السيد علي الشهرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار مشعر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-7635-78-8
الصفحات: ١٥٢
نسبة الخبر إليه
ظاهرة اختلاف النقل عن الصحابي
قبل تطبيق مفردة اخرى من ( نسبة الخبر إليه ) نرى لزاماً علينا التفصيل في أحد أطراف المباني المفروض طرحها في مثل هذه الدراسات العلميّة ، و هو ما أكدناه أكثر من مرّة للباحثين من أنّ نهج الاجتهاد و الرأي و أنصاره ، و تصحيحاً لقول الخليفة و فعله ، كانوا ينسبون ما يريدونه إلى أعيان الصحابة من خلال القول بأنّ عليّ بن أبي طالب و ابن مسعود و ابن عبّا و جابر بن عبدالله و غيرهم قد ذهبوا إلى ما ذهب إليه الخليفة من رأي.
و هذه الرؤية توضّح ظاهرة من ظواهر
اختلاف النقل عن الصحابي الواحد ، خاصّة إن كان من الجناح المقابل لفقه الشيخين ، و بالأحرى المقابل لفقه الاجتهاد و الرأي ، و ذلك لكي يختلط الحابل بالنابل و الصحيح
بالسقيم ، و لكي يضيع موقف هؤلاء الصحابة من الحكم الشرعي ثمّ يتسنّى في آخر الأمر تحكيم رأي الخليفة و أتباع الرأي فيه.
إنّ اختلاف النقل عن الصحابي الواحد ينمّ ـ مضافاً إلى ما قيل من وجوه في سبب الاختلاف ـ عن وجود نهج آخر في الشريعة يتعبّد بالنصوص الصادرة عن الله ورسوله ولا يرتضي ما ذهب إليه الخليفة من رأي ، و هذا لا يعني أنّ جميع آراء الخليفة بعيدة عن التشريع و الواقع ، بل في كلامه ما يوافقه و فيه ما يخالفه ، فإن كان اجتهاده وفق القرآن أُخذ به ، و إلاّ فيضرب به عرض الحائط ؛ لأنّه لا قرآن و لا سنّة.
و هذه الظاهرة هي الّتي دعتنا للتأكيد أكثر من مرّة على لزوم دراسة ملابسات الأخبار عند المسلمين كي نعرف من هم وراء الأحكام المتعارضة المتضاربة ؟ و من هو المستفيد منها ؟ و نحن لا نحدّد ذلك بالخلفاء فقط ، بل يمكن أن يكون الأمر راجعاً إلى شخصيات اخرى كعائشة أمّ المؤمنين و أبي هريرة وغيرهما.
فنحن لو وقفنا على خلفيّات هذه المسائل و عرفنا المفتي الأوّل بها أو الناقل الأوّل للحديث عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ؛ لأمكننا الوقوف على الخيوط الخفيّة في تعدّد الأحكام الشرعيّة ، و ملابسات اختلاف المسلمين في الفتاوي والآراء.
نماذج من اختلاف النهجين
١ ـ المتعة
فلو اتّخذنا قضية مثلاً لرأينا امتداد النهجين واضحاً
بيّنا فيها ، فابن عبّاس (١) و ابن عمر (٢) و سعد بن أبي وقاص (٣) ، و عليّ بن أبي طالب (٤) و أبو موسى الاشعري (٥) و غيرهم (٦) ، يؤكّدون على مشروعية هذا الفعل ويعتبرونه فعلاً شرعيّاً نص عليه الله و رسوله و لم ينسخ قطّ.
و أمّا عمر بن الخطاب (٧) و عثمان بن عفان (٨) و معاوية بن أبي سفيان (٩) و أئمّة الفقه الحاكم فلا يرتضون ذلك الفعل ، لأنّ الخليفة عمر بن الخطّاب نهى عنه بقوله : « متعتان كانتا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله
_______________________________
(١) زاد المعاد ١ : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، مسند أحمد ١ : ٣٢٧ ، ارشاد النقاد للصنعاني : ٢٤ ـ ٢٥ ، سنن الترمذي ٢ : ٢٩٥.
(٢) سنن الترمذي ٢ : ١٥٩ / ٨٢٣ ، ارشاد النقاد ، للصنعاني : ٢٥.
(٣) السنن الكبرى للبيهقي ٥ : ١٧ ، زاد المعاد ١ : ١٧٩ ، سنن الدارمي ٢ : ٣٥.
(٤) مسند أحمد ١ : ٥٧ ، سنن النسائي ( المجتبى ) ٥ : ١٥٢ ، المستدرك على الصحيحين ١ : ٤٧٢ الموطأ ١ : ٣٣٦ / ٤٠ ، سنن الترمذي ٢ : ٢٩٥.
(٥) صحيح مسلم ٢ : ٨٩٦ / ١٥٧ ، مسند أحمد ١ : ٥٠ ، سنن النسائي ( المجتبى ) ٥ : ١٥٣ ، السنن الكبرى ، للبيهقي ٥ : ٢٠ ، تيسير الوصول ١ : ٣٤٠ / ٣٠ ، سنن ابن ماجة ٣ : ٩٩٢ / ٢٩٧٩.
