الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-197-4
الصفحات: ٤٨٥
وينتقض بالتمر ، فإنّ الشمس تجفّفه ، ويختلف جفافها فيه. ولأنّ ذلك غير معتدّ به ، لعدم العلم بجفافه أزيد.
إذا ثبت هذا ، فإنّ عصير العنب جنس يباع بعضه ببعض متساويا ـ وبه قال الشافعي (١) ـ لأنّ حالته حالة كمال ، ولا ينقص إذا بلغ إلى حالة كماله بالحموضة. وكذا عصير الرمّان والسفرجل والتفّاح وقصب السّكّر.
ويجوز بيع بعض هذه الأجناس بجنس آخر منها متفاضلا ، لتعدّدها جنسا. وكذا إن طبخت بالنار أو بعضها ، عندنا مطلقا وعند الشافعي مع اختلاف الجنس لا اتّفاقه ، فلا يجوز عنده بيع المطبوخ بالمطبوخ ولا بغيره إذا اتّفق الجنس (٢).
مسألة ٩١ : جيّد كلّ شيء ورديئه جنس لا يباع أحدهما بالآخر متفاضلا لا نقدا ولا نسيئة ، ويجوز متساويا نقدا لا نسيئة ، عند علمائنا ، فلا يجوز بيع درهم صحيح بدرهم مكسّر مع زيادة تقابل الصحّة ، وبه قال الشافعي ، خلافا لمالك ، وقد تقدّم (٣).
مسألة ٩٢ : يجوز بيع الجنسين المختلفين بأحدهما إذا زاد على ما في المجموع من جنسه بحيث تكون الزيادة في مقابلة المخالف ، وذلك كمدّ عجوة ودرهم بمدّي عجوة أو بدرهمين أو بمدّي عجوة ودرهمين ، عند علمائنا أجمع ـ وبه قال أبو حنيفة (٤) ـ حتى لو باع دينارا في خريطة
__________________
(١) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٨٣ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٥٠ ، حلية العلماء ٤ : ١٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦ ، المغني ٤ : ١٦٥ ـ ١٦٦.
(٢) انظر : المغني ٤ : ١٦٥ ـ ١٦٦ ، والشرح الكبير ٤ : ١٦٣.
(٣) تقدّم في ص ١٤٦ ، الفرع ( ب ) من المسألة ٧٧.
(٤) حلية العلماء ٤ : ١٧٠ ـ ١٧١ ، الحاوي الكبير ٥ : ١١٣ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٧ ـ ٣٤٨.
بمائة دينار ، جاز.
لنا : الأصل السالم عن معارضة الربا ، لأنّ الربا هو بيع أحد المثلين بأزيد منه من الآخر ، والمبيع هنا المجموع ، وهو مخالف لأفراده.
وما رواه أبو بصير قال : سألته عن السيف المفضّض يباع بالدراهم؟
قال : « إذا كانت فضّته أقلّ من النقد فلا بأس ، وإن كانت أكثر فلا يصلح » (١).
وسأله عبد الرحمن بن الحجّاج عن شراء ألف درهم ودينار بألفي درهم ، قال : « لا بأس بذلك » (٢).
ولأنّ أصل العقود الصحّة ، ومهما أمكن حمله عليها لم يحمل على الفساد ، كشراء اللحم من القصّاب ، فإنّه سائغ ، حملا على التذكية ، ولا يحمل على الميتة وإن كان الأصل ، لأنّ أصالة الصحّة أغلب. وكذا لو اشترى إنسان شيئا بمال معه ، حمل على أنّه له ليصحّ البيع.
وهنا يمكن حمل العقد على الصحّة بأن يجعل الخريطة في مقابلة ما زاد على الدينار ، فيصحّ العقد ، وفي مسألة مدّ عجوة بصرف المدّ الآخر من التمر في مقابلة الدرهم ، أو صرف الدرهم إلى الدرهم والدرهم الآخر في مقابلة المدّ ، أو صرف مدّ عجوة إلى الدرهمين والدرهم إلى المدّين.
وقال الشافعي : لا يجوز ذلك كلّه ـ وبه قال أحمد ـ لأنّ فضالة بن عبيد قال : شريت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخزر ، فذكرت ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : « لا يباع مثل هذا حتى يفصل » (٣).
__________________
(١) التهذيب ٧ : ١١٣ ، ٤٨٩ ، الإستبصار ٣ : ٩٨ ، ٣٣٩.
(٢) الكافي ٥ : ٢٤٦ ، ٩ ، الفقيه ٣ : ١٨٥ ، ٨٣٤ ، التهذيب ٧ : ١٠٤ ، ٤٤٥.
(٣) صحيح مسلم ٣ : ١٢١٣ ، ٩٠ ، سنن أبي داود ٣ : ٢٤٩ ، ٣٣٥٢ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٥٦ ، ١٢٢٥ ، والعزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٤ ـ ٨٥.
ولأنّ العقد إذا جمع عوضين ، وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه ، فإن كان مختلف القيمة ، اختلف ما يأخذه (١) من العوض ، كما لو باع ثوبين بدراهم ، فإذا احتيج إلى معرفة ثمن كلّ منهما ، قوّم الثوبين وقسّم على قدر القيمتين ، فلو كانت قيمة أحدهما ستّة والآخر ثلاثة وبيعا بعشرة ، بسطت عليهما أثلاثا. وبهذا الطريق يعرف قيمة شقص الشفعة ، المنضمّ إلى غيره. وكذا لو تلف أحد العبدين المبيعين صفقة في يد البائع قبل القبض ، فكذا هنا إذا باع مدّا ودرهما بمدّين ، فينظر إلى ما يساوي الدرهم ، فيكون مدّا ونصفا ، فيخصّ الدرهم ثلاثة أخماس المدّين (٢).
