تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]

تفسير الراغب الأصفهاني - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن محمّد بن المفضّل أبوالقاسم الأصفهاني [ الراغب الأصفهاني ]


المحقق: د. عادل بن علي الشدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدار الوطن للنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٣
الجزء ١ الجزء ٢

الطول والعرض؟ وهل هما على تقديرك ووضعك كالصعود والحدور ، أم هما شيئان مختلفان بالذات؟ وذاك أن الطول والعرض من خواص / الجسم ، فالطول معتبر بالجانب الذي منه ينشأ وإليه ينشأ. والعرض بالجانبين الآخرين ، وذلك متصور في الحائط والثوب والبيت ، وقد يقال ذلك باعتبار الوضع في أشياء كثيرة ، وقد وقع شبهة على من لم يتمهر في المعقولات ، ولم يتجاوز منزل المحسوسات ، وقال : إذا كانت الجنة في السماء الرابعة على ما روي في الخبر (١) فكيف يكون عرضها عرض السموات؟ فجاء قوم من اليهود إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فأجابهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «سبحان الله إذا جاء النهار فأين الليل»؟ (٢) ، وهذه

__________________

(١) رواه أبو نعيم في «صفة الجنة» رقم (١٣٤) بلفظ : «الجنة فوق السماء الرابعة». وورد في بعض الأخبار أنها فرق السماء السابعة. انظر : حادي الأرواح لابن القيم ص (٩٦) الباب الثالث عشر : في مكان الجنة وأين هي.

(٢) ورد هذا الخبر من حديث أبي هريرة قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد! أرأيت جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرأيت هذا الليل قد كان ، ثم ليس شيء ، أين جعل؟» قال : الله أعلم قال : «فإن الله يفعل ما يشاء» أخرجه ابن حبان رقم (١٠٣) كما في الإحسان (١ / ٣٠٦ ، ٣٠٧) ، والبزار رقم (٢١٩٦

٢١

معارضة تقنع العامة بما فيه المقنع ، وتطلع الخاصة على ما نبّه عليه بقوله : «ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت» (١) وقد روي عن ابن عباس : أن لله عوالم ، هذا أحدها (٢). وقال أبو

__________________

ـ كشف الأستار) والحاكم في المستدرك (١ / ٣٦) وصححه ووافقه الذهبي.

وقال الهيثمي في المجمع (٦ / ٣٢٧) : رجاله رجال الصحيح. وقد رواه أحمد في المسند (٣ / ٤٤١ ، ٤٤٢) ، وابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٢٠٩) بهذا اللفظ الذي ساقه المصنف من حديث سعيد بن أبي راشد عن يعلى بن مرة ـ وليس في إسناد أحمد يعلى بن مرة ـ قال : لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمص شيخا كبيرا قد فنّد. قال : قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلا عن يساره. قال : قلت : من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا : معاوية. فإذا كتاب صاحبي : إنك تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض ... فذكر الحديث.

(١) جزء من حديث ثبت قدسيّا ونبويّا ، فأما القدسي فرواه البخاري ـ كتاب التفسير ـ باب «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين» رقم (٤٧٧٩ ، ٤٧٨٠) ، ورواه مسلم ـ كتاب الجنة ـ رقم (٢٨٢٤) ، ورواه أحمد (٢ / ٤٦٦) ، والحميدي (٢ / ٤٨٠) ، وأبو نعيم (٩ / ٢٦). وأما الحديث النبوي فرواه مسلم ـ كتاب الجنة وصفة نعيمها ـ رقم (٢٨٢٥) ، وأحمد (٥ / ٣٣٤) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٤١٣).

(٢) هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ، فقد ذكر الواحدي في الوسيط (١ / ٤٩٢) من رواية أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «الجنان أربع : جنة عدن ، وهي الدرجة العليا ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم ، وجنة المأوى ، وكل جنة منها كعرض السموات والأرض لو

٢٢

مسلم بن بحر : (١) العرض هاهنا من قولهم : عرضت الشيء بالشيء في البيع ، وذلك قائم مقام المساواة ، والمعنى : لو عرضت الجنة بالسموات والأرض لكانتا ثمنا لها (٢) ، وذلك

__________________

ـ وصل بعضها إلى بعض» ونقل القرطبي في الجامع (٤ / ٢٠٤) عن ابن عباس رضي الله عنه قال : «تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ، ويوصل بعضها ببعض ، فذلك عرض الجنة ، ولا يعلم طولها إلا الله. قال القرطبي : وهذا قول الجمهور ، وذلك لا ينكر ، فإن في حديث أبي ذر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما السموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض». فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدّا من السموات والأرض وقدرة الله أعظم من ذلك كله». وانظر : المحرر الوجيز (٣ / ٢٣٠) ، والتفسير الكبير (٩ / ٦) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٥٨). وأما حديث أبي ذر الذي ذكره القرطبي ، فقد أخرجه الطبري في جامع البيان رقم (٥٧٩٤) ، وابن أبي شيبة في كتاب العرش (١١٤) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (٤٠٤ ، ٤٠٥) ، وصححه الألباني لطرقه في السلسلة الصحيحة رقم (١٠٩).

