أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]
المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢
الثالث : أنه لو ساغ هذا التأويل ؛ لساغ مثله في قوله ـ تعالى ـ (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (١) ـ وفي قوله ـ تعالى ـ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٢). لتساوى الدلالة ؛ وهو ممتنع بالإجماع.
وقوله ـ تعالى ـ (جَهْرَةً). لا يزيد على كون النظر موصولا بإلى.
قولهم : إنه (٣) إنما سأل (٣) أن يريه علما من أعلام الساعة.
قلنا : لا يستقيم ذلك لوجوه ثلاثة :
الأول : أنه على خلاف الظاهر كما سبق من غير دليل.
الثانى : أنه أجاب بقوله (لَنْ تَرانِي) وقوله (لَنْ تَرانِي) (٤) إن كان محمولا على نفى ما وقع السؤال عنه من رؤية بعض الآيات ؛ فهو خلف ؛ فإنه قد أراه أعظم الآيات ، وهو تدكدك الجبل.
وإن كان قوله (لَنْ تَرانِي) محمولا على نفى الرؤية ؛ فلا يكون الجواب مطابقا للسؤال.
الثالث : أنه قال ـ تعالى ـ (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) فإن كان ذلك محمولا على رؤية آياته ؛ فهو محال ؛ فإن الآية ليست في استقرار الجبل ؛ بل في تدكدكه.
وإن كان محمولا على الرؤية ؛ فلا يكون مرتبطا بالسؤال.
وهذه المحالات إنما لزمت من حمل الآية ، على رؤية الآية ؛ فيكون ممتنعا.
قولهم : إنما سأل الرؤية لقصد مثل هذا الجواب لدفع قومه. عنه أجوبة ثلاثة :
الأول : أن ما ذكروه على خلاف الظاهر المفهوم من سؤاله الرؤية لنفسه من غير دليل.
الثانى : أنه لو علم أن الرؤية غير جائزة ، لما سألها / من الله تعالى. وأضافها إلى نفسه لقصد دفع قومه ؛ بل كان يجب أن يبادر إلى ردعهم ، وزجرهم عن طلب ما لا يليق
__________________
(١) سورة النساء ٤ / ١٥٣.
(٢) سورة الأنعام ٦ / ١٠٣.
(٣) فى ب (إنما سأله).
(٤) فى ب (وان).
بجلال الله ـ تعالى ـ كما قال لهم : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) عند قولهم : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) (١).
الثالث : أنه قد وقع زجرهم ، وردعهم عن سؤالهم (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) بأخذ الصاعقة لهم ، والعذاب الأليم عقيبه على ما قال تعالى ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (٢) وليس في أخذ الصاعقة لهم ما يدل على امتناع ما طلبوه ؛ بل إنما كان ذلك ؛ لأنهم طلبوا ذلك في معرض التشكيك في نبوة موسى ، وقصد (٣) إعجازه عن ذلك ؛ فأنكر الله ـ تعالى ـ ذلك منهم كما أنكر قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٤). وقولهم : (انزل علينا كتابا من السماء) (٥). وإن لم يكن ذلك مستحيلا نظرا إلى ما قصدوه من الإعجاز.
قولهم : المقصود من السؤال إنما هو ضم الدليل السمعى إلى الدليل العقلى للتأكيد ؛ فمندفع من وجهين :
الأول : أنه إذا كان عالما بإحالة الرؤية ؛ فلا يخفى أن العلم غير قابل للزيادة ، والنقصان ؛ فطلب التأكيد فيه ممتنع.
وعلى هذا قال بعض المتأولين : يجب صرف قول إبراهيم الخليل عليهالسلام (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (٦) عن قصد التأكيد ؛ لعلمه بإحياء الله ـ تعالى ـ الموتى لما ذكرناه إلى مخاطبة جبريل بذلك عند نزوله إليه بالوحى ؛ ليعلم أنه من عند الله ـ تعالى ـ وهو بعيد لوجهين :
الأول : أنه خاطب به الرب ـ تعالى ـ بقوله (رَبِّ أَرِنِي) ، وجبريل ليس برب.
الثانى : أن إحياء الموتى غير مقدور لجبريل ؛ فلا يحسن السؤال له بإحياء الموتى ؛ بل الأولى صرفه إلى ما نقل عنه ـ عليهالسلام ـ أنه كان قد أوحى الله ـ تعالى ـ
__________________
(١) سورة الأعراف ٧ / ١٣٨.
(٢) سورة النساء ٤ / ١٥٣.
(٣) فى ب (وقصدوا).
(٤) سورة الإسراء ١٧ / ٩٠.
(٥) حكى القرآن عنهم ذلك في قوله تعالى (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ...)
(٦) سورة البقرة ٢ / ٢٦٠.
إليه «أننى (١) أتخذ (١) إنسانا خليلا ، وعلامته أننى أحيى الموتى بسبب دعائه» ؛ فوقع في قلبه أنه ذلك الإنسان ؛ فطلب ذلك ؛ ليطمئن قلبه بأنه هو ذلك الخليل.
الثانى : وإن أمكن طلب تأكيد العلم بإحالة الرؤية بضم الدليل السمعى إلى العقلى ؛ فقد كان يمكن ذلك بطلب إظهار الدليل السمعى له من غير أن يسأل (٢) الرؤية مع إحالتها.
قولهم : أنه لو لم يكن عالما بإحالة الرؤية مع سؤاله لها فجوابه ما سبق ، وعدم معرفته بإحالة وقوع الرؤية في الدنيا إنما كان ؛ لأن الرؤية في الدنيا غير مستحيلة لذاتها ، ولا مانع منها لو لا الدليل السمعى / ؛ ولعله لم يكن قد علمه بعد ؛ ولا ظهر له إلا بعد السؤال ، وقوله ـ تعالى ـ : (لَنْ تَرانِي).
قولهم : إن ذلك لم يكن حراما في شرعه.