والجواب : جاز أن يكون في القلادة من الذهب ما يزيد ، فتجب معرفة القدر ، فلهذا أوجب الفصل. وقسط الثمن لا يقتضي شراء كلّ جزء بما قسط عليه من الثمن.
فروع :
أ ـ لو باع نوعين من جنس واحد مختلفي القيمة بنوع واحد ، كدينار معزّي ودينار إبريزي بدينارين إبريزية ، جاز مع التساوي قدرا ، ولا اعتبار بالقيمة عندنا. وكذا لو باع درهما صحيحا بدرهم مكسور أو درهما صحيحا ودرهما مكسورا بصحيحين أو مكسورين ، سواء قلّت قيمة المكسور عن
__________________
(١) في « ق ، ك » والطبعة الحجريّة : ما يأخذ. وما أثبتناه من المغني والشرح الكبير.
(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٨٠ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٧ ، حلية العلماء ٤ : ١٧٠ ، الحاوي الكبير ٥ : ١١٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٤ ـ ٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٣ ، المغني ٤ : ١٦٩ ـ ١٧٠ ، الشرح الكبير ٤ : ١٧٠ ـ ١٧١.
قيمة الصحيح أو لا. وكذا درهم وثوب بدرهمين ، وبه قال أحمد في الجنس الواحد (١) ، كبيع دينارين مختلفين بدينارين متّفقين ، وكبيع مكسور وصحيح بمكسورين أو صحيحين.
وجوّزه أبو حنيفة مطلقا ، ومنعه الشافعي مطلقا ، وقد تقدّم (٢).
والأصل أنّ الصنعة لا قيمة لها في الجنس ، ولهذا لا يجوز بيع المصوغ بأكثر متفاضلا.
ب ـ لو تلف الدرهم المعيّن المنضمّ إلى المدّ قبل قبضه أو ظهر استحقاقه وكان المثمن مدّين ودرهمين ، احتمل بطلان البيع في الجميع حذرا من الربا ، لاستلزام بسط الثمن على أجزاء المبيع إيّاه ، فتلف نصفه ـ على تقدير مساواة المدّ درهما ـ يقتضي سقوط النصف من الثمن ، فيصير ثمن المدّ الثاني مدّا ودرهما.
ويحتمل البطلان في التخالف ، فإنّ المقتضي لصحّة هذا البيع صرف كلّ جنس إلى ما يخالفه لتحصل السلامة من الربا ، فالدرهم في مقابلة المدّين خاصّة ، ويبقى المدّ في مقابلة الدرهمين.
ويحتمل التقسيط ، لأنّه مقتضى مطلق العقد ، والربا المبطل إنّما يعتبر حين العقد ، وهو في تلك الحال كان منفيّا.
ج ـ لو باعه مدّا ودرهما بمدّين ثمّ تلف الدرهم المعيّن وكان المدّ المضاف إليه يساوي درهما ، وكلّ من المدّين يساوي درهما أيضا ، بقي مدّ في مقابلة المدّ الآخر ، وبطل البيع في المدّ الثاني.
ولو كان يساوي درهمين ، فقد تلف ثلث العوض ، فيبطل من الآخر ثلثه ، فيبقى مدّ في مقابلة مدّ وثلث مدّ ، ولا يثبت الربا هنا ، لأنّ الزيادة
__________________
(١) المغني ٤ : ١٧١ ، الشرح الكبير ٤ : ١٧١ ـ ١٧٢.
(٢) في ١٤٦ ـ ١٤٧ ، الفرع ( ب ) من المسألة ٧٧.
حصلت بالتقسيط الثابت بعد صحّة البيع.
د ـ لو كان كلّ من المدّين لواحد فباعهما أحدهما ولم يجز الآخر ، بطل البيع في مدّه ، وسقط من الثمن نصف المدّ ونصف درهم ، وثبتا للبائع في مقابلة مدّه إن تساويا قيمة ، ولو اختلفا فكانت قيمة مدّ الفاسخ نصف قيمة مدّ البائع ، كان للبائع ثلثا مدّ وثلثا درهم عوض مدّه.
هـ ـ لو باعه مدّا ودرهما بمدّين فتلف الدرهم قبل القبض وهو يساوي مدّا ونصفا ، فالذي يخصّ الدرهم ثلاثة أخماس المدّين ، فيبقى مدّ في مقابلة أربعة أخماس مدّ ، ويجيء الاحتمالات.
و ـ لو باعه درهما صحيحا ومكسورا بدرهمين صحيحين ثمّ تلف الصحيح المعيّن ، بسطت قيمة الصحيحين على الصحيح والمكسور ، وسقط ما قابل الصحيح منها ، ويجيء الاحتمالات.
مسألة ٩٣ : يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بمثلها ، وبشاة خالية من اللبن ، وبلبن من جنسها ، عند علمائنا ، خلافا للشافعي (١).