(١) هو أبو مسلم وقيل : أبو سلمة محمد بن بحر الأصفهاني ، من وجوه المعتزلة وبلغائهم ، وله تفسير على طريقة المعتزلة اسمه جامع التأويل لمحكم التنزيل ، توفى سنة ٣٢٢ ه‍ وهو ابن سبعين سنة. انظر : لسان الميزان (٥ / ٨٩) ، وبغية الوعاة (١ / ٥٩) ، وطبقات المفسرين (٢ / ١٠٩) ، وهدية العارفين (٢ / ٧١).

(٢) نقل الفخر الرازي هذا القول في تفسيره (٩ / ٦) ونسبه لأبي مسلم.

٢٣

يفسده قوله في غير هذه الآية : (كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)(١) ، وقال بعضهم : هو من قولهم : فلان في جاه عريض ، وفي سعة ورحب (٢) ، وقد يقال للكبير عريض ، نحو : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ)(٣). والمغفرة أصلها إزالة العقوبة (٤) ، وإن كان قد يقال لها وللإعطاء ، ولمّا أمر تعالى بالاتقاء من النار ، والاتقاء منها مقتض للمغفرة ، وذلك منزلة التاركين للذنب ، أمره في هذه الآية أن لا يقتصر على التقوى من النار ، التي [هي](٥) مقتضية للمغفرة ، بل يتجاوز إلى طلب الجنة ، فقال : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ).

__________________

(١) سورة الحديد ، الآية : ٢١.

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن (١١١ ، ١١٢) ، وغريب القرآن للسجستاني ص (٣٣١) ، ومعاني القرآن للنحاس (١ / ٤٧٧) ، والوجوه والنظائر (٢ / ٧٤).

(٣) سورة فصلت ، الآية : ٥١. انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٩٠) ، والصحاح (٣ / ١٠٨٣) ، وقد ذكر المؤلف في المفردات ص (٥٦٠) في معنى الآية وجهين : «أحدهما : أن العرض هو خلاف الطول. وثانيهما : أن العرض : البدل والعوض». وانظر : معالم التنزيل (٢ / ١٠٤) ، والكشاف (١ / ٤١٥) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٣٢) ، والرازي في التفسير الكبير (٩ / ٦) ، والجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢٠٥) ، النيسابوري في تفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٥٩).

(٤) الذي عليه أهل اللغة أن أصل هذه المادة : التغطية والستر. انظر : العين (٤ / ٤٠٧) ، والزاهر ص (١٧ / ١٨) ، والمحكم (٥ / ٢٩٤) ، ومجمل اللغة ص (٥٣٣) ، والنهاية (٣ / ٣٧٣).

(٥) سقطت من الأصل والصواب إثباتها.

٢٤

قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(١) ، السّرّاء والضرّاء إشارة إلى حالي السعة والضيق ، كاليسر والعسر ، وإلى حالي السرور والاغتمام ، وقد فسّر بهما (٢) ، واللفظ يتناولهما ، فإن السراء يقابلها الغم ، والضراء يقابلها النفع ، فأخذ اللفظان المختلفا التقابل ليدل كل واحد على مقابله ، وهذا من دقائق إيجازات البلاغة (٣) ، فمن نظر إلى معنى السراء قال السرور والغم ، ومن نظر إلى معنى الضراء قال النفع والضر ، ولما كان الناس في الإنفاق أربعة أضرب : ضرب لا ينفق في حالي السّعة والضيق ، وهو اللئيم على الإطلاق ، وضرب ينفق في حال الضيق دون السعة ، كما قال الشاعر :

وكان غنيّ النفس في حال فقره

فصار فقيرا في الغنى خيفة الفقر (٤)

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٤.

(٢) انظر : تفسير جامع البيان (٧ / ٢١٣ ، ٢١٤) ، وغريب القرآن للسجستاني ص (٢٥٩ ، ٣١٢) ، والمفردات ص (٥٠٤) ، والقاموس المحيط ص (٥٢١).

