أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي
المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٢
فعلت ، خرجت فى طلب رجل من بنى نمير قد أصاب فينا دما ، فهجمت علينا خيل خالد ، ولقد كنت قدمت على رسول الله ، فلما ذكر رسول الله ، قال أبو بكر : قل صلىاللهعليهوسلم ، فقال : صلىاللهعليهوسلم ، ثم رجعت إلى قومى ، فو الله ما زلت معتزلا أمر مسيلمة حتى كان أوان قدمت عليك مقدمى هذا ، ثم لم آل لخالد فيما استشارنى إلى اليوم ، وقد جئناك لترضى عمن أساء ، وتقبل ممن تاب ، فإن القوم قد رجعوا وتابوا ، فقال أبو بكر : أما أنى قد كتبت إلى خالد كتابا فى أثر كتاب آمره أن لا يستبقى من بنى حنيفة أحدا مرت عليه الموسى قال مجاعة : الذي صنع الله لك ولخالد خير ، يفىء الله بهم إلى الإسلام ، قال أبو بكر : أرجو أن يكون ما صنع خالد خيرا ، يا مجاعة أنى خدعتم بمسيلمة؟ قال : يا خليفة رسول الله ، لا تدخلنى فى القوم ، فإن الله يقول : (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [فاطر : ١٨] ، قال أبو بكر رضياللهعنه : فما كان يقول لقومه؟ قال : فكره مجاعة أن يخبره فقال أبو بكر : عزمت عليك لتخبرنى.
وفى غير هذا الحديث أن الرجل السحيمى الذي تقدم ذكره قبل أخبره بأنه كان يقول : يا ضفدع بنت ضفدعين ، لحسن ما تنقنقين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، امكثى فى الأرض حتى يأتيك الخفاش بالخبر اليقين ، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ، ولكن قريش قوم لا يعدلون. فاسترجع أبو بكر ، ثم قال : سبحان الله ، ويحكم ، أى كلام هذا ، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر ، فأين ذهب بكم؟ الحمد لله الذي قتله ، قالوا : يا خليفة رسول الله ، قد أردنا الرجوع إلى بلادنا ، قال : ارجعوا ، وكتب لهم كتابا آمنهم فيه.
وفى كتاب يعقوب الزهرى : أن وفد بنى حنيفة لما قدموا ، نادى أبو بكر أن لا يؤويهم أحد ، ولا يبايعهم ، ولا ينزلهم ، ولا يكلمهم ، فداروا فى المدينة لا يكلمون ولا يبايعون ، فضاقت عليهم ، فقيل لهم : ائتوا عمر ، فجاءوه ، فوجدوه معتقلا عنزا يحلبها على رغيف ، فلما رآهم ، حلب ، فاشتد حلبه حتى دار الرغيف فى القدح من شدة حلبه ، ثم وضعه ، فدعاهم فأكلوا معه ، ومعه صبية صغيرة ، فقالوا : إنا نعوذ بالله أن يرد علينا من إسلامنا ما يقبل من غيرنا ، وإنا نشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، الذي لا إله إلا هو ، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية ، قال : الله ، إن ما تقولون بألسنتكم لحق من قلوبكم ، قالوا : الذي لا إله إلا هو إن ما نقول بألسنتنا لحق من قلوبنا ، قال : الحمد لله الذي جعل لنا من الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه. قال : أفيكم قاتل زيد بن الخطاب؟ قلنا : ما تريد بذلك؟ قال : أفيكم قاتل زيد؟ فقام أبو مريم ، فقال : أنا قاتل زيد ،
قال : وكيف قتلته؟ قال : اضطربت أنا وهو بالسيفين حتى انقطعا ، ثم أطعنا بالرمحين حتى انكسرا ، ثم اصطرعنا ، فشحطته بالسكين شحطا ، قال : يا بنية ، هذا قاتل أبيك ، فوضعت يدها على رأسها ، وصاحت : يا أبتاه.
قال : ثم خرج حتى جاء أبا بكر ، فاستأذن لنا عليه ، فدخلنا فقلنا له كما قلنا لعمر ، وناشدنا كما ناشدنا عمر ، فحلفنا له ، فقال : الحمد لله الذي جعل لنا من الإسلام ما يعزنا ويردنا إليه ، قال : أفيكم من رهط عامر بن مسلمة أحد؟ قال خالد : وما تصنع بعامر وهذا مجاعة سيد أهل اليمامة ، فكررها أبو بكر ، فقال : هل فيكم من رهط ثمامة ابن أثال أحد؟ قال خالد : وما تصنع بثمامة ، وهذا مجاعة سيد أهل اليمامة ، قال أبو بكر رضياللهعنه : إنهم أهل بيت اصطعنهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فأحب أن أصطنعهم ، فقام مطرف بن النعمان بن سلمة ، فقال : عامر بن سلمة عمى ، وثمامة بن أثال عمى ، فاستعمله أبو بكر على اليمامة.
وقال أبو بكر لخالد : سم لى أهل البلاء ، فقال : يا خليفة رسول الله ، كان البلاء للبراء بن مالك ، والناس له تبع.
ولما قدم خالد المدينة لم يبق بها دار إلا فيها باك لكثرة من قتل معه من الناس ، فبكى أبو بكر رضياللهعنه ، لما رأى ذلك ، وقال ما أبعد ما رأى من الظفر ، والله لثابت بن قيس بن شماس (١) أعز على الأنصار من أسماعها وأبصارها.
وكانت اليمامة فى ربيع الأول من سنة اثنتى عشرة (٢) ، واختلف فى عدد من استشهد فيها من المسلمين ، فأكثر ما فى ما وقع فى كتاب أبى بكر إلى خالد : أن ببابك دماء ألف ومائتين من المسلمين.
وقال سالم بن عبد الله بن عمر : قتل يوم اليمامة ستمائة من المهاجرين والأنصار ، وغير ذلك.
وقال زيد بن طلحة : قتل يوم اليمامة من قريش سبعون ، ومن الأنصار ستون ، ومن سائر الناس خمسمائة.
__________________
(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٠٦) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥٦٩).
(٢) ذكر ابن الجوزى فى المنتظم (٤ / ٨٣) : أنها كانت سنة إحدى عشرة فى قول جماعة منهم أبو معشر ، فأما ابن إسحاق فإنه قال فتح اليمامة واليمن والبحرين ، وبعث الجنود إلى الشام سنة اثنتى عشرة.
وعن أبى سعيد الخدرى قال : قتلت الأنصار فى مواطن أربعة سبعين سبعين ، يوم أحد سبعين ، ويوم بئر معونة سبعين ، ويوم اليمامة سبعين ، ويوم جسر أبى عبيد سبعين.
وقال سعيد بن المسيب : قتلت الأنصار فى مواطن ثلاثة سبعين سبعين ، فذكر ما تقدم إلا بئر معونة.
وذكر عمر بن الخطاب رضياللهعنه ، يوما وقعة اليمامة ومن قتل فيها من المهاجرين والأنصار ، فقال : أحلت السيوف على أهل السوابق من المهاجرين والأنصار ، ولم نجد المعول يومئذ إلا عليهم ، خافوا على الإسلام أن يكسر بابه ، فيدخل منه إن ظهر مسيلمة ، فمنع الله الإسلام بهم ، حتى قتل عدوه وأظهر كلمته ، وقدموا يرحمهمالله ، على ما يسرون به من ثواب جهادهم من كذب على الله وعلى رسوله ، ورجع عن الإسلام بعد الإقرار به.
وفى رواية عنه : جعل منادى المسلمين ، يعنى يوم اليمامة ، ينادى : يا أهل الوجوه ، لو لا ما استدرك خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، من جمع القرآن لخفت أن لا يلتقى المسلمون وعدوهم فى موضع إلا استحر القتل بأهل القرآن.