لنا : الأصل السالم عن معارضة الربا ، لأنّ الشاة ليست مقدّرة بالكيل والوزن ، ولا اللبن الذي في ضرعها ، وإنّما يكون مكيلا أو موزونا بعد حلبه ، فأشبه الثمرة على رءوس النخل. ولأنّه ما دام في الضرع يكون تابعا للمبيع ليس مقصودا بالذات.
احتجّ بأنّ اللبن يأخذ قسطا من الثمن ، لحديث المصرّاة ، فإنّ النبيّ عليهالسلام أوجب مع ردّها بعينها صاعا من تمر (٢) ، ولو لا دخوله في العقد وتقسيط
__________________
(١) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٨٤ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٥٣ ، الحاوي الكبير ٥ : ١٢٥ ، حلية العلماء ٤ : ١٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٦١.
(٢) صحيح البخاري ٣ : ٩٣ ، صحيح مسلم ٣ : ١١٥٥ ، ١١ ، سنن أبي داود ٣ :
الثمن عليه ، لم يضمنه ، كما أنّ المشتري إذا ردّ المبيع بعيب بعد أن حدث عنده نماء أو ولد في يده ، لم يردّ عوض ذلك. ولأنّ اللبن في الضرع كالشيء في الوعاء والدراهم في الخزانة ، وإذا كان له قسط من الثمن ، كان بيع لبن مع غيره بلبن.
والجواب : المنع من أخذه قسطا من الثمن ، وإلزامه بالصاع ، لأنّه فصل اللبن عن الشاة وانتفع به ، والبحث في المتّصل في أساسات الحيطان ، فإنّها تتبع الدار ، ولو قلعت ، قوّمت بانفرادها.
سلّمنا ، لكنّ البيع وقع للجملة لا للإجزاء ، ألا ترى أنّه لا يجوز بيعه منفردا؟
فروع :
أ ـ لو باع الشاة اللبون بلبن البقر ، جاز عندنا ، لأنّه يجوز بيعه بلبن الشاة ، فلبن غيره أولى.
وللشافعي قولان (١) مبنيّان على أنّ الألبان هل هي جنس واحد أو أجناس متعدّدة؟ فعلى الأوّل لا يجوز ، ويجوز على الثاني. ويجب التقابض عنده في الحال قبل التفرّق ، لأنّه بيع لبن بلبن من جنس آخر.
ب ـ لو كانت الشاة لا لبن فيها ، جاز بيعها بلبن جنسها أو ( من غير ) (٢) جنسها. وكذا لو كان في ضرعها لبن فحلبه ثمّ باعها بلبن ، جاز
__________________
٢٧٠ ، ٣٤٤٣ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٥٣ ، ١٢٥١ ، سنن النسائي ٧ : ٢٥٣ و ٢٥٤ ، سنن البيهقي ٥ : ٣١٨ و ٣١٩.
(١) انظر : التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٥٣ ، والحاوي الكبير ٥ : ١٢٣ ـ ١٢٥ ، والعزيز شرح الوجيز ٤ : ٩٩ ، وروضة الطالبين ٣ : ٦١.
(٢) بدل ما بين القوسين في الطبعة الحجريّة : بغير.
ـ وبه قال الشافعي (١) ـ لأنّ المتخلّف في الضرع يسير لا يحلب في العادة ، فلا عبرة له.
ج ـ لو كانت مذبوحة وفي ضرعها لبن ، جاز بيعها بلبن ، وبشاة مذبوحة في ضرعها لبن ، وبخالية من لبن. وبحيّة ذات لبن وخالية عنه ، وبلبن من جنسها.
وقال الشافعي : لا يجوز إذا كان في الشاة المذبوحة لبن ، وإن لم يكن في ضرعها لبن ، جاز إذا سلّمت لتزول جهالتها (٢).
د ـ قد بيّنّا أنّه يجوز بيع شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن. ومنعه أكثر الشافعيّة (٣).
وليس بشيء ، لأنّ اللبن المتّصل بأصله لا اعتبار به في العوضين ، كما يجوز بيع السمسم بمثله من غير اعتبار الدهن فيهما ، وكذا لو باع دارا مموّهة بالذهب بمثلها أو دارا فيها بئر ماء بمثلها.
احتجّوا بأنّ اللبن في الضرع بمنزلة كونه في الآنية ، فكأنّه باع شاة ولبنا بشاة ولبن ، ولو كان اللبنان منفصلين ، لم يجز ، وكذا إذا كانا في الضرع.
ثمّ فرّقوا بين السمسم بمثله وبين المتنازع بأنّ الدهن غير موجود فيه بصفته وإنّما يحصل بالتخليص والطحن.
والماء غير مملوك عند بعضهم ، ولا يدخل في البيع ، بل كلّ من
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٦١.
(٢) لم نعثر عليه فيما بين أيدينا من المصادر. وحكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ٦٢ ، المسألة ١٠٠.
(٣) انظر المصادر في الهامش (١) من ص ١٨٥.
أخذه استحقّه. وعند آخرين أنّه مملوك وأصل في البيع إلاّ أنّ في ثبوت الربا في الماء قولين ، فإن نفيناه عنه ، فلا بحث ، وإلاّ منعنا من بيع الدار بالدار وفيهما ماء.
