القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً ) (١) فلا وجه له أصلا ، لأنّ ظاهر الآية الشريفة أنّ نوحا عليه‌السلام بعد تلك الدعوة الطويلة وعدم إجابتهم يأس من قبولهم الإيمان ، أو يلدوا من يقبل الإيمان بعد بلوغه ، أو أخبره الله تعالى بأنّهم لا يلدون من يقبل الإيمان بعد بلوغهم ، كما احتمله في تفسير مجمع البيان ، (٢) ولذلك دعا عليهم وقال هذا الكلام.

وقال في مجمع البيان : والمعنى لا يلدوا إلاّ من يكون عند بلوغه كافرا. وربما يؤيّد هذا المعنى ذكر فاجرا قبل ذكر كفرهم ، بناء على أن يكون الفجور هاهنا بمعنى الزنا ، كما هو أحد معانيه المشهورة.

وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا دليل على نجاسة أولاد الكفّار غير البالغين إلاّ السيرة التي تقدّم ذكرها ، والحكم بأنّهم كفّار في صحيحة ابن سنان.

وأمّا خبر وهب بن وهب عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : « أولاد المشركين مع آبائهم في النار ، وأولاد المسلمين مع آبائهم في الجنة » (٣).

وكذلك الخبر الآخر : « فإمّا أطفال المؤمنين ، فإنّهم يلحقون بآبائهم ، وأولاد المشركين يلحقون بآبائهم ، وهو قول الله عزّ وجلّ ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) (٤). فدلالتهما على نجاسة أولاد الكفّار لا يخلو من نظر وتأمّل.

هذا حال أولاد الكفّار الذين هم غير بالغين المعلوم أنّهم أولاد الكفّار.

وأمّا اللقيط الذي لا يعلم أنّه من أولاد المسلمين أو الكفّار ، فإن وجدت حجّة وأمارة شرعيّة على أنّه من أولاد إحدى الطائفتين يلحقه حكمها ، وإلاّ فمقتضى الأصل‌

__________________

(١) نوح (٧١) : ٢٧.

(٢) « مجمع البيان » ج ٥ ، ص ٣٦٥.

(٣) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٤٩١ ، باب حال من يموت من أطفال المشركين والكفّار ، ح ٤٧٣٩.

(٤) « الكافي » ج ٣ ، ص ٢٤٨ ، باب الأطفال ، ح ٢ ، والآية في سورة الطور (٥٢) : ٢١.

٣٦١

هي الطهارة.

وأمّا بالنسبة إلى غيرها من سائر الأحكام ، فكلّ حكم كان الإسلام تمام موضوعه أو جزئه أو شرطه فلا يترتّب عليه ، للزوم إحراز الموضوع. وليس ما يحرزه في المقام إلاّ ما توهّم من كونه في بلد أو مكان يغلب عليه المسلمون ، أو التمسّك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كلّ مولود يولد على الفطرة » (١).

أمّا الأوّل : أي كون الغالب فيه المسلمون ، وإن ورد ما يدلّ على أنّه أمارة التذكية ، ولكن إثبات أماريّته مطلقا بحيث يثبت به إسلامه أشبه بالقياس ، إذ لا دليل عليه بالخصوص ، وإسراء أماريّته على التذكية بكونه أمارة على الإسلام مرجعه إلى القياس الذي لا نقول بحجيّته.

وأمّا الثاني : فمعناه أنّ المولود بحسب خلقته الأصليّة وما فطره الله عليه يولد غير مائل عن الحقّ ، وغير مائل عن الطريق المستقيم ، وغير معاند للحقّ خاليا عن التعصّب وعن الأخلاق الرذيلة ، وإنّما أبواه يحدثان فيه هذه الأمور ، فحبّ أخذ طريقة الآباء أمر عارضي فيهم حدث من تربية أبويه ، فلا يدلّ أنّ الولد مسلم حتّى يثبت خلافه. وبعبارة أخرى : لا يدلّ على أنّ في مورد الشكّ في إسلامه يحكم بإسلامه حتّى يثبت خلافه.

هذا ، مضافا إلى أنّ الولد في ابتداء تولّده ليس قابلا لأن يكون مسلما بالمعنى الحقيقي ، لأنّه عبارة بذلك المعنى من اعتقادات مخصوصة ، والولد غير قابل لذلك ، فهو ليس بمسلم حقيقة ، وإنّما الكلام في أنّه بحكم الإسلام أم لا ، وهذه الرواية أجنبيّة عن هذا المعنى.

وأمّا ما تمسّك به الشيخ قدس‌سره لإسلام الطفل المشكوك بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » (٢).

__________________

(١) « الكافي » ج ٢ ، ص ١٣ ، باب قطرة الخلق على التوحيد ، ٣ ، « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٣٥ ، ح ١٨.

(٢) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٣٣٤ ، باب ميراث أهل الملل ، ح ٥٧١٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣٧٦ ، أبواب موانع الإرث ، باب ١ ، ح ١١ ، « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٢٢٦ ، ح ١١٨ ، وج ٣ ، ص ٤٩٦ ، ح ١٥.

٣٦٢

ففيه : أنّ ظاهر هذه الجملة إن كانت إنشاء وفي مقام التشريع كما هو الظاهر هو أنّه بعد الفراغ عن إسلام شخص وأنّه مسلم يعلو على غير المسلم في عالم التشريع ولا يعلو غير المسلم عليه ، مثلا لا مانع من أن يكون هو مالكا أو زوجا لغير المسلم ، ولكن لا يمكن أن يكون غير المسلم زوجا أو مالكا له ، إلاّ أن يأتي دليل مخصّص لهذا العموم في القضيتين : أي جملة « الإسلام يعلو » وجملة « الإسلام لا يعلى عليه » ، وأنت خبير أنّ مثل هذا المعنى حكم بعد الفراغ عن ثبوت الموضوع ، فلا يمكن إثبات الموضوع ـ أي الإسلام ـ حكما أو موضوعا به.

وأمّا إن كانت إخبارا كما هو خلاف الظاهر ، فلا بدّ وأن تحمل إمّا على الآخرة ، أي في الآخرة يعلو الإسلام على الكفر ، لأنّ الكفّار في الآخرة يصيرون أذلاّء صاغرين ، أو تحمل على الدليل والبرهان ، أي الإسلام في مقام الدليل والبرهان يغلب على سائر الأديان الباطلة الحقّة المنسوخة إن تحمل على آخر الزمان بعد ظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه ، كلّ ذلك لأجل أن لا يلزم الكذب في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاشاه.

وعلى كلّ واحد من التقديرين لا ربط له بمسألة كون اللقيط المشكوك محكوما بالإسلام موضوعا أو حكما.

وأمّا أولادهم الصغار المسبيّون‌ الذين سباهم المسلمون ، فلا يخلو الحال إمّا هم مع أبويهم أو أحدهما ، وإمّا هم وحدهم. فإن كانوا مع أبويهم أو مع أحدهما ، فالظاهر هو إلحاقهم بهما على إشكال فيما إذا كانوا مع أمّهم وحدها ، وذلك لشمول السيرة المدّعاة على إلحاقه بالسابي لمثل هذا المورد أيضا. وأمّا إذا كانوا وحدهم ، فالظاهر هو اتّفاق الأصحاب وتسالمهم على إلحاقه بالسابي وطهارته ، لعدم شمول إطلاقات أدلّة نجاسة الكفّار لمثل المقام ، ولا أدلّة تبعيّة الصغار لآبائهم الكفّار له ، فيكون المرجع هي‌

٣٦٣

أصالة الطهارة بعد ما لم يكن دليل على نجاستهم.

اللهمّ إلاّ أن يقال باستصحاب نجاستهم قبل السبي ، بناء على عدم تغيّر الموضوع وأن لا يكون موضوع الإلحاق بآبائهم مقيّدا بما إذا كانوا معهم ، ولكن على فرض جريان هذا الاستصحاب وصحّته تكون السيرة المدّعاة على تبعيّته للسابي حاكمة على هذا الاستصحاب ، فالعمدة في هذا المقام هو تحقّق هذه السيرة وعدمه.

وأمّا أولاد الكفّار الذين بلغوا وهم مجانين :

فربما يتوهّم طهارتهم لأجل ارتفاع التبعيّة بالبلوغ ، وعدم صدق الكافر عليهم ، وإن كان الكفر على ما هو الحقّ عندي عبارة عن عدم الاعتقاد بالمبدإ والمعاد ونبوة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحقّية ما جاء به ، فهو معنى عدمي ، ولكن ذلك العدم لا بدّ وأن يكون في موضوع قابل ، ولذلك لا يقال للجمادات والنباتات والحيوانات كفرة مع عدم اعتقادها بما ذكرنا قطعا.

وفيه : أنّ ما ذكر وإن كان حقّا ، ولكن هنا وجه آخر لعدم جريان أصالة الطهارة في حقّهم ، وهو أحد الأمور الثلاثة :

إمّا شمول إطلاقات أدلّة نجاسة الكفّار لهم عرفا ، لأنّهم عندهم كفّار ، لا من باب خطائهم في التطبيق كي يقال ليس التطبيق بيد العرف ، فإذا كان تطبيقهم على غير ما هو مصداق حقيقي للمفهوم ، فلا أثر ، بل من جهة أنّ المفهوم عندهم معنى أوسع ، فينطبق على من بلغ مجنونا حقيقة.

ولكن في هذا الوجه تأمّل واضح.

وإمّا قيام السيرة المستمرّة من المتديّنين على الاجتناب عنهم ومعاملة النجاسة معهم. ولكن وجود مثل هذه السيرة المتّصلة بزمانهم عليهم‌السلام غير معلوم.

وإمّا محكومة بالاستصحاب. ولا شكّ في عدم تغيير موضوع النجاسة عند‌

٣٦٤

العرف بدقائق قليلة بعد البلوغ مع ما قبله ، فلا مجال لجريان أصالة الطهارة أصلا.

هذا فيما إذا كان الجنون متّصلا بالصغر وعدم البلوغ ، وأمّا لو جنّ بعد ما بلغ عاقلا ولو بمدّة قليلة ، فلا ينبغي أن يشكّ في نجاسته وعدم جريان أصالة الطهارة في حقّه ، لصدق الكافر عليه في ذلك الزمان الذي كان عاقلا ، وإن كان ذلك الزمان قليلا.

وأنت خبير بأنّه لا فرق بين أن يكون الكافر عشرين سنة عاقلا فيصير مجنونا ، أو كان ساعة عاقلا وصار بعدها مجنونا ، لأنّ المناط فيهما واحد.

نعم لو كان جنونه بعد مدّة الفسحة للنظر بعد أن صار بالغا بدون فاصل ، فبناء على طهارته أيّام الفسحة للنظر والاجتهاد كما هو الصحيح فالظاهر طهارته ، لأنّه بناء على هذا صار طاهرا بعد أن كان نجسا ، فطرأ جنونه على الإنسان الطاهر.

وذلك لأنّ تبعيّته ارتفعت بالبلوغ ، فارتفعت النجاسة التبعية التي كانت فيه بارتفاع علّتها ، أو موضوعها بناء على ما هو الصحيح. والمفروض أنّه في مدّة الفسحة أي النظر والاجتهاد لتشخيص ما هو الحقّ من العقائد والأديان يكون طاهرا وبحكم المسلم ، ثمَّ جنّ بلا فصل فيكون كمسلم جنّ ، لا من باب القياس بل من باب عدم شمول إطلاقات أدلّة نجاسة الكافر له ، فيكون المرجع أصالة الطهارة ، بل لا مانع من جريان استصحاب طهارة زمان الفسحة.

وأمّا أولاد الكفّار من الزنا‌ فأيضا يتبعون آبائهم في النجاسة ، وذلك لأنّ نفي الولديّة عنهم باعتبار الإرث لا مطلقا. وقد بيّنّا (١) في قاعدة الولد للفراش أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر سودة بنت زمعة بالاحتجاب عن ولد ولد على فراش أبيها زمعة لكثرة شبهها بالزاني (٢).

__________________

(١) « القواعد الفقهيّة » ج ٤ ، ص.

(٢) « صحيح بخاري » ج ٢ ، ص ٣ و ٤ ، كتاب البيوع ، باب تفسير المشتبهات ، « صحيح مسلم » ج ٣ ، ص ٢٥٦ ، كتاب الرضاع ، باب ١٠ ، ح ٣٦ و ٣٧.

٣٦٥

والحاصل : كون الولد المخلوق من ماء رجل ومن بطن امرأة ولدا لها أمر تكويني ، بمعنى أنّ الانتساب بينه وبينها ليس أمرا اعتباريّا ، بل عرض خارجي وله حظّ من الوجود في الخارج ، ولا يرتفع بالرفع التشريعي.

نعم يمكن أن يرفعه الشارع باعتبار آثاره الشرعي ، أي يجعل في عالم الاعتبار التشريعي وجوده كالعدم. ولكن ليس في ولد الزنا دليل ينفي الولديّة باعتبار جميع آثارها ، فيجب ترتيب آثار الولديّة ما عدا الذي يكون النفي باعتباره.

ولذلك لا يجوز للزاني تزوّج بنته من الزنا ، ولا أمّه ولا أخته إذا كانت هذه النسبة حاصلة من الزنا ، فإذا جاء دليل على إلحاق أولاد الكفّار بآبائهم في النجاسة وتبعيّتهم لهم ، فيشمل الولد الذي حصل له من الزنا كما يشمل من لم يكن من الزنا. ولا فرق بين أن يكون الزنا من طرف واحد أو من الطرفين واتضح وجه ذلك.

هذا إذا كان الأبوان كلاهما كافرين ، وأمّا لو كان أحدهما مسلما لا يلحقه هذا الحكم ، لأنّ الولد ملحق بأشرف الأبوين وهو المسلم منهما. هذا معلوم إذا كان الولد شرعيّا ، كما إذا كان الأب مسلما في النكاح الصحيح ، أو كان الوطي من طرف الأمّ المسلمة وطي شبهة. وأمّا إذا كان المسلم الأب ، فالمسلمة التي تكون إمّا زان أو زانية فهل يلحق الولد بالطرف المسلم أيضا ، أم لا؟ الظاهر هو الإلحاق أيضا ، لما تقدّم أنّ النفي ليس إلاّ بلحاظ بعض الآثار لا جميعها.

اللهمّ إلاّ أن يقال النسبة الحاصلة من الزنا ليست لها شرافة كي تكون موجبة للإلحاق بالزاني المسلم ، أو الزاني المسلمة.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ الحكم بالطهارة في المفروض ليس من جهة الإلحاق بالمسلم ، بل من جهة أنّ القدر المتيقّن من الإجماع على إلحاق ولد الصغير الكافر به في النجاسة فيما إذا كان الأبوان كافرين ، وأمّا إذا كان أحدهما مسلما فليس إجماع في البين ، وليس دليل لفظي على التبعية كي يؤخذ بإطلاقه ، فيكون المرجع هي أصالة الطهارة ، لا الإلحاق بالمسلم.

٣٦٦

هذا ، مضافا إلى إطلاق معاقد الإجماعات فيما إذا كان أحد أبويه مسلما في الحكم بإلحاقه بالطرف المسلم وإن كانت النسبة من الزنا ، فعلى كلّ حال لا ينبغي الشكّ في أنّ الولد إذا كان أحد أبويه مسلما وإن كان من الزنا لا يلحق بالكافر. نعم حكى عن كاشف الغطاء خلاف ذلك ، فقال بإلحاق الولد بالكافر إذا كان الحل من طرفه وكان الزنا من طرف المسلم. وهو محجوج بما ذكرناه ، فلا نعيد.

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت أنّ الكافر بجميع أقسامه محكوم بالنجاسة ، يقع الكلام في عناوين أخر وأنّها هل داخلة في عنوان الكافر موضوعا ، أو حكما أو لا هذا ولا ذاك؟

فنختم هذه المسألة ببيان أمور لتوضيح هذا المطلب‌

فنقول :

الأمر الأوّل : في منكر الضروري ، وهو من جحد ما ثبت أنّه من الدين ضرورة.

والمراد بثبوته من الدين أنّه لا يحتاج إثبات أنّه من الدين إلى نظر واستدلال ، بل يعرف كونه من الدين كل أحد ، إلاّ أن يكون جديد الإسلام بحيث لا علم ولا اطّلاع له على أحكام الإسلام ولا على عقائده ، أو عاش في بلد بعيد عن بلاد الإسلام ولا تردّد له إلى بلاد المسلمين ، ولا معاشرة له معهم.

ثمَّ إنّه وقع خلاف عظيم بين الفقهاء في أنّ كفر منكر الضروري هل هو لأنّه سبب مستقلّ له تعبّدا ولو لم يكن موجبا لإنكار النبوّة والرسالة ، أو من جهة رجوعه إلى ذلك؟

والمشهور ـ بل ادّعى في مفتاح الكرامة (١) أنّه ظاهر الأصحاب ، وهذه العبارة مشعر بالإجماع ـ هو أنّه سبب مستقلّ.

__________________

(١) « مفتاح الكرامة » ج ١ ، ص ١٤٣.

٣٦٧

وقال جماعة أخرى منهم المحقّق الخونساري ، وابنه آغا جمال ، (١) والأردبيلي ، وكاشف اللّثام ، وصاحب الذخيرة (٢) ، والمحقق القمّي قدس‌سره أنّ جحود الضروري ليس بكفر في نفسه ، إلاّ إذا كشف عن إنكار النبوّة.

واستدلّ للقول الأوّل بالإجماع والأخبار التي منها صحيحة الكناني ـ وهي عمدتها ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : من شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مؤمنا؟ قال عليه‌السلام : « فأين فرائض الله؟ ». قال : وسمعته يقول : كان عليّ عليه‌السلام يقول : « لو كان الإيمان كلاما لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام ». قال : وقلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إنّ عندنا قوما يقولون إذا شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مؤمن؟ قال عليه‌السلام : « فلم يضربون الحدود؟ ولم تقطع أيديهم؟ وما خلق الله عزّ وجلّ خلقا أكرم على الله عزّ وجل من مؤمن ، لأنّ الملائكة خدّام المؤمنين ، وإنّ جوار الله للمؤمنين ، وإنّ الجنّة للمؤمنين ، وإنّ الحور للمؤمنين ثمَّ قال عليه‌السلام : فما بال من جحد الفرائض كان كافرا » (٣).

وموضع الاستدلال لقولهم بأنّ إنكار الضروري موجب للكفر وإن لم يكن موجبا لتكذيب النبوّة هي الجملة الأخيرة من هذه الرواية ، فكأنّه عليه‌السلام جعل كفر من يجحد الفرائض من المسلّمات ومفروغا عنه ، فيقول عليه‌السلام : لو كان صرف قول الشهادتين كافيا في تحقيق الإسلام فلما ذا يكون جاحد الفرائض كافرا؟ فالنتيجة أنّ جاحد الفرائض كافر مع إقراره بالشهادتين ، فمنكر الضروري الجاحد للفرائض ليس كفره من جهة تكذيبه للنبوّة ، بل كافر مع إقراره بالتوحيد والنبوّة.

وفيه : أنّ الجحد هو الإنكار مع العلم. قال في القاموس : جحد حقّه : أنكره مع‌

__________________

(١) « التعليقات على شرح اللمعة الدمشقية » ص ٢٤.

(٢) « ذخيرة المعاد » ص ١٥٢.

(٣) « الكافي » ج ٢ ، ص ٣٣ ، باب بدون العنوان من كتاب الايمان والكفر ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٢٣ ، أبواب مقدمة العبادات ، باب ٢ ، ح ١٣.

٣٦٨

علمه (١). فلا محالة يكون جاحد الفرائض التي من الضروريّات مكذّبا للنبوّة ، فلا يتمّ الاستدلال. فجحده للفرائض ينقض إقراره ، فيكون كافرا من جهة أنّ إنكار وجوب الفرائض يرجع إلى تكذيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتكذيب أنّ كلّ ما جاء به هو من عند الله.

ومنها : صحيح عبد الله بن سنان : « من ارتكب كبيرة من الكبائر فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الإسلام وعذّب أشدّ العذاب ، وإن كان معترفا أنّه ذنب ومات عليها أخرجه من الإيمان ولم يخرجه من الإسلام ، وكان عذابه أهون من عذاب الأوّل » (٢).

والاستدلال بهذه الصحيحة على أنّ إنكار الضروري كفر بنفسه من دون كونه موجبا لتكذيب النبوّة ، قوله عليه‌السلام : « فزعم أنّها حلال » فإن زعم حلّية شرب الخمر مثلا التي هي إحدى الكبائر للضروري ، لأنّ حرمته من الضروريّات ، وهذا الإنكار والزعم سبب لخروجه عن الإسلام ، مع عدم إنكاره للنبوّة.

وفيه : أنّ حرمة الكبائر معلومة لنوع المسلمين ، ولا يجهله إلاّ من هو جديد العهد بالإسلام ، أو كان في بلاد بعيدة عن بلاد الإسلام ، مع عدم معاشرته مع المسلمين ، وإلاّ فزعم حلّية الكبيرة غالبا ملازم مع تكذيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا هو ظاهر الرواية ، فلا تدلّ على أنّ إنكار الضروري بنفسه سبب مستقلّ للكفر الذي هو مدّعاهم.

وهنا روايات أخر ذكروها لمدّعاهم تركنا ذكرها لوضوح عدم دلالتها ، فقد عرفت عدم دلالة هذه الأخبار على أنّ إنكار الضروري سبب مستقلّ للكفر.

وأمّا الإجماع : الذي ادّعوه في المقام ، فلا صغرى له ولا كبرى. أمّا الصغرى فلكثرة القائلين بالخلاف من الذين هم العظماء من الفقهاء. وأمّا الكبرى فلأنّ إجماعهم ليس من الإجماع المصطلح الذي نقول بحجّية الذي كاشف قطعي عن رأي‌

__________________

(١) « القاموس المحيط » ج ١ ، ص ٢٩٠ ( جحد ).

(٢) « الكافي » ج ٢ ، ص ٢٨٥ ، باب الكبائر ، ح ٢٣ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٢٢ ، أبواب مقدّمة العبادات ، باب ٢ ، ح ١٠.

٣٦٩

المعصوم عليه‌السلام لاحتمال أنّهم ـ بل المظنون ـ اعتمادهم واتّكائهم على أمثال هذه الروايات.

فبناء على هذا لو أنكر ضروريّا من الضروريّات لشبهة علميّة حصلت من دون تكذيبه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل مع كمال إخلاصه والتصديق بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحكم بكفره ، كما أنّه ربما حصل مثل هذه الشبهة لبعض المحقّقين في الحكمة الإلهيّة في المعاد الجسمانيّ ، فإنّه بعد ما يبنى على تركّب الجسم من المادّة والصورة يقول بأنّ المعاد هي الصورة الجسميّة من دون مادّة ، وجسميّة الجسم بصورته لا بمادّته ، وذلك بناء منهم على أنّ شيئيّة الشي‌ء بصورته لا بمادّته ، فالمعاد في يوم النشور هو عين البدن الموجود في دار الغرور ولكن العينيّة بالصورة لا بالمادّة.

وأنت خبير بأنّ هذا القول مخالف للضروري لما هو الثابت في الدين الإسلاميّ بالضرورة أنّ المعاد في يوم القيامة عين البدن الدنيوي صورة ومادة ، لا صورة فقط ، وأمثال ذلك ممّا أنكروه بشبهة علميّة حصلت لهم ، فلا يوجب أمثال ذلك الكفر بناء على قول من يقول بأنّ صرف إنكار الضروري لا يوجب الكفر ما لم يكن تكذيبا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إن قلت : إنّ الخوارج والنواصب الذين يبغضون أمير المؤمنين عليه‌السلام وأولاده المعصومين وسيّدة نساء العالمين ويسبونهم ويقتلونهم لا يكذّبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع ذلك يعتقدون بأمثال هذه الآراء الباطلة ، فلما ذا يفتون بنجاستهم؟

قلنا : إنّ الحكم بنجاستهم ليس من جهة إنكارهم الضروري ، بل لأجل أدلّة خاصّة وردت فيهم ، وسنتكلّم عنها إن شاء الله تعالى. ويمكن أن يكون من جهة أنّ جهلهم بلزوم مودّة هؤلاء المكرمون عند الله وعند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ بغضهم بغض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون عن تقصير ، وإلاّ لو كانوا يفحصون ويلقون حبّ طريقة الآباء والعصبيّة يهديهم الله إلى طريق الحقّ والصواب ، قال الله تبارك وتعالى ( وَالَّذِينَ

٣٧٠

جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (١) والجاهل المقصّر ليس معذورا.

فكما أنّ الجاهل المقصّر في الأحكام الفرعيّة الإلزاميّة لو خالف جهلا لا يعذر ويكون معاقبا مثل العالم ، كذلك في الأمور الاعتقاديّة لو لم يعتقد بما يلزم الاعتقاد به كالمعاد الجسمانيّ ، أو اعتقد الخلاف لا يكون معذورا.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يظهر من الأدلّة إلاّ أنّ إنكار الضروري موجب للكفر لكونه موجبا لتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا أنّه سبب مستقلّ للكفر.

الأمر الثاني : الخوارج والنواصب. فالأوّل هم الذين يستحلّون قتل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والثاني هم الذين يبغضونه أو يبغضون أهل البيت الذين أمر الله بمودّتهم ، فالظاهر هو الاتّفاق على نجاستهم ، مضافا إلى ورود روايات كثيرة عن أهل بيت العصمة تدلّ على نجاستهم.

وفي بعض تلك الأخبار المرويّ عن العمل في الموثّق : « أنّ الله لم يخلق خلقا أنجس من الكلب ، وأنّ النّاصب لنا أهل البيت أنجس منه » (٢). وكلّ ما يدل على نجاسة النواصب يدلّ على نجاسة الخوارج بطريق أولى ، لأنّهم أشدّ نصبا منهم.

الأمر الثالث : الغلاة. وهم الذين يألهون عليّا أمير المؤمنين أو أحد الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، فيقولون بربوبيّتهم أو حلوله تعالى ـ العياذ بالله ـ فيهم كافرون أنجاس ، ولا فرق بينهم وبين سائر المشركين. وقد ورد اللّعن عليهم من الأئمّة المعصومين.

الأمر الرابع : المجبّرة والمفوّضة. والمراد بالأوّل هو أنّ العباد مجبورون في أفعالهم ، مسخّرون في إرادتهم بحيث لا يقدر العاصي على ترك العصيان ، ولا المطيع على ترك الإطاعة ، وذلك لانتهاء إرادتهم إلى إرادة الله تعالى شأنه الأزليّة القديمة بنحو ترتّب‌

__________________

(١) العنكبوت (٢٩) : ٦٩.

(٢) « علل الشرائع » ص ٢٩٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ١٥٩ ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، باب ١١ ، ح ٥.

٣٧١

المعاليل على عللها ، كما هو الظاهر من آراء الأشاعرة.

ومقابلهم المعتزلة القائلين بالتفويض ، وقد نسب إليهم أنّه لو جاز العدم ـ العياذ بالله ـ على إله العالم لما ضرّ عدمه بالعالم ، وأنّ العباد مستقلّون في أفعالهم.

ولازم القول الأوّل صدور القبيح ـ العياذ بالله ـ من الله تعالى ، لأنّ العقاب على الفعل غير الاختياري قبيح ، خصوصا إذا كان سلب القدرة منه تعالى بإرادته تعالى ، وإسناد القبيح ـ العياذ بالله ـ إلى الله إنكار للضروري ، وهو أنّه تعالى لا يفعل القبيح.

وأمّا الثاني : أي المفوّضة ، فيرجع كلامهم إلى استغناء العالم ـ العياذ بالله ـ وأنّ إرادة الله ـ العياذ بالله ـ ليست محيطة بالأفعال والأشياء. وهذا أسوأ من الأوّل ، ولذا قال الأئمّة المعصومون : « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » (١).

ولكن هذه أبحاث كلاميّة لا ربط لهما بعقائد المسلمين ، يصيب فيها بعض ويخطئ بعض ، ولذلك لو سئلت عن أيّ واحد من المسلمين هل أنت مجبور على فعل كذا؟

يقول : لا ، حسب ارتكازه ، وأيضا لو يسأل عنه أنّه هل الله تبارك وتعالى يفعل القبيح؟ يقول : لا ، وكذلك لو سئل أنّ هذا الفعل الذي تريد أن تفعل تقدر أن تفعل ولو لم يرد الله ذلك؟ يقول : لا ، بل بإرادة الله ، ولذلك في أمر يقول : أفعل إن شاء الله ، ويعلّقه على مشيّة الله جلّ جلاله ، فلوازم هذه الآراء الباطلة لا يلتزم بها أحد من المسلمين ، وإنّما هي صرف أبحاث علميّة التي يقع فيها الخطأ كثيرا من كثير من الباحثين.

الأمر الخامس : المجسّمة والمشبّهة. والنسبة بينهما عموم وخصوص مطلق ، وذلك من جهة أن تجسيمه تعالى نوع وقسم من التشبيه ، ودائرة التشبيه أعمّ ، إذ يمكن تشبيهه بغير الأجسام من الممكنات والمخلوقات ، مثل أن يقال : مثل الله تبارك وتعالى إلى المخلوقات والعالم نسبة النفس الناطقة المجرّدة إلى أبدان الآدميّين. وعلى كلّ حال‌

__________________

(١) « التوحيد » ص ٣٦٠ ، ح ٣.

٣٧٢

من الضروري أنّه تعالى ليس بجسم ولا شبيه بخلقه في كونه محلاّ للعوارض والطواري.

فالقول بأنّه جسم أو شبيه بالمخلوقات إنكار للضروري ، فإن قلنا بأنّ إنكار الضروري سبب مستقلّ للكفر وإن لم يكن موجبا لتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحالهم معلوم.

وأمّا إن قلنا بأنّه ليس سببا مستقلا ، فإن كان ملتفتا إلى لوازم ما يقول من أنّ التجسّم واحتياجه إلى المكان والحيّز ينافي القدم ووجوب الوجود فهو كفر ، لأنّه في الحقيقة بناء على هذا لم يذعن بوجود صانع قديم ، فليس مقرّا بالله خالق السماوات والأرضين.

وأمّا القول بأنّ التجسيم والتشبيه بالنسبة إليه تعالى ليس إنكارا للضروري ، لأنّ ظاهر بعض الآيات وبعض الأخبار يوهم ذلك ، فلا يخلو من غرابة ، وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ التجسيم كفر بالله العظيم ، إلاّ أن يكون ضعيف العقل قاصرا عن فهم لوازم كلامه.

الأمر السادس : القائلون بوحدة الوجود من الصوفيّة ، بمعنى أنّه ليس في عالم الوجود إلاّ وجود وهو الله تعالى ، فيدّعون أنّ وجود جميع الموجودات ليس أمرا مباينا مع وجود الله جلّ جلاله ، بل هي عينه تعالى.

وخلاصة الكلام والأقوال في هذه المسألة هو أنّه بناء على أصالة الوجود واعتباريّة الماهيّة ، فالوجودات المنسوبات إلى الأشياء المحمولات على موضوعاتها إمّا حقائق متباينة بتمام ذواتها البسيطة ، كما يقول به المشّاؤون ، وهذا القول والرأي لا اشكال فيه شرعا ولا يخلّ بالاعتقادات ، وإن أشكل عليه أيضا بعض بأنّه لا يمكن إثبات وحدانيّته تعالى مع اتّخاذ هذا الرأي ، ولا يمكن دفع شبهة الثنويّة المنسوبة إلى ابن كمونة ، (١) ولكن على فرض صحّة هذا الكلام هذا من اللوازم البعيدة المغفول عنها‌

__________________

(١) انظر : « الأسفار » ج ٦ ، ص ٥٨ ، « لمعات إلهيّة » ص ١٥١ ، « شرح المنظومة » ج ٣ ، ص ٥١٤.

٣٧٣

لغالب أهل البرهان والتحقيق ، فضلا عن العوام ، فلا يوجب كفرا قطعا.

وإمّا حقيقة واحدة ، ولكن لها مراتب متفاوتة بالكمال والنقص ، والشدّة والضعف ، فوجود كلّ شي‌ء من الأشياء غير وجودات الآخر ، ولكن الجميع سنخ واحد ، والاختلاف بينها باختلاف المراتب ، غاية الأمر أنّ وجود الواجب تعالى المرتبة غير المتناهية غير المحدودة بحدّ مطلقا حتّى الحدّ الذهني والعقلي ، لأنّ « كلّ ما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق لكم مردود إليكم » (١) وليس هو الواجب.

فالقول بالوحدة السنخيّة مع تعدّد الوجودات واقعا وخارجا لا إشكال فيه من ناحية العقائد الدينيّة ، فإن كان فيه إشكال فهو من حيث البراهين والأدلّة العقليّة ، وأنّ التشكيك في الذاتيّات هل يمكن ، أولا يمكن.

وبناء على هذا القول في عين الكثرة العدديّة والفرديّة وحدة ، وهي المعبّر عنها بالوحدة السنخيّة ، وفي عين الوحدة كثرة فرديّة ، وهي المعبّر عنها بالكثرة العدديّة أو الفرديّة.

وإمّا حقيقة واحدة ووجود واحد وموجود واحد لا تعدّد في الوجود أصلا ، ويظهر ذلك الوجود الواحد في المظاهر والمجالي المتعدّدة ، وكلّ واحد من هذه المظاهر والمجالي وجوده نفس ذلك الوجود الواحد وليس شي‌ء غيره ، فيصحّ أن يقول ذلك المظهر والمجلى باعتبار وجوده أنا هو.

وحيث أنّ ذلك الوجود الواحد هو الله ، والمظاهر والمجالي هي الممكنات والمخلوقات قاطبة ، فكلّ واحد من الممكنات بالنظر إلى وجوده هو الله جلّ جلاله ، العياذ بالله من هذه الأباطيل التي ينكرها العقل والنقل ، وجميع الشرائع والأديان الحقّة.

__________________

(١) « بحار الأنوار » ج ٦٦ ، ص ٢٩٣ ، باب صفات خيار العباد وأولياء الله ، ذيل ح ٢٣ ، وفيه « كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم ».

٣٧٤

وأمّا إن كانوا يقولون بأنّ ذلك الوجود الواحد هو الله ، والممكنات لا وجود لها ، وليست إلاّ صرف خيال وأوهام. وبعبارة أخرى : ينفون الوجود عمّا سوى الله ، ولا يدّعون أنّ للممكنات وجودا ووجودها عين وجود الله جلّ جلاله.

فهذا القول وإن لم يكن كفرا ، لكنّه إنكار للبديهي وخلاف ما يدركه العقل السليم عن شوائب الأوهام ، وكيف يمكن أن يدّعى أنّ هذه السماوات مع أنجمها والأرض مع جبالها وأنهارها وأشجارها وأبحرها ومعادنها ونباتاتها وحيواناتها على اختلاف مراتبها وآثارها لا وجود لها ، وجميعها أوهام وخيالات ، فبطلان هذا القول أوضح من أن يحتاج إلى بيان أو برهان.

ولكن الذي يسهل الخطب أنّ كثيرا من الشعراء الذين يذكرون أمثال هذه الخرافات والأباطيل في أشعارهم أو أقوالهم ليس إلاّ صرف لقلقة لسان من دون تدبّر وتفكّر في معاني هذه الجمل والكلمات ، ولعلّه إلى ما ذكرنا يشير ففيه عصره في كتابه عروة الوثقى بقوله : وأمّا المجسّمة والمجبّرة والقائلين بوحدة الوجود من الصوفية إذا التزموا بأحكام الإسلام فالأقوى عدم نجاستهم إلاّ مع العلم بالتزامهم بلوازم مذاهبهم من المفاسد (١).

الأمر السابع : ولد الزنا طاهر‌ إن كان من المسلمين ، بل وإن كان أحد أبويه مسلما ، خصوصا إذا لم يكن الطرف الآخر ـ أي الكافر أو الكافرة ـ غير زان.

وبعبارة أخرى : تارة يكون الزنا من الطرفين ، ففي هذه الصورة لو كان أحد أبويه مسلما يكون الولد تابعا له. وأخرى : يكون من طرف واحد ، وفي هذه الصّورة إن كان الزنا من طرف من ليس بمسلم ، فلا شكّ في إلحاقه بالطرف الذي هو مسلم.

وأمّا إن كان الزنا من طرف المسلم ، فربما يستشكل في إلحاقه بالمسلم ، لأنّ الطرف الآخر الذي هو غير المسلم ينسب إليه الولد ، ولا يعارضه انتسابه التكوينيّ‌

__________________

(١) « العروة الوثقى » ج ١ ، ص ٥٤.

٣٧٥

إلى المسلم ، لأنّ المفروض أنّه زان والشارع لم يعتبر الانتساب الذي يكون سببه الزنا وألقاه وجعله كالعدم.

وفيه : أنّ الشارع لم يلقه بالمرّة وإلاّ كان تزويج بنته من الزنا جائزا ، وأيضا لو كان الأبوان كلاهما مسلمين زانيين أيضا لا يلحق بهما ، والحديث الشريف : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (١) في مورد الشك ، والمورد المفروض في مورد اليقين بالانتساب إليهما فلا يشمله الحديث ، فهذا الإشكال أو التوهّم في غير محلّه ، وإن صدر عن بعض أعاظم أساتيذنا.

ثمَّ إنّ الحكم بطهارته يكون بمقتضى الأصل مع عدم دليل يوجب الخروج عن مقتضاه ، والمسألة ذات قولين ، والمشهور على الطهارة ، وحكى عن الصدوق (٢) وعن السيّد (٣) والحلّي (٤) نجاسته ، ونسب صاحب الجواهر إلى الكليني أيضا احتمالا وهذه عبارته : بل ربما قيل إنّه ظاهر الكليني أيضا (٥). وحكى صاحب الجواهر عن الحلّي في سرائره (٦) أنّ ولد الزنا قد ثبت كفره بالأدلّة بلا خلاف بيننا.

ثمَّ إنّ الكلام في ولد الزنا تارة من حيث كفره ، وأخرى من حيث طهارته ونجاسته.

فالأوّل : أي كفره ، فالظاهر أنّ هذه الدعوى كما يقول صاحب الجواهر ضروري البطلان ، لأنّه كيف يمكن أن يقال للمؤمن الموحّد المعترف بنبوة محمّد والمعتقد بالمعاد والمصدّق لما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ كلّ ما جاء به حقّ ومن عند الله والمقرّ والمعترف

__________________

(١) « صحيح البخاري » ج ٢ ، ص ٣ و ٤ ، كتاب البيوع ، باب تفسير المشتبهات ، « صحيح مسلم » ج ٣ ، ص ٢٥٦ ، كتاب الرضاع ، باب ١٠ ، ح ٣٦ و ٣٧ ، « عوالي اللئالي » ج ٢ ، ص ١٣٢ ، ح ٣٥٩ ، وص ٢٧٥ ، ح ٤١.

(٢) « الفقيه » ج ١ ، ص ٩ ، باب المياه وطهرها ونجاستها ، ذيل ح ١١ ، « الهداية » ص ١٤.

(٣) « الانتصار » ص ٢٧٣.

(٤) « السرائر » ج ١ ، ص ٣٥٧.

(٥) « جواهر الكلام » ج ٦ ، ص ٦٨.

(٦) « السرائر » ج ٢ ، ص ١٢٢ ، وج ١ ، ص ٣٥٧.

٣٧٦

بولاية الأئمّة الطّاهرين أنّه كافر ، وهل هذا إلاّ مثل أن يقال للحارّ : بارد ، وللأبيض :

أسود.

وأمّا الثاني : أي نجاسته ، فعمدة مستند القائلين بها هي الأخبار الواردة فيهم وإلاّ فاستدلال الحلّي على نجاستهم بعدم الخلاف مع ذهاب المشهور إلى طهارتهم غريب.

وأمّا الأخبار :

فمنها : مرسلة الوشّاء عمّن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه كره سؤر ولد الزنا واليهودي والنصراني والمشرك وكلّ من خالف الإسلام ، وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب. (١)

والاستدلال بهذه المرسلة باعتبار كراهته عليه‌السلام من سؤر ولد الزنا ، وجعله في رديف اليهودي والنصراني والمشرك الذين أثبتنا أنّهم أنجاس.

وفيه : أنّ كراهته السؤر أعمّ من نجاسة ما بقي من شربة السؤر ، لأنّه من الممكن أن تكون لجهات أخر. وكون الجهة في الأنجاس نجاستهم لا يوجب أن تكون الجهة في ولد الزنا أيضا تلك الجهة.

وذلك لأنّه لا مانع من أن يكون الحكم الواحد على الأفراد أو الأنواع المتعدّدة بملاكات متعدّدة ، بأن يكون في كلّ واحد منها ملاك يخصّه ، مع أنّه من الممكن أن يكون الملاك في الجميع واحدا في المرسلة أيضا وهي الخباثة المعنوية الموجودة في الجميع.

ومنها : رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام ، فإنّ فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى سبعة آباء ، وفيها‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ١١ ، باب الوضوء من سؤر الحائض والجنب ... ، ح ٦ ، « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٢٢٣ ، ح ٦٣٩ ، باب المياه وأحكامها ، ح ٢٢ ، « الاستبصار » ج ١ ، ص ١٨ ، ح ٣٧ ، باب استعمال أسئار الكفّار ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ١٦٥ ، أبواب الأسئار ، باب ٣ ، ح ٢.

٣٧٧

غسالة الناصب » الحديث (١).

وجه الاستدلال بها واضح ، خصوصا مع تعليل النهي عن الاغتسال فيها بعدم طهارة ولد الزنا إلى سبعة آباء.

وفيه : أنّ نفس هذا التعليل دليل على أنّه ليس المراد بقوله عليه‌السلام : « وهو لا يطهر إلى سبعة آباء » هي الطهارة عن الخبث ، لأنّ هذا شي‌ء مستنكر لم يقل به أحد إنّ الولد الشرعي لولد الزنا نجس ، خصوصا إذا كان ولدا سابقا له ، والمراد هي الخباثة المعنويّة التي ربما ترثه الأولاد من الآباء ، ومن الممكن بقاء هذه القذارة إلى سبعة آباء.

ومنها : رواية حمزة بن أحمد ، عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام في حديث قال فيه : « ولا يغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام ، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (٢).

وفيه : أنّ سياقها استدلالا وجوابا سياق رواية ابن أبي يعفور.

ومنها : مرفوعة سليمان الديلمي إلى الصادق عليه‌السلام قال : « يقول ولد الزنا : يا ربّ فما ذنبي فما كان لي في أمري صنع؟ فيناديه مناد ويقول له : أنت شرّ الثلاثة أذنب والداك فنشأت عليهما ، وأنت رجس ولن يدخل الجنّة إلاّ طاهر » (٣).

وفيها : أنّ المراد بالرجس في هذه المرفوعة هي القذارة والخباثة المعنويّة بقرينة قوله « فنشأت عليهما » أي : نشأتك نشأة الطغيان والتمرّد اللذين كانا في أبويك ، وإلاّ لم يكن أبواه نجسين ، لأنّ المسلم والمسلمة لا ينجسان بصدور الزنا منهما كي يكون نشأته في النجاسة نشأتهما.

__________________

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ١٤ ، باب ماء الحمام والماء الذي تسخنه الشمس ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ١٥٩ ، أبواب الماء المضاف وغيره ، باب ١١ ، ح ٤.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٣٧٣ ، ح ١١٤٣ ، باب دخول الحمام وآدابه وسننه ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ١٥٨ ، أبواب الماء المضاف والمستعمل ، باب ١١ ، ح ١.

(٣) « علل الشرائع » ص ١٨٨.

٣٧٨

وأمّا الصفات النفسانيّة والحالات والملكات ، سواء كانت فضائل ورذائل ترثه الأبناء في الأغلب عن الآباء ، فتفسير الرواية أنّ شقائك من قبل أبويك ، فليس في المرفوعة ما يكون دليلا على نجاسة بدن ولد الزنا.

ومنها : ما ورد من أنّ نوحا لم يحمل معه ولد الزنا في السفينة ، مع أنّه حمل الكلب والخنزير ، فيستكشف من هذا أنّه أنجس من الكلب والخنزير (١).

وفيه : أنّه لا دلالة فيه أصلا ، بل ولا تأييد من قبله لهذا المطلب أي نجاسة ولد الزنا ، وذلك من جهة بناء السفينة وصنعها لأجل خلاص المؤمنين عن الغرق وهلاك الكافرين ، ولم يكن في المؤمنين ولد الزنا ، ولأجل ذلك لم يحمل ، لا أنّه كان في المؤمنين وتركه لأجل نجاسته.

هذا أوّلا ، وثانيا : على فرض أن يقال بوجوده ومع ذلك لم يحمله ، وإن كان في كمال الاستبعاد ، ويمكن أن يكون ترك حمله لأجل شقاوته وشؤمه ، فربما يوجب حمله ضررا على السفينة.

ومنها : موثّق زرارة ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : « لا خير في ولد الزنا وبشره ولا في شعره ولا في لحمه » (٢).

وفيه : أنّه أجنبيّ عن محلّ البحث.

ومنها : حسنة ابن مسلم ، عن الإمام الباقر عليه‌السلام : « لبن اليهوديّة والنصرانيّة والمجوسيّة أحبّ إليّ من لبن ولد الزنا » (٣).

وفيه : أيضا أنّه أجنبي عن محلّ البحث ، من جهة أنّ اللبن غذاء ينمو به الجسم ،

__________________

(١) « عقاب الأعمال » ص ٢٥٢.

(٢) « المحاسن » ص ١٠٨.

(٣) « الكافي » ج ٦ ، ص ٤٣ ، باب من يكره لبنه ومن لا يكره ، ح ٥ ، « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ١٠٩ ، ح ٣٧١ ، باب الحكم في أولاد المطلّقات ، ح ٢٠ ، « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٣٢٢ ، ح ١١٤٧ ، باب كراهيّة لبن ولد الزنا ، ح ٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١٨٤ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ٧٥ ، ح ٢ ، وباب ٧٦ ، ح ٢.

٣٧٩

ولا شكّ في أنّ الغذاء يؤثّر في الجسم أوّلا وبالذات ، وفي الروح أيضا بتوسّط تأثيره في الجسم ، وربما يكون أثر السوء كحصول الأخلاق الذميمة والملكات الرذيلة في نفس الولد من لبن ولد الزنا أزيد من لبن الكفّار ، ولذلك قال عليه‌السلام : « إنّ لبن الكفّار الثلاثة أحبّ إليّ من لبن ولد الزنا ، فلا ربط لهذه الرواية بمسألة نجاسة بدن ولد الزنا ».

وخلاصة الكلام : أنّ هذه الأخبار وغيرها ممّا وردت في ذمّ ولد الزنا ، يستفاد منها أنّ المولود الذي يتولّد من الزنا فيه اقتضاء الشقاوة والفساد والضلالة والميل إلى الجور والباطل والخروج عن جادة الحقّ والطريق المستقيم ، ولكن لا بحيث يسلب عنه الاختيار كي يكون عقابه ومؤاخذته قبيحا وظلما عليه ، بل يرتكب القبائح بسوء اختياره ، فيعاقب على قبائح أعماله وأفعاله.

فمعنى قوله عليه‌السلام : « إنّه رجس » أو « شرّ » أو « لا خير فيه » أو « لا يطهر إلى سبعة آباء » أو « إنّه لا يحب أمير المؤمنين عليه‌السلام » وأمثال ذلك من العبارات التي وردت في الازدراء به ، هو ما صرّح به عليه‌السلام في مرفوعة سليمان الديلمي بقوله عليه‌السلام : « أنت شرّ الثلاثة أذنب والداك فنشأت عليهما وأنت رجس » (١) أي : أنت نتيجة فسادهما وعملهما القبيح ، فورثت الخباثة والتمرّد والطغيان من ذلك الطاغي والمتمرّد ، وتلك الطاغية والمتمرّدة ، ومعلوم أنّ من كان جوهر ذاته ناشئة من عمل القبيح يكون فيه اقتضاء جميع الشرور. ولكن لا بحدّ يسلب الاختيار كي يكون عقابه قبيحا كما ذكرنا.

وبما ذكرنا يرتفع الإشكالات المتوهّمة بالنسبة إلى ما ورد في حقّ ولد الزنا من أنّه لا يدخل الجنّة وإن أطاع ولم يعص أبدا. فيقال : بأنّ هذا ظلم في حقّ ولد الزنا ، وأيّ ذنب كي يكون مستحقّا لمثل هذا الطرد وعدم شمول رحمة الله له ، مع أنّه تعالى يقول في كتابه العزيز ( جَزاءً وِفاقاً ) (٢) وأيضا قوله تعالى : ( جَزاءً بِما كانُوا

__________________

(١) « علل الشرائع » ص ١٨٨.

(٢) النباء (٧٨) : ٢٦.

٣٨٠