أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

أما قوله : وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة فلأن هاشما والمطلب وعبد شمس بنو عبد مناف.

وقوله صلى الله عليه وسلم : إنّ بنى عبد المطلب لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إشارة إلى أن الألفة في الجاهلية كانت من بنى هاشم وبنى المطلب في الشّعب ، وخرجت عنهم بنو عبد شمس إلى المباينة (١) ، فاتصلت القرابة الجاهلية بالمودّة ، فانتظما. وهذا يعضد أن بيان الله للأصناف بيان للمصرف وليس بيانا للمستحق.

المسألة السابعة ـ فأما الأربعة الأخماس فهي ملك للغانمين من غير خلاف بين الأمّة ، بيد أنّ الإمام إن رأى أن يمنّ على الأسرى بالإطلاق فعل ، وتبطل حقوق الغانمين فيهم لقوله صلى الله عليه وسلم : لو كان المطعم بن عدى حيّا وكلمني في هؤلاء [الثّنى] (٢) لتركتهم له ، وله أن ينفّل جميعهم ، ويبطل حقّ الغانمين بالقتال من غير خلاف ؛ وذلك بحكم ما يرى أنه نظر للمسلمين وأصلح لهم. وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف.

المسألة الثامنة ـ أطلق الله القول في الأربعة الأخماس للغانمين تضمينا ، وبيّنه النبىّ صلى الله عليه وسلم ، ففاضل بين الفارس والراجل. واختلف الناس في ذلك على ثلاثة أقوال :

الأول ـ للفارس سهمان ، وللراجل سهم ؛ قاله أبو حنيفة.

الثاني ـ للفرس سهمان ، وللفارس سهم.

الثالث ـ يجتهد في ذلك الإمام ، فينفذ ما رأى منه. وقد رويت الروايتان عن النبىّ صلى الله عليه وسلم في حديثين.

والصحيح أن يعطى الفارس سهمين ، ويعطى للراجل سهم واحد ، وذلك لكثرة العناء ، وعظم المنفعة ، فجعل الله التقدير في الغنيمة بقدر العناء في أخذها حكمة منه سبحانه فيها.

المسألة التاسعة ـ ولا يفاضل بين الفارس والراجل بأكثر من فرس واحد ؛ وبه قال الشافعى.

وقال أبو حنيفة : يسهم لأكثر من فرس واحد ؛ لأنه أكثر غناء ، وأعظم منفعة ، وهذا فاسد لوجهين :

__________________

(١) في ا : المنافية.

(٢) ليس في ل.

٣٤١

أحدهما ـ أنّ الرواية لم ترد عن النبىّ صلى الله عليه وسلم بأن يسهم لأكثر من فرس واحد.

الثاني ـ أنّ المفاضلة في أصل الغناء والمنفعة قد روعيت ؛ فأما زيادتها فزيادة تفاصيلها ، فليس لها أصل في الشريعة يرجع إليه ، ولا ينضبط ذلك فيها ؛ لأنّ القتال لا يكون إلا على فرس واحد ، فالزيادة عليه لا تؤثّر في الحال ، وإنما يظهر تأثيرها في المال في بعض الأحوال ؛ فلا حظ في الاعتبار لذلك.

المسألة العاشرة ـ لا حقّ في الغنائم للحشوة كالأجراء والصناع الذين يصحبون الجيوش للمعاش ؛ لأنهم لم يقصدوا قتالا ، ولا خرجوا مجاهدين.

وقيل : يسهم لهم ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : الغنيمة لمن شهد الوقعة. وهذا منه صلى الله عليه وسلم إنما جاء لبيان خروج من لم يحضر القتال عن الاستهام ، وأنها لمن باشره وخرج إليه.

وقد بيّن الله سبحانه أحوال المقاتلين وأهل المعاش من المسلمين ، وجعلهم فرقتين متميزتين لكل واحدة حالها وحكمها ، فقال (١) : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ). إلا أن هؤلاء إذا قاتلوا لم يضرهم كونهم على معاشهم ؛ لأنّ سبب الاستحقاق قد وجد منهم.

وتفصيل المذهب أنّ من قاتل أسهم له ، إلا أن يكون أجيرا للخدمة ، فقال ابن القصار : لا سهم له حينئذ ، وإن قاتل. والأول أصح.

المسألة الحادية عشرة ـ العبد لا سهم له لأنه ليس ممن خوطب بالقتال ، لاستغراق بدنه بحقوق السيد. فأما الصبىّ فلا سهم له أيضا إلا أن يكون مراهقا للبلوغ مطيقا للقتال فيسهم له عندنا.

وقال الشافعى وأبو حنيفة : لا يسهم له ؛ لأنه لم يبلغ حد التكليف ، فلا يكون من

__________________

(١) سورة المزمل ، آية ٢٠

٣٤٢

أهل الجهاد ، فلا يكون من أهل القتال. وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال : عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربعة عشرة سنة فلم يجزنى ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازنى. فقال جماعة منهم الشافعىّ : إنما ذلك حدّ البلوغ. وقاله بعض أصحابنا ـ منهم ابن وهب ، وابن حبيب.

والصحيح أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم نظر في ذلك إلى إطاقته للقتال ، فأما البلوغ فلا أثر له فيه ، وقد أمر في بنى قريظة (١) أن يقتل منهم من أنبت ، ويخلّى من لم ينبت ؛ وهذه مراعاة لإطاقة القتال أيضا لا للبلوغ على ما بيناه في مسائل الخلاف.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) :

هذا خطاب للمسلمين من غير خلاف لا مدخل فيه للكفار ولا للنساء ، وإنما (٢) خوطب به من قاتل الكفار وهم المسلمون ، وخوطب به من يقاتل من المسلمين دون من لا يقاتل.