قلنا : وإن لم يكن حراما. غير أنه لا فائدة في طلب المحال ، وما لا فائدة فيه ؛ فمنصب النبي ينزه عنه.
قولهم : الصغائر جائزة على الأنبياء ، ممنوع على ما يأتى (٣).
قولهم : على الوجه الثانى : لا نسلم أنه علق الرؤية على شرط ممكن.
قلنا : لأنه علقها على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل ممكن ؛ ولهذا فإنه لو فرض وجوده ، أو عدمه ؛ لا يلزم عنه لذاته محال.
قولهم : الشرط هو الاستقرار حالة الحركة على ما قرروه ؛ فمندفع فإنهم قالوا : الشرط هو الاستقرار في حالة وجود الحركة مع الحركة ؛ فهو زيادة إضمار في الشرط ، وترك لظاهر اللفظ من غير دليل ؛ فلا يصح.
وإن قالوا الشرط هو الاستقرار في الحالة التى وجدت فيها الحركة بدلا عن الحركة ؛ فلا يخفى جوازه.
__________________
(١) في ب (انى اتخذت).
(٢) فى ب (يطلب).
(٣) فى ب (على رأى بعض الأصحاب على ما يأتى). انظر الجزء الثانى ـ القاعدة الخامسة ل ١٦٨ / ب وما بعدها.
قولهم : إنه لا يلزم أن يكون المعلق على الممكن ممكنا على ما قرروه ؛ ليس كذلك ؛ فإنه لو قدر وجود الشرط فإن لم يوجد المشروط كان تعليق الوجود على الموجود ممتنعا ، وإن وجد المشروط ؛ فهو المطلوب.
وأما ما ذكروه من المعارضة بقوله ـ تعالى ـ (لَنْ تَرانِي) فمندفع لأربعة أوجه :
الأول : أنا لا نسلم أن لن للتأبيد ؛ بل للتأكيد ؛ بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (١) مع أنهم يتمنونه في الآخرة.
الثانى : أنها وإن كانت للتأبيد ؛ ولكن يحتمل أنه أراد به عدم الرؤية في الدنيا ، وهو الأولى لأن يكون الجواب مطابقا لسؤال موسى عليه الصلاة والسلام ، وهو لم يسأل الرؤية في غير الدنيا.
الثالث : أنها وإن دلت على التأبيد مطلقا ، فغايته انتفاء وقوع الرؤية ، ولا يلزم منه ، انتفاء الجواز.
الرابع : وإن دل على انتفاء الجواز من الوجه الّذي ذكروه غير (٢) أنه يدل على الجواز من (٣) حيث أنه أحال (٣) انتفاء الرؤية على عجز الرائى وضعفه عن الرؤية بقوله : (لَنْ تَرانِي). ولو كانت رؤيته غير جائزة ؛ لكان الجواب لست بمرئى كما لو قال : أرنى أنظر إلى صورتك ، ومكانك ؛ فإنه لا يحسن أن يقال : لن ترى صورتى ، ولا مكانى ؛ بل لست بذى صورة ، ولا مكان.
وقول موسى عليهالسلام (تُبْتُ إِلَيْكَ) مما لا ينهض شبهة في جواز خطابه ، وجهله بجواز الرؤية لوجهين :
الأول : هو أن التوبة قد تطلق بمعنى الرجوع ، وإن لم يتقدمها ذنب. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (تابَ عَلَيْهِمْ) (٤) : أى رجع عليهم بالتفضل / والإنعام.
__________________
(١) سورة البقرة ٢ / ٩٥.
(٢) فى ب (على).
(٣) فى ب (من جهة أنه حال).
(٤) سورة التوبة ٩ / ١١٨.
وعلى هذا : فلا يبعد أن يكون المراد من قوله : (تُبْتُ إِلَيْكَ) : أى رجعت (١) عن طلب الرؤية عند قوله ـ تعالى ـ (لَنْ تَرانِي) وقوله ـ عليهالسلام ـ : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) ليس المراد به ابتداء الإيمان منه في تلك الحالة بالله ـ تعالى ؛ بل المراد إضافة الأولوية إليه لا إلى الإيمان ، ومعناه : وأنا أول المؤمنين.
الثانى : أنه وإن كانت توبته تستدعى سابقة الذنب ؛ فليس فيه ما يدل على أن الذنب في سؤاله ؛ بل جاز أن تكون التوبة عما تقدم من الذنوب قبل السؤال ؛ لما رأى من الأهوال ، والآية العظيمة من تدكدك الجبل ، على ما هو عادة المؤمنين الصلحاء من تجديد التوبة عما سلف ، إذا رأوا آية (٣) عظيمة (٣) ، وأمرا مهولا.
__________________
(١) فى ب (رجعت إليك).
(٢) سورة الأعراف ٧ / ١٤٣.
(٣) فى ب (الآية).
الفصل الثانى
في بيان وقوع الرؤية في الآخرة للمؤمنين
وقد احتج بعضهم (١) على ذلك بمسلك ضعيف ، وهو أن قال : الأمة في هذه المسألة على قولين :
فمنهم من قال : بجواز الرؤية ، ووقوعها في القيامة للمؤمنين.
ومنهم : من نفى الأمرين. وقد ثبت بالدليل جواز الرؤية ؛ فيلزم منه وقوع الرؤية ، وإلا كان القول بالجواز ، وامتناع (٢) وقوع الرؤية (٢) ، قولا ثالثا خارقا للإجماع ؛ وهو باطل.
وهو غير صحيح ؛ فإن خرق الإجماع إنما يكون بالقول بإثبات ما اتفق الإجماع على نفيه ، أو نفى ما اتفق الإجماع على إثباته ؛ وذلك غير متحقق فيما نحن فيه.
فإن القول الثالث : إنما هو التفصيل ، ولا معنى له غير القول بالجواز ، والقول بانتفاء الوقوع. والقول بالجواز ليس على خلاف قول الإجماع ؛ إذ فيه موافقة مذهب من قال به ، والقول بانتفاء الوقوع ليس خارقا للإجماع ؛ بل فيه موافقة مذهب القائل به ؛ ففى كل طرف قد وافق مذهب ذى مذهب ، لا أنه خارق للإجماع.
