعالى ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٢) ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (٣) ، ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (٤) ، ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ) (٥) و « والمسلمون عند شروطهم » (٦) ، لأنّ الحرمة لا تجتمع مع الحلّية ، لكونهما متضادّين عند الشيعة والمعتزلة ، بل عند الكلّ ، ولذا يدّعي الأشعري أنّ متعلّق الأمر غير متعلّق النهي في الصلاة في الدار المغصوبة (٧).
وبالجملة ، من المسلّمات التضادّ بين الأحكام الخمسة.
وأمّا الحرمة ووجوب الوفاء ، الظاهر أيضا أنّهما متضادّان ، مع أنّه إذا حصل الشكّ في تضادّهما لا يمكن الحكم بالصحّة ، لما عرفت من أنّ الأصل عدم الصحّة إلى أن يثبت الصحّة ، وبمجرّد الاحتمال لا يثبت.
لا يقال : إحلال البيع ووجوب الوفاء بالعهد كيف يدلّان على الصحّة؟! لأنّا نقول : البيع عبارة عن نقل الملك من الطرفين بعنوان اللزوم ، فإذا
__________________
(١) لاحظ! الذريعة إلى أصول الشريعة : ١ / ١٨٠ ، العدّة : ١ / ٩٩ ، الوافية : ١٠٠ و ١٠٣ ، وغيرها.
(٢) البقرة (٢) : ٢٧٥.
(٣) البقرة (٢) : ٢٧٥.
(٤) المائدة (٥) : ١.
(٥) الإسراء (١٧) : ٣٤.
(٦) عوالي اللئالي : ٢ / ٢٥٨ الحديث ٨ ، وسائل الشيعة : ١٨ / ١٦ الحديثان ٢٣٠٤٠ و ٢٣٠٤١.
(٧) لاحظ! المستصفى : ١ / ٧٩ ، فواتح الرحموت : ١ / ٤٠١.
حصل ذلك (١) دلّ على الرضا والإمضاء والتقرير ، وكذا الحال بالوفاء ، لا لتضمّنه عقدا واقتضائه ، وقس عليها حال غيرها.
تمّت الرسالة بعون الله ، والحمد لله ربّ العالمين.
__________________
(١) في النسخ : ( فإذا حمل ذلك ) ، والظاهر أنّ الصواب ما أثبتناه.
فهارس الكتاب
* فهرس الايات
* فهرس الاحاديث
* فهرس الكتب
* المنابع والماخذ
* فهرس الموضوعات