فأما المرأة فلا سهم لها فيه وإن قاتلت إلا عند ابن حبيب ؛ وهذا ضعيف لما ثبت في الصحيح : إنّ النساء كن يحذين (٣) من الغنيمة ولا يسهم لهنّ ؛ فإن القتال لم يفرض عليهن ، والسهم لم يقض به لهن.

وأما العبيد وأهل الذمة فإذا خرجوا لصوصا ، وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس ؛ لأنه لم يدخل في الخطاب أحد منهم.

وقال سحنون : لا يخمس ما ينوب العبد. وقال ابن القاسم : يخمس ؛ لأنه يجوز أن يأذن له سيّده في القتال ويقاتل عن الدين بخلاف الكافر. فأما إذا كانوا في جملة الجيش ففيه أربعة أقوال :

الأول ـ أنه لا يسهم لعبد ولا للكافر يكون في الجيش ؛ قاله مالك ، وابن القاسم.

زاد ابن حبيب ـ وهو القول الثاني : ولا نصيب لهم.

__________________

(١) في ا : قزعة.

(٢) في ل : لأنه إنما خوطب.

(٣) يحذين : يعطين الحذوة ، وهي العطية.

٣٤٣

الثالث ـ قال سحنون : إن قدر المسلمون على الغنيمة دونهم لم يسهم لهم ، وإن لم يقدروا (١) على الغنيمة إلا بأهل الذمة أسهم لهم ، وكذلك العبيد مع الأحرار.

الرابع ـ قال أشهب في كتاب محمد : إذا خرج العبد والذمىّ من الجيش وغنم فالغنيمة للجيش دونهم.

المسألة الثالثة عشرة ـ إذا ثبت أنّ الغنيمة لمن حضر ، فأما من غاب فلا شيء له.

والمغيب على ثلاثة أوجه : اما بمرض ، أو بضلال ، أو بأسر.

فأما المريض فلا شيء له إلا أن يكون له رأى ، وقال المتأخرون من علمائنا : إن مرض بعد القتال أسهم له ، وإن مرض بعد الإرادة (٢) وقبل القتال ففيه قولان. والأصحّ وجوب ذلك له.

واختلف في الضالّ على قولين ؛ وقال أشهب : يسهم للأسير ، وإن كان في الحديد.

والصحيح أن لا سهم له ؛ لأنه ملك يستحقّ بالقتال ، فمن غاب خاب ، ومن حضر مريضا كمن لم يحضر.

وأما الغائب المطلق فلم يسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قط لغائب إلا يوم خيبر ؛ قسم لأهل الحديبية من حضر منهم ومن غاب ، لقوله تعالى (٣) : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) ، وقسم يوم بدر لعثمان لبقائه على ابنته ، وقسم لسعيد بن زيد وطلحة وكانا غائبين. فأما أهل الحديبية فكان ميعادا من الله اختصّ بأولئك النّفر فلا يشاركهم فيه غيرهم.

وأما عثمان وسعيد وطلحة فيحتمل أن يكون أسهم لهم من الخمس ؛ لأن الأمة أجمعت على أنه من بقي لعذر فلا شيء له ، بيد أنّ محمد بن المواز قال : إذا أرسل الإمام أحدا في مصلحة الجيش فإنه يشرك من غنم بسهمه ؛ قاله ابن وهب ، وابن نافع عن مالك. وقيل عنه أيضا : لا شيء له ، وهذا أحسن ؛ فإن الإمام يرضخ له (٤) ، ولا يعطى من الغنيمة لعدم السبب الذي يستحقّ به عنده ، والله أعلم.

هذا لباب ما في الكتاب الكبير ، فمن تعذّر عليه شيء فلينظره هنالك إن شاء الله.

__________________

(١) في ا : يقدر.

(٢) في ا : الإدراب.

(٣) سورة الفتح ، آية ٢٠.

(٤) رضخ له : أعطاه عطاء غير كثير.

٣٤٤

الآية الثالثة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) :

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) :

ظاهر في اللقاء ، ظاهر في الأمر بالثبات ، مجمل في الفئتين التي تلقى منا والتي تكون من مخالفينا ، بيّن هذا الإجمال الآية التي بعدها في تعديد المقاتلين ، وقد أمر الله هاهنا بالثبات عند قتالهم ، كما نهى في الآية قبلها عن الفرار عنهم ؛ فالتقى الأمر والنهى على شفا من الحكم بالوقوف للعدوّ والتجلّد له.

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال للبراء : أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا عمارة؟ قال : لا ، والله ما ولّى رسول الله ولكن ولّى سرعان (٢) [من] (٣) الناس ، فلقيتهم هوازن بالنبل (٤) ، ورسول الله على بغلته ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بلجامها ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أنا النبىّ لا كذب. أنا ابن عبد المطلب.

قال ابن عمر : لقد رأيتنا يوم حنين ، وإنّ الفئتين لمولّيتان ، وما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة رجل. وكلا الحديثين صحيح.

المسألة الثانية ـ قوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ) :

فيه ثلاث احتمالات :

الأول ـ اذكروا الله عند جزع قلوبكم ؛ فإن ذكره يثبّت.

الثاني ـ اثبتوا بقلوبكم واذكروه بألسنتكم ؛ فإن القلب قد يسكن (٥) عند اللقاء ، ويضطرب اللسان ؛ فأمر بذكر الله حتى يثبت القلب على اليقين ، ويثبت اللسان على الذكر.

