الوصائل الى الرسائل - ج ٩

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل الى الرسائل - ج ٩

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-09-0
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ولكنّك عرفت أن مقتضى النظر الدقيق خلاف هذا البناء ، وأنّ الامر المقدّمي خصوصا الموجود في المقدّمة العلميّة التي لا يكون الأمر بها إلّا ارشاديا ، لا يوجب موافقته التقرّب ولا يصير منشئا لصيرورة الشيء من العبادات إذا لم يكن في نفسه منها.

______________________________________________________

في الظاهر والمتعبّد به في الظاهر ، فيكون حال الصلاتين حال سائر ما يجب في الظاهر.

وحيث قال المصنّف في دفع اشكال التشريع : لكنّه مبنيّ أيضا على لزوم ذلك ، أراد هنا العدول عنه والاشارة الى ان هذا المبنى غير تام ، فقال :

(ولكنّك عرفت :) عند قولنا يرد على الوجه الأوّل من كيفية النيّة كذا (أن مقتضى النظر الدقيق : خلاف هذا البناء ، وأنّ الأمر المقدّمي) سواء كان مقدمة الوجود ، أم مقدمة الصحة ، أم مقدمة العلم (خصوصا) الأمر (الموجود في المقدّمة العلميّة التي لا يكون الأمر بها الّا ارشاديا) لا لإدراك الواقع ، والأمر الارشادي (لا يوجب موافقته التقرّب ولا يصير منشئا) وسببا (لصيرورة الشيء من العبادات ، اذا لم يكن في نفسه منها) اي : من العبادات.

وعليه : فالمقدمة قد تكون مقدمة للامر بها بأمر مولويّ عبادي : كالوضوء ، والغسل ، وصلاة الظهر بالنسبة الى صلاة العصر حيث قال عليه‌السلام : «الّا ان هذه قبل هذه» (١) فلا شك في صحة قصد التقرب بها ، بل بدون قصد التقرب لا تقع المقدمة وقد تكون المقدمة مقدمة للأمر بها بأمر مولوي غير عبادي مثل : رفع

__________________

(١) ـ الكافي (فروع) : ج ٣ ص ٢٧٦ ح ٥ وص ٢٨١ ح ١٢ ، تهذيب الاحكام : ج ٢ ص ٢٧ ب ٢٣ ح ٢٩ ، الاستبصار : ج ١ ص ٢٦٢ ب ١٤٩ ح ٢ ، غوالي اللئالي : ج ٣ ص ٦٨ ح ١٧ ، تفسير العياشي : ج ٢ ص ٣١٠ ح ١٤٣.

١٦١

وقد تقدّم في مسألة «التسامح في أدلّة السنن» ما يوضح حال الأمر بالاحتياط.

كما أنّه قد استوفينا في بحث «مقدمة الواجب» حال الأمر المقدّمي وعدم صيرورة المقدّمة بسببه عبادة ، وذكرنا ورود الاشكال من هذه الجهة على كون التيمم من العبادات

______________________________________________________

الخبث للصلاة ، أو مقدمة للأمر بها بأمر ارشادي مثل ما نحن فيه ، ففي هاتين الصورتين الأخيرتين لا يوجب موافقة امرهما التقرب ، ولا يصير سببا لصيرورة الشيء من العبادات.

هذا (وقد تقدّم في مسألة «التسامح في أدلّة السنن» : ما يوضح حال الأمر بالاحتياط) حيث ذكرنا هناك مفصلا : بأنّ الأمر بالمقدمة العلمية ليس الّا للارشاد.

نعم ، لا اشكال في صحة أن يأتي الانسان بكل شيء غير محرّم ولا مكروه بقصد القربة ، ويثاب عليها حينئذ ، كما دلّ على ذلك بعض الروايات فيأكل بقصد القربة ، وينام بقصد القربة ، ويتخلّى بقصد القربة ، ويباشر زوجته بقصد القربة ، ويتنزّه بقصد القربة ، وهكذا ، وذلك لقوله عليه‌السلام : «ان لبدنك عليك حقا» لكن ذلك لا يوجب ان ينوي الانسان التقرّب العبادي مثل : نية الصلاة والصوم في هذه الامور.

(كما انّه قد استوفينا في بحث «مقدمة الواجب» حال الأمر المقدّمي وعدم صيرورة المقدّمة بسببه) أي : بسبب الأمر المقدّمي (عبادة) مقرّبة اليه سبحانه (وذكرنا ورود الاشكال من هذه الجهة) اي : من جهة عدم تأثير الأمر المقدّمي في صيرورة المقدمة عبادة مقرّبة (على كون التيمم من العبادات) فكيف يكون

١٦٢

على تقدير عدم القول برجحانه في نفسه كالوضوء ، فانّه لا منشأ حينئذ لكونه منها إلّا الأمر المقدّمي به من الشّارع.

______________________________________________________

التيمم وهو أمر مقدّمي من العبادات (على تقدير عدم القول برجحانه في نفسه كالوضوء)؟.

أمّا إذا قلنا بأنّ التيمم راجح في نفسه ويكون حاله حال الوضوء والغسل ، فيكون من العبادات فلا يرد الاشكال على التيمم.

وأما وجه الاشكال : فهو انّه إذا لم يكن التيمم في نفسه من العبادات ، فوجوبه المقدّمي للصلاة والصوم والطواف وما أشبه لا يكفي من حيث قصد القربة ، فلما ذا يشترط الفقهاء فيه قصد القربة.

وعليه : (فانّه لا منشأ حينئذ لكونه) اي : التيمم (منها) اي : من العبادات (إلّا الأمر المقدّمي به من الشّارع) والأمر المقدّمي ـ كما عرفت ـ لا يكون منشأ للعبادية.

قال في تحر الفوائد : «لا اشكال في استحقاق الثواب بفعل المقدّمة فيما لو كانت عبادة في نفسها وجعلها الشارع من مقدّمات الواجب ، كما في الطهارة المائية من حيث رجحانها الذاتي لا من حيث اطاعة الأمر الغيري المعلق بها.

وأمّا الطهارة الترابية على القول بعدم كونها عبادة في نفسها بحيث يكون فعلها راجحا ومأمورا به من دون ملاحظة غاية من الغايات ، فيكون نقصا لما ذكرنا : من عدم تأثير امتثال الأمر الغيري في القرب واستحقاق الثواب ، فانّ كونها من العبادات ، وعدم سقوط أمرها الّا بقصد التقرب من المسلّمات عندهم مع عدم تعلق أمر نفسي بها على هذا القول انحصار أمرها في الأمر الغيري.

هذا ، ويمكن التفصّي عن الاشكال المذكور بالتزام رجحان ومصلحة نفسية لها

١٦٣

فان قلت : يمكن اثبات الوجوب الشرعيّ المصحّح لنية الوجه والقربة في المحتملين ، لانّ الاوّل منهما واجب بالاجماع ولو فرارا عن المخالفة القطعية ، والثاني واجب بحكم الاستصحاب المثبت للوجوب الشرعي الظاهري ،

______________________________________________________

لا تبلغ حدّا يؤثر في الأمر بها نفسا ، وانّما هي بمقدار تؤثر في المصلحة الملزمة بالنسبة الى غاياتها وتوجب ارتباطها بها ، كما في الركوع على القول بعدم كونه عبادة في نفسه كالسجود ، فانّ السجود عبادة في نفسه.

أقول : لكن الظاهر : انّ الركوع أيضا عبادة في نفسه لانّه نوع خضوع كالسجود ولهذا كانوا يركعون أما كبرائهم ممّا ألغاه الاسلام حيث جعل الركوع كالسجود خاصا بالله سبحانه.

(فان قلت : يمكن اثبات الوجوب الشرعيّ المصحّح لنية الوجه والقربة في المحتملين) فيأتي بكل من الظهر الجمعة بنية القربة والوجوب (لانّ الأوّل) الذي يأتي به (منهما) اي : من المحتملين سواء كان ظهرا أم جمعة (واجب بالاجماع) فانّه يجب (ولو فرارا عن المخالفة القطعية) بمعنى : إنّ الشيء الذي يأتي به أولا يكون فرارا عن المخالفة القطعية ، والفرار من المخالفة القطعية واجب.

إذن : فالذي يأتي به أولا واجب على كل حال.

(والثاني) : اي : المحتمل الذي يأتي به ثانيا من ظهر أو جمعة ، فانه (واجب بحكم الاستصحاب المثبت للوجوب الشرعي الظاهري) لانّه قبل الاتيان بالصلاة الاولى كانتا الصلاة واجبة عليه ، فاذا أتى بالاولى لم يعلم بكفاية هذه الصلاة عن الواقع ، فيستصحب بقاء وجوب الصلاة عليه ، فتكون الصلاة الثانية واجبة لمقتضى الاستصحاب ، كما قال :

١٦٤

فان مقتضى الاستصحاب بقاء الاشتغال وعدم الاتيان بالواجب الواقعي وبقاء وجوبه.

قلت : أمّا المحتمل المأتي به أولا فليس واجبا في الشرع لخصوص كونه ظهرا أو جمعة ، وانّما وجب لاحتمال تحقق الواجب به الموجب للفرار عن المخالفة ، أو للقطع بالموافقة إذا أتى معه بالمحتمل الآخر. وعلى أيّ تقدير فمرجعه الى الأمر باحراز الواقع ولو احتمالا.

______________________________________________________

(فان مقتضى الاستصحاب : بقاء الاشتغال ، وعدم الاتيان بالواجب الواقعي ، وبقاء وجوبه) لفرض انه لا يعلم انّ الصلاة الاولى هل هي الصلاة الواجبة أم لا؟.

ان قلت ذلك (قلت : أمّا المحتمل المأتي به أولا ، فليس واجبا في الشرع لخصوص كونه ظهرا أو جمعة) لان المفروض : انّ الواجب مردّد بينهما وليس معيّنا فيهما ، فما يأتي به اولا لم يكن لانه وجب عليه بعينه (وانّما وجب) عليه (لاحتمال تحقق الواجب به ، الموجب للفرار عن المخالفة) القطعية ، كما قال به بعض حيث اكتفوا بالموافقة الاحتمالية.

(أو) الموجب (للقطع بالموافقة) اي الموافقة القطعية كما قال به بعض آخر ، حيث التزموا بوجوب الموافقة القطعية ، وذلك يتم فيما (اذا أتى معه بالمحتمل الآخر) فانه باتيانه بالمحتملين يأتي بما أوجب الله سبحانه وتعالى عليه.

(وعلى ايّ تقدير) من التقديرين : حرمة المخالفة القطعية ، أو وجوب الموافقة القطعية (فمرجعه) اي : مرجع وجوب الأوّل (الى الأمر باحراز الواقع ولو احتمالا) فيكون وجوبا مقدميا ارشاديا لا وجوبا نفسيا مولويا وقد عرفت : انّ الوجوب الارشادي المقدّمي لا قربة فيه.

١٦٥

وأمّا المحتمل الثاني فهو أيضا ليس الّا بحكم العقل من باب المقدّمة.

وما ذكر من «استصحاب» فيه بعد منع جريان الاستصحاب في هذا المقام من جهة حكم العقل من اوّل الأمر بوجوب الجميع ، اذ بعد الاتيان بأحدهما يكون حكم العقل باقيا قطعا ، وإلّا لم يكن حاكما بوجوب الجميع وهو خلاف الفرض ،

______________________________________________________

(وأمّا المحتمل الثاني : فهو أيضا ليس الّا بحكم العقل من باب المقدّمة) العلمية ، فان من يرى وجوب الاحتياط يرى وجوب الاتيان بهما معا من باب المقدّمة العلميّة ، وقد عرفت : إنّ المقدمة العلمية لا تكون واجبة نفسا ، بل ارشادا ، والواجب الارشادي لا قربة فيه.

(و) أمّا (ما ذكر من «استصحاب») اي : استصحاب الشغل بالنسبة الى الصلاة الثانية ، فان (فيه) ما يلي :

أوّلا : (بعد منع جريان الاستصحاب في هذا المقام) منعا (من جهة حكم العقل من اوّل الأمر : بوجوب الجميع) اي : جميع المحتملات دفعا للضرر المحتمل ، فلا يكون الاتيان بالثانية من باب الاستصحاب.

وانّما لا يكون الاتيان بالثانية من باب الاستصحاب (اذ بعد الاتيان بأحدهما يكون حكم العقل باقيا قطعا) ولبقاء الحكم العقلي يأتي بالثانية ، كما كان يأتي بالاولى لنفس الحكم العقلي ، فلا يكون الاتيان بالثانية من باب الاستصحاب.

(وإلّا) بأن لم يكن حكم العقل باقيا بالنسبة الى الثانية (لم يكن) العقل من الاول (حاكما بوجوب الجميع ، وهو) اي : عدم حاكمية العقل بوجوب الجميع من الاول (خلاف الفرض).

إذن : فالعقل حاكم بوجوب الجميع من أوّل الأمر ، وهذا الحكم باق الى انتهاء

١٦٦

أنّ مقتضى الاستصحاب وجوب البناء على بقاء الاشتغال حتى يحصل اليقين بارتفاعه ، أمّا وجوب تحصيل اليقين بارتفاعه فلا يدلّ عليه الاستصحاب ، وإنّما يدلّ عليه العقل المستقل بوجوب القطع بتفريغ الذمة عند اشتغالها ، وهذا معنى الاحتياط ، فمرجع الأمر اليه.

______________________________________________________

الثاني ، فيكون حكم العقل بعد الاتيان بإحدى الصلاتين باقيا على حاله ، فلا يكون المورد موردا للاستصحاب.

وفيه ثانيا : (أنّ مقتضى الاستصحاب : وجوب البناء على بقاء الاشتغال حتى يحصل اليقين بارتفاعه ، أمّا وجوب تحصيل اليقين) بفعل المحتمل الثاني للتيقّن (بارتفاعه ، فلا يدلّ عليه الاستصحاب).

وعليه : فانّ مقتضى الاستصحاب : وجوب البناء على بقاء الاشتغال ، ومن المعلوم : انّ بقاء الاشتغال ليس معناه كون المحتمل الثاني واجبا شرعيا الّا على الأصل المثبت والاصل المثبت ليس بحجّة ، فانّ اثبات بقاء الوجوب لا يلزم ان يكون ما يأتي به ثانيا هو الواجب الذي عليه ، فهو مثل أن يقال : يجب اكرام زيد ، ثم يكرم انسانا ويقول : حيث انّ اكرام زيد واجب فاكرام هذا الانسان واجب ايضا.

(وانّما يدل عليه) اي : يدل على وجوب تحصيل اليقين بفعل المحتمل الثاني (العقل المستقل بوجوب القطع بتفريغ الذمة عند اشتغالها) فلا حاجة معه الى الاستصحاب ، لانّ الدليل العقلي الذي يوجب المحتمل الأوّل هو نفسه الدليل الذي يوجب المحتمل الثاني (وهذا) اي : الاتيان بالصلاة الثانية لدلالة العقل على وجوب الاتيان بها بعد الاتيان بالاولى هو (معنى الاحتياط).

وعليه : (فمرجع الأمر اليه) اي : يكون الى الاحتياط واذا رجع الأمر فيما نحن

١٦٧

وأمّا استصحاب وجوب ما وجب سابقا في الواقع ، أو استصحاب عدم الاتيان بالواجب الواقعيّ ، فشيء منهما لا يثبت وجوب المحتمل الثاني حتى يكون وجوبه شرعيا ، الّا على تقدير القول بالاصول المثبتة

______________________________________________________

فيه الى الاحتياط ، كان وجوب الثاني كوجوب الأوّل مقدّميا ارشاديا ، لا ذاتيا مولويا ، فلا يصح الاتيان بالثانية بقصد القربة المستقلة ، كما لا يصح اتيان الاولى بقصد القربة المستقلة ، وانّما يأتي بهما بقصد الواقع الذي يتقرّب به بينهما ، كما تقدّم توضيحه.

ثم انّ الاستصحاب الممكن ذكره في المقام على ثلاثة اقسام :

الاوّل : ما ذكره المصنّف من استصحاب وجوب البناء على بقاء الاشتغال.

الثاني : ما اشار اليه بقوله : (وأمّا استصحاب) الحكم اي : (وجوب ما وجب سابقا في الواقع) فانّه باتيان الصلاة الأولى وهي الظهر ـ مثلا ـ لا يعلم بانه قد أتى بما وجب عليه في الواقع ، فيستصحب بقاء وجوب ما وجب عليه في الواقع ، فيلزم عليه الاتيان بالصلاة الثانية.

الثالث : ما أشار اليه المصنّف بقوله : (أو استصحاب) الموضوع أي : (عدم الاتيان بالواجب الواقعيّ) فقد نستصحب الوجوب ـ كما مرّ ـ وقد نستصحب الواجب ـ كما نحن فيه ـ لا ثبات لزوم الاتيان بالمحتمل الثاني ، فيلزم عليه الاتيان بالصلاة الثانية.

لكن في هذين الاستصحابين اشكال أشار اليه بقوله : (فشيء منهما لا يثبت وجوب المحتمل الثاني حتى يكون وجوبه شرعيا) وذلك بأن نقول الوجوب باق ، فهذا الثاني متصف بالوجوب ، أو نقول الواجب باق ، فهذا الثاني هو الواجب (الّا على تقدير القول بالاصول المثبتة).

١٦٨

وهي منفيّة ، كما قرّر في محلّه.

ومن هنا ظهر الفرق بين ما نحن فيه وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شكّ في فعله ، فانّ الاستصحاب بنفسه مقتض هناك لوجوب الاتيان بالظّهر الواجب في الشّرع على الوجه الموظّف : من قصد الوجوب والقربة وغيرهما.

______________________________________________________

وانّما لا يثبت ذلك الّا على القول بالاصل المثبت ، لان قولنا : فهذا الثاني متصف بالوجوب ، أو هذا الثاني هو الواجب ليس لازما شرعيا به ، بل هو من اللوازم العقلية (وهي منفيّة) لا تثبت بالاستصحاب الّا على القول بالأصل المثبت والأصول المثبتة غير حجّة ، لانّ الأدلة الشرعية لحجيّة الاستصحاب لا تشملها (كما قرّر في محلّه) وسيأتي مفصلا إن شاء الله تعالى.

(ومن هنا) أي : من انّ الاستصحاب المذكور على اقسامه لا يمكنه ان يثبت وجوب المحتمل الثاني بوجوب مولوي ، لما عرفت : من انّه مثبت ، وليس بحجّة (ظهر الفرق بين ما نحن فيه) من الاستصحاب الذي هو ليس بحجة (وبين استصحاب عدم فعل الظهر وبقاء وجوبه على من شكّ في فعله) الذي هو حجة.

والحاصل : انّ الانسان إذا شك في الظهر وهو في الوقت يستصحب بقاء الظهر عليه ، وهذا الاستصحاب حجة ، فيستشكل : بانّه ما هو الفارق بين هذا الاستصحاب الذي تقولون بانّه حجّة ، وبين الاستصحاب السابق ، حيث قلتم بأنّه مثبت وليس بحجّة؟.

والى الفارق أشار المصنّف بقوله : (فانّ الاستصحاب بنفسه مقتض هناك : لوجوب الاتيان بالظّهر الواجب في الشّرع على الوجه الموظّف : من قصد الوجوب والقربة وغيرهما) أي : ان المقصود من استصحاب الظهر للشاك فيه

١٦٩

ثم إنّ الكلام فيما يتعلّق بفروع هذه المسألة يأتي في الشبهة الموضوعيّة إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية

ما إذا اشتبه الواجب في الشريعة بغيره من جهة إجمال النصّ ،

______________________________________________________

وهو في الوقت : اثبات نفس المستصحب أعني : عدم الاتيان بالظهر وبقاء وجوبها عليه ، وحيث انّه لم يأت بالظهر يلزم عليه الاتيان بها بمقتضى ما دل من اقامة الصلاة لدلوك الشمس الى غسق الليل.

أمّا الاستصحاب فيما نحن فيه بأقسامه الثلاثة ، فليس المقصود به : اثبات نفس المستصحب : الاشتغال بالواجب الواقعي أو عدم اتيانه ، أو بقاء وجوبه ، بل انّما يكون المقصود به : اثبات شيء آخر ملازم عقلا للمستصحب المذكور أعني :

وجوب اتيان بالمحتمل الآخر ، ومن الواضح : انّه فرق بين استصحاب شيء لاثبات شيء آخر ، فانّ الاستصحاب الأوّل حجّة ، بخلاف الاستصحاب الثاني ، فانه لا يكون حجّة ، لانه اصل مثبت.

(ثم انّ الكلام فيما يتعلّق بفروع هذه المسألة) من تردّد الواجب بين أمرين ، أو اكثر من أمرين ، مع عدم النص على التعيين (يأتي في الشبهة الموضوعيّة إن شاء الله تعالى) وذلك لان الكلام في فروع تلك المسألة وهذه المسألة من مساق واحد.

(المسألة الثانية :) من المسائل الأربع لصور دوران الأمر بين الواجب وغير الحرام في المتباينين هو : (ما إذا اشتبه الواجب في الشريعة بغيره) اي : بغير الحرام من المستحب ، والمكروه ، والمباح ، وذلك (من جهة إجمال النصّ)

١٧٠

بأن يتعلّق التكليف الوجوبي بأمر مجمل ، كقوله : «ائتني بعين» ، وقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) بناء على تردّد الصلاة الوسطى بين صلاة الجمعة كما في بعض الرّوايات ، وغيرها كما في بعض آخر.

______________________________________________________

لا من جهة فقد النص كما كان في المسألة الأولى.

وأما مثاله فكما قال (بأن يتعلّق التكليف الوجوبي بأمر مجمل كقوله : «ائتني بعين») ولا يعلم بأنّ المراد من العين : الذهب أو الفضة ـ مثلا ـ؟.

(و) مثل (قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (١) بناء على تردّد الصلاة الوسطى بين صلاة الجمعة كما في بعض الرّوايات ، وغيرها كما في بعض آخر) من الروايات ، فانّهم اختلفوا في المراد بالصلاة الوسطى على أقوال :

الأوّل : ما نقل عن أكثر الامامية وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام : من انّها صلاة الظهر ، وهي أوّل صلاة صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسميت بالوسطى لانّه وسط النهار ووقت الحر في أيام الصيف ، فكانت شاقة على المسلمين ، وقد ورد في الحديث : «افضل الاعمال أحمزها» (٢) ولأنها وسط بين صلاة الصبح وصلاة العصر.

الثاني : انّها العصر ، وقد قال به السيد المرتضى وادّعى عليه اجماع الطائفة ، واستدل له بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر اهله وماله» (٣)

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٣٨.

(٢) ـ مفتاح الفلاح : ص ٤٥ ، بحار الانوار : ج ٧٠ ص ١٩١ ب ٥٣ ح ٢ وج ٧٠ ص ٢٣٧ ب ٥٤ ح ٦.

(٣) ـ غوالي اللئالي : ج ١ ص ١٢٩ ح ٥ وج ٢ ص ٢٢ ح ٤٦ ، فقه القرآن : ج ١ ص ١١٤ ، ثواب الاعمال : ص ٢٣١ ، معاني الأخبار : ص ١٧١ ح ١ ، بحار الانوار : ج ٨٢ ص ٢١٧ ح ٣٤ ب ١ وفي الاربعة الأواخر (بالمعنى).

١٧١

والظاهر أنّ الخلاف هنا بعينه الخلاف في المسألة الأولى ،

______________________________________________________

وفي رواية أخرى : «حبط عمله» وفي رواية ثالثة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال في يوم الأحزاب : «شغلونا عن الصلاة الوسطى : صلاة العصر» (١).

الثالث : انّها صلاة الجمعة يوم الجمعة ، والظهر في سائر الأيام ، نقله الطبرسي في مجمع البيان عن علي عليه‌السلام.

وربّما قيل : انّها المغرب ، لتوسطها بين صلاتين رباعيّتين.

وقيل : انها العشاء ، لأنها وسط بين صلاتين ثلاثية هي المغرب وثنائية هي الصبح.

وقيل : هي الصبح ، لانّها وسط بين الليل والنهار ، فانّها تكون في ساعة ليست من الليل ولا من النهار.

وأمّا قوله سبحانه آخر الآية : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢) فقد روي عن ابن عباس أنّ معناه : «داعين» ، والقنوت هو الدعاء في الصلاة حال القيام مع رفع اليدين ، وهذا هو الشائع عند الفقهاء ، وهو المروي عن ابي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام كما في مجمع البيان ، والكلام في ذلك طويل خارج عن مقصود الشرح (٣).

(والظاهر : انّ الخلاف هنا) في المسألة الثانية (بعينه) هو (الخلاف في المسألة الاولى) أي : مسألة تردد الأمر بين الوجوب وغير الحرمة من جهة فقد النص ، فإنّ المشهور فيها : حرمة المخالفة القطعية وان ظهر من المحققين

__________________

(١) ـ فقه القرآن : ج ١ ص ١٦٤ ، سعد السعود : ص ١٢٩.

(٢) ـ سورة البقرة : الآية ٢٣٨.

(٣) ـ للمزيد راجع مجمع البيان : المجلد الثاني ص ٣٤٣.

١٧٢

والمختار فيها هو المختار هناك ، بل هنا أولى ، لأنّ الخطاب هنا تفصيلا متوجّه الى المكلّفين ، فتأمل.

وخروج الجاهل لا دليل عليه ،

______________________________________________________

الخوانساري والقمي جوازها الى المخالفة الاحتمالية ، الّا ان يقوم الاجماع أو النص أو الضرورة على حرمة ترك المجموع من حيث هو ، فاللازم الاتيان بهما معا.

(والمختار فيها) هنا (هو المختار هناك) : من انّه تجب الموافقة القطعية (بل هنا) وجوب الموافقة القطعية (أولى لأنّ الخطاب هنا تفصيلا متوجّه الى المكلّفين) كما في قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى (١)) (٢) فان الخطاب واضح وان كانت الصلاة الوسطى مردّدة بين مفهومين ، بخلاف مسألة فقد النص ، حيث انّه لا نص في المقام انّما يلزم العمل حسب القاعدة.

(فتأمل) ولعل وجهه هو : انّ الأولوية هنا ممنوعة ، لتساوي المسألتين من جهة علم المكلّف بوجوب تكليف عليه ، وعدم علمه بأنّ تكليفه هل هو هذا أو ذاك؟.

(و) ان قلت : الجاهل بالصّلاة الوسطى كيف يكلّف بوجوب الصلاة الوسطى عليه وهو لا يعلم بأنها الظهر أو الجمعة مع انّ تكليف الجاهل قبيح ، كما تقدّم مثل هذا الاشكال عن المحقق القمي في المسألة الأولى؟.

قلت : (خروج الجاهل لا دليل عليه) فانّ الجاهل يشمله التكليف أيضا ،

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ٢٣٨.

(٢) ـ مشارق الشموس في شرح الدروس : ص ٢٨٢.

١٧٣

لعدم قبح تكليف الجاهل بالمراد من المأمور به إذا كان قادرا على استعلامه ، من دليل منفصل ، فمجرّد الجهل لا يقبح توجّه الخطاب.

ودعوى : «قبح توجيهه على العاجز عن استعلامه تفصيلا ، القادر على الاحتياط فيه باتيان المحتملات» ، أيضا ممنوعة ، لعدم القبح فيه أصلا.

وما تقدّم من البعض ـ من منع التكليف بالمجمل ، لاتفاق «العدلية» على استحالة تأخير البيان ـ ، قد عرفت منع قبحه أولا ،

______________________________________________________

وذلك (لعدم قبح تكليف الجاهل بالمراد من المأمور به) اي : اذا كان جاهلا بانّ المراد من الصلاة الوسطى ـ مثلا ـ الظهر أو الجمعة ، فانه لا يقبح تكليفه بالوسطى (إذا كان) ذلك الجاهل (قادرا على استعلامه ، من دليل منفصل) مثل : الروايات الواردة في بيان المراد من الصلاة الوسطى (فمجرّد الجهل لا يقبح توجّه الخطاب) الى الجاهل الذي يتمكن من الاستعلام.

(ودعوى : «قبح توجيهه على العاجز عن استعلامه تفصيلا) بأن لا يتمكن من ان يعلم خصوصيته المراد ، لكنه (القادر على الاحتياط فيه باتيان المحتملات») من الظهر والجمعة معا ـ مثلا ـ فانّ دعوى قبح تكليفه (أيضا ممنوعة ، لعدم القبح فيه أصلا) كما هو واضح ، فانّ القبح انّما هو فيما إذا لم يعلم بشيء اطلاقا أو علم به اجمالا لكنّه لم يتمكن من الاستعلام ولا من الاحتياط ، ومن الواضح انّ المقام ليس من ذلك.

هذا (وما تقدّم من البعض) هو المحقق القمي (ـ من منع التكليف بالمجمل ، لاتفاق «العدلية» على استحالة تأخير البيان ـ ، قد عرفت منع قبحه أولا) حيث قلنا : بأنّه يتمكن من الاستعلام ، أو على الاقل انه يتمكن من الاحتياط

١٧٤

وكون الكلام فيما عرض له الاجمال ثانيا.

ثم إنّ المخالف في المسألة ممّن عثرنا عليه هو الفاضل القمّي قدس‌سره ، والمحقّق الخوانساري في ظاهر بعض كلماته ، لكنه ، قدس‌سره وافق المختار في ظاهر بعضها الآخر ، قال ـ في مسألة التوضّي بالماء المشتبه بالنّجس ، بعد كلام له في منع التكليف في العبادات إلّا بما ثبت من أجزائها وشرائطها ـ

______________________________________________________

(وكون الكلام فيما عرض له الاجمال ثانيا) فانّ القبح إذا سلّمناه فهو انّما يكون فيما اذا كان إجماله ذاتيا ، لا ما إذا كان اجماله عرضيا بسبب اخفاء المغرضين ـ مثلا ـ وحيث قد تقدّم تفصيل ذلك في المسألة الأولى فلا حاجة الى تكراره.

(ثم إنّ المخالف في المسألة) أي : مسألة وجوب الاحتياط فيما إذا اشتبه الواجب بغير الحرام من جهة اجمال النص (ممّن عثرنا عليه هو : الفاضل القمّي قدس‌سره ، والمحقّق الخوانساري) رحمه‌الله ، وذلك (في ظاهر بعض كلماته) أي : كلمات المحقق الخوانساري (لكنه) اي : المحقق الخوانساري (قدس‌سره وافق المختار) من الاحتياط باتيان كل اطراف الشبهة (في ظاهر بعضها الآخر) اي : في بعض كلماته الاخرى وافق مختارنا.

وانّما وافقنا لانه (قال ـ في مسألة التوضّي بالماء المشتبه بالنّجس) فيما كانت الشبهة محصورة بأن كان هناك إناءان ـ مثلا ـ اشتبه النجس بينهما ، قال (بعد كلام له في منع التكليف في العبادات الّا بما ثبت من أجزائها وشرائطها) اي : انه قال بعدم التكليف بالأجزاء والشرائط المشكوكة في الأقل والأكثر الارتباطيين الّا بما ثبت من الشارع انه جزء أو شرط.

وعليه : فالجزء المشكوك : كجلسة الاستراحة ، والشرط المشكوك : كاشتراط

١٧٥

ما لفظه : «نعم ، لو حصل يقين المكلّف بأمر ولم يظهر معنى ذلك الأمر ، بل يكون متردّدا بين امور ، فلا يبعد القول بوجوب تلك الأمور جميعا حتى يحصل اليقين بالبراءة» ، انتهى.

ولكن التأمّل في كلامه يعطي عدم ظهور كلامه في الموافقة ، لانّ الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملا للمخاطبين ، فتكليف المخاطبين بما هو مبيّن ، وامّا نحن معاشر الغائبين فلم يثبت اليقين ، بل ولا الظن بتكليفنا بذلك

______________________________________________________

عدم البكاء في الصلاة ـ مثلا ـ لا تكليف بها ، لانّها لم تثبت من الشارع.

قال المحقق الخوانساري في عنوان هذه المسألة (ما لفظه نعم ، لو حصل يقين المكلّف بأمر ولم يظهر معنى ذلك الأمر ، بل يكون متردّدا بين امور) كما إذا قال : ائت بالسورة وشك المكلّف في انّ المراد من السورة سورة قصيرة ، أو سورة طويلة من القرآن (فلا يبعد القول بوجوب تلك الأمور جميعا حتى يحصل اليقين بالبراءة (١) ، انتهى) كلامه الظاهر في انه يجب على المكلّف حينئذ أن يأتي بالسورة القصيرة والسورة الطويلة معا.

(ولكن التأمّل في كلامه) أي : كلام المحقق الخوانساري (يعطي عدم ظهور كلامه في الموافقة) لما اخترناه : من وجوب الاحتياط باتيان جميع المحتملات ، وذلك (لانّ الخطاب المجمل الواصل إلينا لا يكون مجملا للمخاطبين ، فتكليف المخاطبين) قد كان (بما هو مبيّن) عندهم ، ولذا يجب عليهم الاتيان بالمكلّف به.

(وأمّا نحن معاشر الغائبين فلم يثبت اليقين ، بل ولا الظن بتكليفنا بذلك

__________________

(١) ـ مشارق الشموس في شرح الدروس : ص ٢٨٢.

١٧٦

الخطاب ، فمن كلّف به لا إجمال فيه عنده ، ومن عرض له الاجمال لا دليل على تكليفه بالواقع المردّد ، لانّ اشتراك غير المخاطبين معهم فيما لم يتمكنوا من العلم به عين الدعوى.

______________________________________________________

الخطاب) اصلا ، فلا يجب علينا الاتيان به فكيف بالاحتياط فيه؟.

توضيحه : انّ الخطاب الذي هو مجمل في نظرنا نحن الغائبين كان مبيّنا للحاضرين زمن الخطاب ، والخطاب المبيّن للحاضرين يجب عليهم ، امّا اشتراكنا نحن الغائبين معهم في مثل هذا الخطاب الذي صار مجملا بالنسبة الينا فلا دليل عليه ، فنحن لسنا مكلّفين بذلك الخطاب حتى يجب علينا الاحتياط في أطراف الشبهة المرتبطة بذلك الخطاب.

إذن : (فمن كلّف به) أي : بذلك الخطاب من الحاضرين ، فانّه (لا إجمال فيه عنده) حتى يحتاط باتيان جميع الأطراف (ومن عرض له الاجمال) من الغائبين عن مجلس الخطاب ، فانّه (لا دليل على تكليفه بالواقع المردّد) حتى يحتاط باتيان جميع الاطراف ، وذلك لعدم توجّه الخطاب اليه.

وانّما لا دليل على تكليف غير المخاطبين (لانّ اشتراك غير المخاطبين معهم) أي : مع المخاطبين. (فيما لم يتمكنوا) اي : غير المخاطبين وهم الغائبون (من العلم به) تفصيلا (عين الدعوى) لانّ القول : بانّ الغائب محكوم بحكم الحاضر ، فيما إذا كان الحاضر يعلم بالخطاب تفصيلا ، مع ان الغائب لا يعلم به تفصيلا هو أول الكلام.

وإنّما يكون التكليف للغائبين أوّل الكلام ، لانه لا دليل على الاشتراك في مثل هذه الصورة ، وانّما دليل الاشتراك جار فيما إذا كان الخطاب مجملا بالنسبة الى الحاضرين والغائبين معا ، فانه يجب عليهم الاحتياط ، أو كان الخطاب مبيّنا

١٧٧

فالتحقيق أنّ هنا مسألتين :

إحداهما : اذا خوطب شخص بمجمل ، هل يجب عليه الاحتياط أو لا؟.

الثانية : أنّه إذا علم تكليف الحاضرين بأمر معلوم لهم تفصيلا وفهموه من خطاب هو مجمل بالنسبة إلينا معاشر الغائبين : فهل يجب علينا تحصيل القطع بالاحتياط باتيان ذلك الأمر أم لا؟. والمحقق حكم بوجوب الاحتياط في الأوّل دون الثاني.

______________________________________________________

بالنسبة الى الحاضرين والغائبين معا فيجب عليهم الاتيان بما هو مبيّن ، امّا إذا كان مبيّنا للحاضرين ومجملا للغائبين فلا دليل على اشتراكهم في ذلك حتى يجب على الغائبين الاحتياط فيه.

وعليه : (فالتحقيق : انّ هنا مسألتين :) كالتالي :

(إحداهما : اذا خوطب شخص بمجمل ، هل يجب عليه الاحتياط أو لا؟) وهذا هو المورد الذي وافقنا فيه المحقق الخوانساري بوجوب الاحتياط فيه ، وهو يتصور على وجهين : لانه إمّا أن يكون الخطاب مجملا للمخاطبين والغائبين معا ، وأمّا ان يكون مجملا للغائبين فقط مع اشتراكهم للمخاطبين في الخطاب.

(الثانية : انّه إذا علم تكليف الحاضرين بأمر معلوم لهم تفصيلا) اي : بلا اجمال فيه (وفهموه من خطاب) كان ذلك الخطاب (هو مجمل بالنسبة إلينا معاشر الغائبين : فهل يجب علينا) نحن الغائبين (تحصيل القطع بالاحتياط باتيان ذلك الأمر ، أم لا؟) وذلك مع عدم اشتراك الغائبين مع المخاطبين في الخطاب.

(و) كيف كان : فانّ (المحقق) الخوانساري (حكم بوجوب الاحتياط في الأوّل) أي : في المسألة الاولى فقط (دون الثاني) فلم يوافقنا في وجوب الاحتياط في المسألة الثانية ، وبالتالي لم يوافقنا في الجميع.

١٧٨

فظهر من ذلك انّ مسئلة إجمال النص إنّما يغاير المسألة السابقة ، أعني عدم النصّ فيما فرض خطاب مجمل متوجه الى المكلّف ، إمّا لكونه حاضرا عند صدور الخطاب ، وإمّا للقول باشتراك الغائبين مع الحاضرين في الخطاب ،

______________________________________________________

وعليه : (فظهر من ذلك) التحقيق الذي ذكرناه فيما تقدّم : (انّ مسئلة إجمال النص) على صور ثلاث :

الاولى : صورة اجمال الخطاب للحاضر ، وهو يستلزم ان يكون مجملا للغائب ايضا.

الثانية : صورة اجمال الخطاب للغائب دون الحاضر مع الحكم باشتراك الخطاب بين الغائب والحاضر.

الثالثة : صورة اجمال الخطاب للغائب وعدم اجماله للحاضر مع الحكم بعدم اشتراك الخطاب بين الغائب والحاضر.

ولا يخفى : إنّ المراد في هذه المسألة من إجمال النصّ : الصورتان الأوليان ، وأمّا الصورة الثانية ، فهي في الحقيقة داخلة في مسئلة عدم النص.

والى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : انّ مسئلة اجمال النص (انّما يغاير المسألة السابقة ، اعني : عدم النصّ فيما فرض خطاب مجمل متوجه الى المكلّف) وذلك يكون في الصورتين الأوليين فقط على ما سبق :

الصورة الاولى : (اما لكونه حاضرا عند صدور الخطاب) وكان نفس الخطاب مجملا ، فلا يستفيد منه حتى الحاضر شيئا.

الصورة الثانية : (وإما للقول باشتراك الغائبين مع الحاضرين في الخطاب) مع ان الخطاب مبيّن للحاضرين ومجمل للغائبين.

١٧٩

أما اذا كان الخطاب للحاضرين وعرض له الاجمال بالنسبة الى الغائبين ، فالمسألة من قبيل عدم النص لا إجمال النصّ ، إلّا إنّك قد عرفت أنّ المختار فيهما وجوب الاحتياط ، فافهم.

______________________________________________________

(أمّا) الصورة الثالثة : وهي ما (اذا كان الخطاب للحاضرين) اي : مختصا بهم مع كونه مبيّنا لهم (وعرض له الاجمال بالنسبة الى الغائبين) لفقد القرائن الدالة على المراد من الخطاب (فالمسألة) حينئذ تكون كما عرفت (من قبيل عدم النص ، لا إجمال النّص).

وعليه : فالمحقق الخوانساري ليس مخالفا لمختارنا في هذه المسألة اعني : مسئلة اجمال النص وانّما مخالفته مختصة بالمسألة السابقة ، وهي مسئلة فقدان النص ، بخلاف المحقق القمي ، فانّه مخالف لمختارنا في كلتا المسألتين.

(الّا انّك قد عرفت : انّ المختار فيهما) أي : في المسألتين : مسئلة فقد النص ، ومسئلة اجمال النص بأيّ نحو من الأنحاء كان هو : (وجوب الاحتياط) وذلك للاشتغال اليقيني المحتاج الى البراءة اليقينية التي لا تحصل تلك البراءة الّا بالاتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية ، أو ترك جميع الأطراف في الشبهة التحريمية.

(فافهم) فانه كما قيل : يحتمل أن يكون اشارة الى ان كلام المحقّقين : القمي والخوانساري ، لم يكن صريحا في المخالفة حتى في المسألة السابقة وهو : عدم النص ، بل يحتمل موافقتهما للاصحاب في كلتا المسألتين ، الّا أنهما يمنعان من العلم بالتكليف بالنسبة الى غير المخاطبين فيما كان للخطاب مدخلية في ثبوت التكليف ، فانّه إذا احتملنا ان للخطاب مدخلية في ثبوت التكليف ، اختص

١٨٠