الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٧
قال الأميني : نحن لا ننبس في الجواب عن هذه الأساطير المشمرجة (١) ببنت شفة ، وإنّما نقتصر فيه بما أجاب به عنها أبو جعفر الإسكافي المعتزلي البغدادي المتوفّى (٢٤٠) ، قال في الردّ عليها (٢) :
لقد أعطي أبو عثمان مقولاً وحرم معقولاً ، إن كان يقول هذا على اعتقاد وجدّ ، ولم يذهب به مذهب اللعب واللهو ، أو على طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوّة والسلاطة وذلاقة اللسان وحدّة الخاطر والقوّة على جدال الخصوم. ألم يعلم أبو عثمان أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان أشجع البشر وأنّه خاض الحروب وثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب ، وبلغت القلوب الحناجر؟ فمنها يوم أحد ووقوفه بعد أن فرّ المسلمون بأجمعهم ولم يبق معه إلاّ أربعة : عليّ ، والزبير ، وطلحة ، وأبو دجانة ، فقاتل ورمى بالنبل حتى فنيت نبله وانكسرت سِية (٣) قوسه ، وانقطع وتره ، فأمر عكاشة ابن محصن أن يوترها ، فقال : يا رسول الله لا يبلغ الوتر ، فقال : أوتر ما بلغ. قال عكاشة : فوالذي بعثه بالحقّ لقد أوترت حتى بلغ وطويت منه شبراً على سِية القوس ، ثمّ أخذها فما زال يرميهم حتى نظرت إلى قوسه قد تحطّمت ، وبارز أُبيّ بن خلف ، فقال له أصحابه : إن شئت عطف عليه بعضنا فأبى ، وتناول الحربة من الحارث بن الصمّة ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير ، قالوا : فتطايرنا عنه تطاير الشعارير (٤) فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور ، ولو لم يدلّ على ثباته حين انهزم أصحابه وتركوه إلاّ قوله تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) (٥) فكونه صلىاللهعليهوآلهوسلم في أُخراهم وهم يصعدون ولا يلوُون هاربين ؛
__________________
(١) المشمرجة : المنسوجة.
(٢) رسائل الجاحظ : ص ٥٤ [ ص ١٥٥ ـ ١٥٦ الرسائل السياسية ] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٢٧٥ [ ١٣ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨ خطبة ٢٣٨ ]. (المؤلف)
(٣) سية القوس : ما اعوجّ من طرفيها.
(٤) الشعارير : ما يجتمع على دبرة البعير من الذبّان ، فإذا هيجت تطايرت عنها. النهاية ٢ / ٤٨٠.
(٥) آل عمران : ١٥٣.
دليل على أنّه ثبت ولم يفرّ. وثبت يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الأدنين ، وقد فرّ المسلمون كلّهم والنفر التسعة محدقون به ، العبّاس آخذ بحَكَمَةِ (١) بغلته ، وعليّ بين يديه مصلت سيفه ، والباقون حول بغلته يمنةً ويسرةً ، وقد انهزم المهاجرون والأنصار ، وكلّما فرّوا أقدم هو صلىاللهعليهوآلهوسلم وصمّم مستقدماً يلقى السيوف والنبال بنحره وصدره ، ثمّ أخذ كفّا من البطحاء وحصب المشركين وقال : «شاهت الوجوه» ، والخبر المشهور عن عليّ وهو أشجع البشر : «كنّا إذا اشتدّ البأس وحمي الوطيس اتّقينا برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولذنا به». فكيف يقول الجاحظ : إنّه ما خاض الحروب ولا خالط الصفوف؟ وأيّ فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى الإحجام واعتزال الحرب؟ ثمّ أيّ مناسبة بين أبي بكر ورسول الله في هذا المعنى ليقيسه وينسبه إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم صاحب الجيش والدعوة ورئيس الإسلام والملّة ، والملحوظ بين أصحابه وأعدائه بالسيادة ، وإليه الإيماء والإشارة ، وهو الذي أحنق قريشاً والعرب ، وورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم ، وعيب دينهم وتضليل أسلافهم ، ثمّ وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم وأكابرهم ، وحقّ لمثله إذا تنحّى عن الحرب واعتزلها أن يتنحّى ويعتزل ، لأنّ ذلك شأن الملوك والرؤساء إذ كان الجيش منوطاً بهم وببقائهم ، فمتى هلك الملك هلك الجيش ، ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه ، وإن عطب جيشه فإنّه يستجدّ جيشاً آخر ، ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه ، وخطّئوا الإسكندر لمّا بارز فوسر ملك الهند ونسبوه إلى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب والحزم ، فليقل لنا الجاحظ : أيّ مدخل لأبي بكر في هذا المعنى؟ ومن الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده بالقتل؟ وهل هو إلاّ واحد من عرض المهاجرين حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفّان وغيرهما؟ بل كان عثمان أكثر منه صيتاً ، وأشرف منه مركباً ، والعيون إليه أطمح ، والعدوّ عليه أحنق وأكلب. ولو قُتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يؤثّر قتله في الإسلام ضعفاً؟ أو يحدث فيه وهناً؟ أو يخاف على الملّة لو قُتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس وتُعفّى آثارها وتنطمس منارها؟ ليقول الجاحظ : إنّ أبا بكر كان حكمه حكم
__________________
(١) الحَكَمَة : حديدة في اللجام تكون على أنف الدابة وحنكها تمنعها من مخالفة راكبها.