ولما قتل ثابت بن قيس بن شماس يوم اليمامة ، ومعه كانت راية الأنصار يومئذ ، وهو خطيبهم وسيد من سادتهم ، أرى رجل من المسلمين فى منامه ثابت بن قيس يقول له : إنى موصيك بوصية ، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه ، إنى لما قتلت بالأمس جاء رجل من ضاحية نجد وعلىّ درع فأخذها ، فأتى بها منزله فأكفأ عليها برمة ، وجعل على البرمة رحلا ، وخباؤه فى أقصى العسكر ، إلى جنب خبائه فرس يستن فى طوله ، فائت خالد بن الوليد فأخبره فليبعث إلى درعى فليأخذها ، وإذا قدمت على خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأخبره أن علىّ من الدين كذا ولى من الدين كذا ، وسعد ومبارك غلاماى حران ، وإياك أن تقول هذا حلم ، فتضيعه.
فلما أصبح الرجل أتى خالد بن الوليد فأخبره ، فبعث خالد إلى الدرع فوجدها كما قال ، وأخبره بوصيته فأجازها ، ولا نعلم أحدا من المسلمين أجيزت ، وصيته بعد موته إلا ثابت بن قيس (١).
وقد روى أن بلال بن الحارث كان صاحب الرؤيا ، رواه الواقدى ، ثم قال بعقبه : فذكرته ، يعنى الحديث ، لعبد الله بن سعد ، فقال : حدثني عبد الواحد بن أبى عون ، قال:
__________________
(١) ذكر ابن عبد البر فى الاستيعاب هذا الخبر فى ترجمة ثابت رقم (٢٥٣).
قال بلال : رأيت فى منامى كأن سالما مولى أبى حذيفة قال لى ونحن منحدرون من اليمامة إلى المدينة : إن درعى مع الرفقة الذين معهم الفرس الأبلق ، تحت قدرهم ، فإذا أصبحت فخذها من تحت قدرهم ، فاذهب بها إلى أهلى ، وإن علىّ شيئا من دين ، فمرهم يقضونه ، قال بلال : فأقبلت إلى تلك الرفقة ، وقدرهم على النار ، فألفيتها وأخذت الدرع ، وجئت أبا بكر فحدثته الحديث ، فقال : نصدق قولك ، ونقضى دينه الذي قلت.
وقتل الله من بنى حنيفة يوم اليمامة عددا كثيرا ، ففى كتاب يعقوب الزهرى أنه قتل منهم أكثر من سبعة آلاف ، وعن غيره أنه أصيب يومئذ من صليب بنى حنيفة سبعمائة مقاتل ، وكان داؤهم خبيثا ، والطارئ منهم على الإسلام عظيما ، فاستأصل الله تعالى شأفتهم ، ورد ألفة الإسلام على ما كانت عليه على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
ذكر ردة بنى سليم
ذكر الواقدى من حديث سفيان بن أبى العوجاء السلمى ، قال : وكان عالما بردة قومه ، مع أنه كان من وعاة العلم ، وممن يوثق به فى الدين ، قال : أهدى ملك من ملوك غسان إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، لطيمة فيها مسك وعنبر ، وخيل ، فخرجت بها الرسل حتى إذا كانوا بأرض بنى سليم ، بلغتهم وفاة النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فتشجع بعض بنى سليم على أخذها والردة ، وأبى بعضهم من ذلك ، وقالوا : إن كان محمد قد مات ، فإن الله حى لا يموت ، وكان الذين ارتدوا منهم عصية وبنو عميرة وبنو عوف ، وبعض بنى جارية ، والذين انتهبوا اللطيمة فتمزقوها ، بنو الحكم بن مالك بن خالد بن الشريد.
فلما ولى أبو بكر كتب إلى معن بن حاجز (١) فاستعمله على من أسلم من بنى سليم ، وكان قد قام فى ذلك قياما حسنا ، ذكر وفاة النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وذكر الناس ما قال الله لنبيه عليهالسلام : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، وقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) الآية [آل عمران : ١٤٤] والتي قبلها ، مع آى من كتاب الله ، فاجتمع إليه بشر كثير من بنى سليم ، وانحاز أهل الردة منهم فجعلوا يغيرون على الناس ، ويقطعون السبيل ، فلما بدى لأبى بكر أن يوجه خالد بن الوليد إلى الضاحية ، كتب إلى معين بن حاجز أن يلحق بخالد بن الوليد هو ومن معه من المسلمين ، ويستعمل
__________________
(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٤٩٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٨٤٧٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٤٩٩).
على عمله طريفة بن حاجز ، ففعل ، وأقام طريفة يكالب من ارتد بمن معه من المسلمين ، يغير عليهم ويغيرون عليه ، إذ قدم الفجاءة ، وهو إياس بن عبد الله بن عبد ياليل بن عمير ابن خفاف ، على أبى بكر الصديق ، فقال : يا أبا بكر ، إنى مسلم ، وقد أردت جهاد من ارتد من الكفار ، فاحملنى وأعنى ، فإنه لو كان عندى قوة لم أقدم عليك ، ولكنى مضعف من الظهر والسلاح ، فسر أبو بكر بمقدمه ، فحمله على ثلاثين بعيرا ، وأعطاه سلاح ثلاثين رجلا ، فخرج يستعرض المسلم والكافر ، فيأخذ أموالهم ، ويصيب من امتنع مع قوم من أهل الردة قد تبعوه على ذلك ، لقد أغار على قوم بالأرحضية مسلمين ، جاءوا يريدون أبا بكر ، فسلبهم وقتلهم ، ومعه رجل من بنى الشريد ، يقال له : نجبة بن أبى المثنى.
فلما بلغ أبا بكر خبره وما صنع ، كتب إلى طريفة بن حاجز : بسم الله الرحمن الرحيم ، من أبى بكر خليفة رسول الله إلى طريفة بن حاجز ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأسأله أن يصلى على محمد صلىاللهعليهوسلم أما بعد ، فإن عدو الله الفجاءة أتانى ، فزعم أنه مسلم ، وسألنى أن أقويه على قتال من ارتد عن الإسلام ، فقويته ، وقد انتهى إلى الخبر اليقين أنه قد استعرض المسلم والمرتد ، يأخذ أموالهم ، ويقتل من امتنع منهم ، فسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله أو تأسره ، فتأتينى به فى وثاق إن شاء الله ، والسلام عليك ورحمة الله.
فقرأ طريفة كتاب أبى بكر على قومه المسلمين ، فحشدوا ، وساروا معه إلى الفجاءة ، فقدم إليهم نجبة بن أبى المثنى ، فناوش المسلمين ، وقتل نجبة ، وهرب من كان معه إلى الفجاءة ، ثم زحف طريفة إلى الفجاءة ، فتصادما ، وجعل المسلمون يرمون بالنبل ، ورمى أصحاب الفجاءة شيئا وهم منكسرون لما يرون من انكسار الفجاءة وندامته ، فقال : يا طريفة (١) والله ما كفرت ، وإنى لمسلم ، وما أنت بأولى بأبى بكر منى ، أنت أميره وأنا أميره ، قال طريفة : فإن كنت صادقا ، فألق السلاح ، ثم انطلق إلى أبى بكر فأخبره خبرك ، فوضع الفجاءة السلاح ، وأوثقه طريفة فى جامعة ، فقال طريفة : لا تفعل ، فإنك إن أقدمتنى فى وثاق أشعرتنى ، فقال طريفة : هذا كتاب أبى بكر إلى : أن ابعثك إليه فى وثاق ، فقال الفجاءة : سمعا وطاعة ، فبعث به فى جامعة مع عشرة من بنى سليم ، فأرسل به أبو بكر رضياللهعنه ، إلى بنى جشم ، فحرقه بالنار.
__________________
(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٣٠٨) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٢٦٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٦٠٥).