(٣) يسمّى هذا الضرب من البلاغة بالاحتباك ، وهو من المحسنات البديعية المعنوية. قال الجرجاني : «الاحتباك وهو أن يجتمع في الكلام متقابلان ، ويحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه ، كقوله : (علفتها تبنا وماء باردا)». انظر : التعريفات ص (٢٩ ـ ٣٠).

(٤) البيت في مجمع البلاغة للراغب (١ / ٣٤٨) ولم ينسبه.

٢٥

وضرب ينفق في السعة دون الضيق ، وهو من وجه جبان يخاف الفقر ، ومن وجه حازم يأخذ بالوثيقة في أمور الدنيا ، وضرب ينفق في الحالين ، وذلك أحد رجلين : إما متهوّر لا يتفكر في العواقب ، ولا يبالي من أين يأخذ وأين يضع ، وذلك هو الموصوف بأنه من إخوان الشياطين (١) ، وإما واثق بكفاية الله ينفق ما يحصل في يده اعتمادا على خزائن ربه ، لكن لا يتناول إلا من حيث ما يجب وكما يجب ، ولا يضع إلا كذلك ، وهو الذي يتناول كل آية مدح فيها المنفقون (٢). وكظم الغيظ : هو الحلم (٣) ، فقد قيل : الحلم (٤) : كظم الغيظ ، وهو والعفو منزلتان شريفتان ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كظم الغيظ وهو يقدر أن

__________________

(١) كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) [الإسراء : ٢٧].

(٢) فرق الإمام ابن القيم بين الجواد والمسرف بقوله : «والفرق بين الجود والسرف : أن الجواد حكيم يضع العطاء مواضعه ، والمسرف مبذر ، وقد يصادف عطاؤه موضعه ، وكثيرا لا يصادفه ... فالجواد يتوخى بماله أداء الحقوق على وجه الكمال ، طيبة بذلك نفسه ، راضية مؤملة للخلف في الدنيا والثواب في العقبى ... بخلاف المبذر ، فإنه يبسط يده في ماله بحكم هواه وشهوته جزافا لا على تقدير ، ولا مراعاة مصلحة ، وإن اتفقت له». الروح ص (٥٢٤ ، ٥٢٥).

(٣) كظم الغيظ هو تجرّعه وحفظ النفس من إمضائه. انظر : جامع البيان (٧ / ٢١٤) ، ومجمل اللغة ص (٦٢٤) ، والمفردات ص (٧١٢).

(٤) قال الراغب : الحلم : ضبط النفس والطبع عند هيجان الغضب. المفردات ص (٢٥٣).

٢٦

ينفذه خيّره الله في أي الحور شاء» (١).

وقال تعالى : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)(٢) ، / وقال : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينادي يوم القيامة مناد : من كان له أجر على الله فليقم ، فيقوم العافون عن الناس» ، ثم تلا هذه الآية (٤) ، والفرق بين الحلم والعفو ، أن الحلم راجع إلى حال الإنسان في نفسه ، والعفو إلى ما بينه وبين غيره ، وإن كان قلما ينفك أحدهما عن الآخر (٥) ، ووجه الآية أن الله حث في الآية الأولى

__________________

(١) رواه أبو داود ـ كتاب الأدب ـ باب «من كظم غيظا» رقم (٤٧٧٧) ، ورواه الترمذي ـ كتاب البر والصلة ـ باب «من كظم الغيظ» رقم (٢٠٢١) ، وقال : حسن غريب. ورواه ابن ماجه ـ كتاب الزهد ـ باب «الحلم» رقم (٤١٨٦) ، وأحمد في المسند (٣ / ٤٤٠). وأبو يعلى رقم (١٤٩٧) ، والطبراني في الكبير (٢٠ / ٤١٥ ـ ٤١٧) ، وأبو نعيم في الحلية (٨ / ٤٧) ، والبيهقي (٨ / ١٦١) وحسنه المنذري في الترغيب (٣ / ٤٤١).

(٢) سورة النور ، الآية : ٢٢.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٣٧.

(٤) رواه العقيلي في الضعفاء (٣ / ٤٤٧) ، وأبو نعيم في الحلية (٦ / ١٨٧) ، والطبراني في الأوسط كما في مجمع البحرين في زوائد المعجمين للهيثمي رقم (٤٩٠٧) ، والبيهقي في الشعب (٦ / ٣١٥) ، وذكره المنذري في الترغيب (٣ / ٣٠٩) ، وقال : رواه الطبراني بإسناد حسن. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ / ٤١١) : رواه الطبراني في الأوسط ، ورجاله وثقوا على ضعف يسير في بعضهم.

(٥) انظر : الفروق ص (٢١٩ ـ ٢٢١ ، ٢٥٩) ، والروح ص (٥٤٠).