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في مجانبة الحروب واعتزالها. نعوذ بالله من الخذلان. وقد علم العقلاء كلّهم ممّن له بالسير معرفة وبالآثار والأخبار ممارسة حال حروب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كيف كانت ، وحاله عليه الصلاة والسلام فيها كيف كان ، ووقوفه حيث وقف وحربه حيث حارب ، وجلوسه في العريش يوم جلس ، وأنّ وقوفه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقوف رئاسةٍ وتدبير ، ووقوف ظهر وسند ، يتعرّف أُمور أصحابه ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من ورائهم وتخلّفه عن التقدّم في أوائلهم ، لأنّهم متى علموا أنّه في أُخراهم اطمأنّت قلوبهم ولم تتعلّق بأمره نفوسهم ، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوّهم ، ولا يكون لهم فئة يلجئون إليها وظهر يرجعون إليه ، ويعلمون أنّه متى كان خلفهم تفقّد أُمورهم وعلم مواقفهم وآوى كلّ إنسان مكانه في الحماية والنكاية وعند المنازلة في الكرّ والحملة ، فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم ، وأحمى وأحرس لبيضتهم ، ولأنّه المطلوب من بينهم ، إذ هو مدبّر أُمورهم ووالي جماعتهم ، ألا ترون أنّ موقف صاحب اللواء موقف شريف؟ وأنّ صلاح الحرب في وقوفه ، وأنّ فضيلته في ترك التقدّم في أكثر حالاته ، فللرئيس حالات :
الأولى : حالة يتخلّف ويقف آخراً ليكون سنداً وقوّة وردأً وعُدّة ، وليتولّى تدبير الحرب ويعرف مواضع الخلل.
والحالة الثانية : يتقدّم فيها في وسط الصفّ ليقوى الضعيف ويُشجّع الناكس.
وحالة ثالثة : وهي إذا اصطدم الفيلقان ، وتكافح السيفان ، اعتمد ما يقتضيه الحال من الوقوف حيث يستصلح ، أو من مباشرة الحرب بنفسه فإنّها آخر المنازل ، وفيها تظهر شجاعة الشجاع النجد وفسالة (١) الجبان المموّه.
فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ وأين منزلة أبي بكر ليسوّي بين المنزلتين ، ويناسب بين الحالتين؟
__________________
(١) الفسل : الذي لا مروءة ولا جَلَد له.
ولو كان أبو بكر شريكاً لرسول الله في الرسالة وممنوحاً من الله بفضيلة النبوّة ، وكانت قريش والعرب تطلبه كما تطلب محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم لكان للجاحظ أن يقول ذلك ، فأمّا وحاله حاله ، وهو أضعف المسلمين جناناً ، وأقلّهم عند العرب ترةً (١) ، لم يَرمِ قَطّ بسهمٍ ، ولا سلّ سيفاً ، ولا أراق دماً ، وهو أحد الأتباع ، غير مشهور ولا معروف ، ولا طالب ولا مطلوب ، فكيف يجوز أن يجعل مقامه ومنزلته مقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومنزلته؟ ولقد خرج ابنه عبد الرحمن مع المشركين يوم أُحد فرآه أبو بكر ، فقام مغيظاً عليه ، فسلّ من السيف مقدار إصبع يروم البروز إليه فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يا أبا بكر شِم سيفك وأمتعنا بنفسك». ولم يقل له : «وامتعنا بنفسك» ، إلاّ لعلمه بأنّه ليس أهلاً للحرب وملاقاة الرجال وأنّه لو بارز لقُتل.
وكيف يقول الجاحظ : لا فضيلة لمباشرة الحروب ولقاء الأقران وقتل أبطال الشرك؟ وهل قامت عمد الإسلام إلاّ على ذلك؟ وهل ثبت الدين واستقرّ إلاّ بذلك؟ أتراه لم يسمع قول الله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٢)؟ والمحبَّة من الله تعالى هي إرادة الثواب ، فكلّ من كان أشد ثبوتاً في هذا الصفّ وأعظم قتالاً ، كان أحبّ إلى الله ، ومعنى الأفضل هو الأكثر ثواباً ، فعليّ عليهالسلام إذ هو أحبّ المسلمين إلى الله لأنّه أثبتهم قدماً في الصفّ المرصوص ، لم يفرّ قطّ بإجماع الأمّة ، ولا بارزه قرن إلاّ قتله ، أوَتراه لم يسمع قول الله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (٣)؟ وقوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) (٤)؟
__________________
(١) الترة : الثأر.
(٢) الصف : ٤.
(٣) النساء : ٩٥.
(٤) التوبة : ١١١.
ثمّ قال سبحانه مؤكّداً لهذا البيع والشراء : (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١) ، وقال الله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ) (٢) ، فمواقف الناس في الجهاد على أحوال ، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض ، فمن دلف إلى الأقران واستقبل السيوف والأسنّة ، كان أثقل على أكتاف الأعداء لشدّة نكايته فيهم ، ممّن وقف في المعركة وأعان ولم يقدم ، وكذلك من وقف في المعركة ، وأعان ولم يقدم ؛ إلاّ أنّه بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناءً ، وأفضل ممّن وقف حيث لا يناله ذلك ، ولو كان الضعيف والجبان يستحقّان الرئاسة بقلّة بسط الكفّ وترك الحرب ، وأنّ ذلك يشاكل فعل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لكان أوفر الناس حظّا في الرئاسة وأشدّهم لها استحقاقاً حسّان بن ثابت. وإن بطل فضل عليّ في الجهاد ؛ لأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان أقلّهم قتالاً ـ كما زعم الجاحظ ـ ليبطلنّ على هذا القياس فضل أبي بكر في الإنفاق ، لأنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان أقلّهم مالاً ، وأنت إذا تأمّلت أمر العرب وقريش ، ونظرت السير ، وقرأت الأخبار ، عرفت أنها تطلب محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم وتقصد قصده ، وتروم قتله ، فإن أعجزها وفاتها طلبت عليّا وأرادت قتله ، لأنّه كان أشبههم بالرسول حالاً ، وأقربهم منه قرباً ، وأشدّهم عنه دفعاً ، وأنّهم متى قصدوا عليّا فقتلوه أضعفوا أمر محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وكسروا شوكته ، إذ كان أعلى من ينصره في البأس والقوّة والشجاعة والنجدة والإقدام والبسالة. ألا ترى إلى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر وقد خرج هو وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة فأخرج إليهم الرسول نفراً من الأنصار ، فاستنسبوهم فانتسبوا لهم ، فقالوا : ارجعوا إلى قومكم ، ثمّ نادوا : يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ، فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لأهله الأدنين : «قوموا يا بني هاشم فانصروا حقّكم الذي آتاكم الله على
__________________
(١) التوبة : ١١١.
(٢) التوبة : ١٢٠.