والجواب : المنع من مساواة كون اللبن في الضرع لكونه في الإناء ، لأنّه بعد الحلب مقدّر بكيل أو وزن ، بخلاف كونه في الضرع. ولأنّه كالجزء من الشاة تابع للمبيع لا أصلا ، بخلاف المحلوب.
وما ذكروه في دهن السمسم ينقض عليهم المنع من بيع السمسم بالشيرج ، فإنّه إذا لم يكن في السمسم بصفته ، لم يمنع مانع من بيعه بالدهن. وكون الماء غير مملوك باطل.
هـ ـ يجوز بيع نخلة فيها ثمر بنخلة مثمرة أو بثمرة أو بنخلة خالية ، لما مرّ في الشاة ، خلافا للشافعي (١).
مسألة ٩٤ : كلّ ما له حالتا رطوبة وجفاف من الربويّات يجوز بيع بعضه ببعض مع تساوي الحالين إذا اتّفق الجنس. وإن اختلف ، جاز مطلقا ، فيجوز بيع الرطب بمثله ، والعنب بمثله ، والفواكه الرطبة بمثلها ، والحنطة المبلولة بمثلها ، واللحم الطري بمثله ، والتمر والزبيب والفواكه الجافّة ، والمقدّد والحنطة اليابسة كلّ واحد بمثله ـ وبه قال مالك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمّد وأحمد والمزني (٢) ـ لوجود المقتضي ، وهو عموم الحلّ ، السالم عن معارضة الربا ، لتساويهما في الحال وفيما بعد. فإن اختلفا في حالة اليبس ، فبشيء يسير لا اعتبار به كالتمر الحديث
__________________
(١) الحاوي الكبير ٥ : ١٢٥.
(٢) المدوّنة الكبرى ٤ : ١٠٢ ، المنتقى ـ للباجي ـ ٤ : ٢٤٣ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٨٨ ، المغني ٤ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ١٦٤ ، الحاوي الكبير ٥ : ١٣٤ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥.
بالعتيق. ولأنّ معظم منفعته في حال رطوبته ، فجاز بيع بعضه ببعض ، كاللبن.
وقال الشافعي : لا يجوز بيع الرطب بالرطب متساويا ، لأنّهما على غير حالة الادّخار ، ولا نعلم تساويهما في حالة الادّخار ، فلم يجز بيع أحدهما بالآخر ، كالرطب بالتمر (١).
وهو ضعيف ، لما بيّنّا من التفاوت اليسير.
وينتقض بالرطب الذي لا يصير تمرا في العادة ، كالبربن وشبهه ، فإنّ فيه قولين (٢) ، وكذا الفواكه التي لا تجفّف والبقول.
وأمّا إن باع بعض الجنس الواحد ببعض مع اختلاف الحالين ، كبيع الرطب بالتمر ، والعنب بالزبيب ، واللحم الطري بالمقدّد ، والحنطة المبلولة باليابسة ، والفاكهة الجافّة بالرطبة ، فالمشهور عند علمائنا : المنع وإن تساويا قدرا ـ وبه قال سعد بن أبي وقّاص وسعيد بن المسيّب ومالك وأحمد والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمّد (٣) ـ لما رواه الجمهور : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر ، فقال : « أينقص الرطب إذا يبس؟ » فقالوا : نعم ، فقال : « فلا إذن » (٤).
ومن طريق الخاصّة : ما رواه الحلبي ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليهالسلام
__________________
(١) مختصر المزني : ٧٧ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٨١ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٣ ، شرح السنّة ـ للبغوي ـ ٥ : ٦٠ ، الحاوي الكبير ٥ : ١٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥.
(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٨١ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١ ، المغني ٤ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ١٦٤.
(٣) المغني ٤ : ١٤٤ ، الشرح الكبير ٤ : ١٦١ ، بداية المجتهد ٢ : ١٣٩ ، المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٨١ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٣ ، شرح السنّة ـ للبغوي ـ ٥ : ٥٩ ـ ٦٠ ، الحاوي الكبير ٥ : ١٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥.
(٤) سنن الدار قطني ٣ : ٥٠ ، ٢٠٦ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٣٨ ، المغني ٤ : ١٤٤ ، الشرح الكبير ٤ : ١٦٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩.
قال : « لا يصلح التمر اليابس بالرطب من أجل أنّ اليابس يابس والرطب رطب ، فإذا يبس نقص » (١).
ولأنّه جنس يجري فيه الربا بيع بعضه ببعض على صفة يتفاضلان في حال الكمال والادّخار ، فوجب أن لا يجوز ، كالحنطة بالدقيق.
وقال بعض (٢) علمائنا بالجواز مع التساوي ـ وبه قال أبو حنيفة (٣) ـ لأنّ الصادق عليهالسلام سئل عن العنب بالزبيب ، قال : « لا يصلح إلاّ مثلا بمثل » قال : « والتمر والرطب مثلا بمثل » (٤).
ولأنّه وجد التساوي فيه كيلا حال العقد ، فالنقصان بعد ذلك لا يؤثّر فيه ، كالحديث والعتيق.
والرواية ضعيفة ، لأنّ سماعة في طريقها. والقياس لا يسمع في مقابلة النصّ ، مع قيام الفرق ، فإنّ الحديث والعتيق على صفة الادّخار ولقلّة النقصان فيه لا يمكن الاحتراز عنه.