٢٧

على طلب الجنة المعدة للمتقين ، [ثم](١) بيّن حالهم وأفعالهم ، فذكر ما دلّ على جماع مكارم الأخلاق ، وهو السخاء في حالي السّرّاء والضراء والحلم والعفو ، وذلك أشرف ضربي الشرع ، وذاك أن الشرع ضربان : أحكام ومكارم ، ولن يستكمل الإنسان مكارمه إلا بعد أن يستكمل أحكامه ، فإن تحرّي أحكام الشرع من باب العدل ، وتحرّي العدالة فرض ، ومكارمه من باب الإحسان ، أي التفضل ، وتحرّي التفضل نفل ، ولا تقبل نافلة من أهمل الفرض (٢) ، ولا يفضل من ترك العدل ، بل لا يصح تعاطي التفضل إلا بعد العدل ، فإن العدل فعل ما يجب (٣) ، والفضل الزيادة على ما يجب (٤) ، وكيف تصح الزيادة على الشيء الذي هو غير حاصل في ذاته ، وبيّن تعالى أن من تخصص بمكارم الشرع فهو محسن ، والله يحب المحسنين ، وإحسان العبد ومحبته الله إياه هو أن يرى متخصصا بعامة أو صاف الله على غاية وسع

__________________

(١) ليست في الأصل ، والسياق يقتضيها.

(٢) قال ابن هبيرة : «إنما سميت نافلة ، لأنها تأتي زائدة على الفريضة ، فما لم تؤدّ الفريضة لا تحصل النافلة». فتح الباري (١١ / ٣٥١).

(٣) جاء في لسان العرب : العدل ما قام في النفوس أنه مستقيم ، وهو ضد الجور ... والعدل : الحكم بالحق ، يقال : هو يقضي بالحق ويعدل ...» لسان العرب (١١ / ٤٣٠ ، ٤٣١) ، وانظر : الكليات ص (٦٣٩).

(٤) قال العسكري : «والفضل ما لا يكون واجبا على أحد ، وإنما هو ما يتفضّل به من غير سبب يوجبه». الفروق ص (٢١٣).

٢٨

البشر ، فيصدق عليه أن يقال : هو جواد وكريم وحليم ، وودود إلى سائر ما يصح أن يوصف به أولياء الله.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)(١)

الفاحشة : ما تناهى قبحه مما يدرك بالبصر أو بالبصيرة (٢) ، ولكونها مستعملة فيهما قيل : فلان فاحش الطول. اعتبارا باستقباح البصر إياه ، وقيل للزنى والبخل المتناهي : فاحشة. اعتبارا باستقباح البصيرة إياهما (٣) ، ويقال : فلان ظلم نفسه. على ثلاثة

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآيتان : ١٣٥ ، ١٣٦.

(٢) انظر : تفسير جامع البيان (٧ / ٢١٨) ، وتهذيب اللغة (٤ / ١٨٨) ، ومقاييس اللغة (٤ / ٤٧٨) ، والمحكم (٣ / ٨).

(٣) ذكر الراغب في المفردات الأدلة الدالة على كون الزنا والبخل فاحشة. أما الزنا فذكر قوله تعالى : (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [الأحزاب : ٣٠] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) [النور : ١٩] ، وقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ) [الأعراف : ٣٣] ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) [النساء : ١٩]. وأما البخل فذكر قول الشاعر ، وهو طرفة بن العبد :

 ...

عقيلة مال الفاحش المتشدد

ثم قال : يعني به : العظيم القبح في البخل. المفردات ص (٦٢٦ ، ٦٢٧).

٢٩

أوجه : أحدها : إذا جنى على نفسه جناية لا يتخطاها. والثاني : إذا ظلم ذويه الذين هم بمنزلة نفسه ، وعلى نحو ذلك قال الشاعر فيمن ظلم ذويه :

وما كنت إلا مثل قاطع كفّه

بكفّ له أخرى فأصبح أجذما (١)

وعلى هذا الوجه قد يقال ذلك فيمن ظلم واحدا من كافة الناس ، إذا كان الناس كنفس واحدة وآحادهم كأعضائها. والثالث : أن ظلم الإنسان غيره لما كان وباله راجعا إليه ، يقال فيمن ظلم غيره : قد ظلم نفسه (٢) ، وعامة ما ذكر تعالى : ظلموا أنفسهم. ذكره مقرونا بنفي ظلمه تعالى إياهم ، نحو : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(٣) ، وقد ذكر حيث نهى عن ظلم الغير تنبيها على المعنى المتقدم ، نحو قوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا)(٤) ، ثم قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ

__________________

(١) البيت للمتلمس البكرى. انظر : الحماسة البصرية (١ / ١٣٧).