الثالث ـ اذكروا ما عندكم من وعد الله [لكم] (٦) في ابتياعه أنفسكم منكم ومثامنته لكم.

__________________

(١) الأنفال ، آية ٤٥ ، ٤٦.

(٢) سرعان الناس : أوائلهم المستبقون إلى الأمر.

(٣) من ل.

(٤) في ل : بالرمي.

(٥) في القرطبي (٨ ـ ٢٣) : فإن القلب لا يسكن ...

(٦) من ل ، والقرطبي.

٣٤٥

وكلّها مراد ، وأقواها أوسطها ؛ فإن ذلك إنما يكون عن قوة المعرفة ، ونفاذ القريحة ، واتّقاد البصيرة ، وهي الشجاعة المحمودة في الناس ، ولم يكن فيها أحد أقوى من الصدّيق رضى الله عنه ، فإنه كان أشجع الخليقة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمضاهم عزيمة ، وأنفذهم قريحة ، وأنورهم بصيرة ، وأصدقهم فراسة ، وأصحهم رأيا ، وأثبتهم [جأشا] (١) ، وأصفاهم إيمانا ، وأشرحهم صدرا ، وأسلمهم قلبا.

والدليل عليه ظهور ذلك المقام في مقامات ستة :

المقام الأول ـ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم تكن مصيبة أعظم منها ، ولا تكون أبدا ، عنها تفرّعت مصائبنا ، ومن أجلها فسدت أحوالنا ، فاختلفت الصحابة ؛ فأما علىّ فاستخفى. وأما عثمان فبهت. وأما عمر فاختلط ، وقال : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما واعده الله كما واعد موسى ، وليرجعنّ رسول الله فليقطعن أيدى أناس وأرجلهم ، وكان أبو بكر غائبا بمنزله بالسّنح (٢) ، فجاء فدخل على النبىّ صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة ، وهو ميّت مسجّى بثوبه ، فكشف عن وجهه ، وقال : بأبى أنت وأمى ، طبت حيا وميتا! أما الموتة التي كتبت عليك فقد متّها (٣).

وخرج فصعد المنبر ؛ فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حي لا يموت ، ثم قرأ (٤) : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ).

المقام الثاني ـ لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف الناس أين يدفن ؛ فقال القوم : يدفن بمكة. وقال آخرون : ببيت المقدس. وقال آخرون : بالمدينة. فقال أبو بكر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما دفن قطّ نبىّ إلا حيث يموت.

المقام الثالث ـ لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت فاطمة إلى أبى بكر الصديق تقول له : لو متّ ألم تكن ابنتك ترثك؟ قال : نعم. قالت له : فأعطنى ميراثي من رسول الله.

__________________

(١) ليس في ا.

(٢) سنح : إحدى محال المدينة كان بها منزل أبى بكر.

(٣) في ل : نلتها.

(٤) آل عمران ، آية ١٤٤

٣٤٦

فقال [أبو بكر] (١) : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا نورث ، ما تركناه صدقة.

فتذكّر ذلك جميع الصحابة ، وعلمه عمر وعثمان وعبد الرحمن وطلحة وسعد وسعيد ، وأقرّ به على والعباس.

المقام الرابع ـ لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ العرب ، وانقاض (٢) الإسلام ، وتزلزلت الأفئدة ، وماج الناس ؛ فارتاع الصحابة ؛ فقال عمر وغيره لأبى بكر : خذ منهم الصلاة ، ودع الزكاة حتى يتمكن الدين ، ويسكن جأش المسلمين. فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة ، والله لو منعونى عقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه (٣).

المقام الخامس ـ قالت الصحابة له : يا خليفة رسول الله ؛ أبق جيش أسامة ؛ فإن من حولك قد اختلف عليه ، فإن أرسلت الجيش إلى الشام لم تأمن على نفسك ولا على من معك بالمدينة. فقال : والله لو لعبت الكلاب بخلاخيل نساء أهل المدينة ما رددت جيشا أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا له : فمع من تقاتلهم؟ قال : وحدي حتى تنفرد سالفتي (٤).

المقام السادس ـ وهو ضنك الحال ومأزق الاختلال ؛ وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفى اضطرب الأمر ، وماج الناس ، ومرج (٥) قولهم ، وتشوّفوا إلى رأس يرجع إليه تدبيرهم ، واجتمعت الأنصار في سقيفة بنى ساعدة ، ولهم الهجرة ، وفيهم الدّوحة ، والمهاجرون عليهم نزل ، وانتدب الشيطان ليزيغ قلوب فريق [منهم] (٦) ، فسوّل للأنصار أن يعقدوا لرجل منهم الأمر ؛ فجاء المهاجرون. فاجتمعوا إلى أبى بكر ، وقالوا : نرسل إليهم. قال أبو بكر : لا ، ألا نأتيهم في موضعهم! فنوزع (٧) في ذلك ، فصرم وتقدم واتّبعته المهاجرون حتى جاء الأنصار في مكانهم ، وتقاولوا! فقالت الأنصار في كلامها : منا أمير ومنكم أمير ، فتصدّر أبو بكر بحقه ، وتكلم على مقتضى الدين ووفقه ، وقال : يا معشر الأنصار ؛ قد علمتم أنّا رهط رسول الله وعترته (٨) الأدنون ، وأصل العرب ، وقطب الناس. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : الأئمة من قريش إلى أن تقوم الساعة.

__________________

(١) من ل.

(٢) انقاض : تصدع.

(٣) في ل : لجاهدتهم.

(٤) السالفة : ناحية مقدم العنق.

(٥) مرج قولهم : اختلط.

(٦) من ل.

(٧) في ل : فتورع.