(٦) كعمران بن الحصين ، انظر صحيح مسلم ٢ : ٨٩٩ / ١٦٨ ، شرح صحيح مسلم للنووي ٧ ـ ٨ : ٤٥٦.
(٧) احكام القرآن للجصاص ٢ : ١٥٢ ، و المصادر السابقة.
(٨) سنن النسائي ( المجتبى ) ٥ : ١٥٢ ، المستدرك على الصحيحين ١ : ٤٧٢ ، مسند أحمد ١ : ٥٧ ، الموطأ ١ : ٣٣٦.
(٩) السنن الكبرى ، للبيهقي ٥ : ٢٠ ، سنن أبي داود ٢ : ١٥٧ / ١٧٩٤ ، زاد المعاد ١ : ١٨٩.
حلالاً أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما » (١).
بلى ، إنّها خطوة اتُّخذت لكي لا يجرؤ أحدٌ على مخالفة فتوى الخليفة ، بل ليسلّم الجميع بما يراه ويذهب إليه.
فقد جاء عن أبي موسى الأشعري أنّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك ببعض فتياك ، فإنّك لا تدري ما أحدث أميرالمؤمنين [ يعني به عمر ] في النسك.
حتّى لقيه بعد فسألهُ ، فقال عمر : قد علمتُ أنّ صلىاللهعليهوآله قد فعله و أصحابه ، و لكنّي كرهت أن يضلوا معرّسين بهنّ في الأراك ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم (٢).
إنّ هذا النصّ وأمثاله مما يؤكد فكرة خضوع الأحكام الشرعية لرأي الخليفة ، إذ ترى أبا موسى الأشعري ـ و هو من كبار الصحابة ـ لا يمكنه أن يفتي بحكم المتعة ؛ لأنّه لا يدري ما أحدث أميرالمؤمنين في النسك !! بل يجب عليه التروّي حتى يأتي أمر الخليفة و قراره الأخير فيه !!
فإذا كان هذا فعلهم مع الصحابة الأحياء ، فكيف بالصحابة الأموات و بعد قرون من الزمن ؟! إننا لا نستبعد ـ من أجل تقوية الجناح الحاكم ـ أن ينسبوا إلى أعيان الصحابة قولاً في النهي أو التشريع يوافق ما يذهبُ إليه الخليفة ، و هذا ما فعلوه بالفعل في كثير من المسائل :
_______________________________
(١) احكام القرآن للجصاص ٢ : ١٥٢.
(٢) صحيح مسلم ٢ : ٨٩٦ / ١٥٧ ، مسند أحمد ١ : ٥٠ ، سنن النسائي ( المجتبى ) ٥ : ١٥٣ ، السنن الكبرى للبيهقي ٥ : ٢٠ ، تيسير الوصول ١ : ٣٤٠ / ٣٠ ، سنن ابن ماجة ٣ : ٩٩٢ / ٢٩٧٩.
فقد نُسب القول بتحريم المتعة إلى بعض أعيان الصحابة ، منهم : عليّ بن أبي طالب و ابن عبّاس و ابن مسعود وجابر (١) و غيرهم ، مع أنّ الثابت القطعيّ ـ في نصوص كثيرة ـ عن هؤلاء تؤكّد قولهم بالتحليل (٢) ، حتّى أنّ الإمام علي بن أبي طالب و ابن عمه عبدالله بن عبّاس كانا في طليعة المجيزين له والقائلين « لولا نهي عمر لمازنى إلاّ شقيّ أو إلاّ شفىً » (٣).
وقد كذّب ابنُ عبّاس عروةَ بن الزبير ـ أخا عبدالله بن الزبير ـ في ادعاء تحريم ذلك حين أحاله على أمّه ليسألها عن ذلك.
فعن أيوب أنّ عروة قال لابن عباس : ألا تتقي الله ، ترخص في المتعة ؟
فقال ابن عباس : سل أمّك يا عُريّة ؟
فقال عروة : أما أبو بكر و عمر فلم يفعلا !
فقال ابن عباس : والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله ! نحدثكم عن النبي صلىاللهعليهوآله و تحدثونا عن أبي بكر و عمر ؟! (٤)
_______________________________
(١) انظر : فتح الباري ٩ : ١٤٢ ، و أحكام القرآن ، للجصاص ٢ : ١٤٧ ـ ١٤٨ ، و الجامع لاحكام القرآن ٥ : ١٣٢ ، و المغني لابن قدامة ٧ : ٥٧٢ ، المبسوط للسرخسي ٥ : ١٥٢ ، والمهذب في فقه الشافعي ٢ : ٤٦ ، و تحفة الاحوذي ٤ : ٢٦٧.
(٢) انظر المحلى ، لابن حزم ٩ : ٥١٩.
(٣) النهاية ٢ : ٢٤٩ و ٤٨٨.
(٤) حجة الوداع لابن حزم : ٣٥٣ / ح ٣٩١ ، التمهيد لابن عبد البر ٨ : ٣٠٨ زاد المعاد ٢ : ٢٠٦ ، المعجم الكبير للطبراني ١٠ : ٣٦١ / ح ١٠٧٢١ و عنه في جامع المسانيد ٣١ : ١٥٢ ، و محاضرات الادباء ٣ : ٢١٤ ، جمهرة خطب العرب ٢ : ١٢٧ عن العقد الفريد ٢ : ١٣٩ قال : اول مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير.