وهذا كما أن القائل في مسألة المسلم بالذمى ، والحر بالعبد قائلان. فقائل بجريان القصاص فيهما ، وقائل بنفيه فيهما. ومن صار إلى جواز قتل المسلم بالذمى ، لقيام دليله في نظره ، لا يلزمه أن يقول بذلك في الحر بالعبد ، من غير دليل ، ولا يكون بذلك خارقا للإجماع ، ولا ممنوعا منه بالإجماع.
والمعتمد في ذلك قوله ـ تعالى ـ : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٣)
__________________
(١) هو الإمام الرازى انظر المحصل ص ٤٤١ وما بعدها ، وشرح المواقف ٢ / ٣٧٣.
(٢) فى ب (مع امتناع الوقوع).
(٣) سورة القيامة ٧٥ / ٢٢ ، ٢٣. وهذه الآية الكريمة التى أوردها الآمدي هنا على أنها الدليل المعتمد على وقوع الرؤية في الآخرة للمؤمنين ؛ أوردها القاضى عبد الجبار المعتزلى في المغنى على أن الاستدلال بها من شبه الخصوم ، ووجه الآية توجيها يتفق مع مذهبه انظر المغنى ٤ / ١٩٧ ـ ٢١٧ ، وانظر الأصول الخمسة ص ٢٤٢ ـ ٢٤٨ والمحيط بالتكليف ص ٢١٢ ، ٢١٣.
ووجه الاحتجاج منه أن النظر قد يطلق / فى لغة العرب بمعنى الانتظار ومنه قوله ـ تعالى ـ (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (١) : أى (٢) انتظرونا (٢). وقوله تعالى ـ : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) (٣) : أى ينتظرون وقوله ـ تعالى ـ : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (٤).
ومنه قول الشاعر :
فإن يك صدر هذا اليوم ولى |
|
فإنّ غدا لناظره قريب (٥) |
أى لمنتظره. وإذا استعمل النظر بإزاء هذا المعنى استعمل من غير صلة.
وقد يطلق ويراد به التفكر والاعتبار : واذا استعمل بإزائه وصل بفى. ومنه يقال : نظرت في المعنى الفلانى : أى فكرت فيه ، واعتبرت.
وقد يطلق بمعنى التعطف ، والرأفة. واذا استعمل بالرأفة ، وصل باللام ومنه [قولهم (٦) : نظر فلان لفلان ، أى تعطف عليه ، ورأف به (٦)]
وقد يطلق بمعنى الرؤية والإبصار : وإذا استعمل بإزائه وصل بإلى ، ومنه قول الشاعر:
نظرت إلى من حسّن الله وجهه |
|
فيا نظرة كادت على وامق تقضى |
والمراد به الرؤية. والنظر في الآية موصول بإلى ؛ فوجب حمله على الرؤية والإبصار.
فان قيل : النظر الّذي هو صفة الوجوه إنما يمكن حمله على الرؤية أن لو كانت الوجوه بمعنى الجوارح ؛ وليس كذلك ؛ بل المراد بالوجوه في الآية الأنفس (٧) ، والأشخاص (٧) الشريفة النفيسة بالإيمان دون الجوارح.
__________________
(١) سورة الحديد ٥٧ / ١٣.
(٢) ساقط من ب
(٣) سورة يس ٣٦ / ٤٩.
(٤) سورة النمل ٢٧ / ٣٥.
(٥) القائل : قراد بن أجدع ـ انظر مجمع الأمثال للميدانى ـ المطبعة البهية سنة ١٣٤٢ ه ١ / ٦٣ ، ٦٤.
(٦) فى ب (قوله : نظر فلان لفلان أى تعطف به ورأف به). وفي أ (قولهم : نظر فلان أى تعطف عليه ورأف به).
(٧) فى ب (الأشخص والأنفس).
ولهذا يقال : أقبل وجوه القوم : أى رؤساؤهم ، وأشرافهم. ويدل على ذلك قوله ـ تعالى (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) (١). والأصل اتحاد المفهوم من لفظ الوجوه هاهنا ، وليس المراد من قوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) الوجوه (٢) بمعنى الجوارح بدليل قوله ـ تعالى ـ (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ).
والظن ليس للوجوه بمعنى الجوارح ؛ [فكذلك (٣) فى الوجوه الناظرة.
سلمنا أن الوجوه بمعنى الجوارح (٣)] ؛ ولكن لا نسلم أن المراد من النظر المضاف إليها الرؤية.
قولكم : إن النظر الموصول بإلى في اللغة : للرؤية.
قلنا : لا نسلم أن إلى هاهنا (٤) حرف ، وبيانه هو أن (٤) إلى قد تكون اسما ، فإن (٥) إلى (٥) واحد الآلاء أى النعم. ومنه قول الشاعر :
أبيض لا يرهب النزال ولا |
|
يقطّع رحما ولا يخون إلى |
وقد ترد بمعنى عند. ومنه قول الشاعر :
فهل لكم فيما إلى فاننى |
|
طبيب بما أعيى النّطاسى حذيما (٦) |
أى فيما عندى.
وعلى هذا فبتقدير أن يكون بمعنى واحد الآلاء ؛ فيكون معنى قوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٧) : أى نعمة ربها منتظرة. وعلى تقدير أن يكون بمعنى عند ؛ فيكون معناه وجوه يومئذ ناظرة إلى / ربها ناظرة : أى عند ربها منتظرة نعمة ربها.
__________________
(١) سورة القيامة ٧٥ / ٢٤.
(٢) ساقط من ب.
(٣) من أول (فكذلك في الوجوه ...) ساقط من أ.
(٤) فى ب (هاهنا وبيانه أن).
(٥) فى ب (فإنها).
