القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

جعل موضوع الحكم بعدم تحريم الربا بينهما أحد هذين العنوانين.

ولا بأس بهذا التفصيل ، ولعلّ المتفاهم العرفي يساعد على هذا التفصيل.

وأمّا التفصيل الآخر بالفرق بين ما إذا اتّخذها أهلا كالزوجة الدائمة وبين ما لم يكن كذلك ، فأيضا يرجع إلى ما ذكرنا.

الثاني : هل المطلّقة رجعيّة في حال بقاء عدّتها تكون بحكم الزوجة في هذا الحكم ، أم لا؟

قال في الجواهر : إنّ المطلّقة رجعيّة وإن كانت زوجة ، إلاّ أنّه قد يمنع صدق الأهل عليها (١).

وهذا الكلام منه مبني على ما يقول من أنّه بين مفهوم الزوجة ومفهوم الأهل عموم وخصوص من وجه ، فربّما تكون زوجة ولا يصدق عليها الأهل ، كالمتعة التي مدّتها قليلة جدّا ، كساعة مثلا ، فهي شرعا زوجة في تلك المدّة القليلة ، ولا يصدق عليها الأهل ، وربما تكون المرأة أهلا وليست بزوجة ، كبنته وأخته وغير ذلك من أقربائه ، ومورد الاجتماع واضح كالمرأة التي تزوّجها بالعقد الدائم ، وهي ربه الدار.

وفيما إذا كان موضوع الحكم عامّين من وجه ، كالعدم والعادل ، فلا بدّ من اجتماعهما في ثبوت الحكم ؛ ففي ما نحن فيه لا بدّ من اجتماع الزوجيّة والأهليّة لثبوت عدم حرمة الربا بينهما.

وفيه : أنّ الظاهر من الأهل ـ في صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم : « ليس بين الرجل وولده ، ولا بينه وبين مملوكه ، ولا بينه وبين أهله ربا » (٢) ـ هي الزوجة ، وليس الأهل بالمعنى الأعمّ ، فهما مفهومان متساويان.

والعمدة في إشكال إلحاق المطلقة رجعة بالزوجة في هذا الحكم أنّه منوط بكون‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٣ ، ص ٣٨٢.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٧٧ ، رقم (٢).

١٨١

التنزيل عامّا وبلحاظ جميع آثار الزوجيّة. وإثبات هذا لا يخلو من إشكال.

وأمّا الاستثناء الرابع ، أي عدم الربا بين المسلم والحربيّ ففيه أيضا فروع :

الأوّل : أنّه يجوز الأخذ منهم ولا يجوز إعطاء الفضل لهم ؛ وذلك لما رواه الصدوق مرسلا ، وفي الكافي مسندا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا ، نأخذ منهم ألف ألف درهم بدرهم ، ونأخذ منهم ولا نعطيهم » (١).

ثمَّ إنّ هذه الرواية على تقدير تسليم ضعفها ، تكون منجبرة بعمل الأصحاب ، فلا مانع فيها من حيث حجّيتها. نعم يستفاد منها عدم حرمة أخذ الفضل على المسلم لا الحربيّ ، فلا تدلّ على صحّة المعاملة التي وقعت بينهما ؛ لأنّ جواز أخذ الفضل منهم لازم أعمّ بالنسبة إلى صحّة المعاملة ؛ إذ يمكن أن يكون من جهة عدم احترام ما لهم ، وإن كانت المعاملة باطلة على حسب العمومات والمطلقات الواردة في باب الربا.

الثاني : في أنّه هل يجوز الأخذ من الكافر غير الذمّي المعاهد أيّام المعاهدة ، أو ممّن أعطوا الأمان أيّام أمانهم ، أم لا؟

أقول : الدليل على جواز أخذ الفضل من الحربي إمّا الإجماع وإمّا الرواية. أمّا الإجماع على تقدير ثبوته وحصوله وحجّيته في المقام ، فالقدر المتيقّن منه هو ثبوته في غير المعاهد ومن أعطى له الأمان. وأمّا الرواية فالمناط هو إطلاق قوله عليه‌السلام « وبين أهل حربنا » عليهم وأن لا يكون منصرفا عن المعاهد ومن أعطى له الأمان ، فإن أطلق فيجوز الأخذ منهم.

هذا ، مضافا إلى أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « نأخذ منهم ولا نعطيهم » إشارة إلى أنهم ليسوا‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٧ ، باب أنّه ليس بين الرجل وبين ولده ... ، ح ٢ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٧٧ ، باب الربا ، ح ٤٠٠٠ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٨ ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح ٧٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٦ ، أبواب الربا ، باب ٧ ، ح ٢.