و قوله للذين لا يعملون بقول الرسول وفعله : ما أراكم منتهين حتّى يعذبكم الله ـ وفي آخر : « حتّى يصيبكم حجر من السماء » ـ نحدّثكم عن النبيّ صلىاللهعليهوآله و تحدّثوننا عن أبي بكر و عمر (١).
و قد صرّح الإمام علي صلىاللهعليهوآله بأنّ الخلفاء من قبله قد عملوا أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلىاللهعليهوآله مغيّرين لسنته ؛ و عدّ منها المتعتين (٢) ، فكيف ينسب بعد ذلك إلى علي عليهالسلام القول بالتحريم ؟!
و يزيد الأمر وضوحاً أنّ المأمون العباسيّ لمّا سأَل الإمام الرضا صلىاللهعليهوآله أن يكتب له شرائع الإسلام على الاختصار ، كتب إليه الرضا عليهالسلام جملةَ ذلك ، و منها قوله عليهالسلام : وتحليل المتعتين اللّتين أنزلهما الله تعالى في كتابه و سنّهما رسول الله صلىاللهعليهوآله ؛ متعة النساء و متعة الحج (٣) ...
و كانت قد عُقدت جلسات المناظرة مع أصحاب الأئمّة ، و كان السؤال عن المتعة في رأس قائمة الأسئلة المطروحة في تلكم المناظرات التي حفظها لنا التاريخ (٤) !!
فلو كان المنع قد ثبت عن عليّ عليهالسلام ـ كما تزعم مدرسة الخلفاء ـ فلماذا الإصرار من قبل آله في الدفاع عن حلّية التمتّع و التأكيد على أنّها مذهب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ؟!
_______________________________
(١) زاد المعاد ١ : ٢١٩.
(٢) انظر كتاب الروضة من الكافي ٨ : ٦١.
(٣) انظر عيون اخبار الرضا ١ : ١٣٢.
(٤) انظر الفصول المختارة : ١٥٨ ـ ١٦٦.
و لماذا غدا أشياع علي عليهالسلام ـ إذن ـ موضع سهام الانتقاد و المحاربة ، من أجل القول بمشروعيتها ؟ ولِمَ تحاربُ الشيعة من أجله حتى اليوم ؟!
نعم ، إنّ الحلّية قد ثبت صدورها عن عليّ عليهالسلام بطرق متعدّدة عند الفريقين ، و أجمع عليها أئمّة التعبّد المحض ، و هو المحفوظ عنه في الصحاح و الأخبار ، و أمّا حديث المنع المدّعى فيها و في غيرها ـ عنه و عن غيره ـ فقد انفرد بنقله أنصار مدرسة الاجتهاد و الرأي لمصالح ارتضوها !!
و ممّا يزيد الأمر تلبيساً هو اختلاف نقلهم عن عليّ عليهالسلام ، فتارة نقلوا عنه أنّه قال : نهى عنها رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم خيبر ، و في آخر : في يوم حنين ، و في ثالث : في غزة تبوك (١) ، و كذلك الحال بالنسبة إلى من نسبوا لهم بواطل الأقوال ، كل ذلك لتأكيد النسبة اليهم بهذه القيود الإضافية !
٢ ـ صلاة التراويح
و مثل قضية المتعة مسألة صلاة التراويح ؛ فقد ثبت عن عمر قوله « نعمت البدعة هذه » (٢).
قال اليعقوبي في تاريخه : و في هذه السنة ـ يعني سنة أربع عشرة بعد الهجرة ـ سنّ عمر قيام شهر رمضان و كتب بذلك إلى البلدان ، و أمر أبيّ بن كعب وتميماً الداري أن يصلّيا بالناس ، قيل له في ذلك : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يفعله ، و أن ابا بكر لم يفعله ؟! فقال : إن تكن بدعة فما
_______________________________
(١) فتح الباري ٩ : ١٣٧ ، أحكام القرآن للقرطبي ٥ : ١٣١.
(٢) صحيح البخاري ٣ : ٥٨ ، تاريخ المدينة ٣ : ٧١٣ ، الرياض النضرة ١ : ٣٠٩ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٠.
أحسنها من بدعة (١).
و ذلك لأنّه صلىاللهعليهوآله كان قد خرج في رمضان ليلاً للصلاة في المسجد فائتمَّ به الناس ، وفي اليوم الثاني كثر العدد ، و في اليوم الثالث كانوا أكثر ، حتّى خرج بهم إلى خارج المسجد ، فترك الرسول الخروج إلى المسجد خوفَ أن تفرض عليهم (٢) ، فقد جعلوا هذا الخبر و أمثاله دليلاً على مشروعية صلاة التراويح ، مع أنّا نرى الرسول صلىاللهعليهوآله في النص السابق قد تركها و لم يرتضِ الإتيان بها جماعةً في المسجد !!