(٦) القائل : أوس بن حجر انظر خزانة الأدب ٤ / ٣٧٣ تحقيق عبد السلام هارون نشر الدار القومية ـ وقد استشهد به صاحب الكشاف وذكره في تفسيره ١ / ١٧١.
(٧) سورة القيامة ٧٥ / ٢٢ ، ٢٣.
سلمنا أن إلى هاهنا حرف ؛ ولكن لا نسلم أن إلى بمعنى الحرف إذا اقترنت بالنظر تكون للرؤية ، بل قد يرد ذلك بمعنى تقليب الحدقة إلى جهة المرئى. ومقابلتها له. ومنه يقال:
جبلان متناظران. إذا تقابلا.
وقد يرد بمعنى الانتظار.
وقد يرد بمعنى الرحمة.
وقد يرد بمعنى التفكر ، والاعتبار.
أما الأول : فبيانه من ستة أوجه :
الأول : أنه يصح أن يقال : نظرت إلى الهلال فلم أره. ولو كان النظر بمعنى الرؤية ؛ لكان متناقضا. ولو كان بمعنى (١) تقليب الحدقة إليه ؛ لكان حقا (١).
الثانى : أنه يصح أن يقال : ما زلت أنظر إلى الهلال حتى رأيته. ولو كان النظر بمعنى الرؤية ؛ لكان النظر غاية لنفسه ، ولا كذلك في تقليب الحدقة.
وأيضا فإنه يصح أن يقال : نظرت فرأيت. فترتب الرؤية على النظر بفاء التعقيب [يدل (٢)] على المغايرة. والّذي ترتب عليه الرؤية ؛ إنما هو تقليب الحدقة.
الثالث : أنه يصح أن يقال : أما ترى كيف ينظر فلان إلى فلان. ولو كان النظر هو الرؤية ؛ لما كان مرئيا بخلاف تقليب الحدقة.
الرابع : قوله ـ تعالى ـ : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٣) والمراد بالنظر هاهنا تقليب أحداقهم نحوه بدليل قوله ـ تعالى ـ : (وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ). ولو كان النظر بمعنى الرؤية ؛ لكان (٤) متناقضا.
__________________
(١) فى ب (المعنى توجيه الحدقة إليه كان حقا).
(٢) فى أ (فدل).
(٣) سورة الأعراف ٧ / ١٩٨.
(٤) فى ب (لما كان).
الخامس : هو أن النظر الموصول بإلى قد يوصف بما لا توصف به الرؤية من الصلابة ، والشدة ، والغضب (١) ، والازورار ، والرضا ، والتحير ، والذل ، والخشوع ، ونحو ذلك. وذلك بما تكون عليه عين الناظر من الأوضاع المختلفة ، والتقليب المخصوص ، والكيفية في تحريكها. ومن المعلوم أن الرؤية لا تختلف باختلاف هذه الأحوال ، ولا توصف بها ، فإن العرب لا تصف إلا ما تراه ؛ فدل على أن النظر بمعنى تقليب الحدقة ؛ لا بمعنى الرؤية.
السادس : أنه يصح الأمر بالنظر ، والنهى عنه فيقال : انظر إلى فلان ، ولا تنظر إلى فلان ، ومتعلق الأمر ، والنهى ما كان مقدورا للناظر ؛ والرؤية غير مقدورة له ؛ بخلاف تقليب الحدقة ؛ فكان هو المراد بالنظر.
وأما الثانى : وهو بيان أن النظر قد يرد بمعنى الانتظار وإن كان موصولا بإلى ، وذلك مما نقل عن العرب أنها تقول : نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته ويقال : نظرى إلى الله ، ثم إلى فلان / : أى انتظارى ، ولهذا يصح هذا الإطلاق ممن لا رؤية له كالأعمى.
ومن قول الشاعر :
ويوم بذى قار رأيت وجوههم |
|
إلى الموت من وقع السّيوف نواظرا (٢) |
أى منتظرة ضرورة أن الموت لا يرى.
وأيضا قول الشاعر :
وجوه ناظرات يوم بدر |
|
إلى الرحمن يأتى بالفلاح (٣) |
أى بالفرج من عنده.
وأيضا قول الشاعر :
إنّى أليك لما وعدت لناظر |
|
نظر الذّليل الى العزيز القاهر (٤) |
أى منتظر.
__________________
(١) فى ب (والضعف).
(٢) ورد هذا البيت في أصول الدين للبغدادى ص ١٠٠ ، وقد أورده الآمدي أيضا في غاية المرام ص ١٧٥.
(٣) ورد في شرح الأصول الخمسة ص ٢٤٥ ، ٢٤٦ هكذا
وجوه يوم بدر ناظرات* |
|
إلى الرحمن يأتى بالخلاص |
ونسبه المحقق إلى حسان بن ثابت رضى الله عنه.
(٤) ورد هذا البيت في غاية المرام ص ١٧٥ بنصه المذكور هنا كما ورد في شرح الأصول لخمسة ص ٢٤٦ برواية أخرى هكذا :
إنى إليك لما وعدت لناظر* |
|
نظر الفقير إلى الغنى الموسر |
وأيضا : قول الشاعر :
كلّ الخلائق ينظرن نحاله (١) |
|
نظر الحجيج إلى طلوع هلال (٢) |
وقال آخر :
وجوه بها ليل الحجاز على النّوى |
|
إلى مكّة نحو المعاريف ناظرة |
والمراد به الانتظار ؛ لاستحالة الرؤية في مثل (٣) هذه الصورة (٣).
وقال الآخر :
وشعث ينظرون إلى بلال |
|
كما نظر الظّماة حيا الغمام |
وحيا الغمام لا يرى ، وإنما ينتظر ؛ فكذلك المشبه به.
وأما بيان الثالث : فقوله ـ تعالى ـ فى حق الكفار (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) (٤) وليس المراد به الرؤية ، فإنه كان يراهم.
