الشيخ محمّد جواد آل الفقيه
الموضوع : التراجم
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٤
الصفحات: ٢٠٧
مَوقف أبي ذَرّ مِن مُعَاويَة
ففي الشام ، كان المجال لأبي ذر أوسع من أي بلد آخر . كما كانت نظرته الى معاوية ، تختلف عن نظرته الى عثمان .
فهو يعرف معاوية على حقيقته ، ويعرف إسلام معاوية واسلام أبيه من قبله ، لذلك كان صريحا في أقواله ، وخطبه ، ومواعظه ، وواضحا في دعوته ومنهجه . .
كان صريحا في موقفه الذي ربما تكتم منه بعض الشيء في المدينة ، فكان يركز على الانحراف السائد آنذاك ، واستئثار الولاة بالفيء ، وعدولهم عن جادة الحق ، واطفائهم للسنة ، واحيائهم للبدعة . الى غير ذلك ، مما يدعو الى اثارة الناس .
وبذلك فتح على عثمان جبهة جديدة ـ ربما لم تخطر على باله ـ استهدفته ومعاوية معاً .
« كان يقوم في كل يوم ، فيعظ الناس ، ويأمرهم بالتمسك بطاعة الله ، ويحذرهم من ارتكاب معاصيه ، ويروي عن رسول الله ( ص ) ما سمعه منه في فضائل أهل بيته عليه وعليهم السلام ويحضهم على التمسك بعترته . » ١
__________________
(١) الاعيان ١٦ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦ .
وكان يقول : « أما بعد ، فانا كنا في جاهليتنا ، قبل أن ينزل علينا الكتاب ، ويبعث فينا الرسول ، ونحن نوفي بالعهد ، ونصدق الحديث ، ونحسن الجوار ، ونقري الضيف ، ونواسي الفقير . فلما بعث الله تعالى فينا رسول الله ، وأنزل علينا كتابه ، كانت تلك الاخلاق يرضاها الله ورسوله ، وكان أحقّ بها أهل الاسلام ، وأولى ان يحفظوها ، فلبثوا بذلك ما شاء الله أن يلبثوا .
ثم ان الولاة ، قد أحدثوا أعمالا قِباحا لا نعرفها . من سنَّة تُطفى ! وبدعة تحيى ! وقائل بحق مكذَّب ، وأثرة لغير تقى ، وأمين ـ مُستأثر عليه ـ من الصالحين . . . »
وكان يعيد هذا الكلام ويبديه ! ١
وكان أبو ذر ، ينكر على معاوية ، أشياء يفعلها ، فبعث اليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار !
فقال أبو ذر لرسوله : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ، أقبلها ، وان كانت صلة ، فلا حاجة لي فيها . وردّها عليه ٢ .
وكان أبو ذر يقول بالشام : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ، ولا في سنة نبيه ( ص ) والله إني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيا . . . الخ . .
ولم يكن أبو ذر ، غريبا عن الشام ـ أرض الجهاد ـ على حد تعبيره ، وعن معسكر المسلمين هناك ، فقد اشترك في غزوة الصائفة ( الروم ) كما شارك في فتح قبرص ، وكان أحد الصحابة البارزين في تلك المعارك ـ كما مر معنا .
__________________
(١) المصدر السابق .
(٢) شرح النهج ٨ / ٣٥٦ .
فكان يحدث بأحاديثه تلك أمام العامة والخاصة ، كما كان يحدث بها أمام الجند ، مما دفع حبيب بن مسلمة الفهري ـ أحد القادة ـ الى تحذير معاوية من مغبَّة ذلك ، وهذا ما يؤكده قول إبن بطَّال ـ المتقدم ـ من أنه كان كثير المنازعة لمعاوية والاعتراض عليه ، وكان في جيشه مَيل له .