فالناس ـ أصحاب الرأي و الاجتهاد ـ كانوا يريدون تشريع هذا الأمر ويصرّون على النبيّ صلىاللهعليهوآله أن يأتي إلى المسجد للصّلاة بهم ، بحيث كان بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم (٣) ، و يقول الآخر : الصلاة ، الصلاة ، و رسولُ الله صلىاللهعليهوآله يقول لهم : « خشيتُ أن يكتب عليكم ، و لو كتب عليكم ما قمتم به » (٤) ، أو يقول كما في خبر زيد بن ثابت « أيّها الناس ما زال بكم صنيعكم حتّى ظننت أن سيكتب عليكم ، فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فإنّ خير صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة » (٥).
_______________________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٠.
(٢) كنز العمال ٧ : ٨١٧ / ح ٢١٥٤٢ ، و أخرجه النسائي في كتاب قيام الليل ، باب قيام شهر رمضان عن عائشة.
(٣) الفتح الرباني ٥ : ١٣.
(٤) الفتح الرباني ٥ : ١٣ ، كنز العمال ٧ : ٨١٦ / ح ٢١٥٤١ و أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب استحباب صلاة النافلة في بيته.
(٥) الفتح الرباني ٥ : ١٣ ، كنز العمال ٧ : ٨١٦ / ح ٢١٥٤١ و أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة ، باب فضل التطوع في البيت.
فهذا الخبر دليل على عدم مشروعية هذهِ الصلاة ، لعدم ارتضاء رسول الله صلىاللهعليهوآله الصلاة بهم حتى آخر حياته ، و كذا في عهد الخليفة الأوّل أبي بكر ، حيث لم يكن لها وجود آنذاك ، كما لم يكن لها وجود في شطر من خلافة عمر.
لكنّ الخليفة عمر بن الخطّاب فيما بعد ارتضى هذا الأمر و سعى لتشريعه بكتابته للأمصار في إتيان ذلك (١) !!
قال ابن قدامة في كتاب المغني : « و نسبت التراويح إلى عمر بن الخطّاب رضياللهعنه ، لأنّه جمع الناس على أبيّ بن كعب ، فكان يصلّيها بهم ، فروى عبدالرحمن بن عبدالقاري ، قال : خرجت مع عمر ليله في رمضان فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ، و يصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط ، فقال عمر : إنّي أرى لو جمع هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أبي بن كعب ، قال : ثمّ خرجت معه ليلة أخرى و الناس يصلّون بصلاة قارئهم ، فقال : نعمت البدعة هذه » (٢).
و هذا خطأ ، لأنّ صلاة التراويح إنما نسبت إلى عمر لأنّه أوّل من شرَّعها جماعةً و في المسجد ـ لا أنّها كانت موجودة لكنّه جمعهم على إمام واحدٍ ـ مخالفاً بذلك صريح قول النبي صلىاللهعليهوآله المتقدّم من أنّ الصلاة في المسجد جماعةً إنّما هي للمكتوبة لا لغيرها ، فإنّ خبر زيد بن ثابت و غيره يكذّب دعوى ابن قدامة هذهِ ، و يكذّبها أيضاً قول عمر نفسه : « نعمت البدعة
_______________________________
(١) انظر الكامل في التاريخ ٢ : ٤٨٩.
(٢) المغني ، لابن قدامة ١ : ٨٣٤.
هذهِ » ، و كذا كتابته إلى البلدان والأمصار آمراً بنشرها.
نعم ، إنّ عمر بن الخطاب شرّع أمراً لم يكن شرعياً على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فأراد تطبيقه بتعميم كتابٍ إلى الأمصار !!
و بعد هذا فلا يستبعد أن تُنسَب إلى أعيان الصحابة أقوال توافق رأي الخليفة وتقوّي ما ذهب إليه ، حتّى نراهم في بعض تلك النصوص يشيرون إلى خصوصيّات خاصّة منسوبة إلى بعض الصحابة كي يؤكدوا النسبة إليه ، فمن ذلك ما رواه عرفجة الثقفي بقوله : كان عليّ بن أبي طالب يأمر الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماماً وللنساء اماماً ، فكنتُ أنا إمام النساء (١) !!
و عن أبي عبدالرحمن السلميّ و غيره : إنّ علياً قام بهم في رمضان (٢) !!
فإنّهم جاءوا بهذه الأخبار ليضعّفوا الأخبار الأخرى الثابتة عنه في عدم مشروعية صلاة التراويح و أنّها بدعة ؛ لقوله في خبر طويل مرويّ عن أهل بيته وولده ( ... والله لقد أمرت الناس ألاّ يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة و أعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ) (٣) ، و يؤيّد هذا النقل عن أهل البيت و كون الاجتماع في النوافل بدعة خبر عمر بن الخطّاب نفسه : « نعمت البدعة هي » (٤) !!
_______________________________
(١) المجموع ، للنووي ٤ : ٣٤.
(٢) المبسوط ، للسرخسي ٢ : ١٤٥.
(٣) الروضة من الكافي ٨ : ٥٨ / ح ٢١.
(٤) صحيح البخاري ٣ : ٥٨ ، تاريخ المدينة ٣ : ٧١٣ و غيره.
و جاء في التهذيب بسنده إلى الصادق : « أنّ أميرالمؤمنين عليهالسلام لمّا قدم الكوفة أمر الحسن بن علي عليهماالسلام أن ينادي في الناس « لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة ».