وقدم على أبى بكر رضياللهعنه ، قبيصة ، أحد بنى الضربان ، من بنى خفاف ، فذكر أن مسلم ، وأنه قومه لم يرتدوا ، فأمره أبو بكر أن يقاتل بمن معه من سليم على الإسلام من ارتد عنه منهم ، فرجع قبيصة إلى قومه ، فاجتمع إليه ناس كثير ممن ثبت على الإسلام ، فخرج يتبع بهم أهل الردة يقتلهم حيث وجدهم ، حتى مر ببيت خميصة بن الحكم الشريدى ، فوجده غائبا يجمع أهل الردة ، ووجد جارا له مرتدا ، فقتله ، واستاق ماله ومضى حتى نزل منزلا ، فذبح أصحابه شاة من غنم جار خميصة ، ثم راحوا ، ويقبل خميصة حتى أتى أهله ، فيخبروه خبر جاره ، فخرج فى طلب القوم حتى مر بمنزلهم حيث ذبحوا الشاة ، فيجد رأسها مملولا ، قد تركه القوم ، فأخذه ، فجعل ينهش منه ، وهو يطلبهم فأدركهم وهو ينهشه والدم يسيل على لحيته ، وكان رجلا أيدا ، فقال لقبيصة : قتلت جارى؟ قال : إن جارك ارتد عن الإسلام ، قال : فاردد ماله ، فرد قبيصة ماله ، فقال : وفقد الشاة التي ذبحوا ، فقال : أين الشاة التي ذبحت؟ فقال : لا سبيل إليها ، قد أكلها القوم وهم مستحقون لذلك فى طلب قوم كفروا بعد إسلامهم ، فقال : يا قبيصة ، أمن بين من كفر تعدو على جار لجأ إلى لأمنعه؟ فقال قبيصة : قد كان ذلك فاصنع ما أنت صانع ، فطعن قبيصة بالرمح ، فوقع فى واسط الرحل ، فدقه وانثنى سنان الرمح ، وخر قبيصة عن بعيره ، فقال لخميصة : إنك قد أشويتنى ، فاكفف ، فعدل خميصة سنان رمحه بين حجرين ثم شد على قبيصة ، وهو يقول : أكفف بعد قتل جارى ، لا والله أبدا ، فطعنه بالرمح فقتله وكان قبيصة قد فرق أصحابه ، وبثهم قبل أن يلحقه خميصة.
وكتب أبو بكر رحمهالله ، إلى خالد بن الوليد : أما بعد ، فإن أظفرك الله ببنى حنيفة ، فأقل اللبث فيهم حتى تنحدر إلى بنى سليم فتطؤهم وطأة يعرفون بها ما منعوا ، فإنه ليس بطن من العرب أنا أغيظ عليه منى عليهم ، قدم قادمهم يذكر إسلاما ويريد أن أعينه ، فأعنته بالظهر والسلاح ، ثم جعل يعترض الناس ، فإن أظفرك الله بهم فلا ألومك فيهم ، فى أن تحرقهم بالنار ، وتهول فيهم بالقتل ، حتى يكون نكالا لهم.
قالوا : فجعل خالد بن الوليد يبعث الطلائع أمامه ، وسمعت بنو سليم بمقبل خالد ، فاجتمع منهم بشر كثير يعرضون لهم ، وجلهم بنو عصية ، واستجلبوا من بقى من العرب مرتدا ، وكان الذي جمعهم أبو شجرة بن عبد العزى ، فانتهى خالد إلى جمعهم بالجواء مع الصبح ، فصاح خالد فى أصحابه ، وأمرهم بلبس السلاح ، ثم صفهم ، وصفت بنو سليم ، وقد كل المسلمون وعجف كراعهم ، وخفهم ، وجعل خالد يلى القتال بنفسه ، حتى أثخن فيهم القتل ، ثم حمل عليهم حملة واحدة ، فهربوا ، وأسر منهم بشر كثير ، فجعل
يضرب أحدهم على عاتقه فيجز له باثنين ، ويبدو سحره ، ويضرب الآخر من وسطه.
وفى حديث سفيان بن أبى العوجاء : أن خالدا خطر لهم الخطائر ، فحرقهم فيها بالنار ، وأصاب أبو شجرة يومئذ ، فى المسلمين وجرح جراحات كثيرة ، وقال فى ذلك أبياتا ، يقول فى آخرها :
فرويت رمحى من كتيبة خالد |
|
وإنى لأرجو بعدها أن أعمرا |
ولما قدم خالد على أبى بكر ، كان أول ما سأل عنه خبر بنى سليم ، فأخبره خالد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قدم على أبى بكر معاوية بن الحكم ، وأخوه خميصة مسلمين ، فقال أبو بكر لخميصة : أنت قتلت قبيصة ، ورجعت عن الإسلام؟ قال : إنه قتل جارى ، قال : وإن قتل جارك على ردة ، قتلته ، لن تفلت منى حتى أقتلك ، فقال أخوه : يا خليفة رسول الله ، كان يومئذ مرتدا كافرا موتورا ، وقد تاب اليوم وراجع ، ولكن نديه قال أبو بكر : فأخرج ديته ، فقال : أفعل يا خليفة رسول الله ، قال : فنعم الرجل كان قبيصة ، ونعم السبيل مات عليه.
ثم قال لمعاوية : وعمدتم يا بنى الشريد إلى لطيمة بعث بها إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فانتهبتموها ، وقلتم إن يقم بهذا الأمر رجل من قريش ، فلعمرى ليرضى أن تدخلوا فى الإسلام مع الناس ، فكيف يأخذكم بأمن الطريق إلى رجل قد مات ، فإن طلب ما أخذتم فإنما يطلبها أهل بيته ، فما كانوا يطلبون ذلك منكم وأنتم أخوالهم. قال معاوية : نحن نضمنها حتى نؤديها إليك ، فحمل أبو بكر ، معاوية اللطيمة التي أصابوها ، ووقت لهم شهرين أو ثلاثة.
قال : فأداها إلى أبى بكر ، ثم إن أبا شجرة أسلم ، ودخل فيما دخل فيه الناس ، فجعل يعتذر ويجحد أن يكون قال البيت المتقدم ، فلما كان زمن عمر بن الخطاب ، قدم أبو شجرة وأناخ راحلته بصعيد بنى قريظة ، وجاء من حرة شوران ، ثم أتى عمر وهو يقسم بين فقراء العرب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أعطنى ، فإنى ذو حاجة ، فقال : من أنت؟ قال : أنا أبو شجرة بن عبد العزى ، فقال له : يا عدو الله ، ألست الذي يقول :
فرويت رمحى من كتيبة خالد |
|
وإنى لأرجو بعدها أن أعمرا |
عمر الله سوء ما عشت لك يا خبيث ، ثم جعل يعلوه بالدرة على رأسه ، حتى سبقه عدوا ، وعمر فى طلبه ، فرجع أبو شجرة موليا إلى راحلته ، فارتحلها ، ثم شد بها فى حرة شوران راجعا إلى أرض بنى سليم ، فما استطاع أبو شجرة أن يقرب عمر حتى توفى ،
وإن كان إسلامه لا بأس به ، وكان إذا ذكر عمر ترحم عليه ، ويقول : ما رأيت أحدا أهيب من عمر بن الخطاب.
وقال أبو شجرة فيما كان من ذلك :
ضن علينا أبو حفص بنائله |
|
وكل مختبط يوما له ورق |
ما زال يرهقنى حتى خذيت له |
|
وحال من دون بعض البغية الشفق |
لما لقيت أبا حفص وشرطته |
|
والشيخ يقرع أحيانا فينحمق |
ثم ارعويت إلى وجناء كاشرة |
|
مثل الطريرة لم يثبت لها الأفق |
أقبلت الخيل من شوران صادرة |
|
أنى لأزرى عليها وهى تنطلق |
تطير مروا خطاها عن مناسمها |
|
كما ينقر عند الجهبذ الورق |
إذا يعارضها خرق تعارضه |
|
ورهاء فيها إذا استعجلتها خرق |
ينوء آخرها منها وأولها |
|
سرح اليدين معا نهاضة فتق |
وفى حديث هشام بن عروة عن أبيه : أن لقاء أبى شجرة عمر كان على غير ما تقدم ، وأن أبا شجرة قدم المدينة ، فأدخل راحلته بعض دورها ، ودخل المسجد متنكرا ، فاضطجع فيه ، وكان عمر رضياللهعنه ، قل شيء يظنه إلا كان حقا ، فبينا عمر جالسا فى أصحابه ، وأبو شجرة مضطجع ، قال عمر : إنى لأرى هذا أبا شجرة ، فقام حتى وقف عليه ، فقال : من أنت؟ قال : رجل من بنى سليم ، قال : انتسب ، قال : فلان بن عبد العزى ، قال : ما كنيتك؟ قال : أبو شجرة ، فعلاه بالدرة.