ولا يغرب عن بالنا ، أن معاوية ـ بالاضافة الى تكريس نفسه أميرا على الشام ـ كان يمني نفسه بالخلافة مع أول فرصة تلوح ، وكان يمهد لذلك أيام إمارته . لذا ، فانه يرى أن وجود أبي ذر وأمثاله من المبرزين ، ضمن دائرة سلطانه ، قد يحول دون استقامة هذا الامر له ، فكان أحرص على إبعاده عنه ، من ابعاد عثمان إياه عن المدينة . فكتب الى عثمان فيه :
« انك قد أفسدت الشام على نفسك بأبي ذر . » ١
والواقع : أنه أفسدها على معاوية وعلى عثمان معاً ، لأنه كان يندد بأعمال الولاة ، وانجرافهم ، واستئثارهم بالفيء ، بحجة انه « مال الله » ، وكأن الله سبحانه قد أوكل بهذا المال ـ المال الذي أفاءه الله على المسلمين بفضل جهادهم ـ الى عثمان ، كي يبيح لمعاوية صرفه في سبيل غاياته الشخصية . وكي يعطيه لمروان بن الحكم ، وللحكم ابن ابي العاص ( طريد رسول الله ) ، ولأبي سفيان ! ! ولعبد الله بن سعد ! ومن هم على شاكلتهم ممن جرّوا الويلات على هذه الامة بتحكمهم في رقاب الناس ، وفي مقدراتهم .
ويظهر ان عثمان ـ بعد ورود كتاب معاوية عليه ـ وجد مبرراً للانتقام من أبي ذر ، وتأديبه كما يشتهي ، فكتب الى معاوية :
« أما بعد ، فاحمل جندبا الي على أغلظ مركب وأوعره . . » ٢
__________________
(١) اليعقوبي ٢ / ١٧٢ .
(٢) الغدير ٨ / ٢٩٣ .
ودَاع أهل الشّام لَه
أرسل معاوية الى أبي ذر ، فدعاه ، وأقرأه كتاب عثمان ، وقال له : النجاء الساعة !
فخرج أبو ذر الى راحلته فشدها بكورها وأنساعها ، فاجتمع اليه الناس ، فقالوا :
يا أبا ذر ، رحمك الله أين تريد ؟
قال : أخرجوني اليكم غضباً علي . وأخرجوني منكم الآن عبثاً بي ، ولا يزال هذا الامر فيما أرى ، شأنهم فيما بيني وبينهم ، حتى يستريح برّ ، أو يستراح من فاجر .
ومضى ، فسمع الناس بمخرجه فاتبعوه ، حتى خرج من دمشق ، فساروا معه حتى انتهى الى دير المرّان ، فنزل ، ونزل معه الناس ، فاستقدم ، فصلى بهم .
ثم قال : أيها الناس ، إني موصيكم بما ينفعكم ، وتارك الخُطب والتشقيق ، احمدوا الله عز وجل . قالوا : الحمد لله .
قال : اشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله .
فأجابوه بمثل ما قال :
فقال
: أشهد أن البعث حق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأقر
بما جاء من عند الله ، واشهدوا علي بذلك .
قالوا : نحن على ذلك من الشاهدين .
قال : ليبشر من مات منكم على هذه الخصال ، برحمة الله وكرامته ، ما لم يكن للمجرمين ظهيرا ، أو لأعمال الظلمة مصلحا ، أو لهم معينا .
أيها الناس : إجمعوا مع صلاتكم وصومكم غضبا لله عز وجل اذا عُصي في الارض ، ولا ترضوا أئمتكم بسخط الله . وإن أحدثوا ما لا تعرفون ، فجانبوهم ، وازروا عليهم وأن عُذِّبتم وحُرمتم وسُيِّرتم حتى يرضى الله عز وجل ، فان الله أعلى وأجل ، لا ينبغي أن يُسخط برضا المخلوقين . غفر الله لي ولكم ، أستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام ورحمة الله .
فناداه الناس : أن سلَّم الله عليك ورحمك ، يا أبا ذر ، يا صاحب رسول الله ! ألا نردّك إن كان هؤلاء القوم أخرجوك ؟ ألا نمنعك ؟
فقال لهم : إرجعوا ، رحمكم الله ، فاني أصبر منكم على البلوى ، واياكم والفرقة والاختلاف ١ .
وهذه الرواية ، لا تتنافى مع الروايات الاخرى التي تؤكد على أنه حمل على ناقة مسنة ، بلا غطاء ولا وطاء ، حتى وصل الى المدينة وقد تسلخ فخذاه .
فان الغاية كانت ، هي الانتقام من أبي ذر شخصيا ، وفي وسع معاوية أن لا يثير على نفسه تساؤلات الناس ، وكبار الشاميين ممن عرف أبا ذر ، وأخذ منه وسمع عنه . فتركه يخرج من الشام بصورة طبيعية ، ثم بعد أن
__________________
(١) أعيان الشيعة ١٦ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧ نقلا عن كتاب المجالس .
صار خارج حدودها نفذ فيه أمر عثمان ، فحمل على الصورة المعروفة .