باطل هؤلاء ، قم يا عليّ قم يا حمزة قم يا عبيدة» ألا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أُحد لأنّه اشترك هو وحمزة في قتل أبيها يوم بدر؟ ألم تسمع قول هند ترثي أهلها
ما كان لِي عن عُتبةٍ من صبر |
|
أبي وعمّي وشقيق صدري (٣) |
أخي الذي كان كضوءِ البدرِ |
|
بهم كَسرتَ يا عليُّ ظهري |
وذلك لأنّه قتل أخاها الوليد بن عتبة ، وشرك في قتل أبيها عتبة ، وأمّا عمّها شيبة فإنّ حمزة تفرّد بقتله.
وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أُحد : إن قتلت محمداً فأنت حرّ ، وإن قتلت عليّا فأنت حرّ ، وإن قتلت حمزة فأنت حرّ. فقال : أمّا محمد فسيمنعه أصحابه ، وأمّا عليّ فرجل حذِر كثير الالتفات في الحرب ، ولكنّي سأقتل حمزة. فقعد له وزرقه بالحربة فقتله.
ولِما قلنا من مقاربة حال عليّ في هذا الباب لحال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ومناسبتها إيّاه ما وجدناه في السير والأخبار ، من إشفاق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وحذره عليه ، ودعائه له بالحفظ والسلامة ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الخندق ، وقد برز عليّ إلى عمرو ، ورفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه : «اللهمّ إنّك أخذت منّي حمزة يوم أُحد ، وعبيدة يوم بدر ، فاحفظ اليوم عَليَّ عليّا ، ربّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين». ولذلك ضنّ به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مراراً ، في كلّها يُحجمون ويقدم عليّ ، فيسأل الإذن له في البراز حتى قال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّه عمرو!» فقال : «وأنا عليّ». فأدناه وقبّله وعمّمه بعمامته وخرج معه خطوات كالمودّع له ، القلق لحاله ، المنتظر لما يكون منه. ثمّ لم يزل صلىاللهعليهوآلهوسلم رافعاً يديه إلى السماء
__________________
(٣) في شرح النهج : ١٣ / ٢٨٣ ورد الشطر الأول هكذا : ما كان عن عتبة لي من صبرِ.
مستقبلاً لها بوجهه والمسلمون صموت حوله كأنّما على رءوسهم الطبر ، حتى ثارت الغبرة ، وسمعوا التكبير من تحتها فعلموا أنّ عليّا قتل عمراً. فكبّر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وكبّر المسلمون تكبيرة سمعها مَنْ وراء الخندق من عساكر المشركين. ولذلك قال حذيفة بن اليمان : لو قُسمت فضيلة عليّ بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم. وقال ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) (١) ؛ قال : بعليّ بن أبي طالب. انتهى.
الغريق يتشبّث بكلّ حشيش :
أعيت القوم شجاعة الخليفة ، وأضلّتهم عن المذاهب ، وجعلتهم في الرُّونة (٢) ، وأركبتهم على الزحلوقة تسفّ بهم تارةً وتُعلّيهم أُخرى ، فلم يجدوا مهيعاً يوصلهم إلى ما يرومون من إثباتها له مهما وجدوا غضون التاريخ خاليةً عن كلّ عين وأثر يسعهم الركون إليه في الحجاج لها ، فتشبّثوا بالتفلسف فيها ، فهذا يبني فلسفة العريش ، والآخر ينسج نسج العناكيب ويعدّ ثباته في موت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وعدم تضعضعه في تلك الهائلة دليلاً على كمال شجاعته. قال القرطبي في تفسيره (٣) (٤ / ٢٢٢) في سورة آل عمران : ١٤٤ عند قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) : هذه الآية أدلّ دليل على شجاعة الصدّيق وجرأته ، فإنّ الشجاعة والجرأة حدّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ، ولا مصيبة أعظم من موت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فظهرت عنده شجاعته وعلمه. وقال الناس : لم يمت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، منهم عمر ، وخرس عثمان ، واستخفى عليّ ، واضطرب الأمر فكشفه الصدّيق بهذه الآية حين
__________________
(١) الأحزاب : ٢٥.
(٢) الرُّونة : الشدة.
(٣) الجامع لأحكام القرآن : ٤ / ١٤٣.
قدومه من مسكنه بالسُّنح (١).
وهذا الاستدلال أقرّه الحلبي في سيرته (٢) (٣ / ٣٥) وقال : لمّا توفّي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم طاشت العقول ؛ فمنهم من خبَل ، ومنهم من أقعد ولم يطق القيام ، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام ، ومنهم من أضنى ، وكان عمر رضى الله عنه ممّن خبل ، وكان عثمان رضى الله عنه ممّن أخرس ، فكان لا يستطيع أن يتكلّم ، وكان عليّ رضى الله عنه ممّن أقعد فلم يستطع أن يتحرّك ، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمداً ، وكان أثبتهم أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه. إلى أن قال : قال القرطبي : وهذا أدلّ دليل على كمال شجاعة الصدّيق. إلى آخره.
قال الأميني : يوهم القرطبي أنّ في كتاب الله العزيز ما يدلّ على شجاعة الخليفة وعلمه ، وليس فيما جاء به أكثر من أنّه استدلّ بالآية الشريفة يوم ذاك على موت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فأيّ صلة لها بشجاعة الرجل؟! وأيّ قسم فيها من أنحاء الدلالة الثلاثة فضلاً عن أن تكون أدلّ دليل؟ فإن يكن هناك شيء من الدلالة ـ وأين وأنّى ـ فهو في ثبات جأشه وتمسّكه بالآية الكريمة لا في الآية نفسها.
ثمّ كيف خفي على الرجل وعلى من تبعه الفرق بين ملكتي الشجاعة والقسوة؟ وأنّ هذا النسج الذي أوهن من بيت العنكبوت إنّما نسجته يد السياسة لدفع مشكلات هناك ، فخبّلوا عمر بن الخطّاب ـ وحاشاه الخبل ـ تصحيحاً لإنكاره موت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنّه كان من ذلك لقلق كما مرّ في (ص ١٨٤) ، وأقعدوا عليّا لإيهام العذر في تخلّفه عن البيعة ، وأخرسوا عثمان لأنّه لم ينبس في ذلك الموقف ببنت شفة.
على أنّ ما جاء به القرطبي من ميزان الشجاعة يستلزم كون الخليفة أشجع من
__________________
(١) بضمّ أوّله وسكون النون وقد تضم : موضع خارج المدينة بينها وبين منزل النبيّ ميل [ في معجم البلدان : ٣ / ٢٦٥ أنها إحدى محالّ المدينة ]. (المؤلف)
(٢) السيرة الحلبية : ٣ / ٣٥٤.