(٨) عترة الرجل : رهطه الأدنون ، ويقال أقرباؤه.

٣٤٧

وقد سمّانا الله في كتابه الصادقين حين قال (١) : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

وسمّاكم المفلحين ، فقال (٢) : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وأمركم الله أن تكونوا معنا حيث كنّا ، فقال (٣) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).

وقال لكم [النبي] (٤) : سترون بعدي أثرة ، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض.

وقال لنا في آخر خطبة خطبها : أوصيكم بالأنصار خيرا أن تقبلوا من محسنهم ، وتتجاوزوا عن مسيئهم ؛ ولو كان لكم في الأمر شيء ما رأيتم أثرة ولا وصى بكم.

فلما سمعوا ذلك من علمه ، ووعوه من قوله تذكّروا الحق ؛ فانقادوا له ، والتزموا حكمه ؛ فبادر عمر إلى أبى عبيدة ، وقال له : يا أبا عبيدة ؛ امدد يدك أبايعك. فقال أبو عبيدة : ما سمعت منك فهّة في الإسلام قبلها ، أتبايعني وأبو بكر فيكم؟ فقال له عمر : امدد يدك أبايعك يا أبا بكر. فمدّ أبو بكر يده وبايعه ، وبايعه الناس ، وصار الحقّ في نصابه ، ودخل الدين من بابه.

ولو هدوا لهذه الفرقة الأدبية التاريخية لما كانوا عن سبيل الحق جائرين وبحقيقته جاهلين ، ولكن الله ابتلاهم بقراءة كتب من الأدب والتاريخ قد تولّاها جهال وضلّال ، فقالوا : فعل علىّ. وقال علىّ ، ولا يقع علىّ من أبى بكر إلا نقطة من بحر ، أو لقطة في قفر ، لقد استقام الدين وعلىّ عنه في حجر ، وقد كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد رجاله ، وفارسا من فرسانه ، ووليا من أوليائه ، وقريبا من أقربائه ، فلما استأثر الله برسوله ، وانفرد بنفسه لم يقم بالأمر ولا قعد ، وذلك أمر قضاه الله بالحق ، وقدّره بالصدق ، وأنفذه بالحكمة والحكم ، وما وجد المسلمون أحدا ثبت على الدين ، وقرر ولاته في الأقطار ، وأنفذ الجيوش

__________________

(١) سورة الحشر ، آية ٨.

(٢) سورة الحشر ، آية ٩.

(٣) سورة التوبة ، آية ١١٩

(٤) من ل.

٣٤٨

إلى الأمصار ، وقاتل على الحق ، وقدم عليهم غير خير الخلق الصدّيق ؛ فمهد الدين ، واستتبّ به أمر المسلمين ، والحمد لله رب العالمين.

المسألة الثالثة ـ قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) :

وهذه الوصية هي العمدة التي يكون معها النصر ، ويظهر بها الحق ، ويسلم معها القلب ، وتستمرّ معها على الاستقامة الجوارح ؛ وذلك بأن يكون عمل المرء كله بالطاعة في امتثال الأمر واجتناب النهى ، فإنما يقاتل المسلمون بأعمالهم لا بأعدادهم ، وباعتقادهم لا بإمدادهم ؛ فلقد فتح الله الفتوح على قوم كانت حلية سيوفهم إلا الغلابي (١). ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : إنما تنصرون بضعفائكم. إشارة إلى أنّ الطاقة في الطاعة ، والمنة في الهداية.

المسألة الرابعة ـ قوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا) :

وهذا أصل عظيم في المعقول والمشروع ؛ وذلك أنّ الله خلق القوة ليظهر بها الأفعال ، وقدرته سبحانه واحدة تعمّ المقدورات ، وقدر الخلق حادثة متعددة تتعلق بالمقدورات على اختلاف أنواعها ، [وأجرى الله] (٢) العادة بأن القدر إذا كثرت على رأى قوم أو بقيت على رأى آخرين ـ والأوّل أصحّ حسبما بيناه في الأصول ـ ظهر المقدور بالنسبة إلى القدرة إن كان كثيرا فكثيرا أو قليلا فقليلا ، وكذلك تظهر المفعولات بحسب ما يلقى الله في القلوب من الطمأنينة ، فإذا ائتلفت القلوب على الأمر استتبّ وجوده ، واستمر مريره وإذا تخلخل القلب قصر عن النظر ، وضعفت الحواس عن القبول ، والائتلاف طمأنينة للنفس ، وقوة للقلب ، والاختلاف إضعاف له ؛ فتضعف الحواس ، فتقعد عن المطلوب ، فيفوت الغرض ؛ وذلك قوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ، وكنى بالريح عن اطراد الأمر ومضائه بحكم استمرار القوة فيه والعزيمة عليه ، وأتبع ذلك بالأمر بالصبر الذي يبلغ العبد به إلى كل أمر متعذر بوعده الصادق في أنه مع الصابرين.

الآية الرابعة عشرة ـ قوله (٣) : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).

فيها مسألتان :

__________________

(١) هكذا بالأصول.

(٢) من ل.

(٣) الآية : ٥٧

٣٤٩

المسألة الأولى ـ قوله : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) :

يعنى تصادفهم وتلقاهم ، يقال : ثقفته أثقفه ثقفا إذا وجدته ، وفلان ثقف لقف (١) ؛ أى سريع الوجود لما يحاول من القول. وامرأة ثقاف. هكذا قال أهل اللغة ، وهو عندي بمعنى الحبس ، ومنه رجل ثقف ؛ أى يقيّد الأمور بمعرفته.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) :

أى افعل بهم فعلا من العقوبة يتفرّق به من وراءهم ، ومنه شرد البعير والدابة إذا فارق صاحبه ومألفه ومرعاه ، وهذا أحد الأقسام الخمسة التي للإمام في الأسرى : من المن والفداء والاسترقاق والجزية والقتل ، وقد مهّدناها في مسائل الخلاف ، ويأتى هاهنا وفي سورة محمد(٢) عليه السّلام ، وهذا يعتضد بالآية التاسعة عشرة : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ...) على ما يأتى بيانه إن شاء الله تعالى.