ثم ذكر من تقريره على قوله : فرويت رمحى البيت ، نحوا مما تقدم.
ردة البحرين (١)
حدث يعقوب الزهرى عن إسحاق بن يحيى ، عن عمه عيسى بن طلحة ، قال : لما ارتدت العرب بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال صاحب المدائن : من يكفينى أمر العرب ، فقد مات صاحبهم وهم الآن يختلفون بينهم ، إلا أن يريد الله بقاء ملكهم فيجتمعوا على أفضلهم ، فإنهم إن فعلوا صلح أمرهم ، وبقى ملكهم ، وأخرجوا العجم من أرضهم ، قالوا : نحن بذلك على أكمل الرجال ، قال : من؟ قالوا : مخارق بن النعمان ، ليس فى الناس مثله ، وهو من أهل بيت قد دوخوا العرب ودانت لهم ، وهؤلاء جيرانك بكر بن وائل ، فأرسل
__________________
(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٨٣ ـ ٨٥) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٠١) ، الأغانى (١٥ / ٢٥٥).
منهم ناسا مع مخارق ، فأرسل معه ستمائة من بكر بن وائل ، الأشرف فالأشرف ، وارتد أهل هجر عن الإسلام.
وعن الحسن بن أبى الحسن : أن الجارود قام فى قومه ، فقال : يا قوم ، ألستم تعلمون ما كنت عليه من النصرانية ، وإنى لم آتكم قط إلا بخير ، وإن الله تعالى بعث نبيه فنعى له نفسه وأنفسكم؟ فقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، وقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) [آل عمران : ١٤٤].
وفى حديث آخر ، أنه قام فيهم ، فقال : ما شهادتكم أيها الناس على موسى؟ قالوا: نشهد أنه رسول الله ، قال : فما شهادتكم على عيسى؟ قالوا : نشهد أنه رسول الله ، قال : وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، عاش كما عاشوا ، ومات كما ماتوا ، وأتحمل شهادة من أبى أن يشهد على ذلك ، فلم يرتد من عبد القيس أحد.
وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال حين وفدوا عليه : «عبد القيس خير أهل المشرق ، اللهم اغفر لعبد القيس ثلاثا ، وبارك لهم فى ثمارهم» ، فخرجوا مسرورين بدعوته وأهدوا له من طرائف ثمارهم ، وثبتوا على الإسلام حين الردة.
وكان النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، استعمل أبان بن سعيد بن العاص (١) على البحرين ، وعزل العلاء بن الحضرمى ، فسأل أبان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أن يحالف عبد القيس ، فأذن له ، فحالفهم ، فلما بلغ أبان بن سعيد مسير من سار إليه مرتدين ، قال لعبد القيس : أبلغونى مأمنى ، فأشهد أمر أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فليس مثلى يغيب عنهم ، فأحيا بحياتهم ، وأموت بمماتهم ، فقالوا : لا تفعل ، فأنت أعز الناس علينا ، وهذا علينا وعليك فيه مقالة ، يقول قائل : فر من القتال ، فأبى وانطلق معه ثلاثمائة رجل يبلغونه المدينة ، فقال أبو بكر لأبان : ألا ثبت مع قوم لم يبدلوا ولم يرتدوا؟ فقال : ما كنت لأعمل لأحد بعد رسول اللهصلىاللهعليهوسلم.
وذكر أبان من عبد القيس خيرا ، فدعا أبو بكر العلاء بن الحضرمى ، فبعثه إلى البحرين ، فى ستة عشر راكبا ، وقال : امض ، فإن أمامك عبد القيس ، فسار حتى بلغهم ، ومر بثمامة بن أثال الحنفى ، فأمده برجال من قومه بنى سحيم ، ولحق به ثمامة ، فخرج
__________________
(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٤) ، الإصابة الترجمة رقم (٢) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢) ، نسب قريش (١٧٤ ، ١٧٥) ، طبقات خليفة (٢٩٨) ، الجرح والتعديل (٢ / ٢٩٥) ، تاريخ الإسلام (١ / ٣٧٦ ، ٣٧٨).
العلاء بمن معه حتى نزل بحصن يقال له جواثى ، وكان مخارق قد نزل بمن معه من بكر بن وائل المشقر ، فسار إليهم العلاء فيمن اجتمع إليه من المسلمين ، فقاتلهم قتالا شديدا ، حتى كثرت القتلى وأكثرها فى أهل الردة ، والجارود بالخط يبعث البعوث إلى العلاء ، وبعث مخارق الخطم بن شريح ، أحد بنى قيس بن ثعلبة إلى مرزبان الخط يستمده ، فأمده بالأساورة ، فنزل الخطم ردم الفلاح ، وكان حلف أن لا يشرب الخمر حتى يرى هجر ، فقالوا له : هذه هجر ، وأخذ المرزبان الجارود رهينة عنده ، وقال عبد الرحمن بن أبى بكرة : أخذ الخطم الجارود ، فشده فى الحديد ، وسار الخطم وأبجر بن العجلى فيمن معهما حتى حصروا العلاء بن الحضرمى بجواثى. فقال عبد الله بن حذف أحد بنى عامر بن صعصعة :
ألا أبلغ أبا بكر رسولا |
|
وسكان المدينة أجمعينا |
فهل لكم إلى نفر يسير |
|
مقيم فى جواثى محصرينا |
كأن دماءهم فى كل شمس |
|
شعاع الشمس يغشين العيونا |
توكلنا على الرحمن إنا |
|
وجدنا النصر للمتوكلينا (١) |
فمكثوا على ذلك محصورين ، فسمع العلاء وأصحابه ذات ليلة لغطا فى عسكر المشركين ، فقالوا : والله لوددنا أن لو علمنا أمرهم ، فقال عبد الله بن حذف : أنا أعلم لكم علمهم ، فدلونى بحبل ، فدلوه ، فأقبل حتى يدخل على أبجر بن جابر العجلى ، وأم عبد الله امرأة من بنى عدل ، فلما رآه أبجر ، قال : ما جاء بك ، لا أنعم الله بك علينا؟ قال : يا خالى ، الضرر والجوع وشدة الحصار ، وأردت اللحاق بأهلى ، فزودنى. قال أبجر : أفعل ، على أنى أظنك والله على غير ذلك ، بئس ابن الأخت سائر الليلة ، فزوده وأعطاه نعلين ، وأخرجه من العسكر ، وخرج معه حتى برزا ، فقال له : انطلق ، فإنى والله لأراك بئس ابن الأخت أنت هذه الليلة ، فمض ابن حذف كأنه لا يريد الحصن ، حتى أبعد ، ثم عطف فأخذ بالحبل ، فصعد الحصن ، فقالوا : ما وراءك؟ قال : ورائى والله أنى تركتهم سكارى لا يعقلون ، قد نزل بهم تجار من تجار الخمر ، فاشتروا منهم ثم وقعوا فيها ، فإن كانت لكم حاجة بهم فالليلة ، فنزل إليهم المسلمون ، فبيتوهم ، ووضعوا فيهم سلاحهم حيث شاءوا(٢).
وقال إسحاق بن يحيى بن طلحة فى حديثه : كان العلاء فى ثلاثمائة وستة وعشرين
__________________
(١) انظر الأبيات فى : البداية والنهاية (٦ / ٣٢١).