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أيضاً ، إذ لم يُرو عن أبي بكر في رزيّة النبيّ الأعظم أكثر من أنّه كشف عن وجه النبيّ وقبّله وهو يبكي وقال : طبت حيّا وميتاً (١) وقد فعل صلىاللهعليهوآلهوسلم أكثر وأكثر من هذا في موت عثمان بن مظعون ؛ فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم انكبّ عليه ثلاث مرّات مرّةً بعد أُخرى وقبّله باكياً عليه وعيناه تذرفان والدموع تسيل على وجنتيه وله شهيق (٢) ، وشتّان بين عثمان بن مظعون وبين سيّد البشر روح الخليقة وعلّة العوالم كلّها ، وشتّان بين المصيبتين.
كما يستدعي مقياس الرجل كون عمر بن الخطّاب أشجع من النبيّ الأقدس لحزنه العظيم في موت زينب وبكائه عليها ، وعمر كان يوم ذاك يضرب النسوة الباكيات عليها بالسوط ، كما مرّ في الجزء السادس (ص ١٥٩) ، فضلاً عن عدم تأثّره بتلك الرزيّة.
وعلى هذا الميزان يغدو عثمان بن عفّان أشجع من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لوجده (٣) صلىاللهعليهوآلهوسلم لموت إحدى بنتيه : رقية أو أمّ كلثوم زوجة عثمان ، وبكائه عليها ، وعثمان غير متأثر به ولا بانقطاع صهره من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، غير مشغول بذلك عن مقارفة بعض نسائه في ليلة وفاتها كما في صحيحة أنس (٤).
__________________
(١) صحيح البخاري : ٦ / ٢٨١ [ ٤ / ١٦١٨ ح ٤١٨٧ ] كتاب المغازي ، سيرة ابن هشام : ٤ / ٣٣٤ [ ٤ / ٣٠٦ ] ، طبقات ابن سعد ، طبع مصر ، رقم التسلسل : ٧٨٥ [ ٢ / ٢٦٨ ] ، تاريخ الطبري : ٣ / ١٩٨ [ ٣ / ٢٠١ حوادث سنة ١١ ه ]. (المؤلف)
(٢) سنن البيهقي : ٣ / ٤٠٧ ، حلية الأولياء : ١ / ١٠٥ ، الاستيعاب : ٢ / ٤٩٥ [ القسم الثالث / ١٠٥٥ رقم ١٧٧٩ ] ، أُسد الغابة ٣ / ٣٨٧ [ ٣ / ٦٠٠ رقم ٣٥٨٨ ] ، الإصابة : ٢ / ٤٦٤ [ رقم ٥٤٥٣ ]. (المؤلف)
(٣) أي : لحزنه.
(٤) مستدرك الحاكم : ٤ / ٤٧ [ ٤ / ٥١ ح ٦٨٥٢ ] ، الاستيعاب : ٢ / ٧٤٨ [ القسم الرابع / ١٨٤١ رقم ٣٣٤٣ ] وصحّحه ، الإصابة : ٤ / ٣٠٤ [ رقم ٤٣٠ ] و ٤٨٩ [ رقم ١٤٧٠ ] ، الغدير : ٣ / ٢٤. (المؤلف)
وقبل هذه كلّها ما ذكره أعلام القوم في موت أبي بكر من طريق ابن عمر من قوله : كان سبب موت أبي بكر موت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ ما زال جسمه يجري حتى مات. وقوله : كان سببَ موته كمد لحقه على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ما زال يذيبه حتى مات. وفي لفظ القرماني : ما زال جسمه ينقص حتى مات.
راجع (١) مستدرك الحاكم (٣ / ٦٣) ، أُسد الغابة (٣ / ٢٢٤) ، صفة الصفوة (١ / ١٠٠) ، الرياض النضرة (١ / ١٨٠) ، تاريخ الخميس (٢ / ٢٦٣) ، حياة الحيوان للدميري (١ / ٤٩) ، الصواعق (ص ٥٣) ، تاريخ الخلفاء للسيوطي (ص ٥٥) ، أخبار الدول للقرماني هامش الكامل (١ / ١٩٨) ، نزهة المجالس للصفوري (٢ / ١٩٧) ، مصباح الظلام للجرداني (٢ / ٢٥).
كأنّ هذا الحديث عزب عن القرطبي والحلبي ، فأخذاً بهذا مشفوعاً بكلامهما المذكور في شجاعة أبي بكر يكون هو شاكلة عبد الله بن أنيس في موته كمداً على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم ينبّئ قطّ خبير بموت أحدٍ من الصحابة غيرهما بموته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهذا دليل على ضعف قلبهما عند حلول المصائب ، فهما أجبن الصحابة على الإطلاق إذا وزنا بميزان القرطبي وفيه عين.
ووراء هذه المغالاة في شجاعة الخليفة وعدّه أشجع الصحابة ما عزاه القوم إلى ابن مسعود من أنّه قال : أوّل من أظهر الإسلام بسيفه محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وأبو بكر والزبير ابن العوام (٢). وما يُعزى إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من أنّه قال : لو لا أبو بكر الصدّيق لذهب الإسلام (٣)
__________________
(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٦٦ ح ٤٤١٠ ، أُسد الغابة : ٣ / ٣٣٥ رقم ٣٠٦٤ ، صفة الصفوة : ١ / ٢٦٣ رقم ٢ ، الرياض النضرة : ١ / ٢٢٢ ، حياة الحيوان : ١ / ٧١ ، الصواعق المحرقة : ص ٨٨ ، تاريخ الخلفاء : ص ٧٦ ، أخبار الدول : ١ / ٢٨١ ، مصباح الظلام : ٢ / ٦٢ ح ٣٦٢.
(٢) نزهة المجالس للصفوري : ٢ / ١٨٢. (المؤلف)
(٣) نور الأبصار للشبلنجي : ص ٥٤ [ ص ١١٣ ]. (المؤلف)
قال الأميني : لقد كانت على الأبصار غشاوة عن رؤية هذا السيف الذي كان بيد الخليفة ، فلم يُؤثر أنّه تقلّده يوماً ، أو سلّه في كريهة ، أوهابه إنسان في معمعة ، حتى يقرن برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي كان منذ بعث سيفاً لله تعالى مجرّداً.