١٨٢

بمالكين ، وإنّما يكون أموالهم فيئا للمسلمين ، فلا احترام لأموالهم ولا لنفوسهم ، وأمّا المعاهد ومن أعطى له الأمان فلأموالهم ونفوسهم احترام ظاهريّ حسب المعاهدة وحسب الأمان ، وإلاّ لا يجعلهم مالكا حقيقيّا واقعيّا ، فإذا أخذ منهم برضاهم من دون أن يكون مخالفا للوفاء بالمعاهدة أو الأمان الذي أعطى لهم ، فلا يكون في الأخذ منهم إشكال.

الثالث : هل يجوز أخذ الفضل والربا من الذمّي أم لا؟

الأشهر بل المشهور عدم الجواز ، وهذا أيضا مقتضى القواعد والأدلّة الأوّلية الدالّة على تحريم مطلق الربا من أيّ شخص كان ، وأيضا مقتضى الأدلّة التي مفادها احترام مال الذمّي ونفسه وعرضه ما دام يعمل بشرائط الذمّة ، وعدم شمول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا ».

فليس في المقام ما يدلّ على جواز الأخذ منهم إلاّ مرسل الفقيه : « ليس بين المسلم والذمّي ربا » وهو ضعيف في حدّ نفسه ، ولا جابر له مع إعراض المشهور عنه ؛ ولذلك حمله بعض الأصحاب على الذمّي الخارج عن الذمّة ؛ لعدم الوفاء بشرائطها ، كما قاله في الوسائل (١).

نعم هناك شي‌ء : وهو أنّ الذمّي بالمعنى المصطلح بين الفقهاء المتّخذ من الأخبار والأحاديث قليل الوجود أو عديمه ، والكفّار الموجودون في بلاد الإسلام في هذه الأزمان لا ينطبق عليهم أحكام الذمّة ؛ لعدم تحقّق الموضوع ، بل هم داخلون إمّا في المعاهدين كما هو الغالب ، أو فيمن أعطى له الأمان ، وعلى كلّ واحد من التقديرين أموالهم ونفوسهم وأعراضهم محترمة ، لا يجوز الأخذ منهم بالقهر وجبرا ، ولا بالسرقة. وأمّا برضاهم المعاملي فلا ينافي الاحترام.

فبناء على ما ذكرنا يجوز أخذ الفضل في المعاملة الربويّة من الكتابيّين‌

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٦ ، أبواب الربا ، باب ٧ ، ذيل الحديث ٣.

١٨٣

الموجودين في بلاد الإسلام في هذه الأزمان ، ولا يجوز إعطاؤهم.

الجهة الرابعة‌

في بيان الطرق التي يمكن التخلّص من الربا بأعمالها فرارا عن الحرام إلى الحلال ، ومن الباطل إلى الحقّ ، كما أنّه ورد في الصحيح عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام فقلت له :

أشترى ألف درهم ودينار بألفي درهم؟ فقال عليه‌السلام : « لا بأس بذلك إنّ أبي كان أجرء على أهل المدينة منّي ، وكان يقول هذا ، فيقولون : إنّما هذا الفرار لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم ، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار ، وكان يقول لهم : نعم الشي‌ء الفرار من الحرام إلى الحلال » (١).

وهناك روايات أخر (٢) بهذا المضمون من مدحهم عليهم‌السلام إعمال الحيل للفرار عن الحرام ، وعلى كلّ حال ذكر الفقهاء أمورا للفرار عن الربا :

منها : ما تقدّم من ضمّ ضميمة من غير جنس العوضين إلى أحدهما أو إلى كليهما كي تقع تلك الضميمة مقابل الفضل الذي يأخذ من ذلك الطرف كما كان في مورد السؤال في الصحيح المتقدّم ، وقدم شرحنا هذا الفرع مفصّلا فيما تقدّم فلا نعيد.

ومنها : أن يبيع سلعته من الآخر الذي هو طرفه في المعاملة الربويّة بغير جنس سلعته ، ثمَّ يشتري بذلك الجنس أيّ مقدار يريد من جنس سلعته زائدا كان على سلعته بحسب الكميّة ، أو ناقصا عنها ، أو مساويا لها ، فلا يكون رباء في البين ، لعدم اتّحاد جنس العوضين الذي هو الشرط الأساسي في تحقّق الربا.

مثلا لو أراد أن يبدّل جنسه الجيّد بالردي من ذلك الجنس مع الاختلاف في‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٤٦ ، باب الصروف ، ح ٩ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٦٦ ، أبواب الصرف ، باب ٦ ، ح ١.

(٢) راجع : « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٥٥ ، أبواب الربا ، باب ٢٠.

١٨٤

الكمّية ، وذلك كما إذا أراد أن يبيع وزنة من الأرز العنبر الذي عنده بوزنتين من الأرز النعيمة لغرض عقلائي عنده.

فهذه المعاملة لو كانت بالصورة التي ذكرناها ، أي الوزنة من أحدهما الجيّد بوزنتين من ذلك الردي‌ء تكون ربويّة ، فله أن يحتال بأن يبيع الوزنة الجيّدة التي عنده من العنبر بوزنتين من الحنطة مثلا ، ثمَّ يبيع الوزنتين من الحنطة بوزنتين من النعيمة ، فلا يتحقّق رباء مع أنّه وصل مقصوده.

ويمكن أن يبيع تلك الوزنة التي عنده بالنقود ، مثل أن يبيعها بأربعة دنانير مثلا ، ثمَّ يشتري بتلك الأربعة دنانير وزنتين من النعيمة ، ولا يكون رباء في البين ، ويتخلّص منه بهذه الحيلة مع حصول مقصوده.

ولا فرق في صحّة ما ذكرنا بين أن يشترط على المشتري الأوّل البيع الثاني ، أو لا يشترط ؛ لصحّة الشرط وعدم وجود المانع عن نفوذه.

نعم حكى عن الشيخ قدس‌سره أنّ صحّة البيع الثاني بالشكل المذكور مشروط بأن لا يكون الثمن في البيع الثاني عين الثمن في البيع الأوّل ؛ وذلك لأنّ عوض العوض عوض ، فهذا العوض وإن لم يكن من جنس ما يأخذ مع الفضل ، ولكنّه حيث يكون عوضا عمّا يكون من جنسه فهو في حكمه ، فيتحقّق الربا.

ولكن أنت خبير : بأنّ هذا الكلام لا أساس له ، من جهة أنّ الرّبا لا يثبت إلاّ بأن يكون العوضان في المعاملة من جنس واحد ، وليس عوض المبيع في البيع الأوّل ، أي الثمن في البيع الأوّل الذي يجعل عوضا في البيع الثاني من جنس عوضه في هذا البيع ، فلا رباء لا في البيع الأوّل ؛ لأنّه باع ماله بغير جنسه ، ولا في البيع الثاني ؛ لأنّه أيضا ليس فيه العوضان من جنس واحد. وأمّا القول بأنّ عوض العوض عوض ، فهو كلام لا دليل عليه.

نعم هناك رواية يمكن أن يكون نظر الشيخ قدس‌سره ومن تبعه إلى تلك الرواية ، وهي‌

١٨٥

رواية عليّ بن جعفر عن أخيه عليه‌السلام قال : سألته عن رجل له على آخر تمر أو شعير أو حنطة ، أيأخذ بقيمته دراهم؟ قال عليه‌السلام : « إذا قوّمها دراهم فسد ؛ لأنّ الأصل الذي يشتري به دراهم ، فلا يصلح دراهم بدراهم » (١).

فهذه الرواية تدلّ على عدم جواز بيع هذه الأمور الثلاثة بالدراهم ، معلّلا بأنّها عوض الدراهم ، لأنّه اشتراها بها ، فلو باعها بالدراهم فكأنّه باع الدراهم بالدراهم.

وهذا عين ما حكى عن الشيخ عدم جوازه.

وفيه : أنّ هذه الرواية أعرض عنها الأصحاب ولم يعملوا بها ، فلا يصحّ الاعتماد عليه ، مضافا إلى بعض المناقشات التي في دلالتها ومعارضتها ببعض الأخبار الأخر.

ومنها : أنّ صاحب أحد العوضين المتجانسين المتماثلين في الكميّة وزنا أو كيلا يقرض الآخر ، وكذلك صاحب الآخر ، ثمَّ يتباريان ويسقط كلّ واحد منهما ذمّة الآخر ، ولا يخفى أنّه يلزم أن يكون الإقراض من كلّ واحد من الطرفين بدون أن يشترط الإقراض على الآخر.

ومنها : أن يكون قصد الطرفين المعاوضة والمبادلة بين المثلين في الكمّية ، والطرف الذي يعطى الفضل والزيادة يقصد كونها هبة.

ومنها : أن يهب كلّ واحد منهما ماله للآخر من دون أن يشترط على صاحبه هبة ماله له ، كي يكون هبة بإزاء هبة ، وإلاّ يدخل في باب المعاوضات فيثبت الربا فيه ، بناء على ما هو الحقّ عندنا ـ وقد تقدّم بيانه ـ من عدم اختصاص الربا بالبيع فقط ، بل يدخل في جميع المعاوضات.

ومنها : أن يصالح صاحب الزيادة مقدار الفضل لصاحبه ، ويشترط عليه أن يبيع ماله منه مثلا بمثل.

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٣٠ ، ح ١٢٩ ، باب بيع المضمون ، ح ١٧ ؛ « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٧٤ ، ح ٢٤٦ ، باب من سلف في طعام أو غيره ... ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٧١ ، أبواب السلف ، باب ١١ ، ح ١٢.

١٨٦

الجهة الخامسة

في الربا في باب القرض‌

أقول : القرض عبارة عن تمليك مال للآخر بالضمان ، وربما يقال بدل قولنا بالضمان : بعوضه الواقعي ، وعلى كلّ حال لسنا في مقام بيان حقيقة القرض ، وأنّه من العقود اللازمة أو الجائزة ، ويجري فيه المعاطاة أم لا ، وأنّ المعاطاة فيه يوجب ملكية المستقرض لما اقترضه أو لا يوجب إلاّ الإباحة وإنّما الملكيّة تحصل بالتصرّف ؛ لأنّ هذه المذكورات محلّ بحثها كتاب القرض

وإنّما المهمّ في المقام هو أنّ أخذ المقرض عن المستقرض الزيادة عمّا أعطاه الذي يسمّى بالربا مطلقا حرام ، أو حرمته مشروط بشرط؟ وأيضا أنّ القرض ـ أي المعاملة الكذائيّة ـ تكون فاسدة إذا اشترط الزيادة ، أو أخذ الزيادة فقط حرام ، وأمّا المال الذي أقرضه المقرض فهو حلال ولا بأس به؟ وأنّه هل حرمة الزيادة فيما إذا اشترط ذلك ، أو حرام وإن لم يشترط؟

فهذه أمور نريد أن نتعرّض لها في هذا المقام ، فنقول :

تحقيق الحقّ في هذه الأمور موقوف على ذكر الأخبار الواردة في هذا الباب كي نستظهر منها ما هو الصحيح :

فمنها : ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن جعفر بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الربا رباءان : أحدهما رباء حلال ، والآخر حرام. فأمّا الحلال فهو أن يقرض الرجل قرضا طمعا أن يزيده ويعوّضه بأكثر ممّا أخذه بلا شرط بينهما ، فإن أعطاه أكثر ممّا أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له ، وليس له عند الله ثواب فيما أقرضه ، وهو قوله عزّ وجل ( فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ ) (١) وأمّا الربا الحرام فهو الرجل‌

__________________

(١) الروم (٣٠) : ٣٩.

١٨٧

يقرض قرضا ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه ، فهذا هو الحرام » (١).

وهذه الرواية صريح في جواز أخذ الفضل والزيادة إذا لم يشترط.

ومنها : رواية خالد بن الحجّاج ، قال : سألته عن الرجل كانت لي عليه مائة درهم عددا قضانيها مائة درهم وزنا؟ قال : « لا بأس ما لم يشترط. قال : وقال : جاء الربا من قبل الشروط إنّما يفسده الشرط » (٢).

ومنها : رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « إذا أقرضت الدراهم ثمَّ أتاك بخير منها ، فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط » (٣).

وبهذا المضمون روايات كثيرة ، وقد عقد لها بابا في الوسائل (٤). وكلّ هذه الروايات مرجعها إلى أنّ القابض يحلّ له قبض الفضل والزيادة أو ما هو الأجود إذا كان من غير شرط. وظاهر رواية خالد بن الحجّاج المتقدّم أنّ القرض الذي شرط فيه الزيادة أو ردّ الأجود ممّا أخذ تكون القرض والمعاملة فاسدة ؛ لقوله عليه‌السلام فيها : « إنّما يفسده الشرط ».

وأمّا الحديث النبويّ : « كل قرض يجرّ منفعة فهو حرام » (٥) فلا إطلاق له يشمل صورة عدم الاشتراط ، بل ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « يجر منفعة » هو الاشتراط في ضمن عقد‌

__________________

(١) « تفسير القمّي » ج ٢ ، ص ١٥٩. وفي « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٥٤ ، أبواب الربا ، باب ١٨ ، ح ١٠ عن حفص بن غياث ؛ بدل جعفر بن غياث.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٤٤ ، باب الصروف ، ح ١ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١١٢ ، ح ٤٨٣ ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح ٨٩ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٧٦ ، أبواب الصرف ، باب ١٢ ، ح ١.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٥٤ ، باب الرجل يقرض الدراهم ويأخذ أجود منها ، ح ٣ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢١ ، ح ٤٤٩ ، باب القرض وأحكامه ، ح ٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٧٧ ، أبواب الصرف ، باب ١٢ ، ح ٣.

(٤) « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٧٦ ، أبواب الصرف ، باب ١٢ : باب أنّه يجوز قضاء الدين من الدراهم والدنانير وغيرها بأجود منها وبأزيد وزنا وعددا.

(٥) « دعائم الإسلام » ج ٢ ، ص ١٦١ ، ح ١٦٧ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٤٠٩ ، أبواب الدين والقرض ، باب ١٩ ، ح ٢.

١٨٨

القرض وإلاّ لا يصدق جرّ القرض إن كان المقترض من عند نفسه يعطي شيئا زائدا ، أو أجود ممّا أخذ ، أو منفعة أخرى.

وخلاصة الكلام : أنّ المقترض إن أعطى أجود ممّا أخذ أو أزيد منه بدون الشرط فجائز ، ولا يكون موجبا لفساد القرض ، بل ظاهر بعض الأخبار استحباب ذلك ، فيستحب إعطاء الزيادة إذا كان من غير شرط ، ويحلّ للمقرض أخذه وقبضه.

ولعلّه إلى هذا يشير قول أبي جعفر عليه‌السلام في مرسلة محمّد بن مسلم : « خير القرض ما جرّ منفعة » (١).

ويدلّ على استحباب إعطاء الزيادة إنّ كان من غير شرط ، صحيحة عبد الرحمن ابن الحجّاج ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يستقرض من الرجل الدراهم فيردّ عليه المثقال ، أو يستقرض المثقال فيردّ عليه الدراهم ، فقال عليه‌السلام : « إذا لم يكن شرط فلا بأس ، وذلك هو الفضل إنّ أبي عليه‌السلام كان يستقرض الدراهم الفسولة فيدخل عليه الدراهم الجياد الجلال ، فيقول : يا بنيّ ردّها على الذي استقرضتها منه ، فأقول : يا أبه إنّ دراهمه كانت فسولة وهذه أجود خير منها ؛ فيقول : يا بنيّ إنّ هذا هو الفضل فأعطه إيّاها » (٢).

فقوله عليه‌السلام : « إنّ هذا هو الفضل فأعطه إيّاها » ظاهر في حسن هذا الفعل واستحبابه. وروايات أخر بهذا المضمون وأصرح منها مذكورة في الوسائل وغيره.

ثمَّ إنّ الزيادة قلنا إنّها حرام في القرض مع الشرط ، بل موجب لفساد القرض ، فإذا قبض المقترض المال الذي أقرضه المقرض يكون من المقبوض بالعقد الفاسد لا‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٥٥ ، باب القرض يجرّ المنفعة ، ح ١ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٠١ ، ح ٤٥٢ ، باب القرض وأحكامه ، ح ٦ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٨٥ ، باب الربا ، ح ٤٠٢٩ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ١٠٤ ، أبواب الدين والقرض ، باب ١٩ ، ح ٤.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٥٤ ، باب الرجل يقرض الدراهم ويأخذ أجود منها ، ح ٦ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١١٥ ، ح ٥٠٠ ، باب بيع الواحد بالاثنين وأكثر من ذلك ، ح ١٠٦ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٨٤ ، باب الربا ، ح ٤٠٢٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٧٧ ، أبواب الصرف ، باب ١٢ ، ح ٧.

١٨٩

فرق بين أن تكون تلك الزيادة عينيّة ، أو عملا من المقترض للمقرض ، أو انتفاعا بمال المقترض ، أو تكون صفة زائدة في عوضه ، كما إذا شرط المقرض على المقترض أن يعطى دراهم جديدة وصحيحة عوض ما يعطيه من الدراهم المكسورة ، فجميع هذه الأمور مع الشرط رباء محرّم ، وتكون موجبة لفساد القرض كما هو مفاد الأخبار الصحيحة الصريحة.

ثمَّ إنّه لا فرق في كون الزيادة في القرض حراما وموجبة لفساد القرض مع الشرط بين أن يكون الشرط صريحا ومذكورا في متن العقد ، أو وقع المعاملة مبنيّا عليه ؛ وذلك لشمول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « كل قرض يجرّ المنفعة فهو حرام » لكلتا الصورتين ، والخارج عن هذا العموم هو ما لم يكن شرط في البين لا صريحا ولا بحيث يقع العقد مبنيّا عليه.

خاتمة‌

اعلم أنّ هذه القاعدة ـ أي قاعدة لا رباء إلاّ فيما يكال أو يوزن ـ لا تأتي في القرض ، بل شرط الزيادة مطلقا أيّ قسم كان من الزيادة عينيّة كانت أو صفة أو منفعة أو انتفاعا موجب لحرمة تلك الزيادة وفساد القرض ، وقد تقدّم جميع ذلك سواء كان المال الذي يقترضه من المكيل أو الموزون ، أو لم يكن منهما كالمعدود وما يباع مشاهدة أو مذروعا أو غير ذلك.

والدليل عليه أوّلا : الإجماع ، وثانيا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « كلّ قرض يجرّ منفعة فهو حرام » ، وثالثا : الأخبار الكثيرة التي تقدّم بعضها أنّ الشرط يفسد القرض ، وفيها إطلاق يشمل المكيل والموزون وغيرهما.

وخلاصة الكلام : أنّ المراجعة إلى الروايات الواردة في باب القرض وأقوال الفقهاء والمحدّثين يوجب الاطمئنان بأنّ شرط الزيادة والنفع بالتفصيل المتقدّم موجب لحرمة تلك الزيادة وفساد القرض ، سواء كان المال الذي يقترضها المقترض من‌

١٩٠

الأجناس الربويّة ، أي من المكيل والموزون ، أو لم يكن كذلك. والله الهادي إلى الصواب.

والحمد لله أوّلاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً.

١٩١
١٩٢

٤٩ ـ قاعدة

أصالة اللزوم في العقود‌

١٩٣
١٩٤

قاعدة أصالة اللزوم في العقود *

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « أصالة اللزوم » في العقود في أبواب المعاملات والمعاهدات عند الشكّ في لزوم معاملة أو معاهدة.

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في شرح معناها والمراد منها‌

فنقول : إنّ المراد من « الأصل » في قولهم أصالة اللزوم ، يحتمل أن يكون القاعدة الأوّلية المستفادة من بناء العقلاء في معاملاتهم ومعاهداتهم ، كما سيأتي تفصيله في الجهة الثانية التي رسمت لبيان الأدلّة الدالّة على إثبات هذه القاعدة واعتبارها عند الشكّ في لزوم معاملة أو معاهدة ، وبعبارة أخرى : في الشكّ في لزوم عقد من العقود.

ويحتمل أن يكون المراد منه ما هو مقتضى الأدلّة الشرعيّة التي تدلّ على لزوم جميع العقود والمعاهدات إلاّ ما خرج بالدليل تخصيصا ، كقوله تعالى : ( أَوْفُوا

__________________

* « القواعد والفوائد » ج ٢ ، ص ٢٤٢ ؛ « الحقّ المبين » ص ٦٨ ؛ « خزائن الأحكام » ش ٣ ؛ « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص ٣٢ ؛ « مجموعة قواعد فقه » ص ١٧٤ ؛ « القواعد » ص ٢٥١ ؛ « قواعد فقه » ج ٢ ، ص ١٣٦ ؛ « قواعد الفقه » ص ٢٧ ؛ « قواعد فقهي » ص ٢٧٣ ؛ « قواعد فقهيّة » ص ٢٤١ ؛ « القواعد الفقهيّة » ( مكارم الشيرازي ) ج ٤ ، ص ٣١٩ ؛ « أصل صحت وأصل لزوم » احمد شهيدى ، ماجستير ، جامعة الشهيد بهشتي ، ١٣٥٩.

١٩٥

بِالْعُقُودِ ) (١) وسائر الآيات والروايات الواردة في هذا الباب.

ويحتمل أن يكون المراد منها الاستصحاب. وسيأتي شرح جميع هذه الأمور مفصّلا إن شاء الله تعالى.

والمراد من « اللزوم » هو عدم جواز حلّ العقد من أحد الطرفين بدون رضائه الطرف الآخر ، بل عدم إمكانه في عالم التشريع ، فكما أنّ بعض العقد في عالم التكوين لا يمكن حلّه لشدّة إبرامه وإحكامه ، كذلك العقود والعهود في عالم التشريع ليست قابلة للحلّ ؛ لاعتبار الشارع إبرامها وإتقانها بحيث لا يمكن حلّها من طرف واحد بدون رضائه الطرف الآخر ، بل وفي بعض العقود يكون اعتبار إبرامها وإتقانها بنحو لا يمكن حلّها وإن كان برضائه الطرفين ، كالنكاح ، وكلّ عقد لا يتطرّق فيه الإقالة شرعا. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

ثمَّ إنّ اللزوم على قسمين : لزوم حقّي ولزوم حكميّ ، واللزوم الحقّي عبارة عن ملكيّة أحدهما التزام الآخر ، أو كلّ واحد منهما التزام طرفه. وفي الأوّل يكون اللزوم من طرف واحد ، وفي الثاني يكون اللزوم من الطرفين. وكذلك الجواز حقّي وحكميّ.

والجواز الحقّي هو أن يكون مالكا لالتزام نفسه ، ولا يكون التزامه ملكا لطرفه.

فإذا كان كلّ واحد من المتعاقدين مالكا لالتزام نفسه ، فهذا جواز حقّي من الطرفين ، وإذا كان أحدهما فقط مالكا لالتزام نفسه دون الآخر ، فهذا يكون جوازا حقّيا من طرف واحد.

بيان ذلك : أنّ في باب العقود مدلول مطابقي للعقد وهو مضمونه ، أي الذي ينشأه المتعاقدان من تبديل مال بمال ، أو غير ذلك من المضامين الكثيرة التي تنشأ بالعقود ، ومدلول التزامي ، وهو التزام كلّ واحد منهما للآخر بما أنشأه ، بمعنى أنّه يتعهّد ويلتزم بالعمل على طبق ما أنشأ ، وأن لا يتخلّف وأن لا ينقض تعهّده.

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

١٩٦

وبهذا الاعتبار يطلقون على من تخلّف عن تعهّده في باب عقد البيعة مثلا بأنّه ناقض للبيعة ولعهده.

وهكذا يكون الأمر في جميع أبواب المعاملات والعهود والعقود العهديّة دون الإذنيّة ، وسيأتي الفرق بين العقود العهديّة والإذنيّة إن شاء الله تعالى.

وأمّا دلالة العقود والعهود على هذه الدلالة الالتزاميّة فمن باب بناء العقلاء ؛ إذ بناؤهم على أنّه لو أنشأوا هذه المعاملة باللفظ المتعارف عندهم لإنشائها ، يكون لكلّ واحد من الطرفين ـ أي الموجب والقابل ـ التزام وتعهّد بالبقاء عند هذه المعاوضة ، أو أيّ شي‌ء آخر كان مضمون هذا العقد وعدم الرجوع عنه.

وهذا المعنى غير صرف الأخذ والإعطاء ، كما هو كذلك في باب المعاطاة ، ففي باب المعاطاة ليس في البين ما يدلّ على تعهّد والتزام من الطرفين ، بل مجرّد معاوضة بأن يعطى بدل ما يأخذ أو يأخذ عوض ما يعطى أو بدله.

وذلك من جهة أنّه ليس في المعاطاة غير الأخذ والعطاء الخارجيّ شي‌ء آخر يكون دالاّ على أنّهما ملتزمان بالبقاء والوفاء بهذه المبادلة ولا يرجعان عنها ؛ ولذلك قلنا إنّ المعاطاة ليس بعقد ، إذ العقد هو العهد المؤكّد لغة وعرفا ، وليس في المعاطاة في مقام الإثبات ما يدلّ على هذا المعنى ويكشف عنه ، وصرف الأخذ والإعطاء خارجا كلّ واحد عوضا وبدلا عن الآخر لا يدلّ على أزيد من نفس المبادلة والمعاوضة.

نعم قد يدلّ على هذا المعنى فعل من الأفعال غير اللفظ كوضع أحدهما يده في يد الآخر ، أو ضرب أحدهما يده على يد الآخر ، ومن هذه الجهة وبهذا الاعتبار يعبّرون عن البيع بصفقة اليمين ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قضيّة عروة البارقيّ : « بارك الله لك في صفقة يمينك » (١).

__________________

(١) « عوالي اللئالي » ج ٣ ، ص ٢٠٥ ، ح ٢٦ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٣ ، ص ٢٤٥ ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب ١٨ ، ح ١.

١٩٧

وقد يكون الخط والإمضاء دليلا على هذا ، كما أنّه يقال : إنّ العقود التي تقع بين الدول في معاملاتهم تتمّ بإمضاء من حوّل إليه الأمر من كلّ واحد من الطرفين ، وكذلك يقال : إنّ في عقد النكاح يكون وقوعه وإتمامه بإمضاء الطرفين.

وعلى كلّ حال ليس صرف العمل بمضمون العقد عقدا ، ما لم يكن دالاّ على هذا الالتزام ، من لفظ ينشأ به هذا المضمون ، أو فعل يدلّ على البقاء والالتزام بعد الرجوع عنه كوضع اليد في يد الآخر كما كان في باب البيعة ، أو ضرب اليد على يد الطرف الآخر كما في بعض أبواب المعاملات ، أو خطّ أو إمضاء كما ذكرناه.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّهم قسّموا العقود على قسمين : عقود إذنيّة ، وعقود عهديّة. وما ذكرنا من دلالة العقد بالدلالة الالتزاميّة على الالتزام بالوفاء بمضمون العقد والبقاء عنده وعدم الرجوع عنه في العقود العهديّة دون الإذنيّة ؛ إذ العقود العهديّة عبارة عن العهد المؤكّد ، وأمّا العقود الإذنيّة فهي عبارة عن مجرّد إذن أحدهما للآخر في أمر من الأمور ، كالوكالة والعارية وأمثالهما ، وإنّما عبّر عنها بالعقد ؛ لوقوع الإذن بصورة الإيجاب ، ورضا الطرف بهذا الأمر بصورة القبول ، فيكون عقدا شكليّا ، لا عقدا واقعيّا ؛ ولذلك يكون إطلاق العقد عليها إطلاقا مجازيّا لا حقيقيّا.

فليس التزام من أحدهما بالوفاء والبقاء عند هذه المعاوضة والمبادلة في البين وقوامها بالإذن فقط ، فإذا فسخ وارتفع الإذن فلا يبقى شي‌ء في البين كي يقال يجب الوفاء به والبقاء عنده ، فخروج هذه العقود من أصالة اللزوم أو من قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بالتخصّص ، لا بالتخصيص كي يقال بأنّه يلزم في الآية أو ذلك الأصل تخصيص الأكثر. وأمّا العقود العهديّة فيشملها أصالة اللزوم ، وكذلك ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يشمل كلّها.

وفرّق شيخنا الأعظم قدس‌سره (١) في العقود العهديّة بين التعليقيّة والتنجيزيّة ، فاستشكل‌

__________________

(١) « المكاسب » ص ٨٥.

١٩٨

في اللزوم في مثل السبق والرّماية والجعالة بناء على أن يكون مدرك اللزوم هو استصحاب أثر العقد ، ففي العقود التعليقيّة لو فسخ الطرف قبل حصول المعلّق عليه ليس أثر كي يستصحب بعد فسخ من عليه أداء الجعل في الجعالة ، ومن عليه السبق في السبق والرماية بناء على ما زعم من أنّ قبل حصول السبق في السبق والرماية ، وكذلك قبل ردّ الضالّة في الجعالة لا يستحقّ السبق ولا الجعل ولا يملك شيئا ، فليس شي‌ء في البين كي يستصحبه بعد الفسخ.

وسنتكلم إن شاء الله في هذا الأمر حين تكلّمنا في أنّ أحد الأدلّة على قاعدة اللزوم وعدم تأثير الفسخ هو الاستصحاب ، ونبيّن ما هو الحقّ في هذا المقام.

وخلاصة الكلام كما سنذكره إن شاء الله تعالى أنّه لا فرق بين العقود العهديّة التنجيزيّة والتعليقيّة في أنّ مقتضى الأصل ـ وإن كان المراد من الأصل هو الاستصحاب ـ هو اللزوم وعدم تأثير الفسخ.

الجهة الثانية

في بيان الأدلّة التي تدلّ على أنّ مقتضى الأصل الاوّلى في كلّ عقد هو اللزوم ،

وعدم نفوذ الفسخ من كلّ واحد من طرفي المتعاقدين ، فنقول :

الأوّل : هو بناء العقلاء‌ في عهودهم وعقودهم على لزوم الوفاء والبقاء عند التزامه ، بحيث لو رفع اليد عمّا التزم من عقده وعهده يرونه ناقضا لالتزامه وتعهّده ، ويذمّونه على ذلك ، والشارع لم يردعهم عن هذه الطريقة ، بل ألزمهم بذلك ، كما سنذكره إن شاء الله.

والحاصل : أنّ مخالفة الالتزامات وعدم الاعتناء بعقده وعهده عندهم من أكبر المعايب وأخسّ الصفات وأرذلها ، إلاّ أن يجعل أحدهما لنفسه حق رفع اليد عن التزامه ، أو كلّ واحد منهما يجعل لنفسه من أوّل الأمر ذلك في ضمن العقد ، وهذا‌

١٩٩

يسمّى بخيار الشرط لأحد الطرفين أو كليهما. وهذا يرجع في الحقيقة إلى عدم التزامه المطلق وعلى كلّ حال ، بل التزام على تقدير دون تقدير.

وبعبارة أخرى : بعد ما عرفت أنّ العقود المنشأة بإنشاء لفظي لها دلالتان : إحداهما مطابقة ، والأخرى التزاما ، والثاني التزامه للآخر بالبقاء عند ما أنشأه بالمطابقة وعدم العدول عنه ، فالعدول والرجوع عمّا التزم به خلف ونقض ، وهذا قبيح.

وإن شئت قلت : إنّ التزامه لطرفه تمليك له ، فهذا الالتزام في اعتبار العقلاء يكون ملكا لطرفه وذلك بتمليكه إيّاه ، فكما لو وهب مالا لغيره ليس له الرجوع إليه عند العقلاء ، خصوصا بعد تصرّف الموهوب له فيه وإتلافه ، ليس له أن يضمّنه ويكون خارجا عن قاعدة الإتلاف تخصّصا لا تخصيصا ، فكذلك بعد ما التزم له بالوفاء العقلاء يعتبرون للملتزم له حقّ الإلزام له بالوفاء بما التزم به.

نعم الملتزم له لو رفع اليد عن حقّه بإسقاطه ، فلا يكون بعد ذلك ملزما بالعمل بالتزامه ، ويجوز له حلّ عقده وعهده ، وليس ذلك حينئذ خلف