فحدّث قائده علي البطائني : أنهما دخلا على (الكاظم عليهالسلام (١)) فسأل أبا بصير عن أبي حمزة فقال : خلّفته عليلاً ، فقال : فإذا رجعت إليه فاقرأه منّي السلام وأعلمه أنّه يموت يوم كذا (؟) من شهر كذا (؟) فقال : والله لقد كان فيه انس وهو لكم شيعة. قال : صدقت (ولكن) ما عندنا خير لكم. قال : فهل من شيعتكم معكم؟ قال : إن هو خاف الله وراقب نبيّه وتوقّى الذنوب كان معنا في درجتنا!
قال علي البطائني : فلمّا رجعنا ما لبث أبو حمزة إلّايسيراً حتّى توفي في تلك السنة (٢) أي في أوائل عام (١٥٠ ه) وخلّف أبناء ثلاثة : محمّداً وعلياً والحسين كلّهم فضلاء ثقات (٣) ثمّ توفي أبو بصير :
وأبو بصير يحيى الأسدي (مولاهم):
مرّ خبر الكشي عن علي بن أبي حمزة البطائني من أصحاب أبي بصير وقوّاده : أن الكاظم عليهالسلام سأله عن صاحبه أبي حمزة الثُمالي ثمّ أخبره بيوم وفاته فلمّا عاد إلى البلاد أخبر الثُمالي بذلك ، وتوفي الثُمالي في أوائل عام (١٥٠ ه) ثمّ توفي صاحبه أبو بصير يحيى بن أبي القاسم إسحاق الأسدي (مولاهم) في السنة نفسها كما ذكر الطوسي والنجاشي (٤) وكان من أصحاب الباقر والصادق وأدرك الكاظم عليهمالسلام.
__________________
(١) في النص : على أبي عبد الله ، ويبدو لي أن الصحيح ما أثبتناه.
(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٠٢ ، الحديث ٣٥٦.
(٣) المصدر السابق : ٢٠٣ ، الحديث ٣٥٧.
(٤) رجال الطوسي : ٣٣٣ برقم ٩ ، ورجال النجاشي : ٤٤١ برقم ١١٨٧.
وكان مقرئاً للقرآن ، ولعلّه لعماه بالولادة لم تتحرّج امرأة أن تتعلّم منه القرآن ، فمازحها يوماً بشيء ، ثمّ قدم على الباقر عليهالسلام فقال له : يا أبا بصير ، أي شيء قلت للمرأة؟ قال : قلت بيدي هكذا ، وغطيت وجهي! فقال عليهالسلام : لا تعودنَّ إليها (١)!
ولما خلفه الصادق عليهالسلام قال أبو بصير : أردت أن يعطيني من دلالة الإمامة مثل ما أعطاني أبوه ، فدخلت عليه جنباً! فقال لي : يا أبا محمّد! أما كان لك شغل بما كنت فيه! تدخل عليَّ وأنت جنب! فقلت : ما عملته إلّاعمداً! فقال : أو لم تؤمن؟! قلت : بلى ولكن ليطمئنّ قلبي. قال : فقم واغتسل. فعند ذلك قلت إنّه إمام ، وقمت واغتسلت وعدت إلى مجلسي (٢).
وهو أسدي نقل عن علباء بن درّاع الأسدي الكوفي أنّه ولى البحرين لبني امية فأفاد عبيداً ودواب وسبعين أو سبعمئة ألف دينار! فلمّا سقطوا حمل ذلك كلّه إلى المدينة (سنة ١٣٢ ه ظ) ودخل على الصادق عليهالسلام وقال له : علمتُ أن الله عزوجل لم يجعل ذلك لهم وأ نّه لك! فقال له : هاته ، فحمل المال حتّى وضعه بين يديه! فقال له : قد قبلناه منك وأحللناك منه ووهبناه لك! وضمنّا لك على الله الجنة!
وكأنّ ضمان الجنة له كان كناية عن دنوّ أجله ، وحضره مولاهم أبو بصير الأسدي فقال له : إن الصادق عليهالسلام قد ضمن لي الجنة فأَذكِره ذلك. فلمّا دخل أبو بصير عليه قال له : حضرتَ علباء عند موته؟ قال : قلت : نعم فأخبرني أنّك
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال : ١٧٣ ، الحديث ٢٥٩.
(٢) كشف الغمة ٣ : ٢١٢ عن كتاب الدلائل لمحمد بن عبد الله الحميري (ق ٣ ه) ، وعنه في دلائل الإمامة للطبري الإمامي : ٢٦٥ برقم ١٩٥ والخرائج والمناقب. وفي لفظ الإرشاد ٢ : ١٨٥ : نظر إليّ ... فكيف وهو مكفوف البصر؟! والمراد به يحيى وليس ليث المرادي كما في قاموس الرجال ٨ : ٦٢٩.
ضمنت له الجنة وسألني أن أذكّرك ذلك! قال : صدق! قال : فبكيت وقلت : جعلت فداك! ألست الكبير السنّ الضرير البصر؟ فاضمنها لي! قال : قد فعلت! قال : اضمنها لي على آبائك! قال : قد فعلت! قال : فاضمنها لي على رسول الله صلىاللهعليهوآله! قال : قد فعلت! قال : اضمنها لي على الله؟ قال : قد فعلت (١)! إلّاأ نّه بقي حتّى أدرك الكاظم عليهالسلام ثمّ توفي في (١٥٠ ه).