إنّ الرسولَ لنورٌ يُستضاءُ به |
|
مُهنّدٌ من سيوفِ اللهِ مسلولُ (١) |
أو يقرن بمثل الزبير الذي عرفته وسيفه الحرب الزبون فشكرته ، وقد سجّل التاريخ مواقفه المشهودة ، وسجّل للخليفة يوم خيبر وأمثاله.
وأنا لا أدري بأيّ خصلة في الخليفة نيط بقاء الإسلام ، أبشجاعته هذه؟ أم بعلمه الذي عرفت كميّته؟ أم بما ذا؟ فظُنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر.
ـ ٤ ـ
ثبات الخليفة على المبدأ
عن أبي سعيد الخدري : أنّ أبا بكر جاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : يا رسول الله إنّي مررت بوادي كذا وكذا ، فاذا رجل متخشّع حسن الهيئة يصلّي ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذهب إليه فاقتله» ، قال : فذهب اليه أبو بكر ، فلمّا رآه على تلك الحالة كره أن يقتله فجاء إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لعمر : «اذهب إليه فاقتله» : قال فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر فكره أن يقتله فرجع ، فقال : يا رسول الله إنّي رأيته متخشّعاً فكرهت أن أقتله ، قال : «يا عليّ اذهب فاقتله». فذهب علي فلم يره فرجع ، فقال : «يا رسول الله إنّي لم أره». فقال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثمّ لا يعودون فيه حتى يعود السهم في فُوقه فاقتلوهم هم شرّ البريّة» (٢).
__________________
(١) البيت من قصيدة لكعب بن زهير المشهورة ب : بانت سعاد. (المؤلف)
(٢) مسند أحمد : ٣ / ١٥ [ ٣ / ٣٩٠ ح ١٠٧٣٤ ] ، تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٩٨ [ ٧ / ٣٣٠ حوادث سنة ٣٧ ه ]. (المؤلف)
وعن أنس بن مالك قال : كان في عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم رجل يعجبنا تعبّده واجتهاده ، وقد ذكرنا ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم باسمه فلم يعرفه ، فوصفناه بصفته فلم يعرفه ، فبينا نحن نذكره إذ طلع الرجل قلنا : هو هذا. قال : «إنّكم لتخبروني عن رجل إنّ في وجهه لسفعة من الشيطان» فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلّم. فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم «أنشدك الله هل قلت حين وقفت على المجلس : ما في القوم أحد أفضل منّي أو خير منّي؟» قال : اللهمّ نعم. ثمّ دخل يصلّي فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من يقتل الرجل؟» فقال أبو بكر : أنا ، فدخل عليه فوجده قائماً يصلّي ، فقال : سبحان الله أقتل رجلاً يصلّي؟ وقد نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن قتل المصلّين ، فخرج. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما فعلت؟» قال : كرهت أن أقتله وهو يصلّي وأنت قد نهيت عن قتل المصلّين. قال : «من يقتل الرجل؟» قال عمر : أنا. فدخل فوجده واضعاً جبهته. فقال عمر : أبو بكر أفضل منّي ، فخرج فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم «مَه؟» قال : وجدته واضعاً وجهه لله فكرهت أن أقتله. فقال : «من يقتل الرجل؟» فقال عليّ : أنا. فقال : «أنت إن أدركته». فدخل عليه فوجده قد خرج. فرجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : «مَه؟» قال : وجدته قد خرج. قال : «لو قُتل ما اختلف من أمّتي رجلان كان أوّلهم وآخرهم» (١).
صاحب القصّة هو ذو الثُّديّة رأس الفتنة يوم النهروان قتله أمير المؤمنين الإمام عليّ يوم ذاك كما في صحيح مسلم (٢) وسنن أبي داود (٣) ، قال الثعالبي في ثمار القلوب (٤)
__________________
(١) حلية الأولياء : ٣١٧ ، ٣ / ٢٢٧ [ رقم ٢٤٥ ] ، مسند البزّار من طريق الأعمش ، وأبو يعلى في مسنده [ ١ / ٩٠ ح ٩٠ ] كما في تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٩٨ [ ٧ / ٣٣٠ حوادث سنة ٣٧ ه ] ، الإصابة : ١ / ٤٨٤ [ رقم ٢٤٤٦ ]. (المؤلف)
(٢) صحيح مسلم : ٢ / ٤٤٣ ح ١٥٦ كتاب الزكاة.
(٣) سنن أبي داود : ٤ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ح ٤٧٦٨ ـ ٤٧٦٩.
(٤) ثمار القلوب : ص ٢٩٠ رقم ٤٣٧.
(ص ٢٣٢): ذو الثُديّة شيخ الخوارج وكبيرهم الذي علّمهم الضلال ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر بقتله وهو في الصلاة ، فكعّ عنه أبو بكر وعمر ، فلمّا قصده عليّ رضى الله عنه لم يره ، فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أما إنّك لو قتلته لكان أوّل فتنة وآخرها» ، ولمّا كان يوم النهروان وُجد بين القتلى ، فقال عليّ رضى الله عنه : ائتوني بيده المخدجة ، فأُتي بها فأمر بنصبها.
قال الأميني : هلمّ معي نسائل الرجلين ممّن أخذا أنّ الصلاة تحقن دم صاحبها؟ هل أخذاها عن شريعةٍ غابَ الصادع بها ، فارتبكا بين قوليه؟ أليست هي الشريعة المحمديّة وصاحبها هو الذي أمر بقتل الرجل؟ وهو ينظر إليه من كَثب ، ويعلم أنّه يصلّي ، وقد أخبرته الصحابة وفيهم الرجلان بخضوعه وخشوعه في صلاته ، وإعجابهم بتعبّده واجتهاده ، وفي المخبرين أبو بكر نفسه ، غير أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عرف بواسع علمه النبويّ أنّ كلّ ذلك عن دهاء وتصنّع يريد به إغراء الدهماء للحصول على أُمنيّته الفاسدة التي لم يتمكّن منها إلاّ على عهد الخوارج فأراد صلىاللهعليهوآلهوسلم قمع تلك الجرثومة الخبيثة بقتله ، ولقد أراد صلىاللهعليهوآلهوسلم تعريف الناس بالرجل وإيقافهم على ما انطوت عليه أضالعه فاستحفاه عمّا دار في خَلَده حين وقف على القوم وفيهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأراد أن يعلموا أنّه يجد نفسه خيراً أو أفضل منهم ومنه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أيّ كافر هذا يجب قتله لا سيّما بعد قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ في وجهه لسفعة من الشيطان»؟ وأيّ شقيّ هذا يقف على المنتدى وقد ضمّ صدره نبيّ العظمة ولم يسلّم؟ وأيّ صفيق يُعرب عن سوء ما هجس في ضميره بكلّ صراحة ، غير محتشم عن موقفه ، ولا مكترث لمقاله؟.