فنادى في الناس الحسن بن علي عليهماالسلام بما أمره به أمير المؤمنين عليهالسلام ؛ فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن علي عليهماالسلام صاحوا : واعمراه ! فلما رجع الحسن عليهالسلام إلى أميرالمؤمنين عليهالسلام قال له : ما هذا الصوت ؟
فقال : يا أميرالمؤمنين ! الناس يصيحون : واعمراه ! واعمراه ! فقال أميرالمؤمنين لهم : صلّوا (١).
٣ ـ الصلاة بين الطلوعين وقبل الغروب
و نحن لو نظرنا إلى الصلاة بين الطلوعين وقبل الغروب لرأيناها كسابقتيها ، حيث نهى عنها الخليفة عمر بن الخطّاب.
جاء في مجمع الزوائد للهيثمي و غيره من المعاجم : إنّ تميماً ركع ركعتين بعد نهي عمر بن الخطّاب عن الصلاة بعد العصر ، فأتاه عمر فضربه بالدرة ، فأشار إليه تميم أن اجلس ـ و هو في صلاته ـ فجلس عمر ، ثمّ فرغ تميم من صلاته. فقال تميم لعمر : لِمَ ضربتني ؟ قال : لأنك ركعت هاتين و قد نَهَيْتُ عنها. قال : إنّي صلّيتهما مع من هو خير منك ، رسول الله صلىاللهعليهوآله.
_______________________________
(١) تهذيب الأحكام ٣ : ٧٠ / ح ٢٧. و نقله في شرح النهج لابن أبي الحديد ط قديم ٣ : ١٧٨ عن السيّد المرتضى ، و في مستطرفات السرائر مثله.
فقال عمر : إنّه ليس بي أنتم الرهط ، و لكن أخاف أن يأتي بعدكم قوم يصلون ما بين العصر والمغرب حتى يمرّوا بالساعة التي نهى رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يصلّوا فيها كما وصلوا ما بين الظهر و العصر (١).
و عن ابن طاووس ، عن طاووس : أنّ أبا أيّوب الأنصاري كان يصلّي قبل خلافة عمر ركعتين بعد العصر ، فلما استخلف عمر تركهما ، فلمّا توفّي ركعهما ، فقيل له : ما هذا ؟ فقال : إنّ عمر كان يضرب الناس عليهما. قال ابن طاووس : و كان أبي لا يدعهما (٢).
فمن غير البعيد أن ينسب إلى ابن عبّاس و غيره نهيهم عن الصلاة بعد العصر ، في حين أنّهم كانوا قد فعلوا ذلك ، و لو تأمّلتَ في النصوص المجوّزة للصلاة بعد الوقتين عن ابن عباس لاتضح لك مدّعانا و سقم نسبة النهي بعد العصر إليه.
فقد رووا عن ابن عبّاس قوله : شهد عندي رجال مرضيون و أرضاهم عندي عمر أنّ نبيّ الله كان يقول : لا صلاة بعد العصر حتّى تغرب الشمس ، و لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس (٣).
وعن علي عليهالسلام قوله : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يصلي دبر كلّ مكتوبة ركعتين
_______________________________
(١) مجمع الزوائد ٢ : ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، المعجم الكبير للطبراني ٢ : ٥٨ / ١٢٨١ ، كنز العمال ٨ : ١٨٠ / ٢٢٤٧٠.
(٢) المصنف لعبدالرزاق ٢ : ٤٣٣ ، و انظر كنز العمال ٨ : ٤٩ / ٢١٨١٢ ، ٨ : ١٨١ / ٢٢٤٧٣.
(٣) الفتح الرباني ٢ : ٢٩٢ / ح ١٨٧ ، السنن الكبرى للبيهقي ٢ : ٤٥١ ـ ٤٥٧.
إلاّ العصر و الصبح (١). ورووا عن علي عليهالسلام عن النبي صلىاللهعليهوآله قوله لا تصلوا بعد العصر إلاّ أن تصلّوا و الشمس مرتفعة (٢).
لكن ابن حزم روى في المحلى بإسناده عن شعبة عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي ، عن ابن عبّاس ، قوله : لقد رأيت عمر بن الخطّاب يضرب الناس على الصلاة بعد العصر ، ثمّ قال ابن عبّاس : صلّ إن شئت ما بينك و بين أن تغيب.
قال علي [ و هو ابن حزم ] : هم يقولون في الصاحب يروي الحديث ثمّ يخالفه : لولا أنّه كان عنده علم بنسخه ما خالفه ، فيلزمنهم أن يقولوا ههنا : لولا أنّه كان عند ابن عبّاس علم أثبت من فعل عمر ما خالف ما كان عليه مع عمر ، وبمثله عن شعبة عن ابن شعيب عن طاووس : سئل ابن عمر عن الركعتين بعد العصر ؟ فرخّص فيهما (٣).
فالنصوص المدّعية لنهي علي عليهالسلام و ابن عباس عن هاتين الركعتين تخالف ما ثبت عن ابن عبّاس وعلي عليهالسلام ، و المدقّق في كتب الفقه و الحديث و التاريخ يعلم بأنّ الاتجاه الفقهي لمدرسة الاجتهاد و الرأي كان يسعى لتطبيق ما سنّ على عهد عمر بن الخطّاب.