وليس المراد ؛ نفى النظر بمعنى تقليب الحدقة ؛ وإلا كان معناه ولا يقلب حدقته إلى (٥) جهتهم (٥) ؛ وهو محال.
ولا بمعنى الانتظار والاعتبار ؛ فإنه يتعالى ، ويتقدس عن ذلك ؛ فكان محمولا على ترك الرحمة.
وأما بيان الرابع : فقوله ـ تعالى ـ : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (٦).
ليس المراد بالنظر المحثوث عليه (٧) الرؤية ، ولا تقليب الحدقة لمشاركة (٨) الكفار (٨) فى ذلك. ولا الانتظار ؛ فلم يبق إلا التفكر ، والاعتبار.
سلمنا أن النظر الموصول بإلى للرؤية حقيقة ، ولكن للرؤية (٩) المشترطة (٩) بالشروط المذكورة من قبل في النظر ، أم لا. الأول : مسلم ، والثانى : ممنوع.
__________________
(١) فى ب (سجالة).
(٢) ورد هذا البيت في المواقف ص ٣٠٦ كما ورد هنا في أ.
(٣) فى ب (فى هذه الصور).
(٤) سورة آل عمران ٣ / ٧٧.
(٥) فى ب (إليهم).
(٦) سورة الغاشية ٨٨ / ١٧.
(٧) فى ب (المندوب إليه).
(٨) فى ب (لمشاركتهم للكفار).
(٩) فى ب (النظر المشروطة).
وبيانه : أن القرآن أنزل بلغة العرب على ما قال ـ تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (١) وقوله تعالى : ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (٢). والعرب ما كانت تفهم من الرؤية غير ما ذكرناه ؛ فكان اسم (٣) النظر موضوعا بإزائها ؛ وذلك في حق الله ـ تعالى ـ محال.
وإذا تعذر حمل لفظ النظر على حقيقته ؛ فلا بد من التجوز حذرا من تعطيل اللفظ ؛ وذلك بحمله على الانتظار ، أو غيره مما يحتمله اللفظ.
سلمنا أنه للرؤية مطلقا ؛ ولكن يجب تأويله بحمله على رؤية ثواب الرب ـ تعالى ـ بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه. ودليل وجوب العمل بهذا التأويل : السمع ، والعقل.
أما السمع : فقوله ـ تعالى ـ : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٤) / فهذه الآية صريحة في نفى إدراك الله ـ تعالى ـ بالأبصار.
كيف وقد ورد ذلك في معرض التمدح ، والاستعلاء ، فلو أمكن أن يكون مدركا في وقت ما ؛ لزال عنه التمدح ، والاستعلاء ؛ وهو محال ؛ والجمع بين العمل بها (٥) ، وبظاهر ما ذكرتموه ؛ ممتنع.
وعند ذلك فلا بد من تأويل ما ذكرتموه حذرا من تعطيل أحد الدليلين.
وأيضا : قوله ـ تعالى ـ : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) (٦). دل على امتناع الرؤية في حق من يكلمه فمن لا يكلمه أولى أن لا يراه ، ولأنه لم يفرق أحد من الأمة بينهما.
وأيضا : قوله ـ تعالى : ـ (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) (٧) وصف من سأل رؤيته بالعتو ، ولو كانت الرؤية غير ممتنعة ؛ إما لذاتها أو لغيرها ؛ لما كان كذلك كما لو سأل غيرها من الممكنات.
__________________
(١) سورة يوسف ١٢ / ٢.
(٢) سورة ابراهيم ١٤ / ٤.
(٣) ساقط من ب.
(٤) سورة الانعام ٦ / ١٠٣.
(٥) فى ب (بهذه الآية).
(٦) سورة الشورى ٤٢ / ٥١.
(٧) سورة الفرقان ٢٥ / ٢١.
وأيضا : فإن الله ـ تعالى ـ عاقب من سأل رؤيته بدليل قوله (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١)
وقوله ـ تعالى ـ : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) (٢). ولو كانت الرؤية جائزة ، أو واقعة ، لما عاقبهم على سؤالهم. كما لو سألوا غيرها من الممكنات.
وأيضا : قوله ـ تعالى ـ للكليم : (لَنْ تَرانِي) ولن للتأبيد ؛ فغير موسى أولى أن لا يراه.
وأما من جهة المعقول : فمن ثلاثة أوجه :
الأول : أن المرئى لا بدّ وأن يكون مقابلا للرائى ؛ كالأجسام ، أو في حكم المقابل ، كالأعراض. ورؤية الإنسان وجهه في المرآة ؛ إذ ليس هو في مقابلة وجهه وذلك يوجب كون المرئى جوهرا ، أو عرضا ، وأن يكون في حيز وجهة ؛ وذلك على الله ـ تعالى ـ محال.
الثانى : أن المرئى لا بدّ من انطباع صورته في العين الباصرة ، وأن يكون متلونا متشكلا مقدرا ؛ على ما سلف ؛ وذلك في حق الله تعالى ـ محال.
الثالث : أنه وإن كانت هذه الشروط ، شروطا في رؤية الأجسام والبارى ـ تعالى ـ ليس بجسم ؛ فلا بد من اشتراط سلامة الحاسة وأن يكون الرب ـ تعالى ـ بحيث يصح أن يرى ، والحاسة سالمة ، فلو كان بحيث يصح أن يرى لرئي في الدنيا ؛ لأنه يلزم من وجود شروط الإدراك ، وجود الإدراك ضرورة ؛ فحيث لم ير في الدنيا ؛ علم أنه ليس بحال أن يرى.
والجواب :
قولهم : المراد بالوجوه الأشخاص ، عنه / أجوبة [ثلاثة] (٣) :
__________________
(١) سورة البقرة ٢ / ٥٥.
(٢) سورة النساء ٤ / ١٥٣.
(٣) ساقط من أ.