فروع :
أ ـ نبّه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في قوله : « أينقص إذا جفّ؟ » (٥) على علّة الفساد ، وأنّ المماثلة عند الجفاف تعتبر ـ وإلاّ فهو عليهالسلام يعلم النقصان عند الجفاف ـ [ و ] (٦) جعل الوصف المنصوص عليه علّة بالنصّ يقتضي
__________________
(١) التهذيب ٧ : ٩٤ ، ٣٩٨ ، الاستبصار ٣ : ٩٣ ، ٣١٤.
(٢) هو ابن إدريس في السرائر ٢ : ٢٥٨ ـ ٢٥٩.
(٣) بدائع الصنائع ٥ : ١٨٨ ، الحاوي الكبير ٥ : ١٣١ ، شرح السنّة ـ للبغوي ـ ٥ : ٥٩ ـ ٦٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، المغني ٤ : ١٤٤ ، الشرح الكبير ٤ : ١٦١.
(٤) التهذيب ٧ : ٩٧ ، ٤١٧ ، الاستبصار ٣ : ٩٢ ، ٣١٣.
(٥) انظر : المصادر في الهامش (٤) من ص ١٨٩.
(٦) أضفناها لأجل السياق.
العموميّة في جميع صور موارده.
ب ـ لا خلاف في جواز بيع الرطب بالتمر في صورة العرايا ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ج ـ قد بيّنّا عموميّة الحكم في جميع صور الوصف الذي هو النقص عند الجفاف ، وأنّه لا يجوز بيع رطبه بيابسه ، سواء اتّفقت العادة بضبط الناقص أو لا. ويجوز عندنا بيع رطبه برطبه متساويا ، خلافا للشافعي (١) في الأخير.
وحكى إمام الحرمين وجها للشافعي في المشمش والخوخ وما لا يعمّ تجفيف رطبه أنّه يجوز بيع بعضه ببعض في حال الرطوبة ، لأنّ رطوبتها أكمل أحوالها ، والتجفيف ، في حكم النادر (٢).
د ـ يجوز بيع الحنطة المقليّة بمثلها متساويا وبغير المقليّة ، لقلّة الرطوبة فيها.
وخالف الشافعي (٣) فيهما معا.
هـ ـ لا يجوز بيع الحنطة وفروعها بالنخالة متفاضلا ، لأنّهما جنس واحد ، حيث إنّ أصلهما الحنطة.
وقال الشافعي : يجوز ، لأنّ النخالة ليست مطعومة (٤).
ونحن نمنع التعليل بالطعم.
و ـ لا يجوز بيع الحنطة المسوّسة بالحنطة المسوّسة إذا لم يبق فيها
__________________
(١) انظر المصادر في الهامش (١) من ص ١٨٩.
(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٥.
(٣) الحاوي الكبير ٥ : ١٣٥ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦.
(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦.
لبّ إلاّ متساويا ، خلافا للشافعي ، فإنّه سوّغ البيع مع التفاضل ، حيث علّل بالطعم (١). وهو ممنوع.
ز ـ المأكولات التي لا تكال ولا توزن كالمعدودات لا ربا فيها عندنا ، إلاّ على رأي من يثبت الربا في المعدودات.
وللشافعي قولان ، ففي القديم : لا ربا فيها. وفي الجديد : يثبت (٢).
فعلى قولنا وقوله القديم يجوز التفاضل فيها ، كرمّانة برمّانتين وسفرجلة بسفرجلتين. وعلى الجديد لا يجوز بيع المتفاضل.
وأمّا مع التساوي : فإن كان ممّا ييبس وتبقى منفعته يابسا كالخوخ المشمّس ، فإذا جفّ ، جاز بيع بعضه ببعض متساويا ، ولا يجوز بيع بعضه ببعض رطبا عنده (٣) ، كما لا يجوز بيع الرطب بالرطب عنده (٤).
وإن كان ممّا لا ييبس ولا ينتفع بيابسه كالقثّاء والخيار وشبههما ، ففي جواز بيع بعضه ببعض رطبا متساويا قولان : المنع ، نصّ عليه في الأم ، لأنّ بعضه يحمل من الماء أكثر من البعض. والجواز ، لأنّ معظم منفعته في حال رطوبته ، فجاز ، كاللبن باللبن. وكذا حكم الرطب الذي لا يصلح للتجفيف والعنب الذي لا يصلح لذلك (٥).
ثمّ إنّ هذا المبيع إن كان ممّا لا يمكن كيله ، كالقثّاء والبطّيخ
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٩١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٦.
(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٧٧ و ٢٧٨ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٣٤ ـ ٣٣٧ ، شرح السنّة ـ للبغوي ـ ٥ : ٤٤ ، المجموع ٩ : ٣٩٧ ، حلية العلماء ٤ : ١٤٨ ـ ١٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٧٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٤ ـ ٤٥.
(٣) التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١ و ٥٥.
(٤) التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١ و ٥٥.
(٥) التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٢ و ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١ و ٥٥.
والخيار وما أشبهه ، فإنّه يباع بعضه ببعض وزنا متساويين عنده ، وإن كان ممّا يمكن كيله ووزنه ، كالتفّاح والخوخ الصغار ، فوجهان : جواز بيع بعضه ببعض وزنا ، لأنّه أحصر له. والكيل ، لأنّ الأصول الأربعة كلّها مكيلة ، فردّت إليها (١).