الآية الخامسة عشرة ـ قوله تعالى (٣) : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

نزلت في بنى قريظة حين أبدت من التحزّب مع قريش ونقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

المسألة الثانية ـ إن قيل : كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة ، والخوف ظنّ لا يقين معه ، فكيف يسقط يقين العهد بظنّ الخيانة ـ فعنه جوابان :

أحدهما ـ أن الخوف هاهنا بمعنى اليقين ، كما يأتى الرجاء بمعنى العلم ؛ كقوله (٤) : (لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً).

الثاني ـ إنه إذا ظهرت آثار الخيانة ، وثبتت دلائلها وجب نبذ العهد ، لئلا بوقع التمادي عليه في الهلكة ، وجاز إسقاط اليقين هاهنا بالظن للضرورة ، وإذا كان العهد قد وقع فهذا

__________________

(١) بالفتح ، وككتف ، وأمير : خفيف حاذق (القاموس).

(٢) الآية الرابعة منها.

(٣) آية ٥٨.

(٤) سورة نوح ، آية ١٣

٣٥٠

الشرط عادة وإن لم يصرح به لفظا ؛ إذ لا يمكن أكثر من هذا.

المسألة الثالثة ـ (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) ؛ أى على مهل (١) ؛ قاله الوليد بن مسلم. وقيل : على عدل ، معناه بالتقدم إليهم والإنذار لهم ، وهكذا يجب للإمام أن يفعل اليوم في كلا وجهى العقد أولا ، والنبذ على السواء ثانيا.

الآية السادسة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

فيها تسع مسائل :

المسألة الأولى ـ أمر الله سبحانه وتعالى بإعداد القوة للأعداء بعد أن أكّد في تقدمة التقوى ؛ فإن الله تعالى لو شاء لهزمهم بالكلام ، والتّفل في الوجوه ، وحفنة من تراب ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه أراد أن يبلى بعض الناس ببعض ، بعلمه السابق وقضائه النافذ ؛ فأمر بإعداد القوى والآلة في فنون الحرب التي تكون لنا عدّة ، وعليهم قوة ، ووعد على الصبر والتقوى بأمداد الملائكة العليا.

المسألة الثانية ـ روى الطبري وغيره ، عن عقبة بن عامر ؛ قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) ؛ فقال : ألا إنّ القوة الرّمى ، ألا إنّ القوة الرمي ، ألا إن القوة الرّمى ـ ثلاثا.

وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع ، قال : مرّ النبىّ صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون بالسهام ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ارموا بنى إسماعيل ، فإن أباكم كان راميا ، وأنا مع بنى فلان. قال : فأمسك أحد الفريقين بأيديهم ، فقال رسول الله: ما لكم لا ترمون؟ قالوا : وكيف نرمي وأنت معهم! فقال رسول الله : ارموا وأنا معكم كلكم.

زاد الحاكم في رواية : فلقد رموا عامة يومهم ذلك ، ثم تفرقوا على السواء ما نضل بعضهم بعضا.

__________________

(١) في القرطبي (٨ ـ ٣٢) : السواء : المساواة والاعتدال

(٢) آية ٦٠

٣٥١

وروى البخاري عن علىّ قال : ما رأيت رسول الله يفدى رجلا بعد سعد ، سمعته يقول : ارم فداك أبى وأمى.

وروى الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي ، عن عقبة بن عامر ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (١) : إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة : صانعه يحتسب في صنعته الخير ، والرامي به ، ومنبله. وفي رواية : والممدّ به ، فارموا واركبوا ، ولأنّ ترموا أحبّ إلىّ من أن تركبوا ، ليس من اللهو ثلاث : تأديب الرجل فرسه ، وملاعبته أهله ، ورميه بقوسه ونبله. ومن ترك الرمي بعد ما علمه رغبة عنه فإنها نعمة كفرها. وقد شاهدت القتال مرارا فلم أر في الآلة أنجع من السهم ، ولا أسرع منفعة منه.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) :

الرباط : هو حبس النفس في سبيل الله حراسة للثغور أو ملازمة (٢) للأعداء ، وقد تقدم بيان شيء منه في سورة آل عمران.

وقد روى البخاري وغيره ، عن سهل بن سعد ـ أنه قال : رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ، وموضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، والروحة يروحها العبد في سبيل الله ، والغدوة خير من الدنيا وما فيها.

وروى الترمذي عن فضالة بن عبيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : كل ميت يختم على عمله إلا الذي يموت مرابطا في سبيل الله فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتنة القبر.

المسألة الرابعة ـ وأمّا رباط الخيل فهو فضل عظيم ومنزلة شريفة. وروى الأئمة عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (٣) : الخيل ثلاثة ؛ لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر. فأما الذي هي عليه وزر فرجل ربطها رياء وفخرا ونواء (٤) لأهل الإسلام ، فهي عليه وزر ، وأما الذي هي عليه ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ، ولم ينس حقّ الله في ظهورها فهي عليه ستر ، وأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج (٥) أو روضة فما أكلت

__________________

(١) ابن ماجة : ٩٤٠.

(٢) في ل : وملازمة.