وترك معاوية إتمام هذه المأساة ، مأساة أبي ذر الصحابي الجليل ليكملها غيره .
فحمل من المدينة الى الربذة ، حتى مات هناك وحيدا غريبا .
وبدوري ، فانني أترك للمؤرخين تفصيل ذلك .
الفَصْل الثالِث
تسْيير أبي ذَر إلى الربذَة
وَوَداع أمير المؤمنين علي عَليه السّلام له
كما وصفه المؤرخون
* منَ الشّـام إلى المَدينَة إلى الرّبذَة
* في الرّبذَة
* بَين أبي ذَرّ وّحُذيفَة بن اليَمان
* يَمشي وَحْدَهُ وَيمُوتُ وَحْدَه
* المَأسَاة
منَ الشّام إلى المَدينَة إلى الرّبذَة
روى البلاذري : ١
لما أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث ابن الحكم إبن أبي العاص ، ثلاثمائة ألف درهم ، جعل أبو ذر يقول : بشر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله عز وجل : « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . » فرفع ذلك مروان بن الحكم الى عثمان . فأرسل الى أبي ذر ، ناتلا مولاه : أن انته عما يبلغني عنك .
فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله . وعيب من ترك أمر الله ؟ فوالله ، لئن أرضي الله بسخط عثمان ، أحب الي ، وخير لي ، من أن أسخط الله برضاه .
فاغضب عثمان ذلك ، واحفظه ، فتصابر ، وكف .
وقال عثمان يوما : أيجوز للامام أن يأخذ من المال ، فاذا أيسر قضى ؟
فقال كعب الأحبار : لا بأس بذلك !
فقال أبو ذر : يا ابن اليهوديين ، أتعلمنا ديننا ؟
__________________
(١) الغدير ٨ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ عن الانساب ٥ / ٥٢ / ٥٤ .
فقال عثمان : ما أكثر أذاك لي ، وأولعك بأصحابي ؟ إلحق بمكتبك ، وكان مكتبه بالشام ، إلا أنه كان يقدم حاجا ، ويسأل عثمان الإذن له في مجاورة قبر رسول الله ( ص ) فيأذن له في ذلك ، وانما صار مكتبه بالشام ، لأنه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعا ١ ، اني سمعت رسول الله يقول : اذا بلغ البناء سلعا ، فالهرب ، فاذن لي أن آتي الشام فأغزو هناك . فأذن له .
وكان ابو ذر ينكر على معاوية اشياء يفعلها ، وبعث اليه معاوية بثلاث مائة دينار ، فقال : إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا ؟ قبلتها ! وان كانت صلة فلا حاجة لي فيها . وبعث اليه مسلمة الفهري بمائتي دينار ، فقال : أما وجدت أهون عليك مني ، حين تبعث الي بمال ؟ وردَّها .
وبنى معاوية الخضراء بدمشق ، فقال : يا معاوية ، إن كانت هذه الدار من مال الله ؟ فهي الخيانة ، وان كانت من مالك ؟ فهذا الاسراف . فسكت معاوية ، وكان ابو ذر يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ، ولا سنة نبيه . والله اني لأرى حقا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه .
فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية : ان أبا ذر مفسد عليك الشام ، فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة . فكتب معاوية الى عثمان فيه .
وجاء في شرح النهج :
عن جلّام بن جندل الغفاري قال : كنت غلاما لمعاوية على قنسِّرين والعواصم ، في خلافة عثمان ، فجئت اليه اسأله عن حال عملي ، اذ سمعت صارخا على باب داره يقول : أتتكم القطار ، تحمل النار ! اللهم العن الآمرين بالمعروف ، التاركين له ، اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له .
__________________
(١) سَلع : موضع بقرب المدينة ( معجم البلدان ـ ٣ / ٢٣٦ ) .
فازبأرَّ ١ معاوية ، وتغير لونه وقال : يا جلّام أتعرف الصارخ ؟ فقلت : اللهم لا .
قال : من عذيري من جندب بن جنادة ! يأتينا كل يوم ، فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت ! ثم قال : أدخلوه عليَّ .
فجيء بأبي ذر بين قوم يقودنه ، حتى وقف بين يديه ، فقال له معاوية :
يا عدو الله وعدو رسوله ! تأتينا في كل يوم ، فتصنع ما تصنع ! أما إني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد من غير إذن أمير المؤمنين عثمان ، لقتلتك ، ولكني أستأذن فيك .