مسألة ٩٥ : يجوز بيع مدّ حنطة فيها قصل ـ وهو عقد التبن ـ أو زؤان ـ وهو حبّ أسود غليظ الوسط ـ أو تراب بمجرى العادة بمدّ حنطة مثله أو بخالص من ذلك ، عند علمائنا ، وكذا إذا كان في أحدهما شعير ، سواء كثر عن الآخر أو ساواه ، وسواء زاد في الكيل أو لا ، عملا بالأصل السالم عن الربا ، لأنّ التقدير تساويهما وزنا أو كيلا. والقصل والزّؤان والتراب بمجرى العادة والشعير لا يؤثّر ، لقلّته ، فأشبه الملح في الطعام والماء اليسير في الخلّ.
وقال الشافعي : لا يجوز بيعه بمثله ولا بالخالص. أمّا بمثله : فللاختلاف ، إذ قد يكون القصل وشبهه في أحدهما أكثر. وأمّا بالخالص : فلتفاضل الحنطتين. أمّا إذا كان التراب يسيرا جدّا بحيث لا يزيد في الكيل ، فإنّه يجوز بيعه بمثله لا بالخالص. وكذا التبن الناعم جدّا ، لأنّه لا يأخذ قسطا من المكيال ، لأنّه يكون في خلل الحنطة ، فلا يؤدّي إلى تفاضل الكيل وتفاوت الحنطتين. ولا يجوز فيما يوزن وإن قلّ التراب ، عنده ، لأنّ قليله يؤثّر في الميزان (٢).
تذنيب : حكم الدرديّ في الخلّ والثفل في البزر حكم التراب في
__________________
(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١.
(٢) المهذّب ـ للشيرازي ـ ١ : ٢٨١ ، التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٤.
الحنطة.
تنبيه : لو كان أحد العوضين مشتملا على الآخر غير مقصود ، صحّ مطلقا ، كبيع دار مموّهة بالذهب بالذهب.
المطلب الثاني : في شرط التقدير.
قد عرفت أنّه يشترط في الربا أمران : الاتّحاد في الجنس ، وقد مضى. وكونهما مقدّرين بالكيل أو الوزن إجماعا.
وهل يثبت الربا مع التقدير بالعدد؟ الأصحّ : المنع ، عملا بالأصل.
ولقول الصادق عليهالسلام : « لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن » (١).
وسئل عليهالسلام عن البيضة بالبيضتين ، قال : « لا بأس ما لم يكن فيه كيل ولا وزن » (٢).
إذا تقرّر هذا ، فلا ربا إلاّ فيما يكال أو يوزن مع التفاوت. ولو تساويا قدرا ، صحّ البيع نقدا.
ولو انتفى الكيل والوزن معا ، جاز التفاضل نقدا ونسيئة ، كثوب بثوبين وبيضة ببيضتين ، سواء اختلفت القيمة أو اتّفقت.
مسألة ٩٦ : الأجناس الأربعة ـ أعني الحنطة والشعير والتمر والملح ـ مكيلة في عهده ، فلا يباع بعضها ببعض إلاّ مكيلة. ولا يجوز بيع شيء منها بشيء آخر من جنسها وزنا بوزن وإن تساويا ، ولا يضرّ مع الاستواء في الكيل التفاوت في الوزن. وأمّا الموزون : فلا يجوز بيع بعضه
__________________
(١) الكافي ٥ : ١٤٦ ، ١٠ ، الفقيه ٣ : ١٧٥ ، ٧٨٦ ، التهذيب ٧ : ١٧ ، ٧٤ ، و ١٩ ، ٨١ ، و ٩٤ ، ٣٩٧ ، و ١١٨ ، ٥١٥ ، الاستبصار ٣ : ١٠١ ، ٣٥٠.
(٢) التهذيب ٧ : ١١٨ ، ٥١٣ ، الاستبصار ٣ : ١٠٠ ـ ١٠١ ، ٣٤٩.
ببعض كيلا ، ولا يضرّ مع الاستواء في الوزن التفاوت في الكيل ـ وبه قال الشافعي (١) ـ لأدائه إلى التفاضل في المكيال ، لاحتمال أن يتفاوتا بأن يكون أحدهما أوزن وأثقل من البعض ، فيأخذ الأخفّ في المكيال أكثر فيتفاضلا في الكيل ، وقد نهى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عنه (٢).
أمّا لو تساويا في الثقل والخفّة وعلم التفاوت (٣) بينهما ، فالأقرب : الجواز ـ خلافا للشافعي (٤) ـ لأنّ التفاوت اليسير لا اعتبار به ، كما في قليل التراب.
أمّا الملح إذا كان قطعا كبارا ، فإنّه يباع وزنا ، لتجافيه في المكيال ، فيعتبر حاله الآن ـ وهو أظهر وجهي الشافعيّة (٥) ـ نظرا إلى ما له من الهيئة في الحال.
والآخر : أنّه يسحق ويباع كيلا (٦). وليس بمعتمد.
وكذا كلّ ما يتجافى في المكيال يباع بعضه ببعض وزنا.
وأمّا ما عدا الأجناس الأربعة : فإنّ كان موزونا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فهو موزون. وكذا إن كان مكيلا في عهده عليهالسلام ، حكم فيه بالكيل ، فلو أحدث الناس خلاف ذلك ، لم يعتدّ بما أحدثوه ، وكان المعتبر تقرير الرسول عليهالسلام أو العادة في عهده عليهالسلام ، وبه قال الشافعي (٧).