(٣) صحيح مسلم : ٦٨١.

(٤) أى مناوأة ومعاداة.

(٥) المرج : أرض ذات نبات ومرعى.

٣٥٢

من ذلك المرج أو الروضة من شيء إلّا كتب الله له عدد ما أكلت حسنات ، وكتب له أرواثها وأبوالها حسنات ، ولا يقطع طوالها فتستنّ شرفا أو شرفين (١) إلا كتب الله له ذلك حسنات ، ولا مرّ بها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها إلّا كتب الله له عدد ما شربت حسنات.

وروى البخاري ومسلم عن جابر (٢) بن عبد الله ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوى ناصية فرس بإصبعيه ؛ وهو يقول : الخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة.

وثبت عن أنس أنه قال : لم يكن شيء أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل. خرجه النسائي.

المسألة الخامسة ـ المستحبّ من رباط الخيل الإناث قبل الذكور ؛ قاله عكرمة وجماعة ، وهذا صحيح ، فإنّ الأنثى بطنها كنز ، وظهرها عزّ. وفرس جبريل أنثى.

المسألة السادسة ـ يستحبّ من الخيل ما روى أبو وهب الجشمي وكانت له صحبة ، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بكل كميت أغرّ محجّل ، أو أدهم أغرّ محجل ، أو أشقر أغرّ محجّل.

خرجه أبو داود والنسائي.

وروى الترمذي ، عن أبى قتادة ـ أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال (٣) : خير الخيل الأدهم الأقرح المحجّل الأرثم (٤) ، ثم الأقرح المحجّل طلق اليمين (٥) ، فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الهيئة (٦).

المسألة السابعة ـ روى مسلم والنسائي أنه يكره الشّكال (٧) من الخيل.

__________________

(١) استنت : جرت وعدت. والشرف : هو العالي من الأرض. وقيل : المراد هنا طلقا أو طلقين. وقال ابن الأثير : الشرف هو الشوط.

(٢) في ل : جرير بن عبد الله.

(٣) ابن ماجة : ٩٣٣

(٤) الأرثم : الذي أنفه أبيض وشفته العليا. والأقرح : هو ما كان في جبهته قرحة ـ بالضم ـ وهي بياض يسير في وجه الفرس دون الغرة (اللسان).

(٥) في اللسان : طلق اليمنى : ليس فيها من البياض شيء ، والمحجل الثلاث : التي فيها بياض.

(٦) في ابن ماجة والقرطبي : على هذه الشية.

(٧) الشكال في الخيل أن تكون ثلاث قوائم منه محجلة والواحدة مطلقة (اللسان ـ شكل).

٣٥٣

وثبت عن النبىّ صلى الله عليه وسلم من رواية عبد الله بن عمر أنه قال : إنما الشؤم في المرأة ، والفرس ، والدار.

وقد بينا تحقيق ذلك في شرح الحديث.

المسألة الثامنة ـ قوله : (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) ، يعنى تخيفون بذلك أعداء الله وأعداءكم من اليهود وقريش ، وكفار العرب (١).

(وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) : يعنى فارس والروم.

وقد روى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : أما فارس فنطحة أو نطحتان ، ثم لا فارس بعدها. وأما الروم ذوات القرون فكلما هلك قرن خلفه آخر إلى يوم القيامة.

المسألة التاسعة ـ قوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) عامّ في الخيل كلها وأجودها وأعظمها أجرا.

وقد قال ابن القاسم وابن عبد الحكم عن مالك قال الله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) فأرى البراذين من الخيل إذا أجازها الوالي ، وكذلك قال سعيد بن المسيّب.

الآية السابعة عشرة ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِنْ جَنَحُوا) (٣) (لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ السلم ـ بفتح السين وكسرها وإسكان اللام ، وبفتح السين واللام ، وبزيادة الألف أيضا : هو الصلح ، وقد يكون السلام بالألف واللام من التسليم ـ وقد تقدم.

المسألة الثانية ـ في ذلك ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنها منسوخة بقوله (٤) : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ونحوه.

الثاني ـ إن دعوك إلى الصلح فأجبهم ؛ قاله ابن زيد والسّدّى.

الثالث ـ إن جنحوا إلى الإسلام فاجنح لها ؛ قاله ابن إسحاق. قال مجاهد : وعنى به قريظة ، لأنّ الجزية تقبل منهم ، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء.

__________________

(١) في ل : وكفار قريش.

(٢) آية ٦١.

(٣) الجنوح : الميل.

(٤) سورة التوبة ، آية ٥

٣٥٤

المسألة الثالثة ـ أما قول من قال إنها منسوخة بقوله (١) : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ـ فدعوى ، فإن شروط النسخ معدومة فيها ، كما بيناه في موضعه.

وأما من قال : إن دعوك إلى الصلح فأجبهم فإن ذلك يختلف الجواب فيه ؛ وقد قال الله (٢) : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ).

فإذا كان المسلمون على عزّة ، وفي قوة ومنعة ، ومقانب (٣) عديدة ، وعدّة شديدة(٤):

فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقنا

وتضرب بالبيض الرقاق الجماجم

وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لانتفاع يجلب به ، أو ضرّ يندفع بسببه فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه ، وأن يجيبوا إذا دعوا إليه وقد صالح النبىّ صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها ، فنقض صلحهم ، وقد وادع الضّمري (٥) ، وقد صالح أكيدر دومة ، وأهل نجران ، وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده ، وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة ، وبالوجوه التي شرحناها عاملة.