(٢) راجع ما ذكره ابن كثير فى البداية (٦ / ٣٢٠ ـ ٣٢٣).
من المهاجرين ، فطرقوهم ، فوجدوهم قد ثملوا ، فقتلوهم ، فلم يفلت منهم أحد ، ووثب الخطم وهو سكران ، فوضع رجله فى ركاب فرسه ، ثم جعل يقول : من يحملنى ، فسمعه عبد الله بن حذف ، فأقبل نحوه وهو يقول : أبا ضبيعة؟ قال : نعم ، قال : أنا أحملك ، فلما دنا منه ابن حذف ضربه حتى قتله ، وقطعت رجل أبجر بن جابر العجلى فمات منها وقد كان قال حين قطعت : قاتلك الله يا ابن حذف ، ما أشأمك ، وقد قيل إن عفيف بن المنذر ، أحد بنى عمرو بن تميم ، هو الذي سمع كلام الخطم حين رام الركوب ، فلم يستطع ، فقال : ألا رجل من بنى قيس بن ثعلبة يعقلنى الليلة ، فقال له عفيف وقد عرف صوته : أبا ضبيعة ، أعطنى رجلك ، فأعطاه إياها ، يظن أنه يعقله على فرسه ، فأطنها من الفخذ وتركه ، فقال : أجهز على ، فقال : إنى أحب أن لا تموت حتى أمصك ، وكان مع عفيف تلك الليلة عدة من بنى أبيه أصيبوا.
وقتل ليلتئذ مسمع بن سنان ، أبو المسامعة ، وانهزم الباقون ، حتى صاروا فى ناحية من البحرين فعصموا بمفروق الشيبانى.
قال إسحاق : وأصبح ما أفاء الله على المسلمين من خيولهم ، وما سوى ذلك عند العلاء فى حصن جواثى ، ثم صار العلاء إلى المدينة فقاتلهم قتالا شديدا ، وهزمهم الله حتى لجئوا إلى باب المدينة ، فضيق عليهم ، فلما رأى ذلك مخارق ومن معه ، قالوا : إن خلوا عنا رجعنا من حيث جئنا ، فشاور العلاء أصحابه ، فأشاروا عليه أن يخلى عنهم ، فخرجوا فلحقوا ببلادهم ، وبقى أهل المدينة ، فطلبوا الصلح والأمان ، فصالحهم العلاء على ثلث ما فى أيديهم بالمدينة من أموالهم ، وما كان من شيء خارج منها ، فهو له ، فبعث العلاء بمال كثير إلى المدينة.
وفى غير هذا الحديث أن عبد القيس لما أوقعوا تلك الليلة ببكر بن وائل ، طفقت بكر تنادى : يا عبد القيس ، إياكم مفروق بن عمرو فى جماعة بكر بن وائل ، فقال عبد الله بن حذف فى ذلك :
لا توعدونا بمفروق وأسرته |
|
إن يأتنا يلق منا سنة الخطم |
النخل ظاهرها خيل وباطنها |
|
خيل تكردس بالفرسان كالنعم |
وإن ذا الحى من بكر وإن كثروا |
|
لأمة داخلون النار فى أمم |
ثم سار العلاء بن الحضرمى إلى الخط حتى نزل على الساحل ، فجاءه نصرانى ، فقال له : ما لي إن دللتك على مخاضة تخوض منها الخيل إلى دارين ، قال : وما تسألنى؟ قال : أهل
بيت بدارين ، قال : هم لك ، فخاض به وبالخيل إليهم ، فظفر عليهم عنوة ، وسبى أهلها ، ثم رجع إلى عسكره.
وقال إبراهيم بن أبى حبيبة : حبس لهم البحر حتى خاضوه إليهم ، وجازه العلاء وأصحابه مشيا على أرجلهم ، وقد تجرى فيه السفن قبل ، ثم جرت فيه بعد ، فقاتلهم ، فأظفره الله بهم ، وسلموا له ما كانوا منعوا من الجزية التي صالحهم عليها رسول اللهصلىاللهعليهوسلم.
ويروى أنه كان للعلاء بن الحضرمى ومن كان معه جوار إلى الله تعالى فى خوض هذا البحر ، فأجاب الله دعائهم ، وفى ذلك يقول عفيف بن المنذر ، وكان شاهدا معهم (١) :
ألم تر أن الله ذلل بحره |
|
وأنزل بالكفار إحدى الجلائل |
دعونا الذي شق البحار فجاءنا |
|
بأعظم من غلق البحار الأوائل |
وفى حديث غيره ، قال : لما رأى ذلك أهل الردة من أهل البحرين سألوه الصلح على ما صالح عليه أهل حجر.
ولما ظهر العلاء بن الحضرمى على أهل الردة والمجوس من أهل البحرين ، أقام عليها أميرا ، وبعث أربعة عشر رجلا من رؤساء عبد القيس وفدا إلى أبى بكر الصديق رضياللهعنه ، فنزلوا على طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ، وأخبروهما بمسارعتهم إلى الإسلام وقيامهم فى الردة ، ثم دخل القوم على أبى بكر ، وحضر الزبير وطلحة رضياللهعنهم ، فقالوا : يا خليفة رسول الله ، إنا قوم أهل إسلام ، وليس شيء أحب إلينا من رضاك ، ونحن نحب أن تعطينا أرضا من أرض البحرين وطواحين ، فأبى أبو بكر ، فكلمه فى ذلك طلحة والزبير ، فأذعن ، وقال : اشهدوا أنى قد فعلت وأعطيتهم كل ما سألونى ، وعرفت لهم قدر إسلامهم ، فجزوه خيرا.
فلما خرجوا من عنده ، قال لهم طلحة : إن هذا الأمر لا نراه يليه بعد أبى بكر إلا عمر ، فكلموا أبا بكر يكتب لكم كتابا ، ويشهد فيه عمر ، فلا يكون لعمر بعد هذا اليوم كلام ، فعادوا إلى أبى بكر ، فذكروا له ذلك ، فدعا عبد الله بن الأرقم ، فقال : اكتب لهم بهذا الذي أعطيتهم ، ففعل ، وشهد فى الكتاب عشرة من قريش والأنصار ، ولم يكن عمر بن الخطاب حاضرا ، فانطلقوا إليه ، فأقرءوه الكتاب ، فلما قرأه فض الخاتم ثم تفل
__________________
(١) انظر الأبيات فى : البداية والنهاية (٦ / ٣٢٣).
فيه ، ورده عليه ، فأقبل الوفد على طلحة ، فقالوا : هذا عملك أنت ، أمرتنا أن نشهد عمر ، واتهموه فى أمرهم ، فقال طلحة : والله ما أردت إلا الخير ، فرجعوا إلى أبى بكر غضابا ، فخبروه الخبر ، ودخل طلحة والزبير ، فقالا : والله ما ندرى أنت الخليفة أم عمر ، فقال أبو بكر : وما ذاك؟ فأخبروه ، فقال : فما صنع عمر بالكتاب؟.
قالوا : فض الخاتم وتفل فى الكتاب ومحاه ، فقال أبو بكر : لئن كان عمر كره من ذلك شيئا ، فإنى لا أفعله ، فبينما هم كذلك إذ جاء عمر ، فقال له أبو بكر : ما كرهت من هذا الكتاب؟ فقال : كرهت أن تعطى الخاصة دون العامة ، ولكن اجعل أمر الناس واحدا لا يكون عندك خاصة دون عامة ، وإلا فأنت تقسم على الناس فيئهم ، فتأبى أن تفضل أهل السابقة وأهل بدر وتعطى هؤلاء قيمة عشرين ألفا دون الناس ، فقال أبو بكر : وفقك الله وجزاك خيرا ، فهذا هو الحق.