(٢) قسّم الراغب الظلم في المفردات إلى ثلاثة أنواع : «الأول : ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى ، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق. الثاني : ظلم بينه وبين الناس. الثالث : ظلم بينه وبين نفسه. ثم قال : وكل هذه الثلاثة في الحقيقة ظلم للنفس ، فإن الإنسان أول ما يهمّ بالظلم فقد ظلم نفسه ...» المفردات ص (٥٣٧ ، ٥٣٨).

(٣) سورة يونس ، الآية : ٤٤.

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢٣١.

٣٠

نَفْسَهُ)(١).

والإصرار : الإقامة على القبيح. مأخوذ من الصّرار (٢) والصّرّة ، كأن المصر على الذنب جعل ذنبه مصرورا على نفسه ، أي معقودا لا يجد سبيلا إلى حله (٣) ، وقوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) في موضع الحال ، أي لم يكن منهم إصرارا مع العلم (٤) ، واشتراط العلم أنه قد يعذر الإنسان مع الجهل في ارتكابه بعض المآثم ، كمن تزوج أخته من الرضاعة وهو لا يعلم ذلك (٥) ، وهذه الآية مع الأولى مشكلة ، يقال : هل قوله / : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا) صفة للمتقين كقوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) أم استئناف حكم؟ ولم أعيد ذكر الجنة منكّرا مقرونا بوصف آخر؟ ووجه ذلك أن الله تعالى

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٣١.

(٢) الصرار : «خرقة تشدّ على أطباء الناقة ، لئلا يرضعها فصيلها». العين (٧ / ٨٢) ، والمفردات ص (٤٨١).

(٣) انظر : العين (٧ / ٨٢) ، وغريب القرآن للسجستاني ص (٨٣) ، والمقاييس (٣ / ٢٨٢ ، ٢٨٣) ، والمفردات ص (٤٨١).

(٤) انظر : التبيان في إعراب القرآن (١ / ٢٩٣) ، والبحر المحيط (٣ / ٦٥) ، والدر المصون (٣ / ٣٩٧).

(٥) قال الزمخشري : والمعنى : وليسوا ممن يصرون على الذنوب ، وهم عالمون بقبحها ، وبالنهي عنها ، وبالوعيد عليها ، لأنه قد يعذر من لا يعلم قبح القبيح. الكشاف (١ / ٤١٧).

٣١

لما أمر الناس بتقواه وتقوى ناره أولا ، وأمرهم بالمسارعة إلى المنزلتين أولا : إلى طلب المغفرة التي يستحقها المتقي من النار ، ثم إلى الجنة العريضة التي يستحقها المتقي من الله ، ذكر بقوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ)(١) حال المتقين لله ، المستحقين لتلك الجنة ، وقال : هم الذين تجاوزوا تعاطي أحكام الشرع إلى تعاطي مكارمه (٢) ، والذين اقتدوا بالله على غاية جهدهم في اكتساب صفاته (٣) ، ثم ذكر حال المستغفرين لوقوع فاحشة منهم أو ظلم ، وبين أن لهم جنات أدون من تلك الجنة ، فقال : الذين إذا أخلوا بشيء من الواجبات ذكروا الله فأقلعوا ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٤.

(٢) الذي يظهر أنه يريد بأحكام الشرع واجباته ، وبالمكارم فضائله ومستحباته. وإخراج المستحبات عن الأحكام اصطلاح غير مألوف ، والمعروف أن أحكام الشرع تشمل الواجبات والمستحبات وضدّهما ، كما هو معروف عند الأصوليين في الأحكام التكليفية.

(٣) لم يرد في الشرع الأمر بالاقتداء بالله تعالى في صفاته ، ولا يعرف مثل هذا في كلام السلف ، وإنما هو من كلام الفلاسفة ، ولهذا قال بعضهم : الفلسفة هي التشبه بالخالق على قدر الطاقة. ويروون في ذلك حديثا لا أصل له : «تخلقوا بأخلاق الله». لكن ورد الشرع بمحبة الله تعالى لبعض الصفات من نفسه ومن عباده : كالعفو والجود. انظر : شرح الطحاوية (١ / ٨٨).