نعم ؛ لذلك كلّه أمر صلىاللهعليهوآلهوسلم بقتله وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، لكنّ الشيخين رأفا به حين وجداه يصلّي تثبّتاً على المبدأ ، وتحفّظاً على كرامة الصلاة ومن أتى بها ، وزاد عمر : إنّ أبا بكر خير منّي ولم يقتله. أو لم يكن النبيّ الآمر بقتله خيراً منهما؟ أو لم يكن هو مشرّع الصلاة والآتي بحرمتها؟ أو لم يكن مصدّقاً
لدى الصدّيق وصاحبه في قوله حول الرجل وإعرابه عن نواياه؟
كان خيراً للشيخين أن يتركا هذا التعلّل الواضح فساده ويتعلّلا بما في لفظ أبي نعيم في الحلية من أنّهما هابا أن يقتلاه ، وبما أسلفناه عن ثمار القلوب للثعالبي من أنّهما كعّا عن الرجل. أي جبنا وضعفا وتهيّبا الرجل ، وإن كان مصلّياً غير شاك السلاح ، فلعلّه يكون معذّراً لهما عن ترك الامتثال ، فلا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ، لكنّهما يوم عرفا نفسهما كذلك والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره لما ذا أقدما على قتل الرجل ، ففوّتا على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم طلبته وعلى الأمّة السلام والأمن ولو بعد لأي من عمر الدهر عند ثورات الخوارج؟ وأبو بكر هذا هو الذي يحسبه ابن حزم والمحبّ الطبري والقرطبي والسيوطي أشجع الناس كما مرّ (ص ٢٠١) وقد يهابه ظلّ الرجال في مصلاّهم!
وللرجل ـ ذي الثُديّة ـ سابقة سوء عند الشيخين من يوم قسم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم غنيمة هوازن ، قال ذو الثديّة للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : لم أرك عدلت! أو : لم تعدل هذه قسمة ما أُريد بها وجه الله! فغضب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقال : «ويحك إذا لم يكن العدل ، عندي فعند من يكون؟» فقال عمر : يا رسول الله ألا أقتله؟ قال : «لا ، سيخرج من ضئضئ هذا الرجل قوم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرميّة لا يجاوز إيمانهم تراقيهم». تاريخ أبي الفداء (١ / ١٤٨) ، الإمتاع للمقريزي (ص ٤٢٥).
ـ ٥ ـ
تهالك الخليفة في العبادة
لم يؤثر عن الخليفة دأب على العبادة على العهد النبويّ أو بعده غير أشياء لا تُنجع من أثبتها له إلاّ بعد تمحّل متطاول ، أو تفلسف في القول لو أجْدَت الفلسفة على لا شيء.
روى المحبّ الطبري في الرياض النضرة (١) (١ / ١٣٣) : أنّ عمر بن الخطّاب أتى إلى زوجة أبي بكر بعد موته ، فسألها عن أعمال أبي بكر في بيته ما كانت ، فأخبرته بقيامه في الليل وأعمال كان يعملها ، ثمّ قالت : إلاّ إنّه كان في كلّ ليلة جمعة يتوضّأ ويصلّي [ العشاء ] (٢) ثمّ يجلس مستقبل القبلة رأسه على ركبتيه ، فإذا كان وقت السحر رفع رأسه وتنفّس الصعداء ، فيشمّ في البيت روائح كبدٍ مشويٍ. فبكى عمر وقال : أنّى لابن الخطّاب بكبدٍ مشويّ.
وفي مرآة الجنان (١ / ٦٨) : جاء أنّ أبا بكر كان إذا تنفّس يشمّ منه رائحة الكبد المشويّة.
وفي عمدة التحقيق للعبيدي المالكي (٣) (ص ١٣٥) : لمّا مات أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه واستخلف عمر رضى الله عنه كان يتبع آثار الصدّيق رضى الله عنه ، ويتشبّه بفعله ، فكان يتردّد كلّ قليل إلى عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما ويقول لهما : ما كان يفعل الصدّيق إذا خلا بيته ، ليلاً؟ فيقال له : ما رأينا له كثير صلاة بالليل ولا قيام ، إنّما كان إذا جنّه الليل يقوم عند السحر ويقعد القرفصاء ، ويضع رأسه على ركبتيه ثمّ يرفعها إلى السماء ويتنفّس الصعداء ويقول : أخ ، فيطلع الدخان من فيه ، فيبكي عمر ويقول : كلّ شيء يقدر عليه عمر إلا الدخان. فقال :
وأصل ذلك أن شدّة خوفه من الله تعالى أوجبت احتراق قلبه ، فكان جليسه يشمّ منه رائحة الكبد المشوي ، وسببه أنّ الصدّيق لم يتحمل أسرار النبوّة الملقاة إليه ، وفي الحديث : «أنا أعلمكم بالله وأخوفكم منه» ، فالمعرفة التامّة تكشف عن جلال المعروف وجماله ، وكلاهما أمر عظيم جدّا ، تتقطّع دونه الغايات ، ولولا أنّ الله تعالى
__________________
(١) الرياض النضرة : ١ / ١٦٨.
(٢) ما بين المعقوفين زيادة من المصدر.
(٣) عمدة التحقيق : ص ٢٣٠.