ومحمّد بن مسلم الثقفي الكوفي :
نقل الكشي عن العياشي عن ابن فضّال قال : إن زرارة وأبا حمزة ومحمّد بن مسلم ماتوا بعد الصادق عليهالسلام بسنة أو نحوها في سنة واحدة (٢) وكان محمّد بن مسلم الثقفي أعور طحّاناً بالكوفة (٣) وهو من ثقيف الطائف قصيراً (٤) طويل اللحية (٥).
أقام بالمدينة أربع سنين يدخل على الباقر عليهالسلام يسأله حتّى قال : سمعت من أبي جعفر ثلاثين ألف حديث! وحتّى ما كان في «الشيعة» أحد أفقه منه (٦)! وكان رجلاً شريفاً موسراً فقال له الباقر عليهالسلام : يا محمّد تواضع! فلمّا انصرف إلى الكوفة أخذ قوصرة من تمر مع الميزان وجلس على باب المسجد الجامع
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٠٠ ، الحديث ٣٥١ ـ ٣٥٢ وفيه الباقر عليهالسلام وهو لم يدرك سقوط الأمويين! وجاء الصحيح في ١٧٠ ، الحديث ٢٨٩.
(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٠١ ، الحديث ٣٥٣.
(٣) المصدر : ١٦١ ، الحديث ٢٧٢.
(٤) المصدر : ١٦٤ ، ذيل الحديث ٢٧٧.
(٥) المصدر : ١٦٦ ، الحديث ٢٧٩.
(٦) المصدر : ١٦٣ ، الحديث ٢٧٦ ، و ١٦٧ ، الحديث ٢٨٠.
وجعل ينادي عليه! فأتاه قومه يقولون له : فضحتنا! فقال : إن مولاي أمرني بأمر فلن أبرح حتّى أفرغ من بيع باقي هذه القوصرة. ثمّ قالوا له : إذا أبيتنا إلّاأن تشتغل ببيع وشراء فاقعد في الطحّانين! فهيّأ رحاً وجملاً وجعل يطحن للناس! وكان من العُبّاد في زمانه (١).
وعلى عهد إمامة الصادق عليهالسلام أخذ يتردّد عليه بالمدينة حتّى قال : لقيت جعفر بن محمّد عليهماالسلام فسمعت منه ستة عشر ألف حديث أو مسألة (٢) حتّى قال فيه عليهالسلام : ما أحد أحيا أحاديث أبي إلّازرارة وأبو بصير ومحمّد بن مسلم وبريد العجلي ، هؤلاء امناء أبي على حلال الله وحرامه ، وهم السابقون إلينا في الدنيا ، هؤلاء حفّاظ الدين ، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا الأمر (التشيع) كان أبي ائتمنهم على حلال الله وحرامه ، وكانوا عيبة علمه. هم أصحاب أبي حقاً ، وكذلك اليوم هم عندي مستودع سرّي ، ونجوم «شيعتي» بهم يكشف الله كل بدعة ، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين وتأويل «الغالين»! ثمّ بكى وقال : هم بريد العجلي وزرارة وأبو بصير ومحمّد بن مسلم. من عليهم صلوات الله ورحمته أحياءً وأمواتاً. هم من الذين قال الله فيهم : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (٣)).
وفيه بسنده عن ابن أبي يعفور الكوفي قال : قلت للصادق عليهالسلام : إنّه لا يمكن القدوم (إليك) وألقاك كلّ ساعة ، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كل ما يسألني عنه فما أفعل؟ قال : فما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي! فإنه قد سمع من أبي وكان وجيهاً عنده (٤) وأدرك الكاظم ثمّ توفي كما مرّ.
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال : ١٦٥ ، ذيل الحديث ٢٧٨.
(٢) المصدر : ١٦٣ ، الحديث ٢٧٦ ، و ١٦٧ ، الحديث ٢٨٠.
(٣) المصدر : ١٣٦ و ٧٣٧ ، الحديث ٢١٨ ـ ٢٢٠. والآيتان من الواقعة : ١٠ ـ ١١.
(٤) المصدر : ١٦١ ، الحديث ٢٧٣.
شاعره جعفر بن عفّان الطائي :
ومن المتوفين في الخمسين بعد المئة (١) بعد وفاة الصادق عليهالسلام بعامين شاعره راثي الحسين عليهالسلام جعفر بن عفّان الطائي الكوفي المكفوف.
روى الكشي بسنده عن زيد الشحّام قال : كنّا عند الصادق عليهالسلام ونحن جماعة من الكوفيين (ولعلّه في موسم الحج) إذ دخل عليه جعفر بن عفّان ، فقرّبه وأدناه إليه ثمّ قال له : يا جعفر ، قال : لبّيك جعلني الله فداك! قال : بلغني أنّك تقول الشعر في الحسين عليهالسلام وتُجيد؟ فقال : نعم ، جعلني الله فداك. فقال : قل ، فأنشده (٢) ولعلّها داليّته :
ألا يا عين فابكي ألف عام |
|
وزيدي ، إن قدرت على المزيد |
إذا ذُكر الحسين فلا تَمِلّي |
|
وجودي الدهر بالعبرات ، جودي |
فقد بكت الحمائم من شجاها |
|
بكت لأليفها الفرد الوحيد |
بكين وما درين ، وأنتَ تدري |
|
فكيف تهمّ عينُك بالجُمود |
أتنسى سبط أحمد حين يمسي |
|
ويصبح بين أطباق الصعيد (٣) |
أو أنشد تائيّته :
ليبك على الإسلام من كان باكياً |
|
فقد ضُيّعت أحكامه واستُحِلّتِ |
غداة حسين للرماح دريئة |
|
وقد نهلت منه السيوف وعلّتِ (٤) |
فبكى الإمام عليهالسلام ومن حوله حتّى صارت دموعه على وجهه ولحيته ، ثمّ قال لجعفر : والله لقد شهد لك ملائكة الله المقربون هاهنا يسمعون كلامك
__________________
(١) بحار الأنوار ٤٧ : ٣١٤ حاشية العلّامة الخرسان.