وذكر وثيمة بن موسى : أن بكر بن وائل لما خفت عند ردة العرب بعد وفاة النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، قالوا : والله لنردن هذا الملك إلى آل النعمان بن المنذر ، فبلغ ذلك كسرى ، فبعث فى وجوههم ، فقدموا عليه وعنده يومئذ المخارق بن النعمان وهو المنذر بن النعمان بن المنذر ، وكان يسمى الغرور ، فقال لهم : سيروا مع المنذر بن النعمان ، فإنى قد ملكته ، فخذوا البحرين ، فساروا ، وسارت معه الأساورة ، وهم يومئذ ستة آلاف راكب ، ثم إن كسرى ندم على تمليك المنذر وتوجيه من وجه معه ، وقال : غلام موبق ، قتلت أباه ، معه كتيبة النعمان من بكر بن وائل يأتون إخوتهم من عبد القيس ، وهو غلام فتى السن لم يختبر ، هذا خطأ من الرأى ، فصرفه إليه ، وانكسر المنذر للذى صنع به ، ثم عاود كسرى رأيه فيه لكلام بلغه عنه ، فأمضاه وسرح معه أبجر بن جابر العجلى ، ثم ذكر حديثا طويلا تتخلله أشعار كثيرة لم أر لذكر شيء منها وجها ، واستغنيت من حديثهم بما تقدم منه.
وذكر أن المنذر لما كان من ظهور الإسلام ما تقدم ذكره هرب إلى الشام ، فلحق ببنى جفنة ، وندم على ما مضى منه ، ثم ألقى الله فى قلبه الإسلام ، فأسلم ، فكان بعد إسلامه ، يقول : لست بالغرور ولكنى المغرور ، هذا ما ذكره وثيمة فى شأن الغرور.
وذكر سيف فى فتوحه وحكاه الدارقطنى عنه ، قال : الغرور بن سويد أسر يوم البحرين ، أسره عفيف بن المنذر وأجاره ، فأتى به العلاء بن الحضرمى ، فقال : إنى قد أجرت هذا ، قال : ومن هو؟ قال : الغرور ، قال : أنت غررت هؤلاء؟ قال : إنى لست
بالغرور ولكنى المغرور ، قال : أسلم ، فأسلم ، وبقى بهجر ، وكان اسمه الغرور وليس بلقب.
ذكر ردة أهل دبا وأزد عمان (١)
وكان وفد الأزد من أهل دبا قد قدموا على النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، مقرين بالإسلام ، فبعث عليهم مصدقا منهم ، يقال له حذيفة بن اليمان الأزدى ، من أهل دبا ، وكتب له فرائض صدقات أموالهم ، ورسم له أخذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم ، ففعل حذيفة ذلك ، وبعث إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بفرائض فضلت من صدقاتهم لم يجد لها موضعا ، فلما توفى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، منعوا الصدقة وارتدوا ، فدعاهم حذيفة إلى التوبة ، فأبوا ، وأسمعوه شتم النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فقال : يا قوم ، أسمعونى الذي فى أبى وفى أمى ، ولا تسمعونى الأذى فى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأبوا إلا ذلك ، وجعلوا يرتجزون :
لقد أتانا خير ردى |
|
أمست قريش كلها نبى |
ظلم لعمر الله عبقرى (٢) |
فكتب حذيفة إلى أبى بكر الصديق بما كان منهم ، فاغتاظ أبو بكر عليهم غيظا شديدا ، وقال : من هؤلاء ، ويل لهم ، ثم بعث إليهم عكرمة بن أبى جهل ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، استعمله على سفلى بن عامر بن صعصعة مصدقا ، فلما بلغته وفاة النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، انحاز إلى تبالة فى أناس من العرب ثبتوا على الإسلام ، فكان مقيما بتبالة من أرض كعب بن ربيعة ، فجاءه كتاب أبى بكر الصديق وكان أول بعث بعثه إلى أهل الردة ، أن سر فيمن قبلك من المسلمين إلى أهل دبا ، فسار عكرمة فى نحو ألفين من المسلمين ، ورأس أهل الردة لقيط بن مالك ، فلما بلغه مسير عكرمة بعث ألف رجل من الأزد يلقونه ، وبلغ عكرمه أنهم فى جموع كثيرة ، فبعث طليعة ، وكان لأصحاب لقيط أيضا طليعة ، فالتقى الطليعتان فتناوشوا ساعة.
ثم انكشف أصحاب لقيط ، وبعث أصحاب عكرمة فارسا نحو عكرمة ، فلما أتاه الخبر أسرع بأصحابه ومن معه حتى لحق طليعته ، ثم زحفوا جميعا ميمنة وميسرة ، وسار
__________________
(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٨٥) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣١٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٢٣ ـ ٣٢٥).
(٢) انظر الأبيات فى : الروض المعطار ص (٢٣٢).
على تعبئته حتى إذا أدرك القوم والتقوا فاقتتلوا ساعة ، ثم رزق الله عكرمة عليهم الظفر ، فهزمهم وأكثر فيهم القتل ، وخرجوا منهزمين راجعين إلى لقيط بن مالك ، فأخبروه أن جمع عكرمة مقبل إليهم ، وأنهم لا طاقة لهم بهم ، وفقدوا من أصحابهم بشرا كثيرا ، منهم من قتل ومنهم من أسره عكرمة أسرا.
فلما انتهوا إلى لقيط مفلولين قوى حذيفة بن اليمان بمن معه من المسلمين ، فناهضهم وناوشهم ، وجاء عكرمة فى أصحابه ، فقاتل معهم ، فأصابوا منهم مائة أو نحوها فى المعركة ، ثم انهزموا حتى دخلوا مدينة دبا (١) ، فتحصنوا فيها ، وحصرهم المسلمون فى حصنهم شهرا أو نحوه ، وشق عليهم الحصار ، إذ لم يكونوا أخذوا له أهبته ، فأرسلوا إلى حذيفة رجلا منهم يسألونه الصلح ، فقال : لا إلا أن أخيرهم بين حرب مجلية أو سلم مخزية ، قالوا : أما الحرب المجلية فقد عرفناها ، فما السلم المخزية؟.
قال : تشهدون أن قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار ، وأن ما أخذنا منكم فهو لنا وأن ما أخذتموه منا فهو رد علينا ، وأنا على حق وأنكم على باطل وكفر ونحكم فيكم بما رأينا ، فأقروا بذلك ، فقال : اخرجوا عن مدينتكم عزلا لا سلاح معكم ، ففعلوا ، فدخل المسلمون حصنهم ، فقال حذيفة : إنى قد حكمت فيكم : أن أقتل أشرافكم ، وأسبى ذراريكم. فقتل من أشرافهم مائة رجل ، وسبى ذراريهم ، وقدم حذيفة بسبيهم إلى المدينة وهم ثلاثمائة من المقاتلة ، وأربعمائة من الذرية والنساء ، وأقام عكرمة بدبا عاملا عليها لأبى بكر ، فلما قدم حذيفة بسبيهم المدينة ، اختلف فيهم المسلمون ، فكان زيد بن ثابت يحدث أن أبا بكر أنزلهم دار رملة بنت الحارث ، وهو يريد أن يقتل من بقى من المقاتلة.
فكان من كلام عمر له : يا خليفة رسول الله ، قوم مؤمنون إنما شحوا على أموالهم ، والقوم يقولون : والله ما رجعنا عن الإسلام ، ولكن شححنا على أموالنا ، فيأبى أبو بكر أن يدعهم بهذا القول ، ولم يزالوا موقفين فى دار رملة بنت الحارث ، حتى توفى أبو بكر رضياللهعنه ، وولى عمر ، فدعاهم ، فقال : قد كان من رأيى يوم قدم بكم على أبى بكر أن يطلقكم ، وقد أفضى إلى الأمر ، فانطلقوا إلى أى البلاد شئتم ، فأنتم قوم أحرار لا فدية عليكم ، فخرجوا حتى نزلوا البصرة ، وكان فيهم أبو صفرة والد المهلب ، وهو غلام يومئذ ، فكان ممن نزل البصرة.
__________________
(١) دبا : مثل عصا ، موضع بظهر الحيرة ، ودبا فيما بين عمان والبحرين. انظر : الروض المعطار (٢٣٢).