ثبّت من أراد ثباته وقوّاه على ذلك ، ما استطاع أحد الوقوف ذرّة على كليهما جلالاً وجمالاً ، والغاية في الطرفين قد نالها الصدّيق رضى الله عنه ، فقد ورد : ما صُبّ في صدري شيء إلاّ صببته في صدر أبي بكر. ولو صبّه جبريل عليهالسلام في صدر أبي بكر ما أطاقه ، لعدم مجراه من المماثل ، لكن لما صبّ في صدر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو من جنس البشريّة ، فجرى في قناة مماثلة للصدّيق ، فبواسطتها أطاق حمله ، ومع ذلك احترق قلبه.
وروى الترمذي الحكيم في نوادر الأصول (١) (ص ٣١ و ٢٦١) ، عن بكر بن عبد الله المزني قال : لم يفضل أبو بكر رضى الله عنه الناس بكثرة صوم ولا صلاة ، إنّما فضلهم بشيء كان في قلبه. وذكر أبو محمد الأزدي في شرح مختصر صحيح البخاري (٢ / ٤١ ، ١٠٥ و ٣ / ٩٨ و ٤ / ٦٣) ، والشعراني في اليواقيت والجواهر (٢) (٢ / ٢٢١) ، واليافعي في مرآة الجنان (١ / ٦٨) ، والصفوري في نزهة المجالس (٢ / ١٨٣) : أنّ في الحديث : ما فضلكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره.
قال الأميني : لو صحّ حديث الكبد المشوي لوجب اطّراده في الأنبياء والرسل ويقدمهم سيّد المرسلين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم لأنّهم أخوف من الله من أبي بكر وخاتم النبيّين أخوفهم ، ولوجب أن تكون الرائحة فيهم أشدّ وأنشر ، فإنّ الخوف فرع الهيبة المسبّبة عن إحاطة العلم بما هناك من عظمة وقهر وجبروت ومنعة ، وينبئنا عن ذلك قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٣) قال ابن عبّاس : يريد إنّما يخافني من خلفي من علم جبروتي وعزّتي وسلطاني. وقيل : عظّموه وقدّروا قدره ، واخشوه حقّ خشيته ، ومن ازداد به علماً ازداد به خشية. تفسير الخازن (٤) (٣ / ٥٢٥).
__________________
(١) نوادر الأصول : ١ / ٨٨ الأصل : ٢١ و ٢ / ٩٨ الأصل : ٢٢٠.
(٢) اليواقيت والجواهر : ٢ / ٧٣.
(٣) فاطر : ٢٨.
(٤) تفسير الخازن : ٣ / ٤٩٩.
وفي الحديث : «أعلمكم بالله أشدّكم له خشية». تفسير ابن جزي (٣ / ١٥٨).
وفي خطبة له صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فو الله إنّي لأعلمهم بالله وأشدّهم له خشية» (١).
وفي خطبة أخرى له صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً» (٢).
وقال مولانا أمير المؤمنين : «أعلمكم أخوفكم». غرر الحكم للآمدي (٣) (ص ٦٢).
وقال مقاتل : أشدّ الناس خشية لله أعلمهم. تفسير الخازن (٣ / ٥٢٥).
وقال الشعبي ومجاهد : إنّما العالم من خشي الله (٤).
وقال الربيع بن أنس : من لم يخش الله تعالى فليس بعالم (٥).
ومن هنا قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّي أعلمكم بالله وأخشاكم لله» (٦) ولذلك تجد أنّ أزلف الناس إلى السلطان يتهيّبه أكثر ممّن دونه في الزلفة. فترى الوزير يكبره ويخافه أبلغ ممّن هو أدنى منه ، والأمر على هذه النسبة في رجال الوظائف ، حتى تنتهي إلى أبسطها كالشرطي مثلاً ، ثمّ إلى سائر أفراد الرعية.
وهلمّ معي إلى الأولياء والمقرّبين والمتهالكين في الخشية من الله والمتفانين في
__________________
(١) صحيح مسلم [ ٤ / ٥٠٨ ح ١٢٧ ] كتاب المناقب ـ باب علمه بالله وشدّة خشيته ، تفسير الخازن : ٣ / ٥٢٥ [ ٣ / ٤٩٩ ]. (المؤلف)
(٢) صحيح البخاري [ ٥ / ٢٣٧٩ ح ٦١٢٠ ، ٦١٢١ ] كتاب الرقاق. باب لو تعلمون ما أعلم ، مسند أحمد : ٦ / ١٦٤ [ ٧ / ٢٣٦ ح ٢٤٧٨٤ ] ، تيسير الوصول : ٢ / ٢٦ [ ٢ / ٣٣ ] ، تفسير الخازن : ٣ / ٥٢٥ [ ٣ / ٤٩٩ ]. (المؤلف)
(٣) غرر الحكم ودرر الكلم : ص ٦٣ ح ٧٨٥.
(٤) تفسير القرطبي : ١٤ / ٣٤٣ [ ١٤ / ٢١٩ ] ، تفسير الخازن : ٣ / ٥٢٥ [ ٣ / ٤٤٩ ]. (المؤلف)
(٥) تفسير القرطبي : ١٤ / ٣٤٣ [ ١٤ / ٢١٩ ] ، تفسير الخازن : ٣ / ٥٢٥ [ ٣ / ٤٤٩ ]. (المؤلف)
(٦) تفسير البيضاوي : ٢ / ٣٠٢ [ ٢ / ٢٧٢ ] ، اللمع لأبي نصر : ص ٩٦ [ ص ١٣٤ ]. (المؤلف)
العبادة وفي مقدّمهم سيّدهم مولانا أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام الذي كان في حلك الظلام يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويتأوّه ويتفوّه بما ينمّ عن غاية الخوف والخشية ، وهو قسيم الجنة والنار بنصّ من الرسول الأمين كما مرّ في الجزء الثالث (ص ٢٩٩) ، وكان يُغشى عليه عدّة غشوات في كلّ ليلة ، ولم يشم أحد منه ولا منهم رائحة الكبد المشوي.
ولو اطّرد ما يزعمونه لوجب تكيّف الفضاء من لدن آدم إلى عهد الخليفة بتلك الرائحة المنتشرة من تلكم الأكباد المشويّة ، ولاسودّ وجه الدنيا بذلك الدخان المتصاعد من الأكباد المحترقة.