(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٨٩ ، الحديث ٥٠٨.
(٣) أخبار شعراء الشيعة للمرزباني : ١١٥.
(٤) أدب الطف للشبّر ١ : ١٩٢.
في الحسين عليهالسلام ، ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر (كذا) ولقد أوجب الله تعالى لك ـ يا جعفر ـ في ساعتك الجنة بأسرها وغفر الله لك! ثمّ قال له : يا جعفر ، ألا أُزيدك؟! قال : نعم ، قال : ما من أحد قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى به إلّاأوجب الله له الجنة وغفر له (١).
ولما قام الأخوان الحسنيّان بالمدينة والبصرة وقُتلا ، قال شاعر بني العباس مروان بن أبي حفصة لهم شعراً قال فيه :
أنى يكون؟! وليس ذاك بكائن |
|
لبني البنات وراثة الأعمام |
فروى الأموي الإصفهاني الزيدي عن محمّد بن يحيى التغلبي قال : مررت يوماً على باب جعفر بن عفّان الطائي وهو جالس على الباب فسلّمت عليه ، فقال مرحباً يا أخا تغلب ، اجلس ، فجلست ، وكان قد بلغه قول مروان ، فقال لي : أما تعجب من ابن أبي حفصة لعنه الله حيث يقول (وحكى شعره) فقلت : بلى والله ، واني لأتعجّب منه وأُكثر اللعن عليه ، فهل أجبتَه بشيء؟ قال : نعم قد قلت
لِمْ لا يكون؟! وإن ذلك كائن |
|
لبني البنات وراثة الأعمام |
للبنت نصف كامل من ماله |
|
والعمّ متروك بغير سهام |
ما «للطليق» وللتراث؟! وإنّما |
|
صلّى «الطليق» مخافة الصمصام (٢)! |
ولعلّه توفي قبل أن يُنقل القول هذا لبني العباس ، وإلّا فلا خلاص له منهم.
نسبة الجعفرية :
كان قاضي الكوفة منذ عهد هشام بن عبد الملك : محمد بن عبد الرحمن بن
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٨٩ ، الحديث ٥٠٨.
(٢) الأغاني ٩ : ٤٥ ويعني بالطليق العباس إذ أطلقه النبيّ صلىاللهعليهوآله يوم بدر من أساره وقيوده.
أبي ليلى (١) ثمّ أقرّه أبو العباس السفاح حتّى مات (٢) ثمّ أقره المنصور حتّى مات القاضي سنة (١٤٨ ه) (٣) ومرّ خبر الكشي عن ابن قولويه بسنده عن أبي كهمَس : أن محمد بن مسلم الثقفي القصير شهد عند ابن أبي ليلى بشهادة فردّ شهادته ، فكلّف الإمام أبا كهمس أن يسأل ابن أبي ليلى ثلاث مسائل فلما يتوقف فيها يبلّغه عنه قوله : ما حملك أن رددت شهادة رجل أعرف منك بأحكام الله وأعرف بسنة رسول الله صلىاللهعليهوآله : محمد بن مسلم الطائفي القصير؟ فلما أبلغه ذلك أرسل فدعاه فأجاز شهادته (٤).
فلما مات ابن أبي ليلى ، استقضى المنصور شريك بن عبد الله النخعي ، فما زال حتّى مات المنصور (٥) بل حتّى سنة (١٧٨ ه) (٦) فشهد عنده محمد بن مسلم الثقفي مع أبي كُريبة الأزدي ، فنظر مليّاً في وجهيهما ثمّ قال : «جعفريان» فردّ شهادتهما! وذلك هو ردّها من قبل عند ابن أبي ليلى!
فقالا ـ أو قال الثقفي وتابعه الأزدي ـ نسبتنا إلى أقوام لا يرضون بأمثالنا أن يكونوا من إخوانهم ؛ لما يرون من خفّة ورعنا! ونسبتنا إلى رجل (جعفر) لا يرضى بأمثالنا أن يكونوا من «شيعته» فإن تفضّل وقبلنا فله المنّ علينا والفضل!
__________________
(١) تاريخ خليفة : ٢٣٥.
(٢) تاريخ خليفة : ٢٧٢.
(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٨.
(٤) اختيار معرفة الرجال : ١٦٣ ، ١٦٤ ، الحديث ٢٧٧.
(٥) تاريخ خليفة : ٢٨٦.
(٦) تاريخ خليفة : ٢٩٨.
فتبسّم شريك ثمّ قال : إذا كانت الرجال فلتكن من أمثالكم! ثمّ قال لكاتبه : يا وليد! أجز شهادتهما هذه المرة! فلما حجّا أخبرا الإمام بالكلام فقال : ما لشريك؟ قيدّه الله بشراكين من نار (١).
فهذه هي أولى بوادر إطلاق نسبة «الجعفرية» على شيعة جعفر عليهالسلام.
وبهذا قال القاضي النعمان المغربي المصري الإسماعيلي (م ٣٦٣ ه) : إلى أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهالسلام نسبت «الجعفرية» من فرق الشيعة .. وفي ذلك يقول السيّد إسماعيل الحميري البصري شعراً :
«تجعفرت» باسم الله ، والله اكبر |
|
وأيقنت أن الله يعفو ويغفر |
في شعر طويل ، وقال يعتذر إليه :
أيا راكباً ـ نحو المدينة ـ جَسرة |
|
همرجانة يُطوى بها كلّ سبسب |
إذا ما ـ هداك الله ـ عاينت «جعفراً» |
|
فقل لوليّ الله وابن المهذَّب |
ثمّ أكملها عشرة أبيات (٢) وقال : وتتابعوا على ذلك في الرجوع في أيام جعفر بن محمّد عليهالسلام ، فسُمّوا «بالجعفرية» (٣).