٣٢

مُبْصِرُونَ)(١) ولم يستمروا على فعل الشر ، ثم قال : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) على سبيل الاعتراض بينه وبين تمام الكلام ؛ تنبيها أن الإنسان لا يجب أن يلتجىء إلا إلى الله ، وبين أنه [من](٢) فعل ذلك لم يقتصر تعالى معه على ترك الذنب عليه ، بل يجعل له جنات ، وجعل هذه الجنات على أوصاف يتصورها الوهم ، ويدرك مثلها الحس ، وجعل للفرقة الأولى جنة لا يتصورها الوهم ، ولا يحيط بها الحسّ ، فإن جنّة عرضها السموات والأرض مع كونها في السماء إشارة إلى ما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لا عين رأت» (٣) ، وذلك مما لا يتصوّره الوهم ، ولما كانت الفرقة الأولى عاملت أنفسهم وعباد الله بضرب عامل الله به عباد الله وهو الجود والحلم والعفو ، سماهم هو تعالى بما استحقه ، وهو المحسن ، وقابلهم بمقابلة يطلبها هو من العباد أن يقابلوه بها ، وهي المحبة ، فقال : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(٤) والفرقة الثانية : عاملت أنفسها وعباد الله بما لا يصح أن يوصف الله به ، بل يوصف به العبد المتدارك لتقصيره ، جعلهم من العملة

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٢٠١.

(٢) زيادة يقتضيها السياق.

(٣) تقدم تخريجه ص (٨٥٦).

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٤.

٣٣

المستحقة للأجر ، وسمى نفسه حيث ذكر مقابلة الفرقة الأولى فقال : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ،) وهو أعم الأسماء وأخصّها به ، تنبيها أنهم يراعونه بالإلهية ، وسمى نفسه حيث ذكر مقابلة الفرقة الثانية ربهم ، تنبيها أنهم يراعونه بالنعمة الواصلة إليهم ، التي هي سبب تربيتهم ، وعلم أن منزلة الفرقة الأولى منزلة الشاكرين الموصوفين بقوله : (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)(١) ، ومنزلة الفرقة (٢) الثانية منزلة الصابرين الموصوفين بقوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣) ، فذكر في الشاكرين المجازاة الجارية بين الأحباء ، وذكر في الصابرين الأجرة كفاء ما يجعل للأجراء ، وإن كان قد جعلها بلا حساب ، وشتّان ما بين الأجير والحبيب ، وهذه من المواضع التي لم أر من تحرى مذهب التحقيق ، واشتغل به مع صعوبته ، غير أن ابن بحر لما انتهى إلى قوله : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ)(٤) ، قال : إن المغفرة المذكورة

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٤٥.

(٢) كلمة الفرقة تكررت في الأصل.

(٣) سورة الزمر ، الآية : ١٠.

(٤) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٦.

٣٤

هي المذكورة في قوله : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(١) ، وكذلك الجنات هي الجنة التي عرضها السموات ، وإن ذلك أجرتهم بتلك الأفعال ، وهو مع أنه لم يتدبر التفصيل واختلاف المجازين والجزائين وأوصافها لم يتفكر في أن الفكرة إذا أعيد ذكرها تعاد معرفة ، وإلا كان الثاني غير الأول ، فلو كانت المغفرة والجنات هي التي تقدم ذكرها لقال المغفرة / والجنات.

قوله تعالى : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(٢) الخلاء : المكان الذي لا ساتر فيه ، من بنية وغيرها ، وقد يقال للمكان الذي لا ساكن فيه ، وخليته تركته في خلاء (٣) ، ثم يقال لكل ترك : تخلية حتى قيل : ناقة خلية : مخلاة عن الحلب ، وامرأة خلية مخلاة عن الزوج ، وسميت السفينة المتروكة تمر بذاتها خلية ، وزمان خال (٤) أي ماض ، كأنه خلا عما كان فيه (٥) ، وأصل السّنّة من السنّ أي

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٣.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٧.

(٣) في القاموس : خلا المكان خلوّا وخلاء ، وأخلى واستخلى : فرغ. ومكان خلاء : ما فيه أحد. القاموس ص (١٦٥٢).

(٤) في الأصل : (خالي) والصواب المثبت ، لأنه منقوص مرفوع منون ، ولعلّ ما في الأصل من تحريف الناسخ.

(٥) انظر : تهذيب اللغة (٧ / ٥٦٨ ـ ٥٧٥) ، والصحاح (٦ / ١٣٣٠ ـ ١٣٣١) ،

٣٥

(صب الماء) (١) على وجه الأرض ، وعلى التشبيه به قيل : سننت الدرع (٢) ، ووجه مسنون (٣) ، والسنّة : الطريقة المجعولة للاقتداء بها محسوسة كانت أو معقولة (٤) ، وعني بالسنة هاهنا ما كان من القرون الأولى ، أخيارهم وأشرارهم (٥) ، وما كان في مقابلتهم

__________________

ـ ومقاييس اللغة (٢ / ٢٠٤ ، ٢٠٥) ، والمفردات ص (٢٩٨) ، والقاموس ص (١٦٥٢ ، ١٦٥٣).