__________________
(١) التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٩.
(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٢١٠ ، ١٥٨٧.
(٣) في « ق » : « التقارب » بدل « التفاوت ».
(٤) انظر : المصادر في الهامش (١).
(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠.
(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠.
(٧) التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠.
وحكي عن أبي حنيفة أنّه يعتبر فيه عادات البلدان (١).
وقد روى ابن عمر عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : « المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة » (٢).
ولأنّ المعتاد في زمانه عليهالسلام يضاف التحريم إليه كيلا أو وزنا ، فلا يجوز أن يتغيّر بعد ذلك ، لعدم النسخ بعده عليهالسلام.
وأمّا ما لم يكن على عهده عليهالسلام ولا عرف أصله بالحجاز أو لم يكن أصلا في الحجاز فإنّه يرجع فيه إلى عادة البلد ، وبه قال أبو حنيفة ، فإنّه قال : المكيلات المنصوص عليها مكيلات أبدا ، والموزونات موزونات أبدا ، وما لم ينصّ عليه فالمرجع فيه إلى عادة الناس (٣) ، لأنّ أنسا قال : إنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : « ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا ، وما كيل منه مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا » (٤).
ولأنّ غير المنصوص قد عهد من الشارع ردّ الناس فيه إلى عوائدهم ، كما في القبض والحرز والإحياء ، فإنّها تردّ إلى العرف ، وكذا هنا.
وللشافعي وجهان :
أحدهما : أنّه يردّ إلى عادة الحجاز في أقرب الأشياء شبها به ، كالصيد يتبع فيه ما حكمت الصحابة به في قتل المحرم. وما لم يحكم فيه بشيء يردّ إلى أقرب الأشياء شبها به.
__________________
(١) التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٥ ، حلية العلماء ٤ : ١٦٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٠.
(٢) مصابيح السنّة ٢ : ٣٣٨ ، ٢١٢١ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٢ : ٣٩٢ ـ ٣٩٣ ، ١٣٤٤٩ ، حلية الأولياء ٤ : ٢٠ ، وفيها : « .. مكيال أهل المدينة .. ميزان أهل مكة ».
(٣) الهداية ـ للمرغيناني ـ ٣ : ٦٢ ، الكتاب ـ بشرح اللباب ـ ١ : ٢٦٦ ـ ٢٦٧.
(٤) سنن ، الدارقطني ٣ : ١٨ ، ٥٨ ، المغني ٤ : ١٣٦ ـ ١٣٧.
والثاني : يعتبر عادة البلاد ويحكم فيه بالغالب ، كما في الحرز والإحياء والقبض حين ردّ الناس فيه إلى العرف. وينبغي أن يكون مع استواء البلاد فيه ـ فكأنّه لا يعلم الكيل أغلب عليه أو الوزن ـ أن يردّ إلى أقرب الأشياء شبها ، لتعذّر العرف فيه (١).
فروع :
أ ـ ما أصله الكيل يجوز بيعه وزنا سلفا وتعجيلا ، ولا يجوز بيعه بمثله وزنا ، لأنّ الغرض في السلف والمعجّل بغير جنسه معرفة المقدار ، وهو يحصل بهما ، والغرض هنا المساواة ، فاختصّ البيع في بعضه ببعض به.
ب ـ إذا كان الشيء يكال مرّة ويوزن اخرى ولم يكن أحدهما أغلب ، فالوجه : أنّه إن كان التفاوت بين المكاييل يسيرا ، جاز بيع بعضه ببعض متماثلا وزنا وكيلا. وإن كان التفاوت كثيراً ، لم يجز بيعه وزنا ، بل كيلا.
وقال بعض الشافعيّة : إن كان أكبر جرما (٢) ، اعتبر الوزن ، لأنّه لم يعهد في الحجاز الكيل فيما هو أكبر جرما من التمر. وإن كان مثله أو أصغر ، فوجهان : الوزن ، لقلّة تفاوته. والكيل ، لعمومه ، فإنّ أكثر الشبه مكيل (٣).
وقال بعضهم : ينظر إلى عادة الوقت (٤).
__________________
(١) انظر العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨١.
(٢) أي : أكبر جرما من التمر.
(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠.
(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠.
ج ـ لو كان الشيء يباع في بعض البلاد جزافا وفي بعضها كيلا أو وزنا ولم يكن له أصل أو لم يعرف ، قال الشيخ : يحكم بالربا بالاحتياط (١).
وقيل : يحكم بعادة البلد الذي يقع فيه (٢).
د ـ لو اختلفت البلدان فكان في بعضها يباع كيلا وفي بعضها يباع وزنا وفي بعضها جزافا ، فالوجه : ما تقدّم أيضا من أنّ لكلّ بلد حكم نفسه ، فيحرم التفاضل فيه إذا كان في بلد يكال أو يوزن. ويجوز في غيره.
وقال بعض الشافعيّة : الاعتبار بعادة أكثر البلدان ، فإن اختلفت العادة ولا غالب ، اعتبر بأشبه الأشياء به (٣).
وقال بعضهم : الاعتبار بعادة بلد البيع (٤).