وروى عن ابن عباس : أن رأى المهاجرين فيهم إذا استأسرهم أبو بكر ، كان قتلهم ، أو فداءهم بأغلى الفداء ، وكان عمر يرى أن لا قتل عليهم ولا فداء ، لم يزالوا محتبسين حتى ولى عمر ، فأرسلهم بغير فداء.
ويروى عن عمر بن عبد العزيز : أن عمر بن الخطاب قضى فيهم بأربعمائة درهم فداء ، ثم نظر فى ذلك ، فقال : لا سباء فى الإسلام وهم أحرار ، والأول أكثر.
وعن عروة قال : لما قدم أهل غزو دبا قافلين ، أعطاهم أبو بكر خمسة دنانير خمسة دنانير (١).
ذكر ردة صنعاء
وكان الأسود بن كعب العنسى (٢) قد ادعى النبوة فى عهد النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، واتبع على ذلك ، فتزوج المرزبانة امرأة باذان الفارسى ، وكانت من عظماء فارس ، وقسرها على ذلك ، فأبغضته أشد البغض ، وسمعت به بنو الحارث بن كعب ، من أهل نجران ، وهم يومئذ مسلمون ، فأرسلوا إليه يدعونه أن يأتيهم فى بلادهم ، فجاءهم ، فاتبعوه وارتدوا عن الإسلام.
ويقال : دخلها يوم دخلها فى آلاف من حمير ، يدعى النبوة ، ويشهدون له بها ، فنزل غمدان ، فلم يتبعه من النخع ولا من جعفى أحد ، وتبعه ناس من زبيد ومذحج ، وعبس وبنى الحارث وأود ومسلية وحكم.
وأقام الأسود بنجران يسيرا ، ثم رأى أن صنعاء خير له من نجران ، فسار إليها فى ستمائة راكب من بنى الحارث ، فنزل صنعاء ، فأبت الأبناء أن يصدقوه ، فغلب على صنعاء واستذل الأبناء بها ، وقهرهم وأساء جوارهم لتكذيبهم إياه ، فبعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، رجلا من الأزد ، وقيل من خزاعة ، يقال له وبر بن يحنس إلى الأبناء فى أمر الأسود ، فدخل صنعاء مختفيا ، فنزل على داذويه الأبناوى فخبأه عنده ، وتآمرت الأبناء لقتل الأسود ، فتحرك فى قتله نفر منهم قيس بن عبد يغوث المكشوح ، وفيروز الديلمى ، وداذويه الأبناوى ، وكانت المرزبانة كما تقدم قد أبغضت الأسود أشد البغض ، فوعدتهم
__________________
(١) ذكر فى الروض المعطار جميع ما فى هذه القصة (٢٣٢ ـ ٢٣٤).
(٢) اسمه : عبهلة بن كعب ، يقال له : ذو الخمار ، لقب بذلك لأنه كان يقول : يأتينى ذو خمار. انظر ترجمته فى المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٨ ـ ٢٠).
موعدا أتوا لميقاته ، وقد سقته الخمر حتى سكر ، فسقط نائما كالميت ، فدخل عليه فيروز وقيس ونفر معهما ، فوجدوه على فراش عظيم من ريش ، قد غاب فيه ، فأشفق فيروز أن يتعادى عليه السيف إن ضربه به ، فوضع ركبته على صدر الكذاب ، ثم فتل عنقه فحولها ، حتى حول وجهه من قبل ظهره ، وأمر فيروز قيسا ، فاحتز رأسه ، فرمى به إلى الناس ، ففض الله الذين اتبعوه ، وألقى عليهم الخزى والذلة ، وخطب الناس قيس بن مكشوح ، وأظهر أن الكذاب قتل بكذبه على الله ، وأن محمدا رسول الله.
وبلغ الخبر بذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو فى مرضه الذي توفى فيه ، فقال صلىاللهعليهوسلم ، وذكر الأسود : «قتله الرجل الصالح فيروز الديلمى» (١) ، ورد فيروز وداذويه الأمر إلى قيس بن المكشوح ، فكان أمير صنعاء ، وبها يومئذ جماع من أصحاب الأسود الكذاب ، فلما بلغتهم وفاة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثبت قيس والأبناء وأهل صنعاء على الإسلام ، إلا أصحاب الأسود.
ثم إن قيسا خاف فيروز وداذويه أن يغلباه على سلطان صنعاء ، فأجمع أن يفتك بهما ، فأرسل إليهما يدعوهما ، فجاء داذويه فقتله ، وأقبل فيروز يريده ، فأخبره بقتل داذويه ، فهرب منه إلى أبى بكر رضياللهعنه ، وارتد قيس بن المكشوح ، وأخرج الأبناء من صنعاء ، فلم يبق بها أحد إلا فى جوار ، فكان الشعبى يقول فيما ذكر عنه : باليمن رجلان لو انبغى لأحد أن يسجد لشىء دون الله لانبغى لأهل اليمن أن يسجدوا لهما : سيف بن ذى يزن فى الحبشة ، وقيس بن مكشوح فى الأبناء الذين بصنعاء ، يعنى إخراج سيف الحبشة وإخراج قيس الأبناء.
ولما بلغ خالد بن سعيد بن العاص ردة صنعاء ، سار يومها ، وكان فى ناحية أرض مراد ، حتى دخلها ، فاستعداه فيروز على قيس فى قتل داذويه ، فبعث إليه من يأتى به ، فذهب الرسول فأخذه ، ثم أقبل به حتى إذا كان قريبا من صنعاء اختدع قيس الرسول حتى انفلت منه فدخل على خالد فقال : من جاءكم مسلما قد أصاب فى الجاهلية أشياء ما ذا عليه؟ فقال له خالد : هدم الإسلام ما قبله ، فأسلم قيس ، ثم خرج مع خالد إلى الصلاة فيجد فيروز فى المسجد ، فقال له : يا فيروز ، هل لك حاجة إلى الأمير؟.
فانكسر فيروز ودخل على خالد فاستعداه على قيس ، فبعث أبو بكر إلى عكرمة بن أبى جهل ، وهو يومئذ بأرض عمان : أن سر فى بلاد مهرة حتى تخرج على صنعاء ، فخذ
__________________
(١) انظر الحديث فى : كنز العمال للمتقى الهندى (٣٧٤٧٢).
قيس بن مكشوح المرادى ، فابعث به إلى فى وثاق ، فسار عكرمة حتى دخل أرض مهرة ، فقتل فيهم وسبى ، وسار كذلك لا يطأ قوما إلا قاتلوه وقاتلهم ، فقتل منهم وسبى ، حتى رجعوا إلى الإسلام ، وبعث بسبيهم إلى أبى بكر بالمدينة ، ثم مضى على وجهه حتى خرج إلى صنعاء ، فلقيه قيس وهو لا يدرى بالذى أمر فيه ، فأمر به عكرمة ، فجعل فى جامعة ، وبعث به إلى أبى بكر ، فلما دخل عليه عرفه أبو بكر بقتل داذويه ، فحلف له ما يدرى من أمره شيئا ، ولا يدرى من قتله ، ورغب فى الجهاد فى سبيل الله ، فخرج إلى قومه من مذحج ، فاستجلبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه ، فخفوا فى ذلك وخرجوا حتى توجهوا إلى من بعث أبو بكر إلى الشام ، فذلك أول نزول مذحج الشام.