(١) في الأصل : (الصبّ الماد) ، والصواب ما أثبته. وفي المقاييس (٣ / ٦٠) : «... والأصل قولهم : سننت الماء على وجهي ... إذا أرسلته إرسالا». وفي المفردات ص (٤٢٩) : قيل : «سننت الماء أي أسلته».

(٢) أي يقال : سنّ عليه الدرع إذا صبها. وفي المفردات ص (٤٢٩) : وسنّ الحديد : إسالته وتحديده.

(٣) قال الفيروز آبادي : «ورجل مسنون الوجه : مملّسه ، حسنه ، سهله ، أو في جهه وأنفه طول» القاموس ص (١٥٥٨).

(٤) قال ابن الأثير : «... والأصل فيها ـ أي السنة ـ الطريقة والسيرة». النهاية (٢ / ٩) وإذا أطلقت في الشرع فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونهى عنه ، وندب إليه قولا وفعلا ، مما لم ينطق به الكتاب العزيز ، ولهذا يقال في أدلة الشرع : الكتاب والسنة ، أي القرآن والحديث». النهاية (٢ / ٤٠٩) ، وقال الواحدي : السنن : جمع السنة : وهي المثال المتبع ، والإمام المؤتم به

(٥) انظر معاني مادة «سنن» في : العين (٧ / ١٩٧ ، ١٩٨) ، وتهذيب اللغة (١٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠٦) ، والمقاييس (٣ / ٦٠ ، ٦١) ، والمفردات ص (٤٢٩) ، والنهاية ص (٤٠٩ ـ ٤١٣) ، والقاموس ص (١٥٥٨).

٣٦

منه تعالى ومجازاته إياهم إن خيرا فخيرا ، وإن شرّا فشرّا في الدنيا تارة وفي الآخرة تارة ، على ما بينه تعالى بكلامه ، وشوهد من أحكامه ، فنبهنا على اعتبار ما جرى به سننه ، وأمرنا بالسير في الأرض والنظر إليه (١) ، ولم يعن بالسير السعي بالأرجل ، ولا بالنظر نظر العين ، فذلك غير مغن بانفراده في معرفة سنة الله في الذين خلوا ، وإنما عنى إجالة الخاطر فيها ، والنظر بالبصيرة للمتحرين للحكم ، والمنبهين على العبر (٢) ، وعلى هذا قوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)(٣) ، وقوله : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها)(٤) ، وقد

__________________

(١) انظر : جامع البيان (٧ / ٢٢٨) ، والوسيط (١ / ٤٩٦) ، الجامع لأحكام القرآن (٤ / ٢١٦) ، والبحر المحيط (٣ / ٦٦) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٣٨٥).

(٢) قال ابن عطية : «وقال تعالى : فَسِيرُوا* وهذا الأمر قد يدرك بالأخبار دون السير ، لأن الإخبار إنما يكون ممن سار وعاين ، إذ هو مما يدرك بحاسة البصر ، وعن ذلك ينتقل خبره ، فأحالهم الله على الوجه الأكمل.

وقوله : (فَانْظُروا) هو عند الجمهور من نظر العين. وقال قوم : هو بالفكر». المحرر الوجيز (٣ / ٢٣٨). وقال أبو حيان : «... وقيل : السير هنا مجاز عن التفكر ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس. وقال الجمهور : النظر هنا من نظر العين ، وقال قوم : هو بالفكر ...». البحر المحيط (٣ / ٦٦).

(٣) سورة الروم ، الآية : ٩. وفاطر ، الآية : ٤٤.

(٤) سورة الملك ، الآية : ١٥.

٣٧

حمل بعض الصوفية قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سافروا تغنموا» (١) على هذا.

قوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)(٢) جعل تعالى القرآن بيانا للعامة والخاصة ، فلهذا قال للناس لأنه ما من ذي فكرة استمع إليه إلا حصل منه بيان ما ، وجعله هدى وموعظة للمتقين خاصة (٣) ، وقد تقدم الكلام في تخصيصه هدى لهم في قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(٤) ، فالفرق بين الهدى والموعظة : أن الهدى يقال باعتبار معرفة الشريعة وسلوك طرقها إلى ثواب الله تعالى ، والوعظ يقال باعتبار معرفة الثواب والعقاب (٥) ، إن

__________________

(١) رواه أحمد (٢ / ٣٠٠) ، والطبراني في الكبير (١١ / ٦٣) ، والخطيب في تاريخ بغداد (٧ / ١٠٣) بألفاظ متقاربة. وأشار إلى ضعفه الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٣ / ٢١٠) ، (٥ / ٣٢٤) ، والمنذري في الترغيب والترهيب (٢ / ٨٣). وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٢٨٥) في تفسير سورة العنكبوت ، الآية : ٥٦. وعزاه للطبراني والقضاعي والشيرازي في الألقاب والخطيب وابن النجار والبيهقي عن ابن عمر نحوه.