وروى الصدوق (م ٣٨٦ ه) بسنده عن حيّان السرّاج رواية شعر السيد ابن محمّد الحميري عنه قال : كنت أعتقد غيبة محمّد بن الحنفية زماناً ، حتّى منّ الله عليَّ بالصادق جعفر بن محمّد عليهماالسلام وهداني به إلى سواء الصراط وأنقذني من النار! حيث صحّ عندي ـ بالدلائل التي شاهدتها منه ـ أنّه حجة الله عليَّ وعلى جميع
__________________
(١) اختيار معرفة الرجال : ١٦٢ ، الحديث ٢٧٤.
(٢) شرح الأخبار ٣ : ٢٩٣ ـ ٢٩٤. ثمّ فسّر : الجسرة الطويلة ، والمهرجانة السريعة ، والسبسب بالصحراء الواسعة.
(٣) شرح الأخبار ٣ : ٢٩٨.
أهل زمانه ، وأ نّه الإمام الذي فرض الله طاعته وأوجب الاقتداء به! فتبت إلى الله تعالى ذكره على يديه ، وقلت قصيدتي التي أوّلها :
فلمّا رأيت الناس في الدين قد غووا |
|
«تجعفرت» باسم الله في مَن «تجعفروا» |
وناديت باسم الله ، والله اكبر |
|
وأيقنت أن الله يعفو ويغفر |
ودِنت بدين الله ما كنت دائناً |
|
به ، ونهاني سيد الناس «جعفر» |
وأتمّها عشرة أبيات ثمّ قال : إلى آخر الأبيات وهي طويلة. قال : وقلت بعدها قصيدة أُخرى :
أيا راكباً ـ نحو المدينة ـ جَسرة |
|
عذافرة يُطوى بها كل سبسب (١) |
ثمّ أتمها عشرين بيتاً ، ولا نجده فيما وجد من كتاب «أخبار شعراء الشيعة» للمرزباني الخراساني (م ٣٨٤ ه) ولكنّه خصّه بكتابه «أخبار السيّد الحِميري» وفيه نقل عن رواية السيّد الآخر : خلف الحادي عن السيّد قال : حدثّني علي بن شجرة عن أبي بُجير (عبد الله بن النجاشي الأسدي والي الأهواز للمنصور) عن الصادق عليهالسلام : قدم أبو خالد الكابلي من كابل إلى المدينة وقال بإمامة محمّد بن الحنفية ، ثمّ سمعه يقول لعليّ بن الحسين عليهماالسلام : يا سيدي! فسأله عن السبب فيه فأخبره بمحاكمته إلى الحجر الأسود ، قال : فسمعتُ الحجر يقول لي : يا محمّد ؛ سلّم الأمر لابن أخيك فإنه أحق منك!
وكان السيّد يمدح أبا بُجير الأسدي قال : وكان إمامياً فكان يعيّرني بمذهبي ويأمل منّي تحولاً إلى مذهبه (٢).
__________________
(١) كمال الدين : ٣٠ ـ ٣٥.
(٢) أخبار السيّد الحِميري : ١٦٤ ، كما في الغدير ٣ : ٣٥٥.
وكأنّه في أثناء ذلك كان ما أرسله الحلبي عن داود بن كثير الرقي قال : بلغ السيّد أنّه ذُكر عند الصادق عليهالسلام فقال : السيّد كافر (أي بالحجّة) فأتاه وقال له : يا سيدي! أنا كافر! مع شدّة حبّي لكم ومعاداة الناس فيكم؟! قال : وما ينفعك وأنت كافر بحجة الدهر والزمان؟!
ثمّ أخذه بيده وأدخله بيتاً ، فإذا في البيت قبر! فصلّى ركعتين ، ثمّ ضرب بيده على القبر فانشق وخرج منه شخص ينفض التراب عن رأسه ولحيته! فسأله الصادق : من أنت؟ قال : أنا محمّد بن علي المسمّى بابن الحنفية! قال : فمن أنا؟ قال : جعفر بن محمّد حجة الدهر والزمان! فخرج السيّد يقول : «تجعفرت» باسم الله في من «تجعفرا» (١) وهذا هو ما أشار إليه في خبر الصدوق عنه قال : «بالدلائل التي شاهدتها منه» وهو يشبه إنطاق الحجر الأسود الذي سمعه عنه من قبل.
وكأنّه قصد أبا بُجير الأسدي مرّة أُخرى ولم يخبره بذلك حتّى قال له : لو كان مذهبك الإمامة لقلتَ فيها شعراً! فأنشده قصيدته تلك ، فسجد لله شكراً ، ثمّ قال له : الحمد لله إذ لم يذهب حبّي لك باطلاً ، ثمّ أمر له بمال وكُراع ورقيق.
وكان راويتاه حيان السرّاج وخلف الحادي كيسانيين ، فلمّا حدّث الحاديَ بحديث ابن بُجير الأسدي قال له : فأنت على ما كنتُ أعرف أو على هذا المذهب (الجعفري) فما صارحه بل مازحه منشداً :
خذا جنب هَرشى أو قفاه ، فإنه |
|
كلا جانبي هَرشى لهنّ طريق (٢) |
__________________
(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٦٦ ، وكان اللقاء بمكة في الموسم ، كما في طبقات الشعراء : ٣٣ لابن المعتز ، كما عنه في الغدير ٣ : ٣٥.