الأول : المنع ، وبيانه أن المتبادر من لفظ الوجوه عند الإطلاق إنما هو الجوارح ، والأصل في كل ما كان كذلك أن يكون حقيقة فيه. وحيث تطلق الوجوه على الرؤساء ، والأشراف ؛ فإنما كان بطريق المجاز تشبيها بالوجوه ؛ حيث كانت أشرف الأعضاء ، وأجلها.
قولهم : المراد بالوجوه الباسرة الأشخاص ؛ فكذلك الوجوه الناضرة. عنه جوابان :
الأول : لا نسلم أن الوجوه الباسرة هى الأشخاص ، واتصافها بالظن في يوم القيامة على خلاف العادة ؛ غير ممتنع كما في استنطاق الأيدى والأرجل بالشهادة على ما قال ـ تعالى ـ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) (١).
الثانى : وإن لزم (٢) التجوز في الوجوه الباسرة ؛ فلا يلزم التجوز مطلقا.
سلمنا أن لفظ الوجوه غير ظاهر بحكم الوضع في الجوارح ، غير أنه قد اقترن بها ما يدل على كونها هى المرادة.
وبيان (٣) إمكانه (٣) : أنه وصفها بالنضارة ، وهى الإشراق ، وتهلل الأسارير ، وذلك إنما (٤) توصف به الوجوه بمعنى الجوارح ، لا بمعنى الشرفاء ، والرؤساء.
سلمنا أن المراد بالوجوه الأشخاص ، والأنفس ، ولكن ليس في إضافة النظر إليها ما يمنع من حمله على الرؤية إذا كان موصولا بإلى ولو قال ـ تعالى ـ : «أشخاص يومئذ ناظرة إلى ربها ناظرة» ؛ كان ذلك محمولا على الرؤية.
قولهم : إن إلى قد تطلق بمعنى واحد الآلاء ، وبمعنى عند ، عنه جوابان.
الأول : أن ذلك وإن كان سائغا إلا أنه على خلاف الظاهر المتبادر إلى الفهم من إطلاق إلى ؛ فإنها مشهورة للحرفية دون ما ذكروه. والأصل فيما كان كذلك أن يكون هو الحقيقة.
__________________
(١) سورة النور ٢٤ / ٢٤.
(٢) فى ب (لم يقيد).
(٣) فى ب (وبيانه).
(٤) فى ب (أنه).
الثانى : وإن سلمنا عدم الظهور به ، بحكم الوضع في (١) الحرف غير أنه قد اقترن به (١) ما يدل على إرادة الحرفية ، حيث أن الآية إنما وردت تبشيرا للمؤمنين ، وتخصيصا لهم بالإنعام والإكرام ؛ وذلك لا يكون إلا بما هو نعمة ، وكرامة.
ولا يخفى تحقيق ذلك عند حمل إلى على الحرفية ؛ لأن النظر يكون بمعنى الرؤية ، ورؤية الله ـ تعالى ـ من أجل النعم ، والكرامات وهى (٢) من أعلا الدرجات (٢). ولو حمل إلى على واحد الآلاء ؛ فيكون تقدير الكلام وجوه يومئذ ناضرة نعمة ربها ناظرة.
وقوله ناظرة : إما بمعنى الرؤية ، أو بمعنى الانتظار.
فإن كان الأول : فلا يخفى أن رؤية النعمة لا تكون نعمة ، ولهذا : فإنه قد يشترك في رؤية نعمة الله ـ تعالى ـ المؤمنون ، والكفار (٣).
وإن كان الثانى : فانتظار النعمة لا يكون نعمة ، بل عذابا ، ومنه / قولهم : الانتظار الموت الأحمر ، فلا يصلح ذلك للتبشير ، وكذلك أيضا لو حمل على معنى عند ، فيكون تقدير الكلام : وجوه يومئذ ناظرة عند ربها ناضرة ، ولا بد من إضمار ثواب ربها ، أو نعمة ربها ، وسواء كان النظر بمعنى الرؤية ، أو الانتظار ، وفيه مع ما ذكرناه من المحذور زيادة الإضمار ؛ والإضمار على خلاف الأصل.
قولهم : لا نسلم أن إلى إذا اقترنت بالنظر تكون للرؤية.
قلنا : دليله ما سبق.
قولهم : يصح أن يقال : نظرت إلى الهلال ؛ فلم أره. لا نسلم صحة ذلك في وضع اللغة ؛ بل الّذي تقوله العرب نظرت إلى مطلع الهلال ؛ فلم أر الهلال. وربما حذف المطلع ، وأقيم المضاف إليه مقامه تجوزا ، واستعارة.
وعلى هذا يكون الجواب عن قولهم : ما زلت أنظر إلى الهلال حتى رأيته.
وقولهم (٤) : نظرت فرأيت من باب التأكيد ؛ وذلك جائز عند اختلاف الألفاظ ؛ وإن اتحد المعنى. ومنه قول امرئ القيس :
__________________
(١) فى ب (فى الحرفية غير انها قد اقترن بها).
(٢) من أول (وهى ...) ساقط من ب.
(٣) فى ب (والكافرون).
(٤) فى ب (وقوله).
مكر مفر مقبل مدبر معا |
|
كجلمود صخر حطّه السّيل من عل |
أضاف الجملود إلى الصخر ، وهما بمعنى واحد.
وعلى هذا فإنه يحسن أن يقال : أدركته ؛ فرأيته.
وقولهم : انظر كيف ينظر فلان إلى فلان ؛ فهو تجوز باسم الرؤية عن تقليب الحدقة ؛ لأن تقليب الحدقة سبب للرؤية في الغالب ، والتجوز باسم المسبب عن السبب ؛ جائز.
وهذا هو الجواب عن قوله ـ تعالى ـ (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١).
قولهم : إن النظر قد يوصف بما لا توصف به الرؤية الحقيقية ليس كذلك. ولا مانع من [اتصافها (٢)] بما ذكروه من الصفات.