و لنأخذ موقف معاوية في حكم الصلاة بعد العصر مثلاً ، كي تتأكّد لنا
_______________________________
(١) المحلى ٢ : ٢٦٧ والسنن الكبرى للبيهقي ٢ : ٤٥٩ و أبي داود في سننه ١ : ٤٩٢.
(٢) السنن الكبرى للنسائي ١ : ٤٨٥ / ح ١٥٥٢.
(٣) المحلى ٢ : ٢٧٥ ، الفتح الرباني ٢ : ٢٩٦ عن سنن الدارقطني و تاريخ اصبهان لابي نعيم و الطبراني و تلخيص الخطيب.
الحقيقة أكثر ، إذ أخرج أحمد في مسنده عن أبي النتاج ، قال : سمعت حمران بن أبان يحدّث عن معاوية أنّه رأى ناساً يصلّون بعد العصر ، فقال : إنّكم تصلّون صلاة قد صحبنا النبيّ صلىاللهعليهوآله ما رأيناه يصليها ولقد نهى عنها ، يعني الركعتين بعد العصر (١).
و أخرج ابن حزم بسنده إلى عبدالله بن الحارث بن نوفل ، قال : صلّى بنا معاوية العصر فرأى ناساً يصلّون ، فقال : ما هذه الصلاة ؟ فقالوا : هذه فتيا عبدالله بن الزبير ، فجاء عبدالله بن الزبير مع الناس ، فقال معاوية : ما هذه الفتيا التي تفتي ؛ أن يصلّوا بعد العصر ؟ فقال ابن الزبير : حدثتني زوجة رسول الله صلىاللهعليهوآله أنّه صلّى بعد العصر.
فأرسل معاوية إلى عائشة ، فقالت : هذا حديث ميمونة بنت الحارث ، فأرسل إلى ميمونة رسولين ، فقالت : إنما حدّثت أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يجهّز جيشاً فحبسوه حتى أرهق العصر ، فصلّى العصر ثمّ رجع فصلّى ما كان يصلّي قبلها ، قالت : و كان رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا صلى صلاة أو فعل شيئاً يحبّ أن يدوم عليه ، فقال ابن الزبير : أليس قد صلى ؟ والله لنصلّينّه !
قال علي عليهالسلام : ظهرت حجة ابن الزبير فلم يجز عليه الاعتراض (٢).
نعم ، إنّ عائشة كانت قد قالت : ما ترك رسول الله صلىاللهعليهوآله السجدتين بعد
_______________________________
(١) مسند أحمد ٤ : ١٠٠ ، ولا يفوتك أن حمران بن أبان كان يهوديّاً سُبي في عين التمر ، و كان اسمه طويدا بن أَبيِّ التمري ، و كان من أخطر اليهود على الإسلام و المسلمين.
(٢) المحلى ٢ : ٢٧٣.
العصر عندي قط (١).
و في آخر : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله إذا كان عندي بعد العصر صلاّهما (٢).
و قد مرّ عليك أنّها قد صحّحت نظر عمر في الصلاة بعد العصر بقولها : وَهِمَ عمرُ إنّما نهى رسول الله صلىاللهعليهوآله أن يتحرّى طلوع الشمس و غروبها (٣).
٤ ـ بيع امهات الاولاد
و أمّا بيع أمّهات الأولاد فهو الآخر من موارد ما نحن فيه ، فقد كان أبو بكر وعمر يسمحان بذلك في خلافتهما ، و لكن ما لبث الخليفة عمر بن الخطّاب أن انتبه إلى أنّه محرّم فحرّم بيعهن ، و لأجل هذا نرى نسبة جواز بيعهنَّ و رجوعه عنه إلى علي و ابن عبّاس و جابر (٤).
فقد أخرج القاضي النعمان في دعائم الإسلام ، عن الباقر عليهالسلام أنّه ذكر له عن عبيدة السلماني أنه روى عن علي عليهالسلام بيع أمّهات الأولاد ، فقال الباقر عليهالسلام : كذبوا على عبيدة ـ أو كذب عبيدة على علي عليهالسلام ـ إنما أراد القوم
_______________________________
(١) السنن الكبرى للنسائي ١ : ٤٨٥ / ح ١٥٥٣. و أحمد قد أخرج عن عائشة قولها : إن النبيّ صلىاللهعليهوآله نهى عن الصلاة حين تطلع الشمس حتى ترتفع و من حين تصوب حتى تغيب ، و في اسناده ابن لهيعة و هو ضعيف ، انظر الفتح الرباني ٢ : ٢٩٩.
(٢) السنن الكبرى للنسائي ١ : ٤٨٥ / ح ١٥٥٥.
(٣) صحيح البخاري ١ : ١٥٢ ، صحيح مسلم ١ : ٥٦٦ ـ ٥٦٧ و ١ : ٥٧١ / ٢٩٥ ، مسند أحمد ٦ : ١٢٤ ، النسائي ( المجتبى ) ١ : ٢٧٨ ـ ٢٧٩.
(٤) السنن الكبرى للنسائي ١٠ : ٣٤٢ ، المحلى ٩ : ٢١٧ ، الروض النضير ٣ : ٦٠١ ، المبسوط ٧ : ١٤٩.