قال جلّام : وكنت أحب أن أرى أبا ذر ، لأنه رجل من قومي ، فالتفت اليه ، فاذا رجل أسمر ضَرْب ٢ من الرجال ، خفيف العارضين ، في ظهره جَنأ ٣ فأقبل على معاوية وقال :
ما أنا بعدوّ لله ولا لرسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ولرسوله . أظهرتما الاسلام ، وأبطنتما الكفر . ولقد لعنك رسول الله ( ص ) ودعا عليك مرّات ألا تشبع .
سمعت رسول الله ( ص ) يقول : اذا ولي الامة الأعين ، الواسع البلعوم ، الذي يأكل ولا يشبع ، فلتأخذ الامة حذرها منه .
فقال معاوية : ما أنا ذاك الرجل .
قال أبو ذر : بل أنت ذلك الرجل ، اخبرني بذلك رسول الله ( ص ) وسمعته يقول ـ وقد مررت به ـ : اللهم إلعنه ، ولا تشبعه الا بالتراب . . الخ . .
__________________
(١) ازبأرّ : غَضِب .
(٢) ضرب : الخفيف اللحم .
(٣) الجنأ : يقال جنیء ، جنأ ، اذا اشرف كاهله على ظهره حدبا .
فكتب عثمان الى معاوية : ان أحمل جندبا اليّ على اغلظ مركب ، وأوعره ، فوجَّه به مع من سار به الليل والنهار ، وحمله على شارف ١ ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة ، وقد سقط لحم فخذيه من الجهد .
دخوله على عثمان
وفي رواية الواقدي : أن أبا ذر لما دخل على عثمان ، قال له :
لا أنعم الله بقين عينا |
|
نعم ولا لقاه يوماً زينا |
|
تحية السخط اذا التقينا |
|
فقال أبو ذر : ما عرفت اسمي ( قيناً ) قط .
وفي رواية أخرى : لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب !
فقال أبو ذر : أنا جندب ، وسماني رسول الله ( ص ) عبد الله ، فاخترت اسم رسول الله ( ص ) الذي سماني به على اسمي .
فقال له عثمان : أنت الذي تزعم أنا نقول : يد الله مغلولة ، وان الله فقير ونحن أغنياء !
فقال أبو ذر : لو كنتم لا تقولون هذا ، لأنفقتم مال الله على عباده ، ولكني أشهد أني سمعت رسول الله ( ص ) يقول . « اذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا ، جعلوا مال الله دُوَلا ، وعباده خَوَلا ، ودينه دَخَلا » .
فقال عثمان لمن حضر : أسمعتموها من رسول الله ؟
قالوا : لا .
قال عثمان : ويلك يا أبا ذر ! أتكذب على رسول الله ؟
__________________
(١) الشارف : الناقة المسنَّة .
فقال أبو ذر لمن حضر : أما تدرون أني صَدقتُ ! ؟
قالوا : لا والله ، ما ندري .
فقال عثمان : ادعوا الي عليا . فلما جاء ، قال عثمان لأبي ذر : أقصص عليه حديثك في بني العاص . فأعاده .
فقال عثمان لعلي عليه السلام : أسمعت هذا من رسول الله ( ص ) .
قال : لا . وقد صَدق أبو ذر .
فقال : كيف عرفت صِدقهُ ؟
قال : لأني سمعت رسول الله يقول : « ما أظلَّتِ الخضراء ، ولا أقلَّت الغبراء ، من ذي لهجة أصدقُ من أبي ذَرِّ . »
فقال من حضر : أما هذا ، فسمعناه كُلُّنا من رسول الله .
فقال أبو ذر : أحدثكم اني سمعت هذا من رسول الله ( ص ) فتتهموني ! ما كنت أظن اني أعيش حتى اسمع هذا من أصحاب محمد ١ .
وجاء في رواية الواقدي ، عن صهبان مولى الاسلميين .
قال : رأيت أبا ذر يوم دُخل به على عثمان . فقال له : أنت الذي فعلت ، وفعلت ! ؟
فقال ابو ذر : نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ، فاستغشني !
قال عثمان : كذبت ، ولكنك تريد الفتنة ، وتحبها ، قد انغلت ٢ الشام علينا .
فقال أبو ذر : اتبع سنة صاحبيك ، لا يكن لأحد عليك كلام .
فقال عثمان : ما لك وذلك ، لا أمّ لك !
__________________
(١) شرح النهج ٨ ص ٢٥٧ ـ ٢٥٨ ـ ٢٥٩ وج ٣ منه .