أيحسب راوي هذه المهزأة أنّ على كبد المختشي ناراً موقدة يعلوها ضرم ، ويتولّد منها دخان؟ فلِمَ لم تُحرق ما في الحشا كلّه ويكون إنضاجها مقصوراً على الكبد فحسب؟ وهل للكبد حال المعذّبين الذي كلّما نضجت جلودهم بدّلوا جلوداً أخرى؟ وإلاّ فالعادة قاضية بفناء الكبد بذلك الحريق المتواصل.
وإن تعجب فعجب بقاء الإنسان بعد فناء كبده ، ولعلّك إذا أحفيت الراوي السؤال عن هذه لأجابك بأنّها كلّها معاجز تخصّ بالخليفة.
وأحسب أنّ صاحب المزاعم من المتطفّلين على موائد العربيّة ؛ فإنّ العربيّ الصميم جدّ عليم بكثير الكناية والاستعارة في لغة الضاد ، فإذا قالوا : إنّ نار الخوف أحرقت فلاناً لا يريدون لهباً متّقداً يصعد منه الدخان أو تشمّ منه رائحة شيّ الأكباد ، وإنّما يعنون لهفةً شديدة ، وحرقةً معنويّة تشبّه بالنيران.
وأمّا ما سرده العبيدي من فلسفة ذلك الحريق في كبد الخليفة فإنّها من الدعاوي الفارغة وفيها الغلوّ الفاحش ، وإن شئت قلت : إنّما هي أوهام لم تقم لها حجّة ، وليس من السهل أن يدعمها ببرهنة يمسكها عن التزحزح ، فهي كالريشة في
مهبّ الريح تجاه حجاج المجادل ، وو جاه سيرة الخليفة نفسه ، وما عزاه إلى الرواية من حديث خرافة : ما صبّ الله في صدري شيئاً إلاّ وصببته في صدر أبي بكر. فهو على تنصيص العلماء على وضعها كما مرّ في (٥ / ٣١٦) لا يلزم به الخصم ، ولا يثبت به المدّعى ، وفيه من سرف القول ما لا يخفى على العارف بالرجال وتاريخهم.
ـ ٦ ـ
تبرّز الخليفة في الأخلاق
لم نقف من أخلاقيّات الخليفة على شيء يرفع الإنسان من هذه الناحية عدا ما في صحيح البخاري في كتاب التفسير من طريق ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير قال : قدم ركب من بني تميم على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : أمّر الأقرع بن حابس (١). فقال أبو بكر : ما أردت إلاّ خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما ، فنزل في ذلك : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢).
وأخرج البخاري من طريق ابن أبي مليكة أيضاً ، قال : كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر. قال نافع : لا أحفظ اسمه. فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلاّ خلافي ، قال : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
__________________
(١) الأقرع بن حابس هو ذلك الأعرابي الذي رآه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يبول في المسجد ، وقد أخرج حديثه البخاري في صحيحه [ ٤ / ١٨٣٤ ح ٤٥٦٦ ] ، راجع إرشاد الساري : ١ / ٢٨٤ [ ١ / ٥٢٠ ] (المؤلف)
(٢) الحجرات : ١.
أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (١) (٢).
قال الأميني : ألا تعجب من الرجلين أنّهما طيلة مصاحبتهما هذا النبي المعظّم صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يحدُهما التأثّر بأخلاقه الكريمة إلى الحصول على أدب محاضرة العظماء والمثول بين أيديهم لا سيّما هذا العظيم ، العظيم خلقه بنصّ الذكر الحكيم ، وما عرفا أنّ الكلام بين يديه لا بدّ أن يكون تخافتاً وهمساً إكباراً لمقامه وإعظاماً لمرتبته. وأن لا يتقدّم أحد إليه بالكلام إلاّ أن يكون جواباً عن سؤال ، أو ما ينمّ عن امتثال أمر ، أو إخباراً عن مهمّة ، أو سؤالاً عن حكم لكنّهما تقدّما بالكلام الخارج عن ذلك كلّه ، وتماريا واحتدم الحوار بينهما ، وارتفعت أصواتهما في ذلك ، وكاد الخيّران أن يهلكا حتى جعلا أعمالهما في مظنّة الإحباط ، فنزلت الآية الكريمة.
وما أخرجه ابن عساكر (٣) عن المقدام أنّه قال : استبّ عقيل بن أبي طالب وأبو بكر وكان أبو بكر سبّاباً. وكأنّ ابن حجر استشعر من هذه الكلمة ما لا يروقه فقال : سبّاباً أو نسّاباً ، لكن الرجل أنصف في الترديد وقد جاء بعده السيوطي فحذف كلمة : سبّاباً وجعلها نسّاباً بلا ترديد (٤) ، والمنقّب يعلم أنّ لفظة (نسّاباً) لا صلة لها بقوله استبّا بل المناسب كونه سبّاباً ، وكأن الراوي يريد بذلك أنّه فاق عقيلاً بالسبّ لأنّه كان مَلَكة له ، وإن كان يسع المحوّر أن يقول بإرادة كونه نسّاباً أنّه كان عارفاً بحلقات الأنساب ومواقع الغمز فيها ، فكان إذا استبّ يطعن مستابّه في عرضه ونسبه ، لكنّه لا يجدي المتمحّل نفعاً فإنّه من أشنع مصاديق السبّ ، وفيه القذف وإشاعة الفحشاء.
__________________
(١) صحيح البخاري : ٧ / ٢٢٥ [ ٤ / ١٨٣٣ ح ٤٥٦٤ ] ، الاستيعاب في ترجمة القعقاع : ٢ / ٥٣٥ [ القسم الثالث / ١٢٨٤ رقم ٢١٢٢ ] ، تفسير القرطبي : ١٦ / ٣٠٠ [ ١٦ / ١٩٨ ] ، ابن كثير : ٤ / ٢٠٦ ، تفسير الخازن : ٤ / ١٧٢ [ ٤ / ١٦٤ ] ، الاصابة : ١ / ٥٨ [ رقم ٢٣١ ] ، ٣ / ٢٤٠ [ رقم ٧١٢٨ ]. (المؤلف)
(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٣٠ / ١١٠ رقم ٣٣٩٨.
(٣) تاريخ مدينة دمشق : ٩ / ٥٨٢.
(٤) الصواعق : ص ٤٣ [ ص ٧٢ ] ، تاريخ الخلفاء : ص ٣٧ [ ص ٥٠ ]. (المؤلف)