المسألة الرابعة ـ عقد الصلح ليس بلازم للمسلمين ، وإنما هو جائز باتفاقهم أجمعين ؛ إذ يجوز من غير خلاف للإمام أن يبعث إليهم ، فيقول : نبذت إليكم عهدكم ، فخذوا منى حذركم ، وهذا عندي إذا كانوا هم الذين طلبوه ؛ فإن طلبه المسلمون لمدة لم يجز تركه قبلها إلا باتفاق.

المسألة الخامسة ـ ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو ، والأصل في ذلك موادعة النبىّ صلى الله عليه وسلم لعيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب ، على أن يعطيه نصف تمر المدينة ، فقال له السّعدان (٦) : يا رسول الله ؛ إن كان هذا الأمر من قبل الله فامض له ، وإن كان أمرا لم تؤمر به ولك فيه هوى فسمع وطاعة ، وإن كان هذا الرأى والمكيدة ، فأعلمنا به.

__________________

(١) سورة التوبة ، آية ٥.

(٢) سورة محمد ، آية ٣٥

(٣) في ل : وضغائن. والمقانب : جمع مقنب ، والمقنب من الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين وقيل : هي دون المائة.

(٤) والقرطبي : ٨ ـ ٤٠.

(٥) كان هذا في غزوة الأبواء.

(٦) هما سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة.

٣٥٥

فقال النبىّ صلى الله عليه وسلم : إنما هو الرأى والمكيدة لأنى رأيت العرب قد رمتكم بقوس واحدة فأردت أن أدفعها عنكم إلى يوم.

فقال السعدان : إنا كنا كفّارا ، وما طمعوا منها بتمرة إلا بشراء أو بقرى ، فإذا أكرمنا الله بك فلا نعطيهم إلا السيف ؛ وشقّا الصحيفة التي كانت كتبت.

الآية الثامنة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

فيها ست مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله : (حَرِّضِ) ؛ أى أكّد الدعاء ، وواظب عليه ، يقال : حارض على الأمر ، وواظب ـ بالظاء المعجمة ، وواصب بالصاد غير المعجمة ، وواكب ـ بالكاف : إذا أكد فيه ولازمه.

المسألة الثانية ـ القتال : هو الصدّ عن الشيء بما يؤدّى إلى القتل.

المسألة الثالثة ـ قوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ...) الآية.

قال قوم : كان هذا يوم بدر ثم نسخ ، وهذا خطأ من قائله ؛ لأن المسلمين كانوا يوم بدر ثلاثمائة ونيّفا ، وللكفار كانوا تسعمائة ونيّفا ؛ فكان للواحد ثلاثة. وأما هذه المقابلة وهي الواحد بالعشرة فلم ينقل أنّ المسلمين صافّوا (٢) المشركين عليها قطّ ، ولكن الباري فرض ذلك عليهم أولا ، وعلّله بأنكم تفقهون ما تقاتلون عليه ، وهو الثواب. وهم لا يعلمون ما يقاتلون عليه. ثم نسخ ذلك. قال ابن عباس : كان هذا ثم نسخ بعد ذلك بمدة طويلة وإن كانت إلى جنبها.

المسألة الرابعة ـ قوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) :

أما التخفيف فهو حطّ الثقل.

__________________

(١) الآية الخامسة والستون ، والسادسة والستون.

(٢) في ا : أصابوا.

٣٥٦

وأما قوله : (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) فمعنى تعلّق العلم بالآن ، وإن كان الباري لم يزل عالما ليس لعلمه أول ، ولكن وجهه أنّ الباري تعالى يعلم الشيء قبل أن يكون ، وهو عالم الغيب ، وهو به عالم ، إذا كان بذلك العلم الأول فإنه عالم الشهادة وبعد الشيء ، فيكون به عالما بذلك العلم بعد عدمه ، ويتعلق علمه الواحد الذي لا أوّل له بالمعلومات على اختلافها وتغيّر أحوالها ، وعلمه لا يختلف ولا يتغيّر.

وقد ضربنا لذلك مثالا يستروح إليه الناظر ؛ وهو أنّ الواحد منا يعلم اليوم أن الشمس تطلع غدا ، ثم يراها طالعة ، ثم يراها غاربة ، ولكل واحدة من هذه الأحوال علم مجدّد لما يتعلق بهذه الأحوال الثلاثة ، ولو قدرنا بقاء العلم الأول لكان واحدا يتعلق بها ، وعلم الباري واجب الأولية ، واجب البقاء ، يستحيل عليه التغيّر ؛ فانتظمت المسألة ، وتمكّنت بها ـ والحمد لله ـ المعرفة.

المسألة الخامسة ـ فلما خفّف عنا أوجب على الرجل الثبات لرجلين ، وهكذا ما تزايدت النسبة الواحدة (١) باثنين ، فإنه يتقدم إليهما ، ويتقدمان إليه ، وكل واحد منهما يحذره على نفسه ، فيهجم على الواحد فيطعنه ، فإذا قتله بقي واحد بواحد ، وإن اقتتلا فقد حصل (٢) دم واحد بواحد ، وبقي الزائد لغوا ، وهذا إنما يكون مع الصبر ، والله مع الصابرين.

وقد روى ابن وهب عن مالك في الرجل يلقى عشرة ـ قال : واسع له أن ينصرف إلى معسكره إن لم تكن له قوة على قتالهم.

وهذا دليل على أنه يجوز له أن يثبت معهم ، وهي :

المسألة السادسة ـ وقد قال قوم : لا يقتحم الواحد على العشرة ولا القليل على الكثير ؛ لأن في ذلك إلقاء اليد إلى التهلكة.

وقد بيّنا بطلان ذلك في سورة البقرة. قال أشهب : قال مالك : قال الله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ ، وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ؛ فكان كلّ رجل باثنين.