قولهم : إن العرب لا تصف إلا ما تراه ؛ ليس كذلك ؛ فإنها (٣) كما تصف المرئيات ، فقد تصف (٣) ما لا يرى في مجارى العادات : كالشجاعة ، والجبن ، والكرم ، والبخل ، والبر ، والعقوق ، والعشق ، والشوق ، ونحو ذلك وفيما نحن فيه خاصة ؛ فإنهم يصفون النظر بمعنى الرؤية ومنه قول الشاعر :
نظرت إلى من حسّن الله وجهه |
|
فيا نظرة كادت على وامق تقضى |
قولهم : إن النظر مأمور به ، ومنهى عنه.
قلنا : الأمر ، والنهى ؛ وإن كان لا يتعلق بغير المقدور ، فإذا أضيف الأمر إلى النظر الموصول بإلى ؛ فهو حقيقة في الرؤية غير أنه لما تعذر حمل الأمر عليه ، لكونه غير مقدور تجوز به عن سببه ؛ وهو تقليب الحدقة كما سبق.
قولهم : إن النظر الموصول / بإلى قد يرد بمعنى الانتظار لا نسلم ذلك ، والناقل عن العرب أنها تقول : نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته ، إن كان غير موثوق به ؛ فلا التفات إليه.
وان كان موثوقا به ؛ فنقله مرجوح بالنسبة إلى النقل المشهور المأثور عنهم ، أنهم قالوا : النظر الموصول بإلى لا يكون إلا بمعنى الرؤية ؛ فإنه لا يقال نظرت إلى فلان بمعنى انتظرته ؛ بل إذا أريد به الانتظار قيل نظرته ، وانتظرته لا غير.
__________________
(١) سورة الأعراف ٧ / ١٩٨.
(٢) فى أ (صفاتها).
(٣) فى ب (فإنه كما يوصف المرئيات قد يصف).
وقولهم : نظرى إلى الله ، وإلى فلان. معناه (١) أننى أرتقب الخير ، والفرج (١) من الله. وفلان ينظر إلى جهة فلان ، وإلى السماء ؛ إذ هى في نظر أهل اللغة ، والعرف جهة الله ـ تعالى ـ ؛ ولهذا يرفع الناس أيديهم بالدعاء (٢) إليها.
وعلى هذا يكون الجواب عن قول الشاعر :
وجوه ناظرات يوم بدر |
|
إلى الرحمن يأتى بالفلاح (٣) |
وقول الشاعر : إلى الموت من وقع السيوف نواظرا.
فمحمول على الرؤية الحقيقية أيضا ، والمراد به رؤية الكرّ ، والفرّ ، والضّرب ، والطّعن المفضى إلى الموت ، تعبرة باسم المسبب عن السبب ويحتمل أن يكون المراد بالموت أهل الحرب الّذي يجرى الموت على أيديهم تجوزا ، واستعارة.
ومنه قول جرير :
أنا الموت الّذي خبرت عنه |
|
فليس لهارب منه نجاء (٤) |
وقول الشاعر : إنّى إليك لما وعدت لناظر.
فمحمول أيضا على الرؤية. ومعناه ناظر إلى جهتك ارتقب إنجاز الوعد.
وقوله : كل الخلائق ينظرون سجاله : أى يرون. ولا يمتنع حمل النظر المطلق على الرؤية ، وإنما الّذي يمتنع حمل النظر الموصول بإلى على غير الرؤية.
وكذلك أيضا قوله (٥) : نظر الحجيج إلى طلوع هلال. بمعنى الرؤية : ويكون تقدير الكلام : كل الخلائق يرون سجاله كما يرى الحجيج طلوع الهلال.
وقول الشاعر : إلى ملك نحو المغارب ناظرة.
__________________
(١) فى ب (معناه ارتقب الفرج والخير).
(٢) فى ب (فى الدعاء).
(٣) ذكر شارح المواقف ٢ / ٣٧٤ ـ أن أحد الرواة روى هذا البيت برواية أخرى
وجوه ناظرات يوم بكر* |
|
إلى الرحمن يأتى بالفلاح |
وأن قائله من أتباع مسيلمة الكذاب. والمراد بيوم بكر يوم القتال مع بنى حنيفة ؛ لأنهم بطن من بكر بن وائل ، وأراد بالرحمن مسيلمة ؛ وعلى هذا فالجواب ظاهر.
(٤) انظر ديوان جرير ص ١٤. ط دار صادر ببيروت.
(٥) ساقط من ب.
فقد قيل : إن هذا البيت من اخلاف (١) المتأخرين الذين لا احتجاج بأقوالهم.
وإن كان حجة ، فالمراد به الرؤية أيضا. ومعناه (٢) : أنهم ناظرون إلى جهة الملك في المغارب ؛ لارتقاب الإحسان ؛ والإنعام.
وقول الشاعر : وشعث ينظرون إلى بلال.
فالمراد أيضا به الرؤية.
وقوله كما نظر الظماء حيا الغمام فالمراد به الرؤية أيضا ؛ إذ لا يمتنع حمل النظر المطلق على الرؤية كما سبق. / والمراد بحيا الغمام الماء النازل منه الّذي هو سبب الحياة.
ثم وإن سلمنا أن النظر الموصول بإلى قد يطلق بمعنى الانتظار غير أنه مجاز بعيد ، والحقيقة ما ذكرناه ؛ فلا يترك الا بدليل.
وإن سلمنا أنه ظاهر في الانتظار ، غير أنه يمتنع حمل النظر في الآية عليه ؛ لوجوه خمسة :
الأول : هو أن الآية إنما وردت لتبشير المؤمنين ، وتخصيصهم بالإنعام عليهم ، وذلك لا يكون إلا بما هو نعمة ؛ والانتظار نقمة لا نعمة على ما سلف ؛ فيكون بعيدا عن المقصود.
الثانى : أن الانتظار لا معنى له غير (٣) التطلع ، والتوقع لما عساه أن يكون وألا يكون ، ومن يتيقن حصول ما يريده في وقته ، ولا يتخلف عنه على الاستمرار ، والدوام ؛ فلا يسمى منتظرا.