أن ينسبوا إليه الحكم بالقياس ، و لا يثبت لهم هذا أبداً ، إنّما نحن أفراخ عليّ ، فما حدّثناكم به عن علي فهو قوله ، و ما أنكرناه فهو افتراء عليه ، و نحن نعلم أنّ القياس ليس من دين علي و إنّما يقيس من لا يعلم الكتاب و لا السنة ، فلا تضلنّكم روايتهم ، فإنّهم لا يدعون أن يضلوا و لا ... ) (١).
و قال الشيخ مرتضى الأنصاري ، و هو من كبار علماء الإمامية في كتابه « المكاسب » : و في بعض الأخبار دلالة على كونه من المنكرات [ أي بيعهنّ ] في صدر الإسلام ، مثل ما روي من قول أمير المؤمنين عليهالسلام لمن سأله عن بيع أمةٍ أرضعت ولده ، قال له : خذ بيدها و قُلْ : « من يشتري أمّ ولدي » (٢) ؟!
٥ ـ المسح على الخفّين
و أمّا مسألة المسح على الخفّين فهي الأخرى تشابه ما سبقها ، إذ ثبت عن عمر بن الخطاب أنّه كان يمسح على خفيّة و يفتي بذلك (٣) ، و يأمر به (٤) ، و قد كتب إلى زيد بن وهب الجهني و هو بأذربيجان كتاباً في ذلك ، و هو يشترط الثلاث للمسافر و ليلة للمقيم (٥).
_______________________________
(١) دعائم الإسلام ٢ : ٥٣٦ ج ١٩٠٢ ، مستدرك وسائل الشيعة ١٧ : ٢٥٤.
(٢) المكاسب ، للشيخ الأنصاري ٤ : ١٠٧.
(٣) موسوعة فقه عمر بن الخطّاب : ٨٧٠.
(٤) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ١٩٧ / ح ٧٦٦.
(٥) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ٢٠٦ / ح ٧٩٧. و قد كتب عمر بن عبدالعزيز إلى أهل المصيصة أن اخلعوا الخفاف في كلّ ثلاث ، المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٩٣ / ح ١٨٧٩.
و جاء عنه في نصّ آخر : لا يختلجن في نفس رجل مسلم أن يتوضّأ على خفّيه و إن كان جاء من الغائط (١) ، و قد بال عمر مرة فمسح على خفيه (٢).
و لذلك ، نُسبت إلى بعض الصحابة أقوالٌ تشابه ما قاله الخليفة ، فمن روي عنهم قولان عليّ بن أبي طالب ، و ابن عبّاس ، و عائشة ، و ابن عمر (٣).
فقد نُسب إلى عليّ بن أبي طالب أنّه مسح على خفيه (٤) ، و أنّه قال : للمسافر ثلاث ليال و يوم و ليلة للمقيم (٥). و مثله ما نسب إلى ابن عبّاس (٦) و ابن مسعود (٧) ، و كان عطاء هو الناسب إلى ابن عبّاس و ابن عمر قولهما بجواز المسح (٨).
و قد سُئلت عائشة عن المسح على الخفّين ، فقالت لسائلها : سل عليّ بن أبي طالب فإنّه كان يسافر مع رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فسألنا علياً فقال :
_______________________________
(١) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ١٩٥ / ح ٧٦٠ ، و ١٩٦ / ح ٧٦٣.
(٢) المصنف ، لابن أبي شيبة ١ : ١٦٦ / ح ١٩٠٥.
(٣) النظر المحلى ٢ : ٦٠ ، و المجموع ١ : ٤٧٧ ـ ٤٧٨ ، و فتح الباري ١ : ٢٤٥ ، و أحكام القرآن ، للجصاص ٢ : ٢٥٠.
(٤) المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٦٥ / ح ١٨٩٤.
(٥) المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٦٥ / ح ١٨٩٢.
(٦) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ٢٠٨ / ح ٨٠٢ ، المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٦٥ / ح ١٨٩٣ و ١٩١١.
(٧) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ٢٠٧ / ح ٧٩٩ ، المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٦٤ / ح ١٨٨٣ و ١٨٨٨ و ١٨٩٠.
(٨) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ١٩٨ / ح ٧٧٢.
للمسافر ثلاث و للمقيم ليلة (١).
و الباحث في الفقه الإسلامي يعلم بأنّ مذهب عليّ بن أبي طالب ، و عبدالله بن عبّاس ، و عائشة ، هو عدم جواز المسح على الخفّين ؛ لأنّه هو الراجح من مذهبهم ؛ إذ ثبت عن علي و ابن عبّاس قولهما : سبق الكتاب الخفّين (٢) ، و جاء عن خصيف ، أنّ مقسما أخبره أنّ ابن عبّاس قال : إنا عند عمر حين سأله سعد و ابن عمر عن المسح على الخفين ؟
فقضى عمر لسعد ، فقال ابن عبّاس : فقلت : يا سعد ، قد علمنا أنّ النبي صلىاللهعليهوآله مسح على خفّيه ، و لكن أَقَبْلَ المائدة أم بعدها ؟ قال : فقال روح [ و هو من رواة السند ] : أَوَ بَعْدَها ؟
قال : لا يخبرك أحد أنّ النبي صلىاللهعليهوآله مسح عليهما بعدما أنزلت المائدة ، فسكت عمر (٣).