(٢) عن أخبار السيّد الحميري في الغدير ٣ : ٣٥٥ ـ ٣٥٦.
ولعلّه لعلّة كهذه أو نحوها تظاهر بسابقته وخفيت لاحقته على المتكلم الشهير محمّد بن علي الصيرفي الكوفي الأحول مؤمن الطاق ، فناظره في ابن الحنفية حتّى غلبه فقال مرّة أُخرى :
تركت «ابن خولة» لا عن قَلىً |
|
وإني لكالكلف الوامق |
وإني له حافظ في المغيب |
|
أدين بما دان في «الصادق» |
بل يشير به إلى حديث ابن بُجير الأسدي عن الصادق عليهالسلام ، في أربعة أبيات أُخرى ، فقال له المؤمن : أحسنت ، الآن اوتيت رشدك ، وبلغت أشدّك ، وتبوّأت من الخير موضعاً ، ومن الجنة مقعداً (١)!
وروى الخبر والشعر الأمويُ الزيدي في «الأغاني» ثمّ أنكر رجوعه عن الكيسانية (٢).
فعارضه المفيد إذ أفاد : في هذا الشعر دليل على رجوع السيّد الحِميري عن مذهب الكيسانية ، وقوله بإمامة الصادق عليهالسلام ، ووجود الدعوة ظاهرة من الشيعة في أيامه إلى إمامته (٣).
ويبدو أنّه بعد هدايته التقى به الصادق عليهالسلام فقال له : إن امك سمّتك سيّداً ، ووُفّقت في ذلك ، فأنت سيّد الشعراء ، فأنشد السيّد في ذلك :
ولقد عجبت لقائل لي مرّة |
|
علّامةٌ فهمٌ من الفقهاء |
سمّاك قومك سيّداً ، صدقوا به |
|
أنت الموفّق سيّد الشعراء |
في أربعة أبيات اخرى (٤)
__________________
(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٦٧ عن المرزباني.
(٢) الأغاني ٧ : ٢٣٥.
(٣) الإرشاد ٢ : ٢٠٨ ، ونحوه في كشف الغمة ٢ : ٧٨ و ٣ : ١٩٦.
(٤) اختيار معرفة الرجال : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ، ذيل الخبر ٥٠٧.
ويبدو أنّ إطلاق السيّد على العلوي كان معهوداً في عصر الإربلي (ق ٧ ه) فقال : وبتسميته «السيّد» يُتوهّم أنّه علوي ، بل غلب عليه هذا الاسم ولم يكن علوياً (١) وكأنّه غفل عن نقل الكشي ما مرّ خبره (٢).
ومات أبو حنيفة النعمان :
وفي سنة (١٥٠ ه) مات أبو حنيفة النعمان بن ثابت (٣) مولى تيم اللات من بكر بن وائل ، وهو ابن تسعين سنة (٤) وثابت ابن زوطا وهو من أهل كابل ، وهو الذي أسره الرق فاعتق ، وولد له ثابت على الإسلام. وأدرك النعمان بالكوفة : أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى ، وبالمدينة : سهل بن سعد الساعدي وعامر بن واثلة الأصقع ، ولكنّه لم يلقهم ولم يأخذ عنهم. وعيب عليه بضعف عربيّته إلّا أنّه ذو منطق حتّى نقل عن الشافعي عن مالك بن أنس سأله : أرأيت أبا حنيفة؟ قال : نعم ، رأيته رجلاً لو كلّمته في هذه السارية أن يثبتها ذهباً لقام بحجّته! توفي في رجب من هذه السنة وهو يوم ولد الشافعي محمّد بن إدريس المطّلبي. مات ببغداد ودُفن بها ، وله ضريح وعليه قبّة.
__________________
(١) كشف الغمة ٣ : ٨٠.
(٢) وما نقله كان ذيلاً للحديث : ٥٠٧ بسنده عن محمّد بن النعمان ولعلّه الأحول الصيرفي الطاقي : أنّه حضر السيّد محتضراً بالكوفة وهو على الكيسانية ، وكان الصادق عليهالسلام منصرفاً من عند المنصور بالكوفة فأخبره خبر السيّد فحضره ، وكان معقود اللسان فأنطقه ، فقال له : قل الحق يكشف الله ما بك! فقال : «تجعفرت» .. وهذا ما أعرض عنه الصدوق والمرزباني والمفيد والحلبي الساروي ، فتبعتهم.
(٣) تاريخ خليفة : ٢٧٩.
(٤) مروج الذهب ٣ : ٣٠٤.
وفيها مات ببغداد أيضاً محمّد بن إسحاق بن يسار المطّلبي (مولاهم) وهو ثبت في الحديث عند الأكثر ، أخرج عنه مسلم حديثاً واحداً في الرجم ، وطعن فيه مالك ولذا لم يرو عنه البخاري (١).
مِعن للخوارج بخراسان :
كان على اليمن للمنصور مِعن بن زائدة الشيباني وقد أسنّ ، فرأى المنصور أن يستنصر به على الخوارج عليه في أطراف خراسان ، ففي سنة (١٥١ ه) كتب إليه أن يقدم عليه ، فاستخلف ابنه زائدة وقدم على المنصور ببغداد ، وكان المهديّ ابن المنصور بخراسان ، فأنفذ مِعن إليه وانصرف المهدي. وأقام معن لقتال الخوارج هناك حتّى قتل منهم خلقاً عظيماً وحتّى تصوّر أنّه قد أفناهم.