ولهذا لما كان الرب ـ تعالى ـ عالما بما (٤) يريده (٤) فى وقته من غير تخلف لم يسم منتظرا ، وأهل الجنان مستيقنون (٥) بدوام (٥) نعم الله ـ تعالى ـ عليهم ؛ فلا يصح اتصافهم بالانتظار.
__________________
(١) فى ب (اختلاق).
(٢) فى ب (والمراد).
(٣) فى ب (سوى).
(٤) فى ب (بما يقع مما يريده).
(٥) فى ب (مستفنون لدوام).
الثالث : هو أن النظر مضاف إلى الرب ـ تعالى ـ بقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فلو حمل النظر على الانتظار. فإما أن يكون المنتظر هو الرب (١) ـ تعالى ـ أو غيره.
فإن كان الأول : فهو محال ؛ إذ الرب ـ تعالى ـ لا ينتظر نفسه ؛ إذ الانتظار توقع وقوع أمر ما ، والرب ـ تعالى ـ لا يتوقع وقوعه.
وإن كان الثانى ؛ فيلزم منه الإضمار ؛ وهو خلاف الأصل.
الرابع : هو أن الموصوف بالنظر الوجوه ؛ وهى بمعنى الجوارح ؛ كما سبق ؛ والوجوه بمعنى الجوارح لا توصف بالانتظار.
الخامس : أن الوجوه الموصوفة بكونها ناظرة ، موصوفة بالنضارة بقوله : وجوه يومئذ ناضرة ، والنضارة ، والابتهاج إنما (٢) تحصل بالنظر ، لا بالانتظار (٢).
وأما قوله ـ تعالى ـ فى حق الكفار : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) فمحمول أيضا على النظر الحقيقى ؛ وهو الرؤية. غير أن النظر الحقيقى ينقسم إلى نظر سخط : وهو ما يتعقبه العقوبة. وإلى نظر رحمة : وهو ما يتعقبه الإحسان ، والرأفة. وعند ذلك : فلا يلزم من كونه غير ناظر إليهم نظر رحمة ألا يكون ناظرا إليهم أصلا ؛ فإنه لا معنى لنظر الرحمة ، غير النظر الّذي يعقبه الصفح والعفو ، فإذا لم يعقب نظره إليهم العفو ، والصفح. قيل لم ينظر إليهم نظر رحمة ؛ وإن كان ناظرا إليهم (٣) حقيقة.
وأما قوله ـ تعالى ـ (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (٤). فالمراد به النظر الحقيقى. غير أن النظر الحقيقى في حقنا ينقسم : / إلى ما يعقبه الاعتبار. وإلى ما لا يعقبه الاعتبار. والمراد من الآية إنما هو النظر الأول دون الثانى ، وذلك لا ينافى النظر الحقيقى.
قولهم : إنه حقيقة في النظر ، المشروط بالشروط المعتبرة من قبل.
قلنا : النظر حقيقة ، لا يختلف بالشروط وعدمها ؛ بل غايتها أن وجود النظر متوقف عليها ، لا نفس الحقيقة ؛ إذ شرط الوجود لا يكون داخلا في المفهوم من النظر.
__________________
(١) فى ب (الله).
(٢) فى ب (لا يحصل الا بالانتظار).
(٣) فى ب (لهم).
(٤) سورة الغاشية ٨٨ / ١٧.
وعند ذلك فيجب حمله على مطلق النظر ؛ إذ هو المفهوم منه.
وأما اعتبار الشروط ، وعدم اعتبارها ؛ فمأخوذ من الدليل العقلى ؛ وقد أبطلنا كل ما قيل فيه.
قولهم : وإن كان النظر حقيقة في مطلق الرؤية ، فيجب تأويله.
قلنا : الأصل إنما هو العمل باللفظ في حقيقته إلا أن يدل عليه دليل.
وقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (١). لا يدل على أن البارى ـ تعالى ـ غير مرئى إلا أن يكون الإدراك هو الرؤية.
ونحن إن سلكنا مذهب كثير من أئمتنا : كالقلانسى ، وعبد الله بن سعيد ، وغيره (٢) : وهو أن الله ـ تعالى ـ يرى ، ولا يدرك ؛ إذ الإدراك ينبئ عن اللحوق ، والإحاطة بالمدرك ، وتقديره ، وتحديده ؛ فقد اندفع الإشكال.
وإن سلكنا مسلك الشيخ أبى الحسن : من أن الإدراك بالرؤية ، هو الرؤية فنقول : إن نفى الإدراك عن الأبصار : إما أن يكون محمولا على نفيه عن الكل جملة ، أو عن البعض دون البعض ، أو عن كل واحد ، واحد. لا سبيل إلى نفيه عن كل واحد واحد ؛ لعدم دلالة اللفظ عليه.
وإن كان الأول ، والثانى ؛ فهو (٣) مسلم (٣) ؛ ولكن لا يلزم منه أن لا يكون مدركا في الجملة ؛ فإن نفى الإدراك عن الأبصار جملة ، لا يوجب النفى عن كل واحد ، واحد ، وكذلك النفى عن البعض ؛ لا يوجب النفى عن الباقى. ثم وان سلمنا أنه أراد به كل واحد ، واحد من الأبصار ؛ فنحن نقول به أيضا : فإن المدرك عندنا (٤) للبارى إنما هم المدركون دور الأبصار ، لا نفس الأبصار (٤).
فان قيل : فكما أن الأبصار لا تدركه ؛ فكذلك لا تدرك غيره (٥) ؛ فلا فائدة في التخصيص (٥).
__________________
(١) سورة الأنعام ٦ / ١٠٣.
(٢) انظر ما سبق ل ١٢٥ / أ.
(٣) فى ب (فمسلم).
(٤) فى ب (للبارى تعالى عندنا إنما هو المدركون وهم نفس ذوات الأبصار لا الأبصار).
(٥) فى ب (غيرها ولا فائدة للتخصيص).