ثم إن الأصفر العكى خرج هو وجماعة من قومه ممن ثبت على الإسلام حتى دخل نجران (١) ، وهو يريد قتال بنى الحارث بن كعب ، فلما دخل عليهم الأصفر رجعوا إلى الإسلام من غير قتال ، فأقام الأصفر فى نجران ، وضبطها ، وغلب عليها ثم أمر أبو بكر المهاجر بن أبى أمية أن يستنفر من مر به من مضر ويقويهم ويعطيهم من مال أعطاه إياه أبو بكر ، فسار المهاجر يؤم صنعاء ، معه سرية من المهاجرين والأنصار ، فيجد المهاجر بنجران الأصفر العكى ، ثم سار المهاجر إلى صنعاء ومعه بشر كثير ، فلقى جماعة من أصحاب الأسود منفصين ، فأخذ عليهم الطريق وألجأهم إلى غيضة ، فقتل منهم وأسر ، ثم أقبل بالأسرى ، ومضى حتى دخل صنعاء ، وقد كانت طوائف من زبيد (٢) ارتدت منهم عمرو بن معدى كرب ، فاجتمع إلى خالد بن سعيد من ثبت على الإسلام من مراد وسائر مذحج ، فلقى بهم بنى زبيد ، فانهزموا وظفر بهم خالد ، فسبى منهم نسوة ، منهن امرأة عمرو بن معدى كرب جلالة ، وكانت أحسن النساء ، وكان عمرو فيما ذكروا ، غائبا عن ذلك القتال ، فلما ظفر خالد ، سألت منه زبيد أن يقرهم على الإسلام ويكف عنهم ، فكف عنهم ، وأسلموا ، وبلغ الخبر عمرا ، فأقبل حتى نزل بجانب عسكر خالد ، ثم خرج ليلا فتلطف حتى لقى جلالة ، فقال لها : يا جلالة ، ما صنع بك خالد؟ فقالت : لم يصنع بى إلا خيرا ، ولم يعرض علىّ من أمره إلا كرما ، قال : هل قربك؟ قالت : لا والله ، وما يحل له ذلك فى دينه ، قال : فو رب الكعبة إن دينا منعه منك لدين صدق.
__________________
(١) نجران : من بلاد اليمن ، سميت بنجران بن زيد بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. انظر : الروض المعطار (٥٧٣ ـ ٥٧٦).
(٢) زبيد : مدينة باليمن بقرب الجند ومعاثر ، تسير فى صحراء رمال حتى تنتهى إلى زبيد ، وليس باليمن بعد صنعاء أكبر من زبيد. انظر : الروض المعطار (٢٨٤) ، نزهة المشتاق (٢٠).
فلما أصبح عمرو غدا على خالد ، فقال : ما تريد يا خالد بجلالة؟ قال : قد أسلمت ، فإن تسلم أردها إليك ، فأسلم عمرو ، فردها إليه.
وقدم خالد المدينة ، ثم قدم عمرو بن معدى كرب المدينة ، فدخل على خالد داره ، فقال له : إنى والله ما وجدت شيئا أكافئك به فى جلالة إلا سيفى الصمصامة ، ثم خلعه من عنقه فناوله إياه ، وقال عمرو :
وهبت لخالد سيفى ثوابا |
|
على الصمصامة السيف السلام |
خليل لم أخنه ولم يخنى |
|
ولكن التواهب فى الكرام |
ذكر ردة كندة وحضرموت
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لما قدم عليه وفد كندة مسلمين استعمل عليهم زياد بن لبيد الأنصاري البياضى (١) ، وأمره بالمسير معهم ، ففعل ، وأقام معهم فى ديارهم يأخذ صدقاتهم حياة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان رجلا مسلما ، فلما توفى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وولى أبو بكر ، بعث أبا هند مولى بنى بياضة ، بكتاب فيه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من أبى بكر خليفة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، إلى زياد بن لبيد ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد ، فإن النبيّ صلىاللهعليهوسلم توفى ، فإنا لله ، وإنا إليه راجعون ، فانظر ولا قوة إلا بالله أن تقوم قيام مثلك ، ويبايع من عندك ، فمن أبى وطئته بالسيف ، وتستعين بمن أقبل على من أدبر ، فإن الله مظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
فلما قدم أبو هند بكتاب أبى بكر رحمهالله ، على زياد بن لبيد ، قدم من الليل ، وأخبره باجتماع الناس على أبى بكر ، وأنه لم يكن بين المسلمين اختلاف ، فحمد الله زياد على ذلك ، فلما أصبح زياد غدا يقرئ الناس كما كان يفعل قبل ذلك ، ثم دخل بيته ، فلما جاءت الظهر ، خرج إلى الصلاة وعليه السيف ، فقال بعض الناس : ما شأن أميركم والسيف ، فصلى الظهر بالناس ، ثم قال :
__________________
(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٨٣٩) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٨٧١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٨٠٩) ، التاريخ الكبير (٣ / ٣٤٤) ، أنساب الأشراف (١ / ٢٤٥) ، الجرح والتعديل (٣ / ٥٤٣) ، تهذيب الكمال (٩ / ٥٠٦) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٣٨٢) ، الوافى بالوفيات (١٥ / ١٠) ، تاريخ الإسلام (١ / ٥٢) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٩٥).
أيها الناس ، إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم توفى ، فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد توفى ، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ، وقد اجتمع المسلمون على أفضلهم من أنفسهم ولم يكن بينهم اختلاف فى أبى بكر بن أبى قحافة ، وقد كان النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، يأمره فى مرضه أن يصلى بالناس ، فبايعوا أيها الناس ، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا.
فقال الأشعث بن قيس : إذا اجتمع الناس ، فما أنا إلا كأحدهم ، ونكص عن التقدم إلى البيعة ، فقال امرؤ القيس بن عابس الكندى : أنشدك الله يا أشعث ، ووفادتك على النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وإسلامك أن تنقضه اليوم ، والله ليقومن بهذا الأمر من بعده من يقتل من خالفه ، فإياك إياك ، أبق على نفسك فإنك إن تقدمت تقدم الناس معك ، وإن تأخرت افترقوا واختلفوا ، فأبى الأشعث ، وقال : قد رجعت العرب إلى ما كانت الآباء تعبد ، ونحن أقصى العرب دارا من أبى بكر ، أيبعث أبو بكر إلينا الجيوش؟ قال : أى والله ، وأحرى أن لا يدعك عامل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ترجع إلى الكفر.
قال الأشعث : من قال زياد بن لبيد ، فتضاحك ، ثم قال : أما يرضى زياد أن أجيره ، فقال امرؤ القيس : سترى ، ثم قام الأشعث ، فخرج من المسجد إلى منزله ، وقد أظهر ما أظهره من الكلام القبيح من غير أن يكون نطق بالردة ، ووقف يتربص ، وقال : نقف أموالنا بأيدينا ولا ندفعها ، ونكون من آخر الناس ، وبايع زياد بن لبيد لأبى بكر من بعد الظهر إلى أن قامت العصر ، فصلى بالناس العصر ، ثم انصرف إلى بيته ، ثم غدا على الصدقة من الغد كما كان قبل ، وهو أقوى ما كان نفسا ، وأشده لسانا ، فبينا هو يصدق إلى أن أخذ قلوصا فى الصدقة من فتى من كندة ، فلما أمر بها زياد تعقل وتوسم بميسم السلطان ، وكان الميسم لله ، أتى الفتى ، فصاح : يا حارثة بن سراقة (١) ، يا أبا معدى كرب ، عقلت البكرة ، فأتى حارثة إلى زياد ، فقال : أطلق للفتى بكرته ، فأبى زياد ، فقال : قد عقلتها ووسمتها بميسم السلطان ، فقال حارثة : أطلقها أيها الرجل طائعا ، خير من أن تطلقها وأنت كاره ، قال زياد : لا والله لا أطلقها ولا نعمت عين. فقام حارثة فحل عقالها وضرب على جنبها ، فخرجت القلوص تعدو إلى الأنهار ، وجعل حارثة يقول :
أطعنا رسول الله ما كان وسطنا |
|
فيا قوم ما شأنى وشأن أبى بكر |
أيورثها بكرا إذا مات بعده |
|
فتلك إذا والله قاصمة الظهر |
__________________
(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٤٥٩) ، الإصابة الترجمة رقم (١٥٢٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٩٩٣) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١١٢) ، الجرح والتعديل (١ / ١٤٥) ، شذرات الذهب (١ / ٩) ، تصحيفات المحدثين (٩٧٦).