هـ ـ لا فرق بين المكيال المعتاد في عصر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وسائر المكاييل المحدثة بعده ، كما أنّا إذا عرفنا التساوي بالتعديل في كفّتي الميزان ، نكتفي به وإن لم نعرف قدر ما في كلّ كفّة.
و ـ لا بدّ في المكيال من معرفة مقداره ، فلا يجوز التعويل على قصعة ونحوها ممّا لا يعتاد الكيل بها ، إلاّ إذا عرف نسبتها إلى الصاع. وكذا الوزن لا بدّ من اعتباره بالأرطال المعهودة المقدّرة في نظر الشرع ، فلو عوّلا على صنجة مجهولة ، لم يصحّ.
وقد يمكن الوزن بالماء بأن يوضع الشيء في ظرف ويلقى على الماء وينظر إلى مقدار غوصة. لكنّه ليس وزنا شرعيّا ولا عرفيّا ، فيحتمل التعويل
__________________
(١) النهاية : ٣٧٨.
(٢) القائل هو المحقّق الحلّي في شرائع الإسلام ٢ : ٤٥ ، والمختصر النافع : ١٢٧.
(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٠.
في الربويّات عليه.
مسألة ٩٧ : ما يباع كيلا أو وزنا لا يجوز بيعه مجازفة ـ وبه قال الشافعي (١) ـ لما فيه من الغرر المنهيّ عنه.
ولقول الصادق عليهالسلام ـ في الصحيح ـ : « ما كان من طعام سمّيت فيه كيلا فلا يصلح مجازفة » (٢).
وقال مالك : يجوز في البادية بيع المكيل دون الموزون جزافا (٣) ، لأنّ المكيال يتعذّر في البادية ، وفي التكليف به (٤) مشقّة ، فجاز بالحزر والتخمين ، كبيع التمر بالرطب في العرايا.
والجواب : نمنع تعذّر المكيال ، لأنّه يمكن بالقصعة وشبهها ممّا لا يخلو أحد عنه غالبا ، ويعلم تقديره إمّا تحقيقا أو تقريبا. نعم ، الميزان يتعذّر غالبا. ويعارض بأنّ الكيل معنى يعتبر المماثلة والمساواة به فيما يجري فيه الربا ، فاستوى فيه الحضر والبادية كالوزن. وبيع العرايا مستثنى ، لحاجة الفقراء إلى الرطب.
فروع :
أ ـ المراد جنس المكيل والموزون وإن لم يدخلاه إمّا لقلّته كالحبّة والحبّتين أو لكثرته كالزّبرة (٥) العظيمة.
ب ـ إذا خرج بالصنعة عن الوزن ، جاز التفاضل فيه ، كالثوب
__________________
(١) التهذيب ـ للبغوي ـ ٣ : ٣٤٤.
(٢) الفقيه ٣ : ١٤٣ ، ٦٢٧ ، التهذيب ٧ : ١٢٢ ، ٥٣٠ ، الإستبصار ٣ : ١٠٢ ، ٣٥٥.
(٣) حلية العلماء ٤ : ١٦٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٨٢.
(٤) في « ق ، ك » : وفي تكليفهم إيّاه.
(٥) أي : القطعة الضخمة من الحديد. لسان العرب ٤ : ٣١٦ « زبر ».
بالثوبين ، لقول الصادق عليهالسلام : « لا بأس به » وقد سئل عن الثوب بالثوبين (١).
وكذا يجوز بيع الغزل بالثياب المبسوطة وإن كان أحدهما أكثر وزنا ، لخروج الثوب بالصنعة عن الوزن.
ولأنّ الصادق عليهالسلام سئل عن بيع الغزل بالثياب المبسوطة والغزل أكثر وزنا من الثياب ، قال : « لا بأس » (٢).
ج ـ لو كان الشيء في أصله غير موزون ولا مكيل ثمّ صار باعتبار صفة إلى الكيل أو الوزن ، جرى فيه الربا حالة اتّصافه بتلك الصفة لا قبلها ، وذلك كالبطّيخ ، والرمّان إذا كان رطبا ولم يدخله الكيل والوزن حينئذ ، فإنّه لا يجري فيه الربا ، فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا. أمّا إذا جفّف وصار موزونا حالة جفافه ، فإنّه يثبت فيه الربا في هذه الحال ، فلا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا ، بل متساويا.
وللشافعي حال رطوبته قولان :
الجديد : ثبوت الربا فيه ، فلا يجوز بيع بعضه ببعض رطبين إذا كان له حالة جفاف متساويا ومتفاضلا ، كما لا يجوز بيع الرطب بالرطب وإن تساويا. ويجوز في حالة الجفاف بشرط التساوي.
والقديم : عدم الربا ، فيجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا وإن جفّ ، لأنّه ليس مال ربا.
وإن كان ممّا لا يجفّ ، كالقثّاء ، ففي جواز بيع بعضه ببعض في حال الرطوبة قولان : المنع مطلقا ، كبيع الرطب بالرطب. والجواز مع التساوي
__________________
(١) التهذيب ٧ : ١١٩ ، ٥١٧ ، الإستبصار ٣ : ١٠١ ، ٣٥١.
(٢) الكافي ٥ : ١٩٠ ، ٢ ، الفقيه ٣ : ١٣٧ ، ٥٩٦ ، التهذيب ٧ : ١٢٠ ، ٥٢٤ ، وفي الأخيرين : « المنسوجة » بدل « المبسوطة ».