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٨.

(٣) روى ابن جرير الطبري في جامع البيان (٧ / ٢٣٢) بسنده عن قتادة ، قال : «هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وهو هذا القرآن ، جعله الله بيانا للناس عامة ، وهدى وموعظة للمتقين خصوصا».

(٤) سورة البقرة ، الآية : ٢. وانظر : تفسير الراغب المخطوط (ق ١٢).

(٥) قال العسكري : «والهدى : بيان طريق الرشد ، ليسلك دون طريق الغي».

٣٨

قيل : أيراد بذلك أنهم يهتدون ويتعظون ، أم انهم يهدون ويعظون؟ قيل : يحتمل الوجهين ، ويصحّ حمله عليهما ، فهم في الحقيقة يهتدون به ويتعظون ، ويهدون به غيرهم ويعظون (١).

قوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(٢) ، الوهن والوهي يتقاربان ، لكن الوهن ضعف ، والوهي يقال فيه وفي التخرق ، فهو أعم (٣). والحزن : ألم موجع للنفس من فوت مطلوب أو فقد محبوب (٤). إن قيل : كيف أمر

__________________

ـ الفروق ص (٢٣١). وقال الخليل : «العظة : الموعظة ، وعظت الرجل أعظه عظة وموعظة ... وهو تذكيرك إياه الخير ونحوه مما يرق له قلبه». العين (٢ / ٢٢٨).

(١) انظر : الكشاف (١ / ٤١٨) ، والمحرر الوجيز (٣ / ٢٣٨) ، وتفسير غرائب القرآن (٢ / ٢٦٤) ، والبحر المحيط (٣ / ٦٧) ، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (١ / ٣٨٦) ، وإرشاد العقل السليم (٢ / ٨٨).

(٢) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٩.

(٣) انظر : العين (٤ / ٩٢) ، وتفسير غريب القرآن ص (١١٢) ، وغريب القرآن للسجستاني ص (١٣٨ ، ٤٨٥) ، والأفعال لابن القوطية ص (٣٠٤) ، وتهذيب اللغة (٦ / ٤٨٨) ، والمشوف المعلم (٢ / ٨٤٤).

(٤) قال في المفردات : الحزن والحزن : خشونة في الأرض ، وخشونة في النفس ، لما يحصل فيه من الغم ، ويضاده الفرح. المفردات ص (٢٣١). وقال

٣٩

الإنسان بأن لا يهن ولا يحزن ، وليس ذلك باختياره ، بل هو شيء يعرض له بالاضطرار؟ قيل : النهي في الحقيقة متوجه إلى تعاطي فعل ما يورث ذلك ، وإن كان في اللفظ متناولا للحزن والوهن ، وذلك أن الحزن يعرض بأن لا يستشعر الإنسان ما عليه جبلت الدنيا ، ولا يعرف أن أموالنا وأبداننا عارية مستردّة (١) ، ولا يحتمل صغار المكاره ، فيتوصّل بها إلى احتمال ما هو أعظم منها ، وعلى هذا قوله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)(٢) ، وقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)(٣)؟ قيل : عنى في الاستقبال إشارة إلى نحو قوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(٤) ، فيكون هذا وعدا لهم (٥) ،

__________________

ـ الفيروز آبادي : الحزن : الهم. القاموس ص (١٥٣٥) ، وانظر في تعريف الحزن : العين (٣ / ١٦٠) ، والجمهرة (٢ / ١٥٠) ، والمحكم (٣ / ١٦٥).

(١) العارية المستردّة : كلّ ما تعطيه غيرك على أن يردّه إليك. قال ابن منظور : «وأعراه النخلة : وهب له ثمرة عامها ، والعريّة : النخلة المعراة». اللسان (١٥ / ٤٩) وانظر : المعجم الوسيط ص (٦٣٦).

(٢) سورة الحديد ، الآية : ٢٣.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ١٣٩.

(٤) سورة الأعراف ، الآية : ١٢٨.

(٥) قال أبو حيان : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أي الغالبون وأصحاب العاقبة ، وهو إخبار بعلو كلمة الإسلام. قاله الجمهور وهو الظاهر. البحر المحيط (٣ / ٦٧). وانظر : جامع البيان (٧ / ٢٣٤) ، وتفسير القرآن للسمعاني ـ

٤٠