(٢) النغل : الافساد بين القوم .
قال أبو ذر : والله ما وجدت لي عذرا ، إلا الامر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
فغضب عثمان ، وقال : اشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب ، إما ان أضربه ، أو أحبسه ، أو أقتله ، فانه قد فرَّق جماعة المسلمين ، أو أنفيَه من أرض الاسلام .
فتكلم علي عليه السلام ـ وكان حاضرا ـ فقال :
أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون « وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ » .
فأجابه عثمان بجواب غليظ . وأجابه علي عليه السلام بمثله ١ . .
وجاء في مروج الذهب :
وكان في ذلك اليوم قد أتي عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهري من المال ، فنثرت البدر ، حتى حالت بين عثمان وبين الرجل الواقف ، فقال عثمان :
إني لأرجو لعبد الرحمن خيرا ، لأنه كان يتصدق ، ويقري الضيف ، وترك ما ترون .
فقال كعب الأحبار : صدقت يا أمير المؤمنين .
فشال أبو ذر العصا ، فضرب بها رأس كعب ولم يشغله ما كان فيه من الألم ، وقال :
يا ابن اليهودي ، تقول لرجل مات وترك هذا المال إن الله أعطاه خير الدنيا وخير الآخرة ، وتقطع على الله بذلك ، وانا سمعت النبي ( ص ) يقول :
__________________
(١) نفس المصدر السابق .
ما يسرني أن أموت ، وأدَعَ ما يزن قيراطاً ١ .
قال الواقدي : ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر ، أو يكلموه ، فمكث كذلك أياماً .
ثم أتي به ، فوقف بين يديه ، فقال أبو ذر : ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله ( ص ) ورأيت أبا بكر وعُمر ! هل هَدْيُكَ كهديِهم ، أما إنَّك لتبطُش بي بطشَ جبَّار ! .
فقال عثمان : أخرج عنا من بلادنا ـ ٢ الى آخر الرواية .
وفي مروج الذهب :
فقال له عثمان : وارِ عني وجهك .
فقال : أسير الى مكة . قال : لا والله ؟
قال : فتمنعني من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت ؟ قال : إي والله .
قال : فالى الشام ، قال : لا والله .
قال : البصرة . قال : لا والله ، فاختر غير هذه البلدان .
قال : لا والله ما اختار غير ما ذكرت لك . ولو تركتني في دار هجرتي ، ما أردت شيئا من البلدان ، فسيرني ، حيث شئت من البلاد .
قال : فاني مسيرك الى الربذة .
قال : الله أكبر ، صدق رسول الله ( ص ) قد أخبرني بكل ما أنا لاق .
قال : عثمان : وما قال لك ؟
قال : اخبرني بأني أمنع عن مكة ، والمدينة ، وأموت بالربذة ، ويتولى
__________________
(١) مروج الذهب ٢ / ٣٤٠ .
(٢) شرح النهج ٨ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ .
مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز ١ .
نفيه الى الربذة
جاء في شرح النهج ، عن ابن عباس ، قال :
لما أخرج أبو ذر الى الربذة ، أمر عثمان ، فنودي في الناس : ألّا يكلم أحد أبا ذر ، ولا يشيِّعه وأمر مروان بن الحكم أن يخرج به . فخرج به ، وتحاماه الناس . إلا عليّ بن ابي طالب عليه السلام وعقيلا أخاه ، وحسنا وحسينا عليهما السلام ، وعمارا فانهم خرجوا معه يشيعونه .
فجعل الحسن عليه السلام ، يكلم أبا ذر . .
فقال له مروان : إيها يا حسن ، ألا تعلم ان أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا الرجل ؟ ! فان كنت لا تعلم ، فاعلم ذلك .
فحمل علي عليه السلام على مروان ، فضرب بالسوط بين أذني راحلته ، وقال : تنحَّ ، لَحَاك الله الى النار !
فرجع مروان مغضبا الى عثمان ، فأخبره الخبر ، فتلظى على عليّ ( عليه السلام ) ٢ .
كلام الامام ( ع ) لابي ذر
وودع علي عليه السلام أبا ذر ( رض ) قائلا له :
يا أبا ذر ، انك غضبت لله ، فأرجُ من غضبتَ له إن القومَ خافوك
__________________
(١) مروج الذهب ٢ / ٣٤٠ ـ ٣٤١ .
(٢) شرح النهج ٨ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣ .