القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

ويظهر من كلام صاحب الجواهر (١) أنّ إجارة المرضعة للرضاع جائزة ، ولا يجوز إعارتها لذلك. وهذه عين عبارته : ولا يقدح في هذا الضابط جواز عارية المنحة للحلب دون الإجارة له ، عكس المرأة للرضاع بعد أن كان ذلك بالدليل.

وعلى كلّ حال هذه النقوض غير واردة على هذه الكلّية. أمّا جواز عارية الشاة المنحة فأوّلا يمكن أن يقال بأنّه ليس من باب العارية ، بل يكون إباحة للبنها من طرف المالك لمن يعطيها بيده.

وثانيا : يمكن أن يكون هذا لدليل خاصّ ورد في المقام ، فيكون مخصّصا لهذه القاعدة وهو الإجماع كما حكاه في الجواهر (٢) عن بعض متأخري المتأخّرين ، أو ما رواه الحلبي عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سمنا شيئا معلوما أو دراهم معلومة من كلّ شاة كذا وكذا ، قال عليه‌السلام : « لا بأس بالدراهم ولست أحبّ بالسمن » (٣).

أو صحيح ابن سنان ، سأله أيضا عن رجل دفع إلى رجل غنمه بسمن ودراهم معلومة لكلّ شاة كذا وكذا في كلّ شهر ، قال : « لا بأس بالدراهم ، وأمّا السمن فلا أحبّ ذلك إلاّ أن تكون حوالب » (٤).

وقرّب في الجواهر (٥) الاستدلال بهاتين الروايتين على جواز عارية الشاة المنحة (٦)

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٧ ، ص ١٧٣.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٧ ، ص ١٧٢.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٢٣ ، باب الغنم تعطى بالضريبة ، ح ١ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٢٧ ، ح ٥٥٤ ، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة ، ح ٢٥ ؛ « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٠٣ ، ح ٣٥٩ ، باب إعطاء الغنم بالضريبة ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٢٦٠ ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب ٩ ، ح ١.

(٤) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٢٤ ، باب الغنم تعطى بالضريبة ، ح ٤ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٢٧ ، ح ٥٥٦ ، باب الغرر والمجازفة وشراء السرقة ، ح ٢٧ ؛ « الاستبصار » ج ٣ ، ص ١٠٣ ، ح ٣٦٢ ، باب إعطاء الغنم بالضريبة ، ح ٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٢٦٠ ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب ٩ ، ح ٤.

(٥) « جواهر الكلام » ج ٢٧ ، ص ١٧٣.

(٦) المنحة ـ بالكسر ـ في الأصل الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلا يشرب لبنها ثمَّ يردّها إذا انقطع اللبن.

٢٨١

للانتفاع بلبنها بأنّ مفاد هاتين الروايتين جواز إعطاء الشاة بعوض وبضريبة للانتفاع بلبنها ، فتدلاّن على جواز الإعطاء مجّانا بطريق أولى أي بالفحوى ، وإعطاء الشاة بضريبة لا بدّ وأن يكون للانتفاع بلبنها أو بصوفها أو بكليهما ، فإذا دلّتا بالفحوى على جواز الإعطاء للانتفاع بهاتين المنفعتين مجّانا فيكون هذا عين العارية.

وفيه : على فرض تسليم أنّ الرواية تدلّ على جواز إعطاء الشاة المنحة مجانا لهاتين المنفعتين ، لا تدلّ على أنّ جواز الإعطاء من باب العارية ، بل من الممكن أن يكون من باب الإباحة أو الصلح المجّاني.

واستدلّ في التذكرة على جواز عارية الشاة المنحة بما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « العارية مؤدّاة ، والمنحة مردودة ، والدين مقضيّ ـ والزعيم ـ والغريم غارم » (١).

ولكن الإنصاف أنّ هذا الحديث الشريف ـ على فرض تسليم صدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على خلاف المطلوب ، وأنّ المنحة ليست بعارية أدلّ ، لما جعله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقابلا وعدلا للعارية.

نعم يدلّ على أنّ ردّ المنحة واجب ، كما أنّ تأدية العارية وقضاء الدين لازم ، والغريم غارم أي المديون يجب عليه أن يؤدّى دينه.

هذا بناء على نقل التذكرة ، وأمّا بناء على ما في سنن أبي داود وصحيح الترمذي : « الزعيم غارم » (٢) فمعناه أنّ الكفيل يجب عليه أداء الغرامة ، إذ الزعيم بمعنى الكفيل ، كما في قوله تعالى ( وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (٣).

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٢٠٦. وانظر : « عوالي اللئالي » ج ٣ ، ص ٢٥٢ ، ح ٨.

(٢) « سنن ابي داود » ج ٣ ، ص ٢٩٥ ، كتاب البيوع ، ح ٣٥٦٥ ؛ « سنن ترمذى » ج ٣ ، ص ٥٦٥ ، كتاب البيوع ، باب ٣٩ ، ح ١٢٦٥ ؛ « عوالي اللئالي » ج ٢ ، ص ٢٥٧ ، ح ٣ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٤٣٥ ، أبواب كتاب الضمان ، باب ١ ، ح ٢.

(٣) يوسف (١٢) : ٧٢.

٢٨٢

فالمستفاد من الحديث الشريف أنّ الشاة المنحة التي أعطاها المالك لشخص وأباح له لبنها يجب على ذلك الشخص ردّه ، وهذا لا ربط له بالعارية. هذا مع أنّ التحقيق أنّه كما يجوز إعارة الشاة المنحة إجماعا يجوز إجارتها أيضا.

وأمّا الإشكال عليه بأنّ الإجارة تمليك المنفعة مع بقاء العين ، وأمّا تمليك الأعيان فليس بإجارة ، بل إمّا بيع إذا كان بعوض مالي ، أو هبة إن كان مجّانا وبلا عوض ، أو صلح إذا وقع التسالم عليه أو غير ذلك.

فجوابه : أنّ متعلّق الإجارة في المفروض هي الشاة باعتبار تمليك منافعها ، غاية الأمر أنّ المنفعة قد تكون من الأعراض القائمة بعين في الخارج ، كسكنى الدار وركوب الدابّة والتفرّج في بستان ، وقد تكون من الأمور الاعتباريّة ، كما أنّهم يستأجرون الحلويّات الكثيرة ، وكذا الفواكه لأجل مجلس عقد القرآن بين الزوجين ، لا لأكلها بل لإظهار الجلالة والعظمة. وأمثلة هذا القسم كثيرة.

وقد تكون من الأعيان الخارجيّة ومن الجواهر التي لها وجود تبعي قبل الانفصال عن متبوعه ، ووجود استقلالي بعد الانفصال كاللبن بالنسبة إلى الشاة المنحة والمرأة المرضعة ، وكالأثمار بالنسبة إلى الأشجار ، وكالمياه بالنسبة إلى الآبار. وفي هذا القسم إذا ورد التمليك على هذه الأشياء باعتبار وجودها الاستقلالي ، أو كان بعد انفصالها عن متبوعها ، فلا شبهة في أنّ مثل هذا التمليك لا يمكن أن يكون إجارة ؛ لأنّ حقيقة الإجارة تمليك المنفعة ، وهذه تمليك عين لا تمليك منفعة. وهذا واضح جدّا.

وأمّا إذا ورد التمليك عليها باعتبار وجودها قبل الانفصال ، أي باعتبار كونها من توابع متبوعاتها وصفات موضوعاتها ، ولذلك يقولون شاة منحة وامرأة مرضعة وشجرة مثمرة إلى غير ذلك من الأمثلة ، فهذا يعدّ من تمليك المنافع بهذا الاعتبار عند العرف.

فإذا قال : آجرتك هذه الشاة بكذا ، لا يفهم منه العرف إلاّ تمليك منافع هذه الشاة‌

٢٨٣

التي بنظرهم عبارة عن صوفه ولبنه ، ولم يقم دليل عقلي ولا نقلي على أنّ منفعة عين لا يمكن أن تكون عين أخرى ، فهل يشكّ أحد في أنّ منفعة شجر الكرم هو العنب ، أو في أنّ منفعة النخيل هي التمور.

فإذا كان المتفاهم العرفي في باب العارية والإجارة هو إعطاء العين الخارجيّة ، وإن شئت قلت : هو تسليط على العين باعتبار كون منافعها ملكا له مدّة معلومة ، فإن كان هذا التسليط والتمليك مجّانا وبلا عوض يسمّى عارية ، وإن كان بعوض يسمّى إجارة.

فبناء على هذا التسليط على الشاة المنحة مع تمليك أصوافها وألبانها وسائر منافعها المتّصلة بها لا بعد انفصالها عنها يكون إجارة ـ حسب المتفاهم العرفي من هذا اللفظ الذي هو معنى ظهور اللفظ في معنى ـ إن كان بعوض ، وإن لم يكن بعوض يكون عارية.

ولا فرق في المتفاهم العرفي بين أن تكون تلك المنافع من الأعراض الخارجيّة ، أو كانت من الاعتباريّات ، أو تكون من الأعيان الخارجيّة بشرط عدم انفصال هذا الأخير عن موصوفه ومتبوعه.

ولا فرق فيما ذكرنا بين الشاة المنحة والمرأة المرضعة والشجرة المثمرة والبئر التي لها ماء بالنسبة إلى الاستقاء منها ، ففي جميع ذلك تصحّ إجارتها وأيضا إعارتها ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ من إجماع أو رواية معتبرة على عدم صحّة كليهما أو أحدهما ، فلا يرد نقض على هذه القاعدة بهذه الأمور.

وأمّا ما يقال أو يتوهّم بأنّهم متّفقون على أنّ الإجارة تمليك منافع العين التي يوجرها الموجر ، ويذكرون أنّ المنفعة مقابل العين ، ونقل الأعيان مقابل نقل المنفعة فلا يجتمعان.

فقد عرفت ما فيه : وأنّ هذه الأعيان ما دامت متّصلة بالعين المتعلّقة للإجارة‌

٢٨٤

تعدّ منفعة ، ومفهوم المنفعة لا بدّ وأن يؤخذ من العرف كسائر المفاهيم ، فإذا كانت هذه المنافع المذكورة التي من الأعيان الخارجيّة منفعة للعين ما دامت متّصلة بها ، فتشمل الإطلاقات أدلّة الإجارة والعارية أيضا مثل هذه الموارد ، أي التسليط على الشاة المنحة والجارية المرضعة والشجرة المثمرة ، والبئر التي لها ماء وغير هذه الأمور ممّا يشبهها مع إنشاء تمليك المنافع المذكورة لهذه الأمور.

ولا يخفى أنّه ليس مرادنا من إنشاء تمليك منافع هذه الأمور أن يكون بإنشاء مستقلّ ، وإلاّ يخرج عن كونه إجارة ، بل مرادنا من تمليك منافع هذه الأمور هو إنشاء تمليكها بلفظ الإجارة المتعلّقة بنفس هذه الأمور باعتبار تلك المنافع.

وأمّا الإشكال والنقض على ما ذكرنا ـ بأنّه لا يجوز إجارة الشاة بلحاظ سخلها ، ولا الجارية بلحاظ ولدها ، ولا البذر بلحاظ الزرع ـ فغير تامّ ؛ وذلك لأنّ السخل والولد موجودان منفصلان عن الشاة والجارية ، ورحم الشاة والجارية وعاء نمائهما وتربيتهما.

مع أنّ هذه المفاهيم تختلف بنظر العرف ، فلو قال : أجرتك هذه الشاة ـ مثلا ـ يفهم العرف من هذه العبارة تمليك صوفها ولبنها ، ولا يفهم منها تمليك سخلها التي في بطنها ، وقلنا : إنّ المدار في تشخيص المفاهيم وتعيين مداليل الألفاظ والجمل هو الفهم العرفي.

مضافا إلى أنّ السخل والولد إن كانا من منافع الشاة والجارية في المتفاهم العرفي نقول بصحّة إجارتها وإعارتها ، إلاّ أن يأتي دليل من إجماع أو رواية على عدم صحّتها أو عدم صحّة أحدهما ، وأمّا البذر والزرع والبيض والدجاج والنواة والنخلة وأمثالها فالزرع والدجاج والنخلة هي عين البذر والبيض والنواة ، لا أنّها من منافعها.

وأمّا ما أفاده سيّدنا الأستاذ قدس‌سره في حاشية العروة بقوله : نعم ربما يشكل في إجارة الأشجار للثمار بأنّ الانتفاع الحاصل فيها يعدّ في العرف انتفاعا بالثمر لا بالشجر.

٢٨٥

فكلام عجيب ؛ لأنّه بعد قبوله المبنى الذي ذكرنا وأنّه من الممكن أن تكون منفعة الشي‌ء من الأعيان الخارجيّة ، فأيّ فرق بين الشاة المنحة والانتفاع بلبنها ، وبين النخلة مثلا والانتفاع بثمرها ، بل كون ثمار الأشجار منفعة لها أبين من كون الماء الموجود في البئر منفعة لها ، وأيضا أبين من كون اللبن من منافع الشاة أو المرضعة.

وشيخنا الأستاذ قدس‌سره حيث أنّه لم يختر هذا المبنى ذهب إلى عدم صحّة إجارة هذه الأمور ، وقال في إجارة الشجر لأثماره ـ في مقام إنكار صحّة إجارة هذه الأمور ـ في حاشيته على العروة : خصوصا في إجارة الأشجار للانتفاع بأثمارها. فكأنّه قدس‌سره يرى القول بإجارة الأشجار بلحاظ الانتفاع بأثمارها أبعد عن الصحّة من إجارة الشاة المنحة بلحاظ لبنها ، والمرأة المرضعة بلحاظ إرضاعها أو لبنها ، والبئر بلحاظ الانتفاع بمائها ، ونحن لم نفهم فيها خصوصيّة أوجب ذلك.

الجهة الثانية

في بيان الدليل على هذه القاعدة

وهو أمران :

[ الأمر ] الأوّل : الإجماع‌ فهذا صاحب الجواهر قدس‌سره يقول في مقام شرح هذه العبارة التي في الشرائع وهي : « كلّما صحّ إعارته صحّ إجارته » (١) : بلا خلاف أجده نقلا وتحصيلا ، بل إجماعا كذلك (٢).

ومثل هذه العبارة من هذا الفقيه المحقّق المتتبّع لها قيمتها ، وإن كان قد تقدّم منّا مرارا الإشكال على أمثال هذه الإجماعات التي من المحتمل القريب أن يكون اتّفاقهم مستندا إلى مدرك يعتمدون عليه ، من دون أن يكون سبب اتّفاقهم تلقّيهم عن‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ١٤٠.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٧ ، ص ٢١٣.

٢٨٦

الإمام عليه‌السلام فلا بدّ من الرجوع إلى نفس المدرك المحتمل إن كان معلوما ، وأنّه هل يصحّ الاعتماد عليه أم لا؟ كما أنّه في المقام من المحتمل القريب أن يكون مدركهم هذا الأمر الثاني الذي نبيّنه إن شاء الله تعالى.

الأمر الثاني : هو أنّ الإعارة والإجارة لا تختلفان في الحقيقة ، وكلاهما عبارتان عن تسليط المالك المستعير والمستأجر على عين ماله لتمليك منفعته إيّاهما ، ولا فرق بينهما إلاّ بأنّ تمليك المنفعة أو الانتفاع بتلك العين في العارية مجّاني وبلا عوض ، وفي الإجارة يكون بعوض وليس مجانا.

فمورد الإجارة والإعارة واحد ، وهو العين التي لها منفعة محلّلة يمكن الانتفاع بها ، فيسلط الطرف عليه ويملكه منفعتها أو الانتفاع بها فينتفع بها. وأمّا كون الانتفاع بها بلا عوض أو مع العوض لا يغيّر المورد ، فالمورد في كليهما واحد ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ من إجماع أو رواية معتبرة على صحّة إحديها دون الأخرى ، وإلاّ فمقتضى الأصل الأوّلي هو أنّه لو صحّ أحدهما صحّ الآخر.

ومقتضى هذا الدليل أنّ الكلّية من الطرفين ، أي كما أنّ كلّما صحّ إعارته صحّ إجارته ، كذلك كلّما صحّ إجارته صحّ إعارته. وهو كذلك إلاّ أنّهم ذكروا الكلّية الأولى دون الثانية ، ولعلّه لأنّ الإجارة عقد لازم لا يمكن حلّه إلاّ بأحد موجبات الفسخ ، بخلاف العارية فإنّ العارية قابلة للاسترداد والرّد في أيّ وقت أراد كلّ واحد من الطرفين. فالإجارة تحتاج إلى دليل الإثبات وصحّة عقده كي يحكم عليها باللزوم ، وأمّا العارية في الحقيقة هو إذن في التصرّفات ، ولا أثر لكونها صحيحة أو فاسدة ؛ لأنّ فاسدها أيضا لا ضمان فيها ، لقاعدة « كلّما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده » فلا أثر مهمّ لمعرفة أنّها صحيحة أو فاسدة ، ولذلك أهملوا ذكر الكليّة الثانية.

أو لأنّ السيرة العمليّة بالنسبة إلى موارد العارية أوسع ، فإنّ الناس يستعيرون‌

٢٨٧

أغلب الأشياء لقضاء حوائجهم ، من الظروف والفرش ، وأدوات الطبخ من القدور والمكائن التي يطبخون عليها ، والبسط والابر وأدوات شرب الچاى من السماور والكتلى والقوري والاستكان والمواعين على أنواعها وأقسامها ، والكتب العلميّة في مختلف العلوم ، وكتب الأدعية والزيارة وغير ذلك ممّا يطول إحصاؤها.

وخلاصة الكلام : ما من شي‌ء له منفعة ويقضى الحاجة في مدّة قليلة إلاّ وقد يقع موردا للاستعارة ، بخلاف الإجارة ، فإنّ السيرة العمليّة لم تنعقد إلاّ في المهمّات من الحوائج وفيما لم يكن الاحتياج إليها في المدّة القليلة ، بل يكون الاحتياج إليها في مدّة معتدّة بها ، فيمكن أن تكون في بعض الموارد صحّة الإجارة مشكوكة لعدم قيام سيرة عمليّة عليها ، ولكن صحّة العارية تكون معلومة لقيام السيرة عليه ، فيستدلّ بها على صحّة الإجارة لأجل هذه القاعدة.

ولكن ليس هناك مورد تكون صحّة الإجارة معلومة وصحّة العارية ، مشكوكة في ذلك المورد كي يستدلّ بالكليّة الأخرى على صحّة تلك العارية ؛ فلذلك ذكروا الكلّية الأولى وأهملوا ذكر الثانية.

الجهة الثالثة

في موارد تطبيق هذه القاعدة‌

فنقول أوّلا : أنّ هذه القاعدة تجري في إجارة الأعيان بلحاظ منافعها ، وأمّا في باب الأجراء الأحرار فلا تجري الكلّية الثانية ؛ لأنّه يجوز استئجارهم ولا يجوز إعارتهم ؛ لأنّهم وإن كانوا أعيانا ولهم منافع محلّلة ، ولكن لا يدخلون تحت يد أحد ولا يملكهم أحد ، وهم وإن كانوا يملكون أعمالهم ولكن لا ينطبق على أعمالهم عنوان العارية ؛ لأنّ العارية كما قلنا عبارة عن تسليط الغير على عين من أعيان ما يملكه لأجل أن ينتفع بها وفي الإجراء الأحرار لا يمكن ذلك لا من قبل أنفسهم ولا من‌

٢٨٨

قبل غيرهم.

نعم لو كان الأجير من العبيد فكما تصحّ إجارته كذلك تصحّ إعارته.

وثانيا : إنّ مورد تطبيق هذه القاعدة جميع الموارد التي قامت السيرة على صحّة إعارتها ، فمفاد هذه القاعدة صحّة إجارتها.

فما ذكرنا من الموارد الكثيرة التي بناء العقلاء على صحّة إعارتها ، وقامت السيرة على ذلك حتى المحقّرات ، كما إذا استعار إبرة لخياطة خرق في ثوبه ـ مثلا ـ فإجارته لذلك أيضا صحيحة ، اللهمّ إلاّ أن يكون منفعته قليلة بحدّ أنّ العقلاء لا يبذلون بإزائه المال ، فيمكن أن يقال حينئذ بالتفكيك بينهما بأنّ إعارته في ذلك المورد جائزة ، إذ لا مانع من إعطاء ذلك الشي‌ء بيد الطرف للانتفاع بتلك المنفعة القليلة مجّانا وبلا عوض ، ولكن لا يجوز إجارته لأنّ الإجارة لا يمكن بدون العوض ، والمفروض أنّ العقلاء لا يبذلون بإزاء تلك المنفعة القليلة مالا ، فيمكن أن يكون هذا نقضا على هذه الكلّية لجواز الإعارة دون الإجارة ، فتدبّر.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطنا.

٢٨٩
٢٩٠

٥٣ ـ قاعدة

حرمة إهانة

المحترمات في الدين‌

٢٩١
٢٩٢

قاعدة حرمة إهانة المحترمات في الدين

ومن جملة القواعد الفقهيّة « حرمة إهانة حرمات الله والاستخفاف بها ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في بيان المراد من هذه القاعدة‌

فنقول : أمّا « الحرمة » فمعلومة عند كلّ أحد ، وأنّها أحد الأحكام الخمسة التكليفيّة ، وهو طلب ترك الشي‌ء وعدم رضاه بفعله بحيث يلزم عليه الترك ولو فعل كان عاصيا يستحقّ العقاب عليه.

وأمّا « الإهانة » فهي مصدر باب الإفعال ، والفعل : أهان يهين ، والمراد به الاستخفاف والاستحقار ، فأهانه أي : استخفّ به وحقّره وعدّه ذليلا.

وأمّا « الحرمات » فقال في القاموس : إنّ الحرمة بضمّتين وكهمزة : ما لا يحلّ انتهاكه (١). وذكر الزمخشريّ أيضا كذلك في الكشّاف (٢) قوله تعالى ( حُرُماتِ اللهِ ) (٣).

والمراد هاهنا في هذه القاعدة مطلق ما هو محترم في الدين وله شأن عند الله على اختلاف مراتبها ، كالكعبة المعظّمة ، ومسجد الحرام وسائر المساجد ، والقرآن ،

__________________

(١) « القاموس المحيط » ج ٤ ، ص ٩٦ ( حرم ).

(٢) « الكشّاف » ج ٣ ، ص ١٥٤.

(٣) الحجّ (٢٢) : ٣٠.

٢٩٣

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة المعصومين ، والضرائح المقدّسة ، وقبور الشهداء والصالحين والعلماء والفقهاء العاملين أحياء وأمواتا ، وكتب الأحاديث النبويّة المرويّة من طرق أهل البيت أو من طرق غيرهم من الصحابة الأخيار ، إلى غير ذلك من ذوي الشؤون في الدين وشريعة سيّد المرسلين. ومن هذا القبيل التربة الحسينيّة وكتب الأدعية والمنابر في المساجد الموضوعة للوعظ أو للخطبة لصلاة الجمعة.

والحاصل : أنّ مفاد هذه القاعدة والمراد منها أنّ كلّ ما هو من حرمات الله وله شأن في الدين لا يجوز هتكه ، ويحرم استحقاره وإهانته.

[ الجهة ] الثانية

في الدليل على هذه القاعدة‌

فنقول : الدليل عليه من وجوه :

الأوّل : الإجماع‌ على حرمة هتك ما هو من حرمات الله وشعائر الدين ، فإنّهم ادّعوا الإجماع على حرمة تنجيس المساجد ، وإدخال النجاسة المسرية فيها معلّلا بأنّها مستلزم لهتكها ، فكأنّهم جعلوا حرمة الهتك أمرا مفروغا عنه ، وأيضا قالوا بجواز إدخال النجاسة غير المسرية فيها ما لم يستلزم هتكها فكأنّ حرمة ما يستلزم الهتك أمر مسلّم عندهم ، ومن المعلوم أنّ اتّفاقهم على حرمة الهتك ليس لخصوصيّة في المساجد ، بل تكون لأجل أنّها من حرمات الدين وشعائره ؛ وذلك لأنّ ما هو من حرمات الله وشعائره تعالى هتكه يؤول إلى هتك حرمة الله عزّ وجلّ ، وهذا شي‌ء ينكره العقل ويقبّحه ، كما سنذكره في الدليل العقلي إن شاء الله.

وأمّا كون شعائر الله عبارة عن مناسك الحجّ ، أو خصوص الهدى ، أو خصوص البدن ، وهكذا بالنسبة إلى حرمات الله كونها عبارة عن خصوص مناسك الحجّ فواضح البطلان ؛ لأنّ إطلاقها في القرآن الكريم على تلك الأمور من باب إطلاق‌

٢٩٤

الكلّي على بعض المصاديق وليس من المجاز ، لما تحقّق في محلّه أنّه من باب تعدّد الدالّ والمدلول ؛ لأنّ الخصوصيّة تستفاد من دالّ آخر ، وما ذكره اللغويّون وبعض المفسّرين لهذين اللفظين ـ « حرمات الله ، شعائر الله » ـ فهو من باب اشتباه المفهوم بالمصداق.

فكلّ ما هو محترم عند الله ومن علائم الدين فهو من حرمات الله ومن شعائره عزّ وجلّ.

ويؤيّد ما ذكرنا ما قاله الزمخشري في تفسير ( حُرُماتِ اللهِ ) أنّها ما لا يحلّ هتكه ، فلوضوح ثبوت هذا الأثر لها عرّفوها به ، وكذلك اتّفقوا على أنّ هتك المؤمن حرام حيّا وميّتا ، وكذلك اتّفقوا على حرمة هتك المشاهد المشرّفة والضرائح المقدّسة.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يمكن إنكار وجود الإجماع والاتّفاق على عدم جواز هتك ما هو من المحترمات في الدين ، بل ربما عدّ بعضهم هذا من ضروريات الدين ، والفقيه المتتبّع يجد هذا الاتّفاق في موارد كثيرة من صغريات هذه القاعدة من غير نكير من أحد ، نعم اختلفوا في وجوب تعظيم هذه الأمور ، وسنذكره إن شاء الله تعالى.

الثاني : ارتكاز ذهن المتشرّعة‌ قاطبة ـ حتّى النساء والصبيان ـ على عدم جواز هتك حرمة هذه الأمور وإهانتها واستحقارها ، ويعترضون على من يهينها ويستحقرها وينكرونها أشدّ الإنكار ، وإن كان بعضهم يفرّطون في هذا الأمر ، ولا شكّ في أنّه لو شرب أحد سيكارة أو شطبا في حرم أحد أولاد الأئمّة عليهم‌السلام ينكرون عليه أشدّ الإنكار ، أو يدخل في حرمهم لابسا حذائه يصيحون عليه ، وأمثال ذلك.

فالإنصاف أنّه لا يمكن أن ينكر ثبوت مثل هذا الارتكاز في أذهان المتشرّعة ، ولا يمكن أيضا إنكار أنّ هذا الارتكاز كاشف عن ثبوت هذا الحكم في الشريعة.

نعم تختلف مراتب إنكارهم بالنسبة إلى هذه الأمور ؛ فلو أهان شخص ـ العياذ بالله ـ بالكعبة المعظّمة ، أو ضريح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو القرآن الكريم ، فإنكارهم ربما‌

٢٩٥

ينجرّ إلى قتله ، كما هو كذلك الحكم الوارد في الشرع بالنسبة إلى تلويث الكعبة المعظّمة ، بل القرآن الكريم وضريح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّه كاشف قطعيّ عن كفره أو ارتداده إن كان مسلما. أمّا لو أهان نعمة من نعم الله ، كما لو سحق الخبز برجله متعمّدا من غير عذر ولا ضرورة ، ينكرون بالصيحة في وجهه لا أزيد من ذلك.

والحاصل : أنّ أصل الإنكار بالنسبة إلى إهانة المحترمات في الدين من مرتكزاتهم ، وإن كانت مراتبه مختلفة بالنسبة إلى مراتب المحترمات ، نعم العوام كثيرا ما يشتبهون في تشخيص مراتب المحترمات كما هو شأنهم في كثير من الأمور.

الثالث : حكم العقل بقبح إهانة ما هو محترم عند المولى ، واستحقار ما هو معظّم عنده ، ويرجع استحقار ما هو محترم عنده ومعظّم لديه إلى الاستخفاف بالمولى ، فيستحقّ الذمّ والعقاب ، واستحقاق الذمّ والعقاب من اللوازم التي لا ينفكّ عن فعل الحرام أو ترك الواجب الذي هو أيضا حرام ، فكلّ فعل كان موجبا لاستحقاق العقاب فلا محالة يستكشف منه أنّه حرام ، وذلك ببرهان الإنّ ، أي استكشاف العلّة من وجود المعلول والملزوم عن اللازم ، وإن شئت قلت : إذا حكم العقل بقبح شي‌ء فيستكشف عنه حرمة ذلك الشي‌ء بقاعدة الملازمة.

ثمَّ إنّ الإهانة واستحقار المحترمات والحرمات والشعائر والمشاعر تارة لا يتحقّق إلاّ بالقصد ، فهي في هذا القسم من العناوين القصديّة ، كالتعظيم الذي هو ضدّه ، فكما أنّ القيام لا يكون تعظيما ومن مصاديقه إلاّ بذلك القصد ، وإلاّ لو كان لجهة أخرى أو للاستهزاء بمن يقوم له لا يصدق عليه أنّه تعظيم ، فكذلك الأمر في الإهانة والاستحقار لا يصدق على الفعل القابل لذلك كمدّ الرجل إلى أحد هذه الأمور المحترمة ، أو وضعها عليه ، أو حرقها ، أو سحقها إلاّ أن يكون بقصد الإهانة والاستحقار. وأخرى تكون بنفسه إهانة ولو لم يقصد ، كما أنّ في التعظيم أيضا يمكن أن يقال : إنّ السجود لشخص أيضا تعظيم له قصده أو لم يقصد.

٢٩٦

نعم هذا فيما لا يكون قصد آخر منافيا للتعظيم ، مثل أن يكون قاصدا لاستهزائه بذلك السجود ، فكذلك الأمر في الإهانة ، فربما يكون نفس الفعل إهانة ، قصدها أو لم يقصد.

نعم لا بدّ وأن لا يقصد عنوانا آخر منافيا للإهانة ، كما أنّه حكى أنّ بعضهم أدخل عورته في بعض الضرائح المقدّسة استشفاء وطلبا للولادة ، فإنّ هذا الفعل القبيح إهانة لو لم يقصد شي‌ء أصلا ، لا الإهانة ولا غيرها ، وأمّا لو كان طلبا للأولاد وكان صادرا عن العوام ، فهذا القصد مناف لكونه إهانة ، نعم لو لم يقصد شي‌ء أصلا كان إهانة بنفسه من دون الاحتياج إلى قصدها.

وربما يكون بعض الأفعال إهانة وإن قصد ما ينافيها بنظره ، بمعنى أنّ كونه إهانة لا تنفكّ عنه ، مثل الإيلام الذي لا ينفكّ عن الضرب الشديد بأيّ قصد كان ذلك الضرب.

الرابع : الآيات والأخبار.

أمّا الآيات :

منها : ما نزلت في تعظيم حرمات الله كقوله تعالى ( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ). (١)

ومنها : ما نزلت في تعظيم شعائر الله كقوله تعالى ( ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (٢).

وتقريب الاستدلال بهذه الآيات ـ بعد البناء على أنّ المراد من حرمات الله وشعائر الله مطلق ما هو محترم في الدين ، وتطبيقها على مناسك الحجّ ومشاعره من باب تطبيق الكلّي على بعض مصاديقه كما أشرنا إلى ذلك ـ هو أنّه إذا كان مفاد هذه‌

__________________

(١) الحجّ (٢٢) ٣٠.

(٢) الحجّ (٢٢) ٣٢.

٢٩٧

الآيات وجوب تعظيم المحترمات في الدين فتدلّ على حرمة إهانتها بالأولويّة.

وذلك من جهة أنّ الأمر بالشي‌ء بناء على أنّه يدلّ على النهي عن ضدّه العامّ كما هو المشهور ـ وإن كان لنا فيه كلام ذكرناه في كتابنا « منتهي الأصول » (١) في مبحث الضدّ ـ فيكون ترك التعظيم حراما.

فإن قلنا : إنّ التقابل بين الإهانة والتعظيم تقابل العدم والملكة ، والإهانة عبارة من عدم التعظيم فتكون حراما وذلك واضح ، وأمّا إن قلنا إنّهما ضدّان لأنّ الإهانة أيضا أمر وجوديّ كالتعظيم ، فإن قلنا أنّه لا ثالث لهما فتكون أيضا لا تنفكّ عمّا هو حرام ، وهو ترك التعظيم لما فرضنا أنّهما من الضدّين اللذين لا ثالث لهما. وأمّا إن قلنا بوجود الواسطة بينهما ، فربما يقال بأنّه بناء على هذا لا ملازمة بين ترك التعظيم وتحقيق الإهانة ؛ إذ بناء على هذا يمكن أن لا يكون تعظيم ولا إهانة في البين.

ولكن فيه : أنّه على تقدير القول بوجود الواسطة ـ كما هو الصحيح ـ يكون ترك التعظيم أعمّ ؛ إذ يمكن تحقّق ترك التعظيم بدون تحقّق الإهانة ، ولا يمكن تحقّق الإهانة بدون ترك التعظيم ، وإلاّ يلزم اجتماع الضدّين وارتفاع النقيضين ، وكلاهما محال ، فدائما تكون الإهانة مقرونة مع ترك التعظيم الذي هو حرام.

والجواب الصحيح عن هذا الدليل : أنّ هذه الآيات لا ظهور لها في وجوب التعظيم ، وأمّا قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ ) (٢) إلى آخر الآية وإن كان النهي ظاهرا في التحريم كما قرّر في الأصول ، ولكن ليس المراد من إحلال شعائر الله هو إهانة ما هو محترم في الدين كي يكون دليلا على حرمة مطلق إهانة المحترمات ، بل الظاهر منها بقرينة فقرات البعد هي حرمة ترك فرائض الحجّ ومناسكه ، وأيضا حرمة عدم الاعتناء بالشهر الحرام أو‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ٣٠١.

(٢) المائدة (٥) : ٢.

٢٩٨

القتال فيه إلى آخر الفقرات.

قال الأردبيلي قدس‌سره في آيات أحكامه في مقام شرح هذه الآية : أي : لا تجعلوا محرّمات الله حلالا ومباحا ، ولا بالعكس يعنى لا تتعدّوا حدود الله (١).

ومورد نزول الآية أيضا يدلّ على أنّ المراد بإحلال الشعائر القتال والنهب والغارة في الشهر الحرام ، وهو أنّ الحطم بن هند البكري أحد بنى ربيعة أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، وخلف خيله خارج المدينة ، فقال : إلى ما تدعو؟ وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : « يدخل عليكم اليوم رجل من بنى ربيعة يتكلّم بلسان شيطان » فلمّا أجابه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أنظرني لعلّي أسلم ولي من أشاوره ، فخرج من عنده فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر » فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به ويرتجز إلى آخر رجزه.

ثمَّ أقبل من عام قابل حاجّا قلّد هديا ، فأراد رسول الله أن يبعث إليه ، فنزلت هذه الآية ومنع الله تعالى رسوله عن القتال ، وأخذ الهدي ، وهذا قول عكرمة وابن جريح في بيان شأن نزول الآية.

وقال ابن زيد : نزلت يوم الفتح في ناس يؤمّون البيت من المشركين يهلّون بعمرة ، فقال المسلمون : يا رسول الله إنّ هؤلاء مشركون مثل هؤلاء ، دعنا نغير عليهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، أي منعهم عن الإغارة عليهم. (٢)

وعلى كلّ حال يكون المورد أيضا قرينة أخرى على أنّ المراد بالشعائر في هذه الآية مناسك الحجّ ، لا مطلق المحترمات في الدين ، فلا دلالة في هذه الآية على حرمة إهانة مطلق ما هو محترم في الدين.

وأمّا الأخبار : فما وجدنا رواية معتبرة‌ تدلّ على حرمة إهانة ما هو محترم في‌

__________________

(١) « زبدة البيان في أحكام القرآن » ص ٢٩٥.

(٢) « مجمع البيان » ج ٢ ، ص ١٥٣.

٢٩٩

الدين بهذا العنوان العامّ ، نعم وردت روايات كثيرة تدلّ على حرمة إهانة بعض صغريات هذه القاعدة ، كما أنّه في خصوص إهانة المؤمن وردت روايات تدلّ على حرمة إهانته حرمة مؤكّدة ، ففي التهذيب : « من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة » (١) وأيضا « من أهان لي وليّا فقد أرصدني لمحاربتي » (٢).

نعم في الكافي عن ابن عمّار قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « إذا رميت الجمرة فاشتر هديك إنّ كان من البدن أو من البقرة ، وإلاّ فاجعل كبشا سمينا فحلا ، وإن لم تجد فما وجد من الضأن ، فان لم تجد فما تيسّر عليك ، وعظّم شعائر الله » (٣) ، فإنّ الأمر بالتعظيم ظاهر في وجوبه ، فإذا كان واجبا يكون تركه حراما ؛ لما ذكرنا أنّ الأمر بالشي‌ء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ. وقد بيّنّا أنّ الإهانة لا تنفكّ عن ترك التعظيم ، فتكون ملازما مع ما هو حرام.

وفيه : أوّلا : على فرض كونها لا تنفكّ عن الحرام لا يلزم أن تكون حراما ؛ لأنّه لا يلزم أن يكون المتلازمان في الوجود متّحدين في الحكم ، نعم لا يمكن أن يكون أحدهما واجبا والآخر حراما على تفصيل مذكور في محلّه.

وثانيا : أنّ الأمر بالتعظيم هاهنا ظاهر في الاستحباب لا في الوجوب ؛ وذلك من جهة أنّه لو كان المراد من الشعائر هي المحترمات في الدين ، فمن المعلوم عدم وجوب التعظيم في كثير منها. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ المراد بالتعظيم هي المعاملة اللائقة بها معها وعدم إزالتها عن مقامها ، وبهذا المعنى يمكن الالتزام بوجوبها في جميع الموارد وبعدم‌

__________________

(١) وجدناه في « الكافي » ج ١ ، ص ١٤٤ ، باب النوادر من كتاب التوحيد ، ح ٦ ؛ وج ٢ ، ص ٣٥٢ ، باب من أذى المسلمين واحتقرهم ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٨ ، ص ٥٨٨ ، أبواب أحكام العشرة ، باب ١٤٦ ، ح ١.

(٢) وجدناه في « الكافي » ج ٢ ، ص ٣٥١ ، باب من أذى المسلمين واحتقرهم ، ح ٣ ، ٥ و ٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٨ ، ص ٥٨٨ ، أبواب أحكام العشرة ، باب ١٤٦ ، ح ٢. ونص الحديث هكذا : « من أهان لي وليّا فقد أرصد لمحاربتي ».

(٣) « الكافي » ج ٤ ، ص ٤٩١ ، باب ما يستحب من الهدى وما يجوزونه وما لا يجوز ، ح ١٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٠ ، ص ٩٨ ، أبواب الذبح ، باب ٨ ، ح ٤.

٣٠٠