و عن عائشة قولها : لأَِن أحزّهما أو أخر أصابعي بالسكين أحبّ إِليّ
_______________________________
(١) المصنف ، لعبد الرزاق ١ : ٢٠٣ / ح ٧٨٨ و ٧٨٩ ، المصنف لابن أبي شيبة ١ : ١٦٢ / ح ١٨٦٥ و ١٨٦٦ ، و الحميدي في مسنده ١ : ٢٥ / ح ٤٦ من طريق عتبة عن يزيد بن أبي زياد ، كنز العمال ٥ الرقم ٣٠٣٥.
(٢) مصنف بن أبي شيبة ١ ٦ ١٦٩ / ح ١٩٤٦ ( قول علي ) وفي ١٩٤٧ ، ١٩٤٩ قول ابن عبّاس. و انظر عن ابن عبّاس في زوائد الهيثمي ١ : ٢٥٦ قال : رواه الطبراني في الاوسط ، انظر الطبراني (١١٤٠) ، و جامع المسانيد ٣٢ : ٢٦٦ و ج ٣٠ : ٢٤٥ عن الطبراني (١٢٢٣٧).
(٣) رواه الإمام أحمد في مسنده ١ : ٣٦٦ و اسناده صحيح. ونقل الهيثمي في مجمع الزوائد ( ١ : ٢٥٦ ) نحو هذا عن ابن عبّاس ، و نسبه للطبراني في الأوسط ، كما في هامش جامع المسانيد و السنن لابن كثير ٣٢ : ٦ ـ ٤.
من أن أمسح عليهما (١) ، أو : لأَنْ تقطع قدماي أحبُّ إِليَّ من أن أمسح على الخفّين ، أو : لأَن أمسح على جلد حمار أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفين (٢).
و قد انزعج الخليفة عمر بن الخطّاب من قول عائشة هذا فقال : لا تأخذوا بقول امرأة (٣).
فهذه النصوص صريحة بأنّ مذهبَ عائشة و علي و ابن عبّاس هو عدم جواز المسح على الخفين ، و أمّا ما جاء عنهم في جواز المسح فهو مما وضع لتأييد مذهب الخليفة عمر بن الخطاب ، وعليه فلا يمكن الركون إلى هذه الأخبار بسهولة ، لمخالفة هؤلاء الصحابة للخليفة في فهمه ونقله !!
وواضحٌ أنّ أتباع الاتجاه المقابل قد أتوا بهذه الأخبار تصحيحاً لمسارهم ، ولكي يشككوا الناس في المنقول عن المتعبدين ، ثمّ تصحيح ما ذهب إليه عمر بن الخطّاب ، و هذه حقيقة لا تخفى على البصير بملابسات التشريع الإسلامي ، و جذور الاختلاف بين المسلمين.
و لو تدبّرت في موقف آخر من هذه المواقف ، و هو نسبة المسح على الخفين إلى أئمّة الطالبيّين كمحمد الباقر و زيد بن علي بن الحسين و ... لعرفت صحّة مدّعانا ، لأنّ الثابت عن فقه هؤلاء هو عكس المطروح عنهم في مرويات أتباع الاجتهاد.
_______________________________
(١) مصنف بن أبي شيبة ١ : ١٧٠ / ح ١٩٥٣.
(٢) التفسير الكبير ، للرازي ١١ : ١٦٣.
(٣) مسند زيد بشرح الروض ، و الاعتصام بحبل الله ٢١٨:١.
فقد جاء في مسند الإمام زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جدّه الحسين بن علي رضي الله عنهما قوله : إنّا ولد فاطمة ( رضي الله عنها ) لا نمسح على الخفّين و لا العمامة و لا كُمَّة و لا خمار و لا جهاز (١).
و روى العياشي في تفسيره اعتراض الإمام علي على الخليفة عمر بن الخطّاب لتجويزه المسح على الخفّينِ ، و قوله له : لِمَ تفتي و أنت لا تدري ؟! سبق الكتاب الخفين (٢).
كما مرّ قول ابن عبّاس لعمر : لا يخبرك أحد أن النبيَّ صلىاللهعليهوآله مسَحَ عليهما بعدما أنزلت المائدة ، فسكت عمر.
|
وقد أخرج أبو الفرج الاصبهاني في مقاتل الطالبيين أخبار بعض المندسين في صفوف يحيى بن عبدالله بن الحسن ، فقال : ... صحبة جماعة من أهل الكوفة ، فيهم ابن الحسن بن صالح بن حي ، كان يذهب مذهب الزيدية البترية في تفضيل أبي بكر و عمر و عثمان في ستّ سنين من إمارته ، و إلى القول بكفره في باقي عمره ، يشرب النبيذ ، و يمسح على الخفين ، و كان يخالف يحيى في أمره ، و يفسد أصحابه. قال يحيى بن
عبدالله : فأذَّن المؤذّن يوماً ، و تشاغلت بطهوري و أقيمت الصلاة ، فلم ينتظرني و صلّى بأصحابي ، |
_______________________________
(١) مسند الإمام زيد : ٧٤.
(٢) تفسير العياشي ١ : ٢٩٧ / ٤٦. و انظر وضوء النبي ـ المدخل : ٣٥.