__________________

(١) في ل : القسمة لواحد باثنين.

(٢) في ا : حصن.

٣٥٧

الآية التاسعة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٢) :

قال ابن عباس : حتى يثخن (٣) في الأرض ، وذلك يوم بدر ، والمسلمون قليل ، فلما كثروا قال الله (٤) : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) ، فخيّرهم الله تعالى وهكذا قال كثير من المفسرين بعده.

وعن عبد الله قال : لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ؛ قومك وأهلك ، فاستبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم.

قال عمر : يا رسول الله ؛ كذبوك وأخرجوك ، قدّمهم واضرب أعناقهم.

وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ؛ انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ، ثم أضرمه عليهم نارا. فقال له العباس : قطعت رحمك.

فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم ، ثم دخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبى بكر. وقال ناس : يأخذ بقول عمر. وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة.

ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنّ الله ليليّن قلوب قوم حتى تكون ألين من اللين ، ويشدّ قلوب قوم حتى تكون أشدّ من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم إذ قال (٥) : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). ومثل عيسى حين قال (٦) : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ...) الآية. ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال (٧) : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً). ومثل موسى إذ قال (٨) : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ ...) الآية.

__________________

(١) آية ٦٧.

(٢) أسباب النزول : ١٣٦ ، والقرطبي : ٨ ـ ٤٥.

(٣) الإثخان في الشيء : المبالغة والإكثار منه ، والمراد به هنا : المبالغة في قتل الكفار.

(٤) سورة محمد ، آية ٤.

(٥) سورة إبراهيم ، آية ٣٦.

(٦) سورة المائدة ، آية ١١٨

(٧) سورة نوح ، آية ٢٦.

(٨) سورة يونس : ٨٨

٣٥٨

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم اليوم عالة فلا يفلتنّ رجل منهم إلّا بفداء أو ضربة عنق.

فقال عبد الله : يا رسول الله ، إلا سهيل (١) بن بيضاء ، فإنى سمعته يذكر الإسلام. فسكت النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتنى في يوم أخوف أن تقع علىّ الحجارة من السماء منّى في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إلا سهيل بن بيضاء.

رواه الترمذىّ مختصرا عن أقوال أبى بكر وعمر وابن رواحة ، ورواه مسلم عن عمر ابن الخطاب ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ لما أسروا الأسرى ـ لأبى بكر وعمر ما ترون؟ قال أبو بكر : يا نبي الله ، هم بنو العمّ والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا بن الخطاب؟ قلت : لا والله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكن أرى أن تمكّننا فنضرب أعناقهم ، فتمكّن عليّا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان ـ نسيب لعمر ـ فأضرب عنقه ؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.

فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت.

فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلت : يا رسول الله ؛ أخبرنى من أى شيء تبكى أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبكى للذي عرض علىّ أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة ـ شجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ـ إلى قوله : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً) فأحلّ الله الغنيمة لهم ، وأنزل الله : ما كان النبىّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا ـ يعنى الفداء ، والله يريد الآخرة ـ يعنى إعزاز الدين وأهله ، وإذلال الكفر وأهله.

__________________

(١) في ل : سهل.

٣٥٩

المسألة الثانية ـ روى عبيدة السلماني ، عن علىّ أنّ جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فخيّره بين أن يقرب الأسارى فيضرب أعناقهم ، أو يقبلوا منهم الفداء ، ويقتل (١) منكم في العام المقبل بعدتهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا جبريل يخبركم أن تقدّموا الأسارى فتضربوا أعناقهم ، أو تقبلوا منهم الفداء ، ويستشهد منكم في العام المقبل بعدّتهم. فقالوا : يا رسول الله ؛ بل نأخذ الفداء فنقوى على عدونا ، ويقتل منا في العام المقبل بعدّتهم ، ففعلوا.

المسألة الثالثة ـ قال ابن وهب ، وابن القاسم ، عن مالك : كان ببدر أسارى مشركون ، فأنزل الله : ما كان لنبىّ أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، وكانوا يومئذ مشركين ، فادوا ورجعوا ، ولو كانوا مسلمين لأنابوا (٢) ولم يرجعوا ، وكان عدّة من قتل أربعة وأربعين رجلا ، ومثلهم أسرى (٣) ، وكان الشهداء قليلا.

وقال أبو عمرو بن العلاء : إنّ القتلى كانوا سبعين والأسرى كذلك. وكذلك قال ابن عباس ، وابن المسيب ، ويشهد له قوله (٤) : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها).

وأنشد أبو زيد الأنصارى لكعب بن مالك :

فأقام بالعطن المعطّن منهم

سبعون عتبة منهم والأسود

وإنما قال مالك : وكانوا مشركين ، ولو كانوا مسلمين لأقاموا ولم يرجعوا ؛ لأن المفسّرين رووا أنّ العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنى مسلم.

وفي رواية لهم : إن الأسرى قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنّا بك وبما جئت به ولننصحنّ لك على قومنا ، فنزلت (٥) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ...) الآية ، قال العباس : افتديت بأربعين أوقية ، وقد آتاني الله أربعين عبدا ، وإنى لأرجو المغفرة.

وهذا كله ضعّفه مالك ، واحتجّ على إبطاله بما ذكر من رجوعهم إلى موضعهم ، وزيادة عليه أنهم غزوه يوم أحد.

__________________

(١) في ل : ويقبل.

(٢) في ل : لأقاموا.

(٣) في ل : أسروا.

(٤) سورة آل عمران ، آية ١٦٥.

(٥) سورة الأنفال ، آية ٧٠.

٣٦٠