وتجرّد لبناء دار له في بلدة بُست ، فدخل جمع من الخوارج في هيئة البنّائين وأدخلوا سيوفهم في طنان القصب ، فلمّا توسّطوا الدار أخرجوا سيوفهم وحملوا عليه فقتلوه. وكان معه ابن أخيه يزيد بن مربد فتجرّد لقتالهم فقتل منهم خلقاً عظيماً. ثمّ شخص إلى بغداد في موكب ضخم من عشيرته وموالي عمّه ، فلم يظفر الخوارج له بغرّة ، فتبعوه إلى بغداد ، فلمّا صار على الجسر شدّوا عليه ، فترجّل وقاتلهم فقتل منهم كثيراً ثمّ أمّن الناس (٢).
الهُنّائي بالبحرين :
كان مِعن الشيباني لما توجه إلى اليمن قتل بها جمعاً من ربيعة ، وكان بالبحرين كثير منهم ، وكان على البحرين للمنصور أبو الساج فخرجوا عليه وقتلوه
__________________
(١) تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٨.
(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٤ ـ ٣٨٥.
سنة (١٥٢ ه) فوجّه المنصور عليهم عُقبة بن سلم الهُنّائي ، فقتل بها كثيراً من ربيعة اقتصاصاً لما فعل مِعن باليمن! وسبى كثيراً منهم وهم عرب مع مواليهم! ودفع خمسين منهم إلى رسول الخليفة المنصور إليه ليبيعهم بالبصرة! فقدم بهم البصرة ووقف بهم في المربد وأظهر أنّه يريد صلبهم وضرب أعناقهم. وكان سوّار بن عبد الله العنبري قاضي البصرة فأحضره وحبسهم وكتب إلى المنصور بخبرهم فكتب إليه بعفوهم (١)!
طبيبان من جندي شاپور للمنصور :
بعد افتتاح بغداد وسُكنى المنصور بقبّته الخضراء بها ، اصيب بضعف في المعدة فسوء استمراء وقلّة شهوة للطعام ، وكلما عالجه الأطباء زادت الأدواء ، فوصفوا له البيمارستان (المشفى) في جندي شاپور قرب الأهواز في خوزستان. وأفضل أطبائه النصارى جورج يوس بن جبرئيل بن بخت يَشوع (٢) (يسوع / عيسى) فكتب إلى عامله في جندي شاپور بإنفاذه إليه. وكان شيخاً وله زوجة أضعف منه لا تقدر على القيام.
فأحضره العامل وأكرمه وأبلغه الأمر ، فوصّى ابنه بخت يَشوع بالبيمارستان ، واستصحب معه تلميذه عيسى بن شهلاثا إلى المنصور ببغداد ، ولما حضر دعا له بالفارسية والعربية ، فأخبره المنصور بمرضه فقال له : أنا ادبّرك بمشيّة الله وعونه ، فأمر المنصور الربيع بانزاله في أحسن دوره كأحد أهله. ولم يزل جورجيوس يتلطّف له في تدبيره حتّى برئ وفرح ، وأمر خادمه سالماً
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٥.
(٢) نقل ابن أبي اصيبعة عن السُريانية : أن لفظ بخت تعني العبد ، وعندي أن البخت لفظة فارسية تعني الحظ والسعد. تاريخ مختصر الدول : ١٣٠ ، بالحاشية ٢.
أن يحمل إليه ثلاثة آلاف دينار وثلاثاً من الجواري الروميات الحسان! فردهنّ فسأله المنصور : لماذا؟ قال : نحن معاشر النصارى لا يجوز لنا أن نتزوّج بأكثر من امرأة واحدة ، فمادامت المرأة حيّة لا نأخذ غيرها!
وفي سنة (١٥٢ ه) مرض جورجيوس فاستأذن المنصورَ للانصراف إلى أهله وولده وليموت فيهم. فقال له المنصور : يا حكيم! إتق الله وأسلم وأنا أضمن لك الجنة! فقال جورج : قد رضيت بحيث آبائي ، سواء في الجنة أو في النار! ثمّ خلّف لديه تلميذه عيسى بن شهلاثا وشهد له بالمهارة. فأمر المنصور لجورج بعشرة آلاف دينار وخادم وأذن له بالعودة ، واتّخذ تلميذه عيسى طبيباً خاصاً.
فأخذ عيسى بأذية المطارنة والأساقفة ومطالبتهم بالرشاوى ، حتّى سافر مع المنصور إلى نصيبين ، فكتب عيسى إلى مطرانها قوفريان والتمس منه أن ينفذ إليه من آلات البيعة هناك أُموراً جليلة ثمينة لها قدر ، وتوعّده وهدّده إن منعه ذلك وكتب إليه : ألست تعلم أن أمر الخليفة في يدي إن أردتُ شفيته وإن أردتُ أمرضتُه! فتوصل المطران بكتابه إلى الربيع الحاجب وشرح له وأقرأه كتابه! وأوصله الربيع إلى الخليفة وأوقفه على الأمر ، فأمر المنصور بمصادرة أمواله وتأديبه ونفيه ، ففُعل به ذلك ، ثمّ نفي أقبح نفي (١).
وفي خبر الحلبي أن بخت يشوع عجز عن علاج مغَص الخليفة ، وأراد أن يريه مهارته فأخذ ماءً وصبّ عليه دواء فعقده جليداً ثمّ صبّ عليه دواء فأذابه فقال للخليفة : هذا طبّي إلّاأني عجزت عنك ، اللهم إلّاأن يكون رجل مستجاب الدعوة ذو منزلة عند الله يدعو لك. فقال الخليفة : عليَّ بموسى بن جعفر عليهالسلام فلمّا أتوه به سمع أنين الخليفة قبل أن يصل إليه فدعا له وزال المغص عنه.
__________________
(١) تاريخ مختصر الدول : ١٢٤ ـ ١٢٥.
فلمّا دخل عليه قال له : عليك بحق جدك المصطفى بمَ دعوت لي؟ قال : قلت : اللهم كما أريته ذلّ معصيته فأره عزّ طاعتي لك (١) فلعلّ هذا هو العلّة لعدم تعرض المنصور للكاظم عليهالسلام طوال عشرة أعوام حتّى هلك سنة (١٥٨ ه).
زواج الكاظم بامّ الرضا عليهماالسلام :
قبل نقل أخبار إحضار الصادق عليهالسلام إلى بغداد وقوله للمنصور : «وما أرى هذه السنة تتم لي» علّقت عليه ذكر الاختلاف في عمر الرضا عليهالسلام بين خمس وخمسين سنة ، ذكره الكليني وقال : الا أن هذا التاريخ هو أقصد إن شاء الله (٢) ولم يعلّل. وبين ما رواه هو بسنده عن ابن سنان قال : قُبض الرضا عليهالسلام وهو ابن تسع وأربعين سنة وأشهر (٣) المتأيد بخبر نصر الجهضمي في «تاريخ أهل البيت» : أنّه ولد بعد وفاة الصادق عليهالسلام بخمس سنين (٤) وكذا خبر الصدوق عن غياث بن اسيد (٥). والمتأيد أيضاً بعدم ذكر للصادق عليهالسلام في خبر زواج الكاظم عليهالسلام ، ولذا رجّحنا تأجيله إلى هنا أي إلى عام (١٥٢ ه) قبل ميلاد الرضا عليهالسلام بسنة.
ثمّ اختلف الخبر في زواج الكاظم بأُم الرضا عليهماالسلام بين : شرائها له ، وبين هبتها له من امه حميدة ، ولا أستبعد الجمع بينهما بأن يكون الرضا عليهالسلام اشتراها لُامه ثمّ وهبتها امّه له ، فإلى الخبرين :
__________________
(١) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠.
(٢) أُصول الكافي ١ : ٤٨٦.
(٣) أُصول الكافي ١ : ٤٩٢.
(٤) تاريخ أهل البيت : ٨٣ ونقل فيه المحقّق خبر ابن سنان عن ابن الخشاب ، ولم يذكر الكافي.
(٥) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ١٠٠ ، باب مولد الرضا عليهالسلام ، الحديث الأوّل.
رجل من أهل المدينة نخّاس يجلب الجواري إليها للبيع ، رحل إلى المغرب (العربي فيما بعد) واشترى جارية وصيفة من أقصى المغرب واصطحبها لمقرّه ، فلقيتْه امرأة من أهل الكتاب (النصارى) ورأت معه الوصيفة فكأ نّها تفرّست فيها شيئاً ، فسألت الرجل : ما هذه الوصيفة معك؟ قال : اشتريتها لنفسي! فقالت : إن هذه الجارية ما ينبغي أن تكون عندك! بل إنّما ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض! فلا تلبث حتّى تلد منه غلاماً ما يولد مثله بشرق الأرض ولا غربها!
ثمّ اشترى الرجل سبع جوار اخرى وحملهن معه إلى المدينة. فروى الكليني بسنده عن هشام بن الأحمر أنّه دخل على الكاظم عليهالسلام فقال له : هل علمت أحداً قدم من المغرب؟ قال : لا ، قال : بلى قد قدم ، فانطلق بنا إليه. قال : فركب وركبت معه حتّى انتهينا إلى الرجل فإذا هو رجل من أهل المدينة ومعه رقيق ، فقلت له : اعرض علينا. فعرض علينا سبع جوار ، وأبوالحسن يقول : لا حاجة لي فيها ، ثمّ قال له : إعرض علينا. فقال : ما عندي إلّاجارية مريضة وأبى أن يعرضها ، فانصرف الكاظم عليهالسلام.
قال هشام : ثمّ أرسل عليّ في الغد وأرسلني إليه وقال لي : قل له : كم كان غايتك فيها؟ فإذا قال كذا وكذا فقل : قد أخذتها! فأتيته فقال : ما أنقُصها من كذا وكذا ، فقلت : قد أخذتها. فقال : هي لك ، ما عندي أكثر من هذا! فأخبَرني عن قول المرأة من أهل الكتاب بالمغرب ـ كما مرّ قال : فأتيت بها إلى الكاظم عليهالسلام (١).
وكأنّه عليهالسلام اشتراها لُامّه حميدة المصفّاة ، وكانت جارية مولّدة نشأت بين العرب وتأدّبت بآدابهم ، واسمها بالعربية : تُكتم. وكانت أفضل امرأة في دينها وعقلها وإعظامها لمولاتها حميدة ، حتّى أنّها من إجلالها لمولاتها
__________________
(١) أُصول الكافي ١ : ٤٨٦ ـ ٤٨٧ ، باب مولد الرضا عليهالسلام ، الحديث الأوّل ، وعيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٩٧ ، الباب ٣ ، الحديث ٩.
ما جلست بين يديها منذ ملكتها ، فكأ نّها رأتها تناسب ابنها الكاظم عليهالسلام وعمره (٢٤) عاماً فقالت له : يا بُني ، إني ما رأيت جارية أفضل من تُكتم ، فلا أشك أنّ الله سيظهر نسلها ، وقد وهبتها لك فاستوصِ بها خيراً ، فتزوّجها (١).
الإباضية بأفريقية :
كان للمنصور على افريقية الياس بن حبيب الفهري فقُتل ، فولّى ابن أخيه حبيب بن عبد الرحمن الفهري فوثب عليه عاصم الإباضي فقتله ، وقد كثرت الإباضية بها فولّوا عليهم منهم عبد الأعلى المعافري فغلبوا على البلد واستفحل أمرهم بالقيروان. فولّى المنصور محمّد الخزاعي فقدم إلى طرابلس. وزحف إليه المعافري من القيروان فقتل المعافري وأرسل الخزاعي برأسه إلى المنصور ببغداد ، وصار هو إلى القيروان. وكان بها جند من خراسان عليهم هاشم الخراساني خرج على الخزاعي فأخرجوه ، وولّوا عليهم منهم عيسى بن موسى الخراساني! ثمّ ولّوا الحسن بن حرب ، فكتب المنصور إليه بولاية البلد ، ثمّ ولّى عمر بن حفص المهلّبي الأزدي ، فوثب به يعقوب الكندي الإباضي من خارج قيروان فحاصروا المهلّبي حتّى قتلوه سنة (١٥٣ ه) (٢).
ميلاد الرضا عليهالسلام :
ضمن حوادث سنة (١٤٧ ه) قبل وفاة الصادق عليهالسلام بسنة ، وقبل أخبار إحضاره عليهالسلام إلى بغداد ، علّقت على القول بمولد الرضا عليهالسلام بُعيد وفاة جدّه
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٩٣ ـ ٩٤ ، الباب ٢ ، الحديث ٧.
(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٥ ـ ٣٨٦.
الصادق عليهالسلام ، بترجيح خبرَي الكليني عن ابن سنان (١) ونصر الجهضمي (٢) بما يقتضي ترجيح زواج الكاظم عليهالسلام في عام (١٥٢ ه) وفي عنوانه أعدنا القول بما يقتضي ترجيح مولد الرضا عليهالسلام في عام (١٥٣ ه).
وقد نصّ الصدوق عليه بسنده عن غياث بن أُسيد عن جماعة من أهل المدينة قالوا : ولد الرضا عليهالسلام بالمدينة سنة (١٥٣ ه) بعد وفاة الصادق عليهالسلام بخمس سنين ، لإحدى عشر ليلة خلت من ربيع الأوّل (٣) ونقله عنه الطبرسي ولكنّه غيّر الربيع الأوّل إلى ذي القعدة بلا ذكر علّة (٤) وتُرك المنقول عنه وإنّما اشتهر ما نقله الطبرسي مصحّفاً!
امّه : ام ولد ولدت بين العرب ونشأت مع أولادهم وتأدّبت بآدابهم ، واسمها بالعربية : تُكتم ، فلمّا ولدت الرضا سمّاها الطاهرة ، وكان الرضا تام الخلقة بادناً يرتضع كثيراً ، وكان لُامه من صلاتها وتسبيحها أوراد نقصت بكثرة الرضاع ، فقالت : أعينوني بمرضع. فقالوا : أهل نقص الدَرّ؟ فقالت : لا ولكن نقص وردي لصلاتي وتسبيحي (٥).
تتمة أخبار المغرب :
وخرج المنصور من بغداد إلى القدس وولّى يزيد بن حاتم المهلّبي الأزدي
__________________
(١) أُصول الكافي ١ : ٤٩٢.
(٢) تاريخ أهل البيت : ٨٣ ونقل المحقّق فيه خبر ابن سنان عن ابن الخشاب.
(٣) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ١٠٠ ، باب مولد الرضا عليهالسلام ، الحديث الأوّل.
(٤) إعلام الورى ٢ : ٤٠.
(٥) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٩٤ ، الباب ٢ ، الحديث ٧.
المغرب سنة (١٥٤ ه) ، فخرج يزيد المهلّبي إلى الشامات والجزيرة واستنفر من حضر ثمّ خرج إلى مصر فافريقية فطرابلس في خلق عظيم ، وقامت الحرب بينه وبين يعقوب الكندي الإباضي بطرابلس أياماً ، حتّى قُتل وخلق عظيم من أصحابه ، ودخل يزيد المهلّبي القيروان سنة (١٥٥ ه) ونادى فيهم بالأمان ، وأقام إلى آخر خلافته المنصور والمهديّ وموسى (١).
وطالقان وديلمان وكاشغر :
وبلغ المنصور تمرّد أهل طالقان وديلمان ، فوجّه إليهم بعمرو بن العَلاء التميمي البصري ، ففتح الطالقان وديلمان وسبى منهم سبايا كثيرة ، ثمّ صار إلى طبرستان فأقام بها (وتوفي ١٥٤ ه (٢)).
ووجّه المنصور بمولاه ليث إلى فرغانة وعليها ملك ببلدة كاشغر ، فحاربهم محاربة شديدة حتّى صالحوه على مال كثير.
وكان عبد الله بن عبد الملك بن مروان قد بنى بثغر الروم حصن المَصّيصة ، كان الروم يأتون عليهم متى ما شاءوا ويستبيحونهم ، فبنى المنصور عليها سوراً وخندق حوله وأسكنها جيشاً مقاتلاً وحمل إليها جمعاً من المحبوسين.
وبهذه الحجج جمع أموال الناس حتّى ما ترك عند أحد زيادة وفضلاً ، فكان مبلغ ما أخذ ثمانمئة ألف ألف (مليون) درهم (٣).
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٦.
(٢) مروج الذهب ٣ : ٣٠٤ ، وفي تاريخ ابن الوردي ١ : ١٨٩ : وقيل : مات (١٦٨ ه) وهو أحد القرّاء السبعة.
(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٣٨٧.