لطائف الإشارات - ج ٣

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري

لطائف الإشارات - ج ٣

المؤلف:

زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري


المحقق: الدكتور إبراهيم بسيوني
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٣
الصفحات: ٧٩٤

قال لفرعون : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (١). وقال لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) : معناه ما ضلّ صاحبكم ، ولا غفل عن الشهود طرفة عين.

قوله جل ذكره : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤))

أي ما ينطق بالهوى ، وما هذا القرآن إلا وحي يوحى. وفي هذا أيضا تخصيص له بالشهادة ؛ إذ قال لداود : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) (٢).

وقال في صفة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى).

(ومتى ينطق عن الهوى وهو في محل النجوى؟ فى الظاهر مزموم بزمام التقوى ، وفي السرائر في إيواء المولى ، مصفّى عن كدورات البشرية ، مرقّى إلى شهود الأحدية ، مكاشف بجلال الصمدية ، مختطف عنه بالكلّيّة ، لم تبق منه إلا للحقّ بالحقّ بقية .. ومن كان بهذا النعت .. متى ينطق عن الهوى؟) (٣).

قوله جل ذكره : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧))

أي جبريل عليه‌السلام. و (ذُو مِرَّةٍ) : أي ذو قوة وهو جبريل. (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) أي جبريل.

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩))

دنا جبريل من محمد عليه‌السلام ، فتدلّى جبريل : أي نزل من العلوّ إلى محمد.

وقيل : (فَتَدَلَّى) تفيد الزيادة في القرب ، وأنّ محمدا عليه‌السلام هو الذي دنا من ربّه دنوّ كرامة ، وأنّ التدلّى هنا معناها السجود.

__________________

(١) آية ١٠٢ سورة الإسراء.

(٢) آية ٢٦ سورة ص.

(٣) كل ما بين القوسين موجود في مكان آخر ، وضعناه في مكانه الصحيح حتى يستقيم السياق.

٤٨١

ويقال : دنا محمد من ربّه بما أودع من لطائف المعرفة وزوائدها ، فتدلّى بسكون قلبه إلى ما أدناه.

(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) : فكان جبريل ـ وهو في صورته التي هو عليها ـ من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحيث كان بينهما قدر قوسين أو أدنى.

ويقال : كان بينه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وبين الله قدر قوسين : أراد به دنوّ كرامة لا دنوّ مسافة.

ويقال : كان من عادتهم إذا أرادوا تحقيق الألفة بينهم إلصاق أحدهم قوسه بقوس صاحبه عبارة عن (١) عقد الموالاة بينهما ، وأنزل الله ـ سبحانه ـ هذا الخطاب على مقتضى معهودهم. ثم رفع الله هذا فقال : (أَوْ أَدْنى) أي بل أدنى.

قوله جل ذكره : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠))

أي أوحى الله إلى محمد ما أوحى. ويقال : أحمله أحمالا (٢) لم يطلّع عليها أحد.

ويقال : قال له : ألم أجدك يتيما فآويتك؟ ألم أجدك ضالا فهديتك؟

ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟

ويقال : بشّره بالحوض والكوثر.

ويقال : أوحى إليه أنّ الجنّة محرّمة على الأنبياء حتى تدخلها ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتّك. والأولى أن يقال : هذا الذي قالوه كله حسن ، وغيره مما لم يطّلع أحد .. كله أيضا كان له في تلك الليلة وحده ؛ إذ رقّاه إلى ما رقّاه ، ولقّاه بما لقّاه ، وأدناه حيث لا دنوّ قبله ولا بعده ، وأخذه عنه حيث لا غير ، وأصحاه له في عين ما محاه عنه ، وقال له ما قال .. دون أن يطّلع أحد على ما كان بينهما من السّرّ (٣).

__________________

(١) كما نقول في أسلوبنا الآن (تعبيرا عن ..)

(٢) هكذا في ص وهي أصوب مما جاء في م (أجمله إجمالا) بالجيم فالسياق يرفضهما.

(٣) هذه الفقرة الأخيرة محاولة من جانب أرباب الحقيقة لفهم بعض جوانب في قصة الإسراء والمعراج. ومضمون كلام القشيري أننا لو كنا نستسيغ حدوث أحوال الكشوفات والمواصلات التي تتاح للأولياء العارفين .. فكيف لا نتقبلها بالنسبة للمصطفى عليه صلوات الله وسلامه؟ وبمعنى آخر : نجد التفسير الصوفي يبرز نفسه في قوة ونصاعة لتوضيح قضية من قضايا التدين ، كانت موضع جدل في زمانها وبعد زمانها.

٤٨٢

قوله جل ذكره : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١))

ما كذّب فؤاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآه ببصره من الآيات. وكذلك يقال : رأى ربّه تلك الليلة على الوصف الذي علمه قبل أن يراه (١).

قوله جل ذكره : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢))

أفتجادلونه على ما يرى؟

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥))

أي جبريل رأى الله مرة أخرى حين كان محمد عند سدرة المنتهى ؛ وهي شجرة في الجنة ، وهي منتهى الملائكة ، وقيل : تنتهى إليها أرواح الشهداء. ويقال : تنتهى إليها أرواح الخلق ، ولا يعلم ما وراءها إلا الله تعالى ـ وعندها (جَنَّةُ الْمَأْوى) وهي جنة من الجنان.

قوله جل ذكره : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦))

يغشاها ما يغشاها من الملائكة ما الله أعلم به.

وفي خبر : يغشاها رفرف طير خضر.

ويقال : يغشاها فراش من ذهب.

__________________

(١) يقول القشيري في كتابه المعراج ص ٩٤ : «واختلفوا في رؤية الله سبحانه ليلة المعراج ؛ فقالت عائشة رضى الله عنها : إن النبي (ص) لم ير ربّه ليلة المعراج ، ومن زعم أن محمدا رأى ربّه ليلة المعراج فقد أعظم على الله الفرية. وقال ابن عباس : إن نبينا (ص) رأى ربّه ليلة المعراج.

ثم اختلفت الرواية عن ابن عباس ؛ ففى رواية أنه رآه بعين رأسه ، وفي رواية أنه رآه بقلبه. وقال أهل التحقيق من أهل السّنّة : اختلافهم في هذه المسألة دليل على إجماعهم أن الحق سبحانه يجوز أن يرى ؛ لأنه لو لا أنّهم كانوا متفقين على جواز الرؤية لم يكن لاختلافهم في الرؤية في تلك الليلة معنى.

وقد رويت في هذا الباب أخبار ، والله أعلم بصحتها ، فإن صحّ ذلك فلها وجوه من التأويل ، من ذلك ماءروى أنه قال : «رأيت ربى في أحسن صورة» ـ فهذا الخبر يحتمل وجوها منها : رأيت ربى وأنا في أحسن صورة يعنى في أكمل رتبة وأتم فضيلة ، وأقوى ما كنت ؛ لم يصحبنى دهش ، ولا رهقتنى حيرة.

ويمكن أن تكون الرؤية بمعنى العلم ، أي رأيت من قدرة الله تعالى ودلائل حكمته ، ولم يشغلنى شهود الصور عن ذكر المصوّر ، بل رأيت الفاعل في الفعل.

وقيل : الصورة بمعنى الصفة ، يقال : أرنى صورة هذا الأمر أي : صفته. و «فى» على معنى «على» أي رأيت ربى على أحسن صفة من جلالة وصفه وإفضاله معى.

٤٨٣

ويقال : أعطى رسول الله (ص) عندها خواتيم البقرة ، وغفر لمن مات من أمّته لا يشرك بالله شيئا.

قوله جل ذكره : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧))

ما مال ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ ببصره عمّا أبيح له من النظر إلى الآيات ، والاعتبار بدلائلها.

فما جاوز حدّه ، بل راعى شروط الأدب في الحضرة (١).

قوله جل ذكره : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

أي (الْآيَةَ) الكبرى ، وحذف الآية .. وهي تلك التي رآها في هذه الليلة. ويقال : هى بقاؤه في حال لقائه ربّه بوصف الصّحو ، وحفظه حتى رآه (٢).

قوله جل ذكره : (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢))

هذه أصنام كانت العرب تعبدها ؛ فاللات صنم لثقيف ، والعزّى شجرة لغطفان ، ومناة صخرة لهذيل وخزاعة (٣).

ومعنى الآية : أخبرونا .. هل لهذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله من القدرة أن تفعل بعائذ بها ما فعلنا نحن لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الرّتب والتخصيص؟.

__________________

(١) قال أبو يزيد البسطامي : حفظ النبي (ص) طرفه في المسرى ، فما زاغ البصر وما طغى ، لعلمه بما يؤهل له من المشاهدة ، فلم يشاهد في ذلك شيئا ، ولم ير طرفه أحدا ، ثم لما ردّ إلى محل التأديب نظر إلى الجنة والنار ، والأنبياء والملائكة للإخبار عنها ، وتأديب الخلق بها ؛ فالمقام الأول مقام خصوص والمقام الثاني مقام عموم.

وقال رويم : لما أكرم عليه الصلاة والسلام بأعظم الشرف في المسرى عملت همّته عن الالتفات إلى الآيات والكرامات والجنة والنار فما زاغ البصر وما طغى ؛ أي ما أعار طرفه شيئا من الأكوان ، ومن شاهد البحر استقلّ الأنهار والأودية.

(٢) سئل الشبلي : «كيف ثبت النبى (ص) فى المعراج للقاء والمخاطبة؟ فقال : إنه هيّىء لأمر فمكّن فيه» ويقارن القشيري في موضع آخر بين موسى عليه‌السلام إذ خرّ صعقا بمجرد سماع النداء وبين نبيّنا عليه الصلاة والسلام إذ ثبت في محل المشاهدة ، ويضيف : إن موسى في حال التلوين ، ومحمد في حال التمكين.

(٣) هذه الأصنام كلها مؤنثات .. وكانوا يقولون : إن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله!

٤٨٤

ثم وبّخهم فقال : أرأيتم كيف تختارون لأنفسكم البنين وتنسبون البنات إلى الله؟ تلك إذا قسمة ناقصة!

قوله جل ذكره : (إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣))

أنتم ابتدعتم هذه الأسماء من غير أن يكون الله أمركم بهذا ، أو أذن لكم به.

فأنتم تتبعون الظنّ ، (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (١)

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) : فأعرضوا عنه ، وكما أنّ ظنّ الكفار أوجب لهم الجهل والحيرة والحكم بالخطأ ـ فكذلك في هذه الطريقة (٢) : من عرّج على أوصاف الظنّ لا يحظى (٣) بشىء من الحقيقة ؛ فليس في هذا الحديث إلا القطع والتحقّق ، فنهارهم قد متع (٤) ، وشمسهم قد طلعت ، وعلومهم أكثرها صارت ضرورية.

أمّا الظنّ الجميل بالله فليس من هذا الباب ، والتباس عاقبة الرجل عليه ليس (٥) أيضا من هذه الجملة ذات الظن المعلول في الله ، وفي صفاته وأحكامه.

قوله جل ذكره : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤))

أي ليس (٦) للإنسان ما يتمنّاه ؛ فإنّه يتمنى طول الحياة والرفاهية وخصب العيش .. وما لا نهاية له ، ولكنّ أحدا لا يبلغ ذلك بتمامه.

__________________

(١) آية ٢٨ في السورة نفسها.

(٢) يقصد طريقة الصوفية.

(٣) فى م (يخطىء) وهي خطأ في النسخ

(٤) فى ص (منع) بالنون وهي خطأ ، فمتوع النهار من المصطلحات الصوفية التي زادها القشيري على (اللوائح والطوالع واللوامع) كما نوهنا من قبل.

(٥) هكذا في م وهي في ص (ليبين) وهي خطأ من الناسخ.

(٦) هى (أم) المنقطعة ، ومعنى الهمزة فيها للإنكار ، أي للإنسان ـ يعنى الكافر ـ ما تمنى من شفاعة الأصنام ، وغير ذلك من التمني.

٤٨٥

ويقال : ما يتمنّاه الإنسان أن يرتفع مراده واجبا في كل شىء ـ وأن يرتفع مراد عبد واجبا في كل شىء ليس من صفات الخلق بل هو لله ، الذي له ما يشاء :

(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥))

له الآخرة والأولى خلقا وملكا ، فهو الملك المالك صاحب الملك التام. فأمّا المخلوق فالنقص لازم للكلّ.

قوله جل ذكره : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦))

وهذا ردّ عليهم حيث قالوا : إنّ الملائكة شفعاؤنا عند الله (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨))

هذه التّسمية من عندهم ، وهم لا يتبعون فيها علما أو تحقيقا .. بل ظنّا ـ والظنّ لا يفيد شيئا.

قوله جل ذكره : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠))

أي أعرض عمّن أعرض عن القرآن والإيمان به وتدبّر معانيه ، ولم يرد إلا الحياة الدنيا.

__________________

(١) لا تنفع شفاعة أحد إلا إذا أذن الله .. فإذا كانت الملائكة مع كثرتها وقربها من الله لا تصلح الشفاعة إلا بإذن من الله ـ فكيف تصلح هذه الأصنام الشفاعة؟!

٤٨٦

ذلك مبلغهم من العلم ؛ وإنما رضوا بالدنيا لأنهم لم يعلموا حديث الآخرة ، وإنّ ربّك عليم بالضالّ ، عليم بالمهتدي ... وهو يجازى كلّا بما يستحق.

قوله جل ذكره : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١))

يجزى الذين أساءوا بالعقوبات ، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.

قوله جل ذكره : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ)

الذنوب كلّها كبائر لأنها مخالفة لأمر الله ، ولكنّ بعضها أكبر من بعض. ولا شىء أعظم من الشّرك. (وَالْفَواحِشَ) المعاصي.

(إِلَّا اللَّمَمَ) : تكلموا فيه ، وقالوا : إنه استثناء منقطع ، واللمم ليس بإثم ولا من جملة الفواحش.

ويقال : اللمم من جملة الفواحش ولكن فيها اشتباها ـ فأخبر أنه يغفرها.

ويقال : اللمم هو أن يأتى المرء ذلك ثم يقلع عنه بالتوبة.

وقال بعض السّلف : هو الوقعة من الزّنا تحصل مرة ثم لا يعود إليها ، وكذلك شرب الخمر ، والسرقة .. وغير ذلك ، ثم لا يعود إليها.

ويقال : هو أن يهم بالزّلّة ثم لا يفعلها.

ويقال : هو النّظر. ويقال : ما لا حدّ عليه من المعاصي ، وتكفّر عنه الصلوات. (والأصحّ أنه استثناء منقطع وأن اللمم ليس من جملة المعاصي) (١).

قوله جل ذكره : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.

٤٨٧

أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى)

(إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) : يعنى خلق آدم.

ويقال : تزكية النّفس من علامات كون المرء محجوبا عن الله ؛ لأنّ المجذوب إلى الغاية والمستغرق في شهود ربّه لا يزكّى نفسه (١).

(هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) : لأنه أعلم بكم منكم.

ويقال : من اعتقد أنّ على البسيطة أحدا شرّ منه فهو متكبّر.

ويقال : المسلم يجب أن يكون بحيث يرى كلّ مسلم خيرا منه ؛ فإن رأى شيخا ، قال : هو أكثر منّى طاعة وهو أفضل منّى ، وإن رأى شابا قال : هو أفضل منى لأنه أقلّ منّى ذنبا.

قوله جل ذكره : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤))

أعرض عن الحقّ ، وتصدّق بالقليل. (وَأَكْدى) أي قطع عطاءه.

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥))

(فَهُوَ يَرى) : فهو يعلم صحّة ذلك. يقال : هو المنافق الذي يعين على الجهاد قليلا ثم يقطع ذلك :

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) : فهو يرى حاله في الآخرة؟

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧))

__________________

(١) قارن ذلك بقول النسفي في ذكر المرء لطاعته : «.. وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء لا على سبيل الاعتراف بالنعمة فإنه جائز لأن المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر» النسفي ج ٤ ص ١٩٨. ونظن أن في عبارة النسفي شيئا يستحق التصويب : فالأولى أن يقال : وهذا إذا كان على سبيل الاعتراف بالنعمة ـ لا على سبيل الإعجاب أو الرياء ـ فإنه جائز ..

٤٨٨

أم لم ينبّأ هذا الكافر بما في صحف موسى ، وصحف إبراهيم الذي وفّى ؛ أي أتمّ ما طولب به في نفسه وماله وولده.

قوله جل ذكره : (أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١))

الناس في سعيهم مختلفون ؛ فمن كان سعيه في طلب الدنيا خسرت صفقته ، ومن كان سعيه في طلب الجنة ربحت صفقته ، ومن كان سعيه في رياضة نفسه وصل إلى رضوان الله ، ومن كان سعيه في الإرادة شكر الله سعيه ثم هداه إلى نفسه.

وأمّا المذنب ـ فإذا كان سعيه في طلب غفرانه ، وندم القلب على ما اسودّ من ديوانه ، فسوف يجد من الله الثواب والقربة والكرامة والزلفة.

ومن كان سعيه في عدّ أنفاسه مع الله ؛ لا يعرّج على تقصير ، ولا يفرّط في مأمور فسيرى جزاء سعيه مشكورا في الدنيا والآخرة ، ثم يشكره بأن يخاطبه في ذلك المعنى بإسماعه كلامه من غير واسطة : عبدى ، سعيك مشكور ، عبدى ، ذنبك مغفور.

(ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) : هو الجزاء الأكبر والأجلّ ، جزاء غير مقطوع ولا ممنوع.

قوله جل ذكره : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢))

إليه المرجع والمصير ، فابتداء الأشياء من الله خلقا ، وانتهاء الأشياء إلى الله مصيرا.

ويقال : إذا انتهى الكلام إلى الله تعالى فاسكتوا.

ويقال : إذا وصل العبد إلى معرفة الله فليس بعده شىء إلا ألطافا من مال أو منال أو تحقيق آمال أو أحوال .. يجريها على مراده ـ وهي حظوظ للعباد.

قوله جل ذكره : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣))

أراد به الضحك والبكاء المتعارف عليهما بين الناس ؛ فهو الذي يجريه ويخلقه.

٤٨٩

ويقال : أضحك الأرض بالنبات ، وأبكى السماء بالمطر.

ويقال : أضحك أهل الجنة بالجنة ، وأبكى أهل النار بالنار.

ويقال : أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا ، وأضحك الكافر في الدنيا وأبكاه في الآخرة.

ويقال : أضحكهم في الظاهر ، وأبكاهم بقلوبهم.

ويقال : أضحك المؤمن في الآخرة بغفرانه ، وأبكى الكافر بهوانه.

ويقال : أضحك قلوب العارفين بالرضا ، وأبكى عيونهم بخوف الفراق.

ويقال : أضحكهم برحمته ، وأبكى الأعداء بسخطه.

قوله جل ذكره : (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤))

أماته في الدنيا ، وأحياه في القبر ؛ فالقبر إما للراحة وإما للإحساس بالعقوبة.

ويقال : أماته في الدنيا ، وأحياه في الحشر.

ويقال : أمات نفوس الزاهدين بالمجاهدة ، وأحيا قلوب العارفين بالمشاهدة.

ويقال : أمات نفوسهم بالمعاملات ، وأحيا قلوبهم بالمواصلات.

ويقال : أماتها بالهيبة ، وأحياها بالأنس.

ويقال : بالاستتار ، والتجلّى.

ويقال : بالإعراض عنه ، والإقبال عليه.

ويقال : بالطاعة ، والمعصية.

قوله جل ذكره : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥))

سماهما زوجين لازدواجهما عند خلقهما من النّطفة.

قوله جل ذكره : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨))

(أَغْنى) : أعطى الغنى ، (أَقْنى) : أكثر القنية أي المال. وقيل (أَقْنى) : أي أحوجه إلى المال ـ فعلى هذا يكون المعنى : أنه خلق الغنى والفقر.

٤٩٠

ويقال : (أَقْنى) أي أرضاه بما أعطاه (١).

ويقال : (أَغْنى) أي أقنع ، (وَأَقْنى) : أي أرضى.

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩))

(الشّعرى : كوكب يطلع بعد الجوزاء في شدة الحر ، وكانت خزاعة تعبدها فأعلم الله أنه ربّ معبودهم هذا) (٢).

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢))

عاد الأولى هم قوم هود ، وعاد الأخرى هي إرم ذات العماد ، كما أهلك ثمودا فما أبقى منهم أحدا. وأهلك من قبلهم قوم نوح الذين كانوا أظلم من غيرهم وأغوى لطول أعمارهم ، وقوة أجسادهم.

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤))

أي المخسوف بها ، وهي قرى قوم لوط ، قلبها جبريل عليهم ، فهى مقلوبة معكوسة. وقوله : (أَهْوى) أي : أسقطها الله إلى الأرض بعد ما اقتلعها من أصلها ، ثم عكسها وألقاها في الأرض ، فغشاها ما غشاها من العذاب.

قوله جل ذكره : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥))

فبأى آلاء ربك ـ أيها الإنسان ـ تتشكك؟ وقد ذكر هذا بعد ما عدّ إنعامه عليهم وإحسانه إليهم.

قوله جل ذكره : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦))

__________________

(١) أننى : من معانيها أرضى ـ كما ورد في أكثر المعاجم.

(٢) ما بين القوسين إضافة من جانبنا اعتمادا على كتب التفاسير ، وهي غير موجودة في نص القشيري. ولكننا أردنا إضافتها لنلفت النظر إلى خاطرة تراودنا .. أليس هناك ارتباط بين افتتاحية السورة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) وبين هذه النهاية؟. عابدون ومعبودون يهوون ويتساقطون ويهلكون ... أبعد هذا أيها الإنسان تتشكك في أن هذا النذير صلوات الله عليه لم يأت بدعا؟!

٤٩١

هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أرسلناه نذيرا كما أرسلنا الرّسل الآخرين.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨))

أي قربت القيامة. ولا يقدر أحد على إقامتها إلا الله ، وإذا أقامها فلا يقدر أحد على ردّها وكشفها إلا الله.

ويقال : إذا قامت قيامة هذه الطائفة ـ اليوم ـ فليس لها كاشف غيره. وقيامتهم تقوم فى اليوم غير مرّة. نقوم بالهجر والنّوى والفراق.

قوله جل ذكره : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) ...)

أفمن هذا القرآن تعجبون ، وتكونون في شكّ ، وتستهزئون؟

«وأنتم سامدون»: أي لاهون ..

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) : فاسجدوا لله ولا تعبدوا سواه (١).

__________________

(١) عن الأسود بن يزيد عن عبد الله قال : «... فسجد رسول الله (ص) وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف» (البخاري ج ٣ ص ١٣٠).

٤٩٢

سورة القمر (١)

قوله جل ذكره : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(بِسْمِ اللهِ) : كلمة بها نور القلوب والأبصار ، وبعرفانها يحصل سرور الأرواح والأسرار. كلمة تدلّ على جلاله ـ الذي هو استحقاقه لأوصافه. كلمة تدل على نعته الذي هو غاية أفضاله وألطافه.

قوله جل ذكره : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١))

أجمع أهل التفسير على أنّ القمر قد انشقّ على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال ابن مسعود (٢) : «رأيت حراء بين فلقتى القمر» ولم يوجد لابن مسعود مخالف في ذلك ؛ فقد روى أيضا عن أنس وابن عمر وحذيفة وابن عباس وجبير بن مطعم .. كلهم رووا هذا الخبر.

وفيه إعجاز من وجهين : أحدهما رؤية من رأى ذلك ، والثاني خفاء مثل ذلك على من لم يره ؛ لأنه لا ينكتم مثله في العادة فإذا خفى كان نقض العادة.

وأهل مكة رأوا ذلك ، وقالوا : إنّ محمدا قد سحر القمر.

ومعنى (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) : أي ما بقي من الزمان إلى القيامة إلا قليل بالإضافة إلى ما مضى.

قوله جل ذكره : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا

__________________

(١) يسميها البخاري : سورة (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ).

(٢) عن يحيى بن شعبة وسفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن أبى معمر عن ابن مسعود قال : انشق القمر على عهد رسول الله (ص) فرقتين : فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه. فقال رسول الله (ص) : اشهدوا.

وعن قتادة عن أنس قال : انشق القمر فرقتين.

وعن مجاهد عن أبى معمر عن عبد الله قال : انشق القمر ونحن مع النبي (ص) فصار فرقتين. فقال لنا : اشهدوا اشهدوا. (البخاري ح ٣ ص ١٣٠).

وقد جاء في النسفي : قال ابن مسعود رضى الله عنه «رأيت حراء بين فلقتى القمر» (النسفي ص ٢٠١).

٤٩٣

سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣))

يعنى أن أهل مكة إذا رأوا آية من الآيات أعرضوا عن النظر فيها ، ولو نظروا لحصل لهم العلم واجبا.

(سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) : أي دائم قويّ شديد .. (ويقال إنهم قالوا : هذا ذاهب لا تبقى مدته) (١) فاستمر : أي ذهب.

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) : التكذيب واتباع الهوى قريبان ؛ فإذا حصل اتباع الهوى فمن شؤمه يحصل التكذيب ؛ لأنّ الله يلبّس على قلب صاحبه حتى لا يستبصر (٢) الرشد.

أما اتباع الرضا فمقرون بالتصديق ؛ لأنّ الله ببركات اتباع الحقّ يفتح عين البصيرة فيحصل التصديق.

وكلّ امرئ جرت له القسمة والتقدير فلا محالة يستقر له حصول ما قسم وقدّر له.

(وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) : يستقر عمل المؤمن فتوجب له الجنة ، ويستقر عمل الكافر فيجازى.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥))

جاءهم من أخبار الأنبياء والأمم الذين من قبلهم والأزمنة الماضية ما يجب أن يحصل به الارتداع ، ولكنّ الحقّ ـ سبحانه ـ أسبل على بصائرهم سجوف الجهل فعموا عن مواضع الرشد.

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ ..) : بدل من (ما) فيما سبق : (ما فيه مزدجر).

والحكمة البالغة هي الصحيحة الظاهرة الواضحة لمن تفكّر فيها.

(فَما تُغْنِ النُّذُرُ) : وأي شىء يغنى إنذار النذير وقد سبق التقدير لهم بالشقاء؟

__________________

(١) ما بين القوسين موجود في م وغير موجود في ص.

(٢) هكذا في ص. وهي في م (لا يستبشر) ، والأصوب ما أثبتنا.

٤٩٤

قوله جل ذكره : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ)

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) : هاهنا تمام الكلام ـ أي فأعرض عنهم ، وهذا قبل الأمر بالقتال. ثم استأنف الكلام : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ...) والجواب : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) ـ أراد به يوم القيامة.

ومعنى (نُكُرٍ) : أي شىء ينكرونه (بهوله وفظاعته) (١) وهو يوم البعث والحشر.

وقوله : (خُشَّعاً) منصوب على الحال ، أي يخرجون من الأجداث ـ وهي القبور ـ خاشعى الأبصار.

(... كأنهم جراد منتشر مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))

كأنهم كالجراد لكثرتهم وتفرقهم ، (مُهْطِعِينَ) : أي مديمى النظر إلى الداعي ـ وهو إسرافيل.

(يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) : لتوالى الشدائد التي فيه.

قوله جل ذكره : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١))

كذب قوم نوح نبيّهم ، وقالوا : إنه مجنون ، وزجروه وشتموه.

وقيل : (ازْدُجِرَ) : أي استطار عقله ، أي قوم نوح قالوا له ذلك.

فدعا ربّه فقال : إنى مغلوب ؛ أي بتسلّط قومى عليّ ؛ فلم يكن مغلوبا بالحجّة لأنّ الحجّة كانت عليهم ، فقال نوح لله : اللهمّ فانتصر منهم أي انتقم.

__________________

(١) ما بين القوسين توضيح من جانبنا غير موجود في النص.

٤٩٥

ففتحنا أبواب السماء بماء منصبّ ، وشققنا عيونا بالماء ، فالتقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدّر في اللوح المحفوظ ، وقدر عليه بإهلاكهم!

وفي التفاسير : أن الماء الذي نبع من الأرض نضب. والماء الذي نزل من السماء هو البخار اليوم.

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣))

وحملنا نوحا على (ذاتِ أَلْواحٍ) أي سفينة ، (وَدُسُرٍ) يعنى المسامير وهي جمع دسار أي مسمار.

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤))

(بِأَعْيُنِنا) : أي بمرأى منّا. وقيل : تجرى بأوليائنا.

ويقال : بأعين ملائكتنا الذين وكلناهم لحفظهم.

ويقال : بأعين الماء الذي أنبعناه من أوجه الأرض.

(جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) : أي الذين كفروا بنوح (١).

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥))

جعلنا أمر السفينة علامة بيّنة لمن يعتبر بها.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) : فهل منكم من يعتبر؟. أمرهم بالاعتبار بها (٢).

قوله جل ذكره : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦))

قالها على جهة التعظيم لأمره.

وقد ذكر قصة نوح هنا على أفصح بيان وأقصر كلام وأتمّ معنى (٣).

__________________

(١) يرى بعض المفسرين أن (الذي كفر) هو نوح عليه‌السلام لأنه مكفور به ، فكل نبى رحمة لأمته ، فكان نوح رحمة مكفورة.

(٢) أي أن الاستفهام ـ بلغة البلاغيين ـ قد خرج عن معناه الأصلى إلى الأمر.

(٣) كأن القشيري يريد أن يوضح تعليلا (لتكرار) قصة نوح. ونحن نعلم أن القشيري لا يستريج تماما لفكرة القول بالتكرار في القرآن.

٤٩٦

وكان نوح ـ عليه‌السلام ـ أطول الأنبياء عمرا ، وأشدّهم للبلاء مقاساة

ثم إن الله ـ سبحانه ـ لما نجّى نوحا متّعه بعد هلاك قومه ومتع أولاده ، فكلّ من على وجه الأرض من أولاد نوح عليه‌السلام. وفي هذا قوة لرجاء أهل الدين ، إذا لقوا في دين الله محنة ؛ فإنّ الله يهلك ـ عن قريب ـ عدوّهم ، ويمكّنهم من ديارهم وبلادهم ، ويورثهم ما كان إليهم.

وكذلك كانت قصة موسى عليه‌السلام مع فرعون وقومه ، وسنة الله في جميع أهل الضلال أن يعزّ أولياءه بعد أن يزهق أعداءه.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))

يسّرنا قراءته على ألسنة الناس ، ويسّرنا علمه على قلوب قوم ، ويسّرنا فهمه على قلوب قوم ، ويسّرنا حفظه على قلوب قوم ، وكلّهم أهل القرآن ، وكلّهم أهل الله وخاصته.

ويقال : كاشف الأرواح من قوم ـ بالقرآن ـ قبل إدخالها في الأجساد.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) لهذا العهد الذي جرى لنا معه.

قوله جل ذكره : (كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠))

كذّبوا هودا ، فأرسلنا عليهم (رِيحاً صَرْصَراً) أي : باردة شديدة الهبوب ، يسمع لها صوت.

(فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) أي : فى يوم شؤم استمرّ فيه العذاب بهم ، ودام ذلك فيهم ثمانية أيام وسبع ليال. وقيل : دائم الشؤم تنزع رياحه الناس عن حفرهم التي حفروها

٤٩٧

حتى صاروا كأنهم أسافل نخل منقطع. وقيل : كانت الريح تقتلع رءوسهم عن مناكبهم ثم تلقى بهم كأنهم أصول نخل قطعت رءوسها.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))

هوّنا قراءته وحفظه ؛ فليس كتاب من كتب الله تعالى يقرأ ظاهرا إلّا القرآن.

قوله جل ذكره : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤))

هم قوم صالح. وقد مضى القول فيه ، وما كان من عقرهم للناقة .. إلى أن أرسل الله عليهم صيحة واحدة أوجبت هذا الهلاك ، فصيّرهم كالهشيم ، وهو اليابس من النبات ، (الْمُحْتَظِرِ) : أي : المجعول في الحظيرة ، أو الحاصل في الخطيرة (١) ..

قوله جل ذكره : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥))

فأرسلنا عليهم (حاصِباً) : أي : حجارة رموا بها.

(كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) : أي : جعلنا إنجاءهم في إهلاك أعدائهم.

وهكذا نجزى من شكر ؛ فمثل هذا نعامل به من شكر نعمتنا.

والشّكر على نعم الدفع أتمّ من الشكر على نعم النفع ـ ولا يعرف ذلك إلا كلّ موفّق كيّس.

(فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ)

__________________

(١) يقصد القشيري أنها قد تقرأ بفتح الظاء وبكسرها.

٤٩٨

جاء جبريل ومسح بجناحه على وجوههم فعموا ، ولم يهتدوا (١) للخروج ـ وكذلك أجرى سنّته في أوليائه أن يطمس على قلوب أعدائهم حتى يلبس عليهم كيف يؤذون أولياءه ثم يخلّصهم من كيدهم.

قوله جل ذكره : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥))

أخبر أنه يفعل هذا بأعداء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحقّق ذلك يوم بدر ، فصار ذلك من معجزاته صلوات الله عليه وسلامه (٢).

قوله جل ذكره : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨))

سحبهم على الوجوه أمارة لإذلالهم ، ولو كان ذلك مرة واحدة لكانت عظيمة ـ فكيف وهو التأبيد والتخليد؟!.

وكما أنّ أمارة الذّلّ تظهر على وجوههم فعلامة إعزاز المؤمنين وإكرامهم تظهر على وجوههم ، قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) (٣). وقال : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) (٤).

قوله جل ذكره : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩))

أي بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ.

ويقال : خلقناه بقدر ما علمنا وأردنا وأخبرنا.

قوله جل ذكره : (وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠))

أي إذا أردنا خلق شىء لا يتعسّر ولا يتعذّر علينا ، نقول له : كن ـ فيكون

__________________

(١) هكذا في م وهي في ص (لم يتمكنوا).

(٢) عن ابن عباس أن رسول الله (ص) قال وهو في قبة يوم بدر : اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم ـ فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول الله ، ألححت على ربّك فخرج وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر (البخاري ج ٣ ص ١٣١).

(٣) آية ٢٢ سورة القيامة.

(٤) آية ٢٤ سورة المطففين.

٤٩٩

بقدرتنا. ولا يقتضى هذا استئناف (١) قول في ذلك الوقت ولكن استحقاق أن يقال لقوله القديم أن يكون أمرا لذلك المكون إنما يحصل في ذلك الوقت.

(كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) : أي كما أن هذا القدر عندكم (أي قدر ما يلمح أحدكم ببصره) لا تلحقكم به مشقة ـ كذلك عندنا : إذا أردنا نخلق شيئا ـ قل أو كثر ، صغر أو كبر ـ لا تلحقنا فيه مشقة.

قوله جل ذكره : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١))

أي أهلكنا القرون التي كانت قبلكم فكلّهم أمثالكم من بنى آدم ...

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢))

فى اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يعمله (٢). وفي صحيفة الملائكة مكتوب. لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ..

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣))

كلّ صغير من الخلق ، وكلّ كبير من الخلق ـ تخترمه المنيّة.

ويقال : كلّ صغير من الأعمال وكبير مكتوب في اللوح المحفوظ ، وفي ديوان الملائكة.

وتعريف الناس عما يكتبه الملائكة هو على جهة التخويف ؛ لئلا يتجاسر العبد على الزّلّة إذا عرف المحاسبة عليها والمطالبة بها.

قوله جل ذكره : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

__________________

(١) هكذا في م ـ وهى ـ فى ص (استيفاء) وكلاهما يمكن أن يتقبله السياق. على معنى أن قوله القديم (كُنْ) لا (يستأنف) عند خلق الحدث. وعلى معنى أنّه لا يشترط أن يستوفى خلق الحدث الأمر بكن اكتفاء بقوله القديم ـ والله أعلم.

(٢) هكذا في وهى ص أصوب في السياق من (يعلمه) التي جاءت في م لأن ما (فعلوه) التي في الآية تؤدى إلى ذلك.

٥٠٠