القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

عقده وعهده.

وأمّا ما توهّم من أنّ العقد أمر وحداني وجوده قائم بطرفين ، ولا يمكن إيجاده من طرف شخص واحد ؛ لأنّ العقد عبارة عن العقدة الحاصلة بين حبلي عهد كلّ واحد من الطرفين ، فكأنّ تعهّد كلّ واحد من الطرفين بمضمون العقد حبل منه في عالم الاعتبار ، فهناك حبلان : أحدهما من طرف الموجب ، والآخر من طرف القابل ، والعقد عبارة عن تعقيد رأس الحبلين كلّ واحد بالآخر.

فالعقدة التي تحصل بين رأسي الحبلين في عالم الاعتبار هو المسمّى بالعقد ، وهذه العقدة وحداني ولكن قائم بالطرفين ، ولا يمكن أن يحصل بفعل واحد كما هو واضح ؛ لأنّها نتيجة فعلين ، فكذلك كلّ واحد منهما منفردا لا يقدر على حلّ تلك العقدة ؛ وذلك لأنّ هذه العقدة فعله وفعل غيره.

فكما أنّ في عالم الإيجاد لم يكن له إيجادها وحده ، فكذلك في عالم حلّ تلك العقدة ليس له وحده حلّها ، ومعلوم أنّ جواز رجوع كلّ واحد منهما عن التزامه مرجعه إلى حلّ تلك العقدة ، وإلاّ فما دام تلك العقدة موجودة ، فحبل عهده مشدود ويمنعه عن الرجوع. والقول بأنّ له وحده حلّ تلك العقدة مساوق مع كونه مسلّطا على فعل شخص آخر لم يجعل الله له تلك السلطنة.

ولا شكّ في أنّ هذا واضح البطلان ، وذلك من جهة أنّ هذه العقدة التي وجدت في عالم الاعتبار بعد ما فرضنا أنّ صرف المعاوضة والمبادلة لا يكون سببا لوجودها ، ولذلك قلنا بأنّ المعاطاة ليس بعقد ، إذ ليس هناك عقدة والتزام في البين ، بل صرف معاوضة ومبادلة بين المالين ، أو صرف إنشاء مضمون تلك المعاملة ـ

بل سبب وجودها التزام كلا الطرفين بعدم الرجوع عن مضمون هذه المعاملة ، فحصلت العقدة من هذين الالتزامين ، فهي من فعل الطرفين ، فرفع هذه العقدة التي هي فعل الطرفين من طرف أحدهما لا يمكن إلاّ بأن يكون له سلطان على رفع سببها ،

٢٠١

والمفروض أنّ السبب مركّب من فعلين والتزامين ، وهو ليس له سلطان إلاّ على فعل نفسه ، فله أن يرفع اليد عن التزام نفسه ، وأمّا رفع اليد عن التزام غيره الذي هو فعل الغير ، ليس له ذلك ، لعدم سلطنته على الغير.

هذا ، ولكن أنت خبير بأنّ تلك العقدة وإن كانت تحصل من التزام الطرفين بالبقاء بمضمون هذا العقد ، ولكن ارتفاعها كما يكون برجوع كلا الطرفين عن التزامهما معا ، كذلك يمكن برجوع أحدهما وحده ؛ وذلك من جهة أنّ المعلول كما أنّه يرتفع بارتفاع جميع أجزاء علّته ، كذلك يرتفع بارتفاع بعض أجزائها ، وهذا واضح.

وإنّما الكلام في أنّه هل يجوز لكلّ واحد منهما رفع اليد عن التزامه منفردا ، أو يجوز لكليهما رفع اليد عن التزامهما معا ، أو لا يجوز مطلقا لا مجتمعا ولا منفردا ، أو يفصّل بأنّه لا يجوز منفردا ويجوز معا ومجتمعا ، وهذا الأخير هي الإقالة؟

وقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الحق هو التفصيل في اللزوم الحقّي ، بأنّه يجوز رفع اليد عن التزامهما جمعا وبرضائه الطرفين دون أحد الطرفين بدون رضائه الطرف الآخر ؛ وذلك لما بيّنّا أنّ التزام كلّ واحد منهما حيث يكون برعاية الطرف الآخر فيوجد عند العقلاء وفي اعتبارهم حقّ إلزامه بالوفاء بما التزم به رعاية له. وأمّا رفع اليد عن التزامه برضا الطرف ، فلا ينافي كون الطرف له حقّ إلزامه ، وعلى هذا الأساس بنينا صحّة الإقالة وجريانها على القاعدة في كلّ معاملة وعدم احتياجها إلى ورود دليل على صحّة جريانها.

وخلاصة الكلام : أنّ الدليل على أصالة اللزوم في العقود العهديّة ـ تنجيزيّة كانت ، كالبيع والإجارة والصلح وغيرها ، أو تعليقيّة كالجعالة ـ هو بناء العقلاء على وجوب العمل بالتزامه وتعهّده ، وقبح التخلّف ورفع اليد عن ذلك الالتزام ، وذكرنا أنّ نقض العهد يعدّ عندهم من أرذل الرذائل ، ومن منافيات الشرف والفضيلة ، والشارع الأقدس لم يردعهم من هذه الطريقة ، بل أمضاها بقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) كما‌

٢٠٢

سنذكر أدلّته إن شاء الله.

وبعبارة أخرى : يرى العرف والعقلاء أنّ من التزم لشخص بشي‌ء ، فقد جعل ذمّته مشغولة له بذلك ، إذا كان هذا الالتزام في ضمن عقد وعهد ، لا أن يكون التزاما بدويّة ، وإن كان منشأ بنفس مادّة الالتزام ، بأن يقول : التزمت لك بذلك ؛ لأنّ الالتزامات البدويّة التي ليست في ضمن عقد وعهد تحسب وعدا ابتدائيّا ، ولا شكّ في حسن الوفاء به ، وأمّا وجوبه ولزوم الوفاء به عند العقلاء أو الشرع ، فيحتاج إلى دليل مفقود في المقام ، ولعلّه نتكلّم فيها إن شاء الله تعالى.

ولعلّ هذا مراد شيخنا الأستاذ قدس‌سره حيث يقول : كلّ واحد من الطرفين مالك لالتزام الآخر ، فإذا أسقط ملكيّته بمعنى حقّه ، فقهرا يكون من عليه الحقّ مخيّرا في البقاء وعدم الرجوع عمّا التزم به ، وفي عدم البقاء عند التزامه والرجوع عمّا التزم به ، فلا بدّ من أن يكون مراده من ملكيّة الطرف لالتزامه ثبوت هذا الحقّ له ، لا ثبوت الملكيّة الاعتباريّة الشرعيّة الذي هو حكم وضعيّ كالطهارة والنجاسة ، وإلاّ لم يكن قابلا للإسقاط ، فلا تكون الإقالة على القاعدة ، وتحتاج إلى دليل على صحّتها وجريانها ، إمّا عامّا وفي جميع العقود ، أو في مورد خاصّ. وقد تقدم أنّها على القاعدة ، وتجري في جميع العقود.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ لزوم العقد وعدم جواز حلّه من كلّ واحد من الطرفين منفردا منشأه بناء العقلاء على لزوم الوفاء وعدم نفوذ فسخه والرجوع عمّا التزم به وتعهّد ، والشارع الأقدس لم يردعهم عن ذلك ، بل أمضى هذه الطريقة بقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وبسائر الأدلّة التي نذكرها إن شاء الله تعالى.

وأمّا أنّ العقدة التي تحصل من تعهّد الطرفين الذي هو العقد ، حيث أنّها أمر وحداني وحاصلة من فعل الطرفين ، فليس لأحدهما إزالة تلك العقدة ؛ لأنّه لا سلطان له على فعل الغير وإزالته.

٢٠٣

ففيه : ما ذكرنا أنّ سلطنته على إزالة فعل نفسه كاف في ارتفاع تلك العقدة ، لقيامها بكلا الفعلين وكلا الالتزامين ، فإذا رجع أحدهما عن التزامه يرتفع تلك العقدة وينتقض بنقض أحدهما ، ولذا يطلق على تخلّف المبايع عن بيعته نقض البيعة ، مع أنّ الرجوع عن عهده وميثاقه من طرفه فقط.

وأمّا القول بأنّ البيعة ليست بعقد ، فليس ممّا يصغى إليه. والسرّ في ذلك أنّ العقد إمّا عبارة عن نفس تعهّدين ، أو حاصل منهما وقائم بهما ، فكما أنّه يرتفع بارتفاعهما ، كذلك يرتفع بارتفاع أحدهما. ثمَّ إنّ بناء العقلاء على اللزوم أمر قابل للردع شرعا ، كما أنّه وقع في مورد خيار المجلس ، فالعقلاء والعرف وإن كان بناؤهم على اللزوم حتّى فيما إذا كان المتعاقدان في مجلس العقد ولم يتفرّقا في عقد البيع ، ولكن الشارع الأقدس نفى اللزوم ما دام لم يتفرقا عن مجلس البيع بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (١) ـ أو « لم يتفرّقا » على بعض النسخ أو الطرق ـ فبناء العرف والعقلاء في مورد خيار المجلس مردوع وليس بحجّة.

هذا إذا قلنا بأنّ بناء العقلاء على اللزوم مطلق من حيث التفرّق عن المجلس وعدمه ، وأمّا إن قلنا بعدم إطلاقه وعدم بناء منهم في صورة عدم التفرّق وبقاء المتعاقدين في المجلس ـ وإن كان هذا الاحتمال بعيدا ، خصوصا فيما إذا طال المجلس ، كما إذا كان المتعاقدان في سيّارة أو سفينة أو في طيّارة في مسافة طويلة ، بل هما ربما يكونان في طيّارة يطول مجلسهما إلى مئات فراسخ بل آلاف ، فالعرف في أمثال هذه الموارد بناؤه على اللزوم بلا ريب ، وإن أخذنا بإطلاق دليل خيار المجلس ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « البيعان بالخيار ما لم يفترقا » ـ وقلنا بثبوت الخيار ، فلا ردع في البين ؛ لتوافق بنائهم مع الدليل الشرعي الذي مفاده ثبوت خيار المجلس ما لم يفترقا.

وأمّا في سائر الخيارات غير خيار المجلس ، كخيار الشرط والعيب ، فليس بناء‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٧٠ ، باب الشرط والخيار في البيع ، ح ٦ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٢٠ ، ح ٨٥ ، باب عقود البيع ، ح ٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٤٦ ، أبواب الخيار ، باب ١ ، ح ٣.

٢٠٤

للعقلاء في مواردها على اللزوم قطعا ؛ لأنّ كون المعيوب مردودا قضيّة ارتكازيّة عند العرف والعقلاء ، وما ورد في الشرع من الخيار إمضاء لذلك الأمر الارتكازي.

وأمّا خيار الشرط فلا شكّ في أنّ العقلاء أيضا يحكمون بلزوم الوفاء بالشرط ، فليس لهم بناء على اللزوم.

وأمّا تخلّف الشرط أو الوصف ، فأيضا لا بناء للعقلاء على اللزوم في مواردهما.

وأمّا خيار الغبن فبناء على ما هو الصحيح في مدركه من أنّه يرجع إلى تخلّف الشرط الضمني ، فيكون من صغريات خيار تخلّف الشرط. وقد عرفت أنّه لا بناء لهم في مورد تخلّف الشرط على اللزوم.

نعم في خيار الحيوان الظاهر أنّه حكم شرعي ، وليس عدم اللزوم إلاّ من جهة ورود دليل شرعي ، وهو قوله عليه‌السلام « صاحب الحيوان المشتري بالخيار ثلاثة أيّام » (١) سواء كان المراد هو خصوص المشتري ، أو كان أعمّ من البائع والمشتري ، وإلاّ فمن ناحية بناء العقلاء على اللزوم لا فرق بين أن يكون المبيع أو الثمن حيوانا أو غير حيوان.

لا يقال : إنّ خيار الحيوان جعله الشارع من جهة الاختيار ، وأنّه هل فيه عيب ونقص أم لا. وهذا المعنى ممّا لا ينكره العرف والعقلاء ، فهم أيضا لا يبنون على اللزوم في زمان الاختبار. ذلك من جهة أنّ خيار العيب عندهم مغن عن هذا الخيار ، فخيار الحيوان لا بدّ وأن يكون حكما تعبّديا.

نعم جميع الأحكام الشرعية لا بدّ وأن يكون عن ملاك ملزم لذلك الحكم من مصلحة ملزمة أو مفسدة كذلك ، فدليل خيار الحيوان أيضا مثل دليل خيار المجلس يكون رادعا عن بناء العقلاء على اللزوم في مورد خيار الحيوان ، أي فيما إذا كان المبيع‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٦٧ ، ح ٢٨٧ ، باب ابتياع الحيوان ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٤٩ ، أبواب الخيار ، باب ٣ ، ح ٢.

٢٠٥

أو الثمن حيوانا.

وخلاصة الكلام : أنّ في كلّ مورد حكم الشارع بالخيار وعدم اللزوم ، فإن لم يكن بناء العقلاء أيضا على اللزوم فلا كلام ولا إشكال ، وأمّا إذا كان بناؤهم على اللزوم ، فالدليل الذي يدلّ على حكم الشارع بالخيار وعدم اللزوم يكون رادعا لبناء العقلاء.

هذا في العقود العهديّة التنجيزيّة كالبيع والإجارة والصلح وأمثالها واضح ، وأمّا العقود العهديّة التعليقيّة كالجعالة والسبق والرماية والوصيّة وأمثالها ، فأيضا لا شكّ في أنّ بناء العقلاء على لزومها بعد التلبّس بالعمل في الأوّلين ، وبعد الموت في الثالث بناء على كونها من العقود ، وأمّا لو قلنا بعدم احتياجها إلى القبول وأنّها إيقاعات ، فخارجة عن محلّ البحث موضوعا.

وأمّا العقود الإذنيّة التي لا تعهّد فيها وقوامها بالإذن فقط ، فقد تقدّم أنّها خارجة عن الموضوع تخصّصا لا تخصيصا ؛ لأنّه لا تعهّد ولا التزام فيها ، بل قلنا إنّ إطلاق العقد عليها ليس إلاّ من باب المشاكلة ، وإلاّ ليس فيها عهد وعقدة بين الطرفين ؛ ولذلك قالوا إنّها جائزة بالذات مقابل العقود اللازمة بالذات.

وخلاصة الكلام : أنّ بناء العرف والعقلاء على لزوم الوفاء بالتعهّدات والالتزامات ، فالعقود الإذنيّة ـ التي قوامها الإذن كالوكالة ـ لا التزام ولا تعهّد فيها خارجة عن دائرة هذا البناء ، وأمّا العقود العهديّة فداخلة بكلا قسميه ، سواء كانت تنجيزيّة أم تعليقيّة.

نعم في العقود التعليقيّة نزاع صغروي ، وهو أنّها هل تحتاج إلى القبول كالوصيّة والجعالة والسبق والرماية ، أم لا؟ فإن قلنا بعدم الاحتياج وأنّها إيقاعات ، فهي خارجة عن موضوع هذا البناء ، وإلاّ فحالها حال العقود التنجيزيّة.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فأقول‌ :

٢٠٦

التمسّك بهذه القاعدة وبناء العقلاء على لزوم معاملة كالوقف أو الجعالة مثلا عند الشكّ في لزومها بعد الفراغ عن كون تلك المعاملة من العقود ، وإلاّ لو علمنا بأنّها ليست من العقود ، فهي خارجة عن موضوع هذه القاعدة يقينا ، وكما أنّه لو شككنا أنّها عقد أم لا ، يكون التمسّك بها لإثبات لزومها من التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، الذي لا يجوز قطعا ، وهو من الواضحات.

فبعد إحراز أنّها من العقود ، فتارة يكون منشأ الشكّ هي الشبهة الحكميّة ، وأخرى هي الشبهة الموضوعيّة.

فالأوّل : كما إذا شكّ في لزوم الوقف ، مثلا لو مات الواقف قبل أن يقبض العين الموقوفة ، فبناء على أنّه من العقود كما رجّحناه وقلنا إنّه يحتاج إلى القبول يحكم عليه باللزوم لأجل هذه القاعدة ، وكذا في باب المعاطاة لو قلنا بأنّه عقد ، وإن كان الصحيح عندنا خلافه.

وكذا في سائر موارد الشكّ في الحكم الشرعي بالجواز أو اللزوم بعد الفراغ عن كونه عقدا يصحّ التمسّك بهذه القاعدة لإثبات اللزوم ، ولا يصغى إلى ما يقال بأنّ البناء العملي لا عموم ولا إطلاق فيه مثل باب الألفاظ ، كي يتمسّك به لرفع الشكّ والحكم باللزوم.

وذلك من جهة أنّ هذا البناء بعد إمضاء الشارع له ولو من جهة عدم الردع يستكشف منه حكم الشارع بلزوم كلّ عقد ، فيكون كما إذا ورد عامّ لفظي يكون له عموم وإطلاق ، وبهذا البيان أثبتنا الإطلاق للإجماع إذا كان معقده عنوانا من العناوين.

وأمّا الثاني : أي إذا كان منشأ الشكّ الشبهة الموضوعيّة ، كما إذا شككنا أنّ المعاملة الواقعة هل هي صلح كي يكون لازما ، أو هبة لغير ذي الرحم كي يكون جائزا ، أو شكّ في أنّ الموهوب له ذي رحم أو أجنبيّ ، كي يكون لازما في الأوّل وجائزا في‌

٢٠٧

الثاني؟ فيصحّ التمسّك بهذه القاعدة لإثبات لزومه.

الثاني : الأدلّة والعمومات والإطلاقات اللفظيّة من الآيات والروايات :

فمن الأوّل قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وتقريب دلالتها على لزوم جميع العقود هو أنّه لا شبهة في أنّ كلمة « العقود » بما أنّه جمع معرّف بالألف واللام يكون من ألفاظ العموم ودالاّ عليه ، فيكون معنى الآية : يجب الوفاء بجميع العقود.

وهذا العموم الأفرادي الذي هو ظاهر الآية ومدلول مطابقي لها ، يستتبع عموما أزمانيّا أيضا بدلالة الاقتضاء ، لأنّ الآية لو كانت مهملة من هذه الجهة يصدق امتثالها بالوفاء في آن من الآنات ، فيكون هذا الحكم لغوا لا فائدة فيه ، فصونا للكلام عن اللغويّة لا بدّ وأن نقول بأنّ المراد وجوب الوفاء في كلّ زمان. ولا شكّ في أنّ وجوب الوفاء في كلّ زمان يكون من لوازم اللزوم ، بل يكون عرفا مساوقا معه ويصحّ التعبير عن اللزوم به عرفا.

وأمّا توهم أنّ وجوب الوفاء بالعقد عبارة عن لزوم العمل بمضمونه ما دام موجودا وباقيا ، ولا يدلّ على عدم جواز إزالته بالفسخ ؛ لأنّه لا تنافي بين جواز إزالته ووجوب الوفاء به ما دام موجودا ، فلو قال : أكرم زيدا في كلّ زمان ما دام موجودا في البلد ، فجواز إخراجه من البلد لا ينافي وجوب إكرامه في كلّ زمان ما دام موجودا في البلد.

وبعبارة أخرى : يكون من قبيل الأصل الحاكم مع الأصل المحكوم ، فوجوب العمل بالأصل المحكوم والجري بمقتضاه في كلّ زمان لا ينافي مع مقتضى دليل الأصل الحاكم ؛ لأنّ العمل بمقتضى أصل المحكوم معلّق عقلا على بقاء موضوعه ، أي كونه شاكّا ، فإذا ارتفع موضوعه بالأصل الحاكم ، لا يبقى تعارض في البين ؛ ولذلك قلنا في باب تعارض الأدلّة أنّه لا تعارض بين دليل الحاكم والمحكوم.

فهاهنا حلّ العقد وإفناؤه لا ينافي وجود العمل بمقتضاه دائما وفي كلّ زمان ؛ لأنّ‌

٢٠٨

العمل بمقتضاه عقلا موقوف على بقائه ، فإذا ارتفع لا يبقى موضوع لهذا الحكم.

وفيه أوّلا : ما ذكرنا أنّ هذه العبارة ، أي وجوب الوفاء بكلّ عقد في كلّ زمان مساوق في المتفاهم العرفي مع القول بأنّ كلّ عقد لازم لا يمكن ـ أو لا يجوز ـ حلّه ونقضه.

وثانيا : الظاهر من قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ليس المراد به وجوب الوفاء بما عقد عليه وتعهّد به ، كي يكون معناه وجوب العمل بمقتضاه ، بل المراد به وجوب الوفاء بنفس عقوده وعهوده وأن لا ينقض عقده وعهده ، فابتداء الواجب التكليفي هو البقاء على عهده وعدم الرجوع عن التزامه ، لا وجوب العمل بما التزم به ، نعم وجوب العمل بما التزم به من آثار البقاء على عهده وحفظ تعهّده والتزامه.

فبناء على ما ذهب إليه الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره (١) من انتزاع الحكم الوضعي من الحكم التكليفي ، فينتزع اللزوم قهرا من هذا الوجوب التكليفيّ ، أي وجوب البقاء على تعهّده والتزامه وحرمة نقضه وحلّه.

وهذا الكلام ، أي انتزاع الحكم الوضعي عن الحكم التكليفي وإن كان لا أساس له عندنا ، وأثبتنا فساده في الأصول ، وبيّنّا في كتابنا « منتهى الأصول » (٢) أنّ بعض الأحكام الوضعيّة كالطهارة والنجاسة والملكيّة والزوجيّة وأمثالها مستقلاّت في الجعل وليست منتزعة من الأحكام التكليفيّة ، بل هي موضوعات لها ، فيكون الأمر بالعكس ، أي يكون الحكم التكليفيّ من آثار الحكم الوضعي ، فتكون حرمة الاستعمال فيما هو مشروط بالطهارة أو الشرب من آثار النجاسة ، وكذلك الأمر في الملكيّة والزوجيّة وغيرهما.

ولكن هاهنا لا نحتاج إلى الالتزام بأنّ وجوب الوفاء بالعقود حكم تكليفي ينتزع‌

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٦٠١.

(٢) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٣٩٥.

٢٠٩

منه ، فإنّ هذا يشبه الأكل من القفا ، بل نقول من أوّل الأمر أنّ وجوب الوفاء بالعقد عبارة عن لزوم البقاء عليه وعدم نقضه وحلّه ، وهذا عين اللزوم ، وإن شئت قلت : إنّ معنى العقد عرفا هو الالتزام والتعهّد بأمر ، فهذا المعنى بنفسه يقتضي عند العرف والعقلاء البقاء على تعهّده وعدم جواز حلّه ونقضه.

وبعبارة أخرى : يرونه في عالم اعتبارهم أمرا ثابتا غير ممكن النقض ؛ ولذلك يرون الخارج عن التزامه ناقضا لعهده ، وهذا عين اعتبار اللزوم عندهم في العقود والعهود ، والشارع أمضى هذا اللزوم الذي في اعتبارهم للعقود بقوله ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ).

فمفاد هذه الآية تثبيت ما هو ثابت عندهم ، وتقرير أهل العرف في لزوم العقود في اعتبارهم.

فكأنّ هاهنا اعتبارين : أحدهما من قبل العرف وهو اعتبارهم اللزوم في عقودهم وعهودهم ، سواء كانت في أبواب المعاملات أو في غيرها. ثانيهما : من قبل الشرع ، وهو إمضاء ذلك الاعتبار العرفيّ وتثبيته في عالم الاعتبار الشرعي.

وأمّا ما ذكره بعض المفسّرين (١) من الوجوه الأربعة في المراد من العقود في الآية :

أحدها : أنّ المراد من هذه الكلمة هو عهود أهل الجاهليّة. ذكره جمع من المفسّرين وفيهم ابن عبّاس ، وهذا المعنى لا بدّ من توجيهه ، وإلاّ فهو بظاهره فاسد.

ثانيها : هو العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بأن لا يعبد والشيطان.

ثالثها : العقود والعهود التي بين الناس في معاملاتهم وغيرها.

رابعها : أنّ المراد به العهود والمواثيق التي أخذ من أهل الكتاب في التوراة من عدم إنكارهم لنبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتصديقهم لنبوّته ، وأنّ كلّ ما جاء به من الأحكام‌

__________________

(١) انظر : « مجمع البيان » ج ٢ ، ص ١٥٠.

٢١٠

فهو حقّ ومن عند الله.

فهذه المعاني وإن كانت في حدّ نفسها صحيحة وذكرها المفسرون ، ولكنّه من الواضح أنّ الاعتبار بعموم الألفاظ ، ولا يكون خصوصيّة المورد مخصّصا ، وكذلك تطبيق المفسّرين بل الأئمّة عليهم‌السلام على بعض موارد ذلك العامّ. ولا شكّ في أنّ لفظ « العقود » عامّ يشمل كلّ عقد صدر من المتعاقدين ، وكلّ واحد من هذه المعاني التي ذكروها مصداق من مصاديق العامّ ، وشموله له لا ينفى شموله للمصاديق الأخر.

فظاهر الآية بناء على ما ذكرنا في المراد منها هو لزوم كلّ ما يصدق عليه العقد ويحمل عليه حملا حقيقيّا لا تجوّزا.

ثمَّ إنّه استشكل على دلالة هذه الآية على اللزوم بلزوم تخصيص الأكثر ، وهو مستهجن ، فيسقط العموم عن الحجّية ولا يمكن التمسّك به ؛ لاستهجانه ولزوم تخصيص الأكثر من جهة خروج العقود الجائزة عن هذا العموم قطعا ، وكذلك المعاطاة بناء على تحقّق الإجماع على جوازه ، وهي كثيرة جدّا ، خصوصا المعاطاة ؛ وذلك لأنّ أغلب معاملات الأسواق والمعاوضات من البيوع والإجارات وغيرهما بالمعاطاة ، بل لا يبعد دعوى كون جميعها بالمعاطاة ، وكذلك العقود اللازمة في موارد الخيارات.

وفيه : أنّ العقود الجائزة بالذات لا بواسطة جعل الخيار من الله تعالى أو من قبل المتعاقدين قد تقدّم أنّها هي العقود المسمّاة بالإذنيّة ، مقابل العقود العهديّة ، وبيّنّا أنّ تلك العقود المسماة بالإذنيّة التي قوامها بالإذن في الحقيقة ، ليست بعقد ، كالوكالة أو العارية مثلا ، إذ ليس تعهّد في البين ، وقلنا إنّ إطلاق العقد عليها من باب المشاكلة ، ومن جهة أنّ الإذن فيها يصدر بشكل الإيجاب ، ورضا الطرف بالعمل على طبق ذلك الإذن يكون بصورة القبول وبشكله ، فخروج تلك العقود عن عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يكون بالتخصّص لا بالتخصيص ، وقد تقدّم كلّ ذلك.

وأمّا المعاطاة ، فقد بيّنّا في محلّه أنّه ليس بعقد ، بل هو صرف مبادلة بين العوضين‌

٢١١

وليس تعهّد في البين. وإن شئت قلت : كما أنّه يمكن أن ينقل مالا من مكانه إلى مكان مال آخر ، وذلك المال الآخر ينقل من مكانه إلى مكان المال الأوّل ، فيبدّل مكان كلّ واحد من المالين إلى مكان الآخر ، كذلك في عالم الاعتبار يمكن إنشاء هذه المبادلة بين المالين بدون أن يكون التزام من المتعاملين أو أحدهما في البين ، ومن دون أن يكون تعهّد بالبقاء عند هذه المبادلة منهما أو من أحدهما. وهذا هو المسمّى بالمعاطاة ، فليس في المعاطاة عقد وعهد أصلا ، فيكون خروجه عن عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) خروجا موضوعيّا ، ويكون من باب التخصّص لا التخصيص.

وأمّا العقود اللازمة في موارد الخيارات ، فهي في الموارد التي يكون الخيار مجعولا من قبل المتعاقدين ، فلا يشمله هذه الآية ؛ لأنّ الآية معناها كما تقدّم لزوم الوفاء بالتزامه وتعهّده ، فإذا كان تعهّده والتزامه مشروطا بشرط ومقيّدا بأمر كما في مورد خيار الشرط والغبن ، بناء على رجوع الأخير إلى تخلّف الشرط الضمني ، وهو تساوي العوضين في الماليّة ، ففي مورد فقد الشرط والقيد لا التزام كي يكون الوفاء به واجبا ، فيكون خروج تلك الموارد عن عموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) أيضا خروجا موضوعيّا لا من باب تخصيص هذه القاعدة.

نعم في الخيارات المجعولة من قبل الشارع مع كون الالتزام الذي قلنا إنّه مدلول التزامي للألفاظ التي تنشأ بها العقود مطلقا من الطرفين المتعاملين غير مقيّد بشي‌ء وغير مشروط بشرط ، كخيار المجلس ، وخيار الحيوان وما شابههما ، يكون تخصيصا للقاعدة.

وأنت خبير بأنّ هذا المقدار ليس من التخصيص المستهجن ، فإشكال لزوم تخصيص الأكثر في عموم هذه القاعدة لا أساس له.

هذا ، مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال بأنّ موارد الخيارات المجعولة من قبل الشارع أيضا ليس من باب التخصيص ، بل يكون شبيها بالحكومة ، بأن يقال مثلا في خيار‌

٢١٢

المجلس أو خيار الحيوان : جعل الشارع التزامهما في تلك المدّة كلا التزام ، فكأنّهما لم يلتزما بالبقاء عند هذه المعاملة ما دام كونهما في المجلس ولم يفترقا بالنسبة إلى خيار المجلس ، وكذلك كأنّهما لم يلتزما في مدّة ثلاثة أيّام في خيار الحيوان ، فيكون أيضا خروجهما وأمثالهما أيضا خروجا موضوعيّا ، غاية الأمر خروجا موضوعيّا تعبّديا لا تكوينيّا ، كما هو الشأن في جميع موارد الحكومة ، وأنّ التوسعة والتضييق فيها في جانب الموضوع أو المحمول تعبّدي ، لا تكويني ووجداني.

وبعبارة أخرى : التصرّف في باب الحكومة في جانب الموضوع أو المحمول في القضيّة الشرعيّة المتكفلة لبيان حكم من الأحكام ، ولا نظر في ذلك الباب إلى التضيّق في الحكم ، وإن كان التضيق في الموضوع أو المحمول ينتج ذلك أيضا.

فنقول فيما نحن فيه : إنّ الشارع الأقدس في مدّة بقاء المتبايعين في المجلس ، أو مدّة ثلاثة أيّام في خيار الحيوان ، جعل التزامهما بهذه المعاملة كلا التزام ، لا أنّه مع فرض البناء على وجود الالتزام نفى الوفاء بذلك الالتزام ، كي يكون من باب التخصيص ، فإذا قال : أكرم العلماء ، وفرضنا أنّ أكثر أفراد العلماء هم النحويّون مثلا ، فقال : النحوي ليس بعالم ، فليس هذا من باب تخصيص الأكثر ، بل من جهة أنّ الشارع أخرج النحوي عن موضوع حكمه خروجا تعبّديا ، فليس من باب التخصيص كي يكون مستهجنا إذا كان الخارج أكثر الأفراد.

ويمكن أيضا أن يقال : إنّ ما نحن فيه ليس من قبيل التخصيص كي يقال بأنّ الخارج أكثر فهو مستهجن ، بل من قبيل تقييد الإطلاق.

وذلك من جهة أنّ عموم لفظ « العقود » باعتبار الأفراد لا باعتبار الأزمان ، فالحكم ثبوته في جميع الأزمان ليس من ناحية صيغة العموم ، بل من جهة الإطلاق الأزماني الثابت بدلالة الاقتضاء ، صونا عن لغويّة جعل الخيار لو كان ثبوته في زمان ما فقط. وتقييد ذلك الإطلاق بالنسبة إلى قطعة من الزمان ، أي زمان بقاء المجلس‌

٢١٣

وعدم حصول الافتراق ، وكذلك ثلاثة أيّام في خيار الحيوان ليس من باب تخصيص العموم ، كي يقال بأنّه مستهجن ، بل صرف تقييد إطلاق ، فلا يأتي هذا الكلام ولا مجال للإشكال به على التمسّك بهذا العموم.

وذلك من جهة أنّ الإطلاق وشمول الحكم لجميع الحالات والخصوصيّات الواردة على المطلق ليس بالوضع ، كما هو مذكور في محلّه ، وإنّما الشمول لدليل الحكمة وبمقدّماتها ، ففي كلّ مورد وبالنسبة إلى أيّ خصوصيّة جاء دليل على التقييد ، يبطل الإطلاق بالنسبة إلى تلك الخصوصيّة ويرتفع من البين ، فلو قيّد المطلق بحيث لا يبقى له إلاّ فرد واحد لا يكون مستهجنا.

بخلاف العامّ فإنّه موضوع للعموم ، فيكون ظاهره العموم ، خصوصا إذا كان المخصّص منفصلا ، فبعد تخصيص الأكثر إذا تبيّن أنّ مراده من هذا العموم ليس إلاّ أفراد قليلة ، فألقى طرفه أنّ مطلوبه العموم ، مع أنّه لم يرد إلاّ بعضه الأقلّ ، فيكون مثل هذا الكلام ركيكا ومستهجنا.

وخلاصة الكلام : أنّ العامّ كاشف عن إرادة العموم بالوضع ، وليس ظهوره معلّقا ، نعم إذا جاء المخصّص حيث أنّه أكشف ، يكون مقدّما على العموم. وأمّا ظهور المطلق في الإطلاق فمعلّق على عدم البيان ، فإذا جاء البيان لا يبقى موضوع للإطلاق.

فتقديم ظهور الخاصّ على ظهور العامّ من باب حكومة أصالة الظهور في طرفه على أصالة الظهور في طرف العامّ ، وأمّا التقييد في باب الإطلاق فهو رافع لموضوع ظهور الإطلاق حقيقة وتكوينا ، فكأنّه من قبيل الورود.

وأيضا من الأوّل : ـ أي الآيات ـ قوله تعالى ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (١).

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٩.

٢١٤

تقريب الاستدلال بالآية الشريفة على لزوم العقود ، هو أنّ الظاهر من الأكل في المقام مطلق التصرّفات والانتفاعات بالأموال ، لا خصوص الازدراد ؛ إذ في جملة كثيرة من الأموال لا يمكن ذلك.

فظاهر الآية هو النهي وتحريم التصرّفات الباطلة ، أي على وجه لم يشرع في أموال الناس ؛ إذ لا شكّ في جواز جميع التصرفات في أموال نفسه إلاّ أن يكون ذلك السنخ من التصرّف حراما ، كالإسراف ، والتبذير وغيرهما من التصرّفات المحرّمة الكثيرة.

ولا يمكن أن يكون المراد من الباطل في الآية هذا القسم من التصرّفات ، أوّلا بقرينة « بينكم » لأنّ أمثال هذه التصرّفات محرّمة وإن لم يكن غيره في البين ، فهذه الكلمة خصوصا مع قوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) تكون قرينة على أنّ المراد من الأكل بالباطل هو التصرّف في مال الغير من غير وجه شرعي وبغير استحقاق ، كالغصب والخيانة والسرقة والربا وبشهادة الزور ، أو باليمين الكاذبة ، أو بالرشوة ، أو بالبيوع الفاسدة كالبيع الغرري ، أو سائر المعاملات الفاسدة الباطلة في الشرع ، مثل أنواع القمار ، إلى غير ذلك من العقود والمعاملات الفاسدة ، كالمعاملات التي تقع عن إكراه الطرف.

فمعنى الآية بحسب الظاهر ، وما هو المتفاهم العرفيّ منها أنّ جميع هذه التصرّفات في أموال الناس حرام ، إلاّ أن يكون التصرّف في مال الغير بالوجه الشرعيّ ، وعبّر سبحانه وتعالى عن ذلك الوجه بقوله ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) أي عند العرف مع عدم ردع الشارع عن مثل ملك التجارة ، بل إمضائها ؛ وذلك من جهة أنّ قولهم بكفاية عدم الردع من قبل الشارع من باب أنّه كاشف عن الإمضاء ، وإلاّ فهو بنفسه لا أثر له ، فإذا كان معنى الآية ما عرفت ، فدلالتها على اللزوم واضحة.

بيان ذلك : أنّه بعد الفراغ عن حصول الملكيّة والنقل والانتقال بمحض وجود‌

٢١٥

العقد التامّ الواجد لجميع شرائط الصحّة من الطرفين ، ففسخ أحدهما من دون رضا الآخر يكون تصرّفا في مال الغير بدون أن يكون تجارة عن تراض منهما ، فيكون أكلا لمال الغير بالباطل ، أي بوجه غير شرعي.

فالفسخ الذي أثره إرجاع مال الغير إلى صاحبه الأوّلي من دون رضا من ملك بالعقد ، يكون داخلا في المستثنى منه ، فيكون منهيّا عنه ، فيكون باطلا وغير نافذ ، وهذا معنى مساوق للزوم.

وخلاصة الكلام : أنّ ظاهر الآية هو أنّ سبب جواز أكل أموال الناس منحصر في الانتقال إليه بالتجارة التي تكون عن تراض منهما ، كما هو مفاد الاستثناء عن العموم.

ثمَّ إنّه لا يخفى أنّ عقد المستثنى منه وحده كاف في إثبات هذا الحكم ، أي أصالة اللزوم في العقود ، لو كان المراد من الأكل بالباطل هو الأكل من غير سبب شرعيّ.

لا يقال : إنّ الفسخ لو كان مؤثّرا يكون سببا شرعيّا ، ويخرج به كون الأكل أكلا لمال الغير بالباطل ، فيكون هذا الاستدلال دوريّا ، لأنّ عدم تأثير الفسخ موقوف على كون أكل المال به أكلا بالباطل ، وكونه كذلك موقوف على عدم تأثير الفسخ ، وألاّ يكون الأكل على وجه شرعيّ ، وليس من أكل المال بالباطل.

لأنّ الآية حصرت سبب جواز أكل مال الغير في التجارة عن تراض ، ومعلوم أنّ الفسخ من دون رضائه الطرف الآخر ليس من التجارة عن تراض.

إن قلت : أليس يجوز أكل مال الغير بإباحة مالكه ، وليست الإباحة تجارة عن تراض؟

قلنا أولا : إنّ المراد من الأكل هاهنا هو التملّك ، لا المعنى المعروف المقابل للشرب كما تقدّم ذكره ، والتملّك لا يحصل بالإباحة ، بل يحتاج إلى تمليك من قبل الله أو من قبل مالكه.

٢١٦

وثانيا : أنّ عقد المستثنى منه عامّ كسائر العمومات الشرعيّة قابل للتخصيص ، فمفاده وإن كان عدم جواز التصرّف في مال الغير مطلقا ، ولم يخرج في ظاهر الآية عن هذا العموم إلاّ كون الأكل من باب التجارة عن تراض ، ولكن يمكن تخصيصه بدليل آخر أيضا كسائر العمومات التي ترد عليها مخصّصات كثيرة ومتعدّدة ، ما لم تصل إلى حدّ تخصيص الأكثر ، فهاهنا أيضا خصّص العامّ بدليل جواز التصرّف بإباحة المالك.

وثالثا : ليس مورد إباحة المالك من الأكل بالباطل ، لا في نظر العرف وهو واضح ، ولا في نظر الشرع ؛ لأنّ الممنوع والمنهيّ في نظر الشرع هو أكل مال الغير من غير إذنه وبدون طيب نفسه ، وأمّا مع أحدهما فلا يرى الأكل باطلا ، ففي مورد الإباحة بل في كلّ مورد صدر الإذن من قبل الشارع بجواز التصرّف فيه ، ليس من الأكل بالباطل ، لا في نظره ولا في نظر العرف ، فلا يشمله هذا العامّ.

ورابعا : يظهر من الآية المقابلة بين الأكل بالباطل وكونه عن تجارة مع تراضى الطرفين بطور المنفصلة المانعة الخلوّ ، بمعنى أنّ الأكل لمال الغير لا يخلو من أحد هذين الأمرين : إمّا يكون بوجه غير شرعي وباطلا ، وإمّا أن يكون من باب التجارة عن تراض ، ولا ريب في أنّ موارد صدور الإذن من الشارع بجواز الأكل والتصرّف ، أو المالك كذلك ليس بوجه غير شرعيّ ، ولا يصدق عليها أيضا أنّها تجارة عن تراض.

فلا بدّ من حمل الآية على معنى يلتئم مع هذا الحصر ، وعدم خلوّ الأكل عن أحد هذين ، أي كونه إمّا باطلا أو يكون تجارة عن تراض ، وهو أن يقال :

إنّ المراد منها أنّ هذه المعاملات والمعاوضات والمبادلات التي تقع بينكم لا يخلو من أحد أمرين : إمّا باطل ويكون بوجه غير شرعيّ ، فهذا القسم حرام ، وليس لكم ارتكابه ويجب الاجتناب عنه ، وإمّا أن يكون تجارة عن تراض ، وهذا القسم لا مانع من ارتكابه بل ندب إليه الشرع. وأمّا الحرمة في القسم الأوّل فهل هي وضعي أم تكليفي؟ فبحث آخر ، وإن كان الظاهر منها الوضعيّ ، بقرينة كلمة الباطل‌

٢١٧

وإطلاقها عليها.

إذا عرفت ما ذكرنا في معنى الآية ، فلا يبقي إشكال في دلالتها على المطلوب ، أي اللزوم.

بيان ذلك : أنّ القضية المنفصلة المانعة الخلوّ رفع كلّ واحد من طرفيها يثبت وجود الطرف الآخر ، فإذا لم يكن المعاملة المشروعة من مصاديق التجارة عن تراض تكون باطلة ، وفيما نحن فيه من المعلوم أنّ الفسخ بدون رضائه الطرف الآخر ليس تجارة عن تراض ، فيكون باطلا غير نافذ ، وهذا من لوازم اللزوم.

وإن شئت قلت : إنّ مفاد الآية قضيتين كلّيتين ، إحداهما أنّ كلّ معاملة ليست بباطلة لا بدّ وأن تكون تجارة عن تراض ، والأخرى أنّ كلّ معاملة ليست تجارة عن تراض فلا محالة تكون باطلة ، وهذا معنى كون مفادها قضيّة منفصلة مانعة الخلوّ ، وباقي ما ذكرنا واضح لا يحتاج إلى الإيضاح.

وخلاصة الكلام : أنّ الآية حسب المتفاهم العرفي الذي هو معنى الظهور وهو الحجة ، هو أنّ ما ليس بتجارة عن تراض فهو باطل ، لا أنّ كلّ معاملة تكون من مصاديق عنوان تجارة عن تراض تكون صحيحة ؛ كي يرد عليه النقوض الكثيرة ، كالمعاملات غير المشروعة من جهة مبغوضيّة نفس عناوينها كالقمار والرباء ، أو من جهة خلل في العقد ، أو في المتعاقدين ، أو في العوضين ، والأمثلة واضحة ، فإنّها باطلة مع كونها تجارة عن تراض يقينا.

إن قلت : إنّ الآية مركّبة من عقدين : عقد المستثنى ، وعقد المستثنى منه. والأوّل سلبيّ مفاده عدم جواز أكل المال بالباطل ، والثاني إيجابي مفاده جواز الأكل إن كانت المعاملة تجارة عن تراض ، فليس هاهنا ما يكون مفاده أنّ ما ليس بتجارة عن تراض يكون من الأكل بالباطل الذي هو مبنى هذا الاستدلال.

وذلك من جهة أنّ في العقد الأوّل موضوع الحكم بالحرمة هو أكل المال بالباطل ،

٢١٨

والحكم لا يثبت موضوعه. والمفروض أنّ الموضوع فيما نحن فيه مشكوك ؛ لأنّه بناء على اللزوم الفسخ لا يؤثّر ، فيكون أكل المال بالفسخ أكلا بالباطل ، وبناء على عدمه يؤثّر الفسخ ، فلا يكون الأكل به أكلا بالباطل.

وحيث أنّ اللزوم مشكوك فيكون موضوع الحرمة مشكوكا ، فيكون الاستدلال بهذا العموم لعدم تأثير الفسخ لكونه أكلا بالباطل من قبيل التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، الذي لا يقول به أحد ، ولا يمكن أن يقول به أحد.

وفي العقد الثاني موضوع الحكم الإيجابي أي جواز الأكل هو كون المعاملة تجارة عن تراض ، وهذا الحكم الإيجابي ، لا يدلّ على أنّ كلّ ما ليس بتجارة عن تراض فهو من الأكل بالباطل ، نعم انتفاء الجواز بانتفاء كونه تجارة عن تراض حكم عقلي ومن باب انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

قلنا : إنّ نفس جعل المقابلة بين أكل المال بالباطل ، وبين كونه عن تجارة عن تراض يدلّ على أنّ ما ليس من التجارة عن تراض فهو من أكل المال بالباطل ، وقد تقدّم تفصيل ذلك فلا نعيد ، ففي الحقيقة في مورد الشكّ في لزوم معاملة عقديّة يثبت الموضوع بعد أن فسخ المعاملة للعقد الأوّل ـ أي المستثنى منه ـ بالعقد الثاني ـ أي المستثنى ـ وقرينيّته.

فكلّ واحد من العقدين وحده وإن لم يدلّ على عدم تأثير الفسخ ، ولا على اللزوم ، إلاّ أنّه بانضمام أحدهما إلى الآخر والتعمّق في مجموع الآية تحصل هذه النتيجة ، أي يكون إرجاع المال بالفسخ مع عدم رضائه الطرف الآخر من أكل مال الغير بالباطل الذي هو موضوع الحرمة في عقد المستثنى منه ، فيكون الفسخ غير مؤثّر ، وهو من لوازم اللزوم.

٢١٩

وأمّا الثاني : أي الأخبار التي تدلّ على لزوم كلّ عقد مملّك :

فمنها : قوله عليه‌السلام : « لا يحلّ مال امرء مسلم إلاّ بطيب نفسه » (١).

بيان ذلك : أنّه بعد الفراغ عن أنّ العقد سبب لانتقال كلّ واحد من العوضين إلى صاحب العوض الآخر ، وصيرورته ملكا ومالا له ، فلو كان إرجاع ذلك المال إلى صاحبه الأوّل بصرف الفسخ من دون طيب نفس الطرف ، أي من انتقل المال إليه بالعقد ، جائزا ـ الذي هو معنى عدم اللزوم ـ يلزم أن يكون أكل مال المسلم بدون طيب نفسه جائزا ، والحديث ينفيه : فالحديث يدلّ على عدم تأثير الفسخ وهو ملازم مع اللزوم.

وأمّا توهّم : أنّه بعد الفسخ يشكّ في أنّه مال الغير ؛ إذ على تقدير كون العقد أو المعاملة جائزة ، فبعد الفسخ يخرج عن كونه مال الغير قطعا ، وعلى تقدير كونه لازما يبقى بعده على كونه مال الغير ، وحيث أنّ كلا الأمرين غير معلوم ، فكونه مال الغير بعد الفسخ مشكوك ، فيكون التمسّك بالحديث من قبيل التمسّك بالعموم في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ ، وهو واضح البطلان ؛ للزوم إحراز موضوع الحكم.

ففيه : أنّ عدم كونه مال الغير متوقّف على تأثير الفسخ في إرجاع المال إلى صاحبه الأوّل ، وإلاّ فمع عدم تأثيره وعدم

انحلال العقد لا وجه لخروجه عن ملك من انتقل إليه بالعقد ، بل باق على ملكه يقينا من دون احتياج إلى استصحاب بقائه على ذلك ، وتأثير الفسخ متوقف على عدم كونه مال الغير ، وإلاّ يلزم أن يكون التصرّف في مال الغير بإخراجه عن ملكه بدون طيب نفسه حلالا وجائزا ، والحديث ينفيه ، فلا يمكن إثبات جواز التأثير بالشكّ في كونه مال الغير ، ويكون دورا واضحا.

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٢٧٣ ، باب القتل ، ح ١٢ ؛ « الفقيه » ج ٤ ، ص ٩٢ ، باب تحريم الدماء والأموال بغير حقّها ... ، ح ٥١٥١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٣ ، ص ٤٢٤ ، أبواب مكان المصلي ، باب ٣ ، ح ١ ؛ وج ١٩ ، ص ٣ ، أبواب القصاص في النفس ، باب ١ ، ح ٣. والنص في جميع المصادر هكذا : « لا يحلّ دم امرئ مسلم ولا ماله إلاّ بطيبة نفسه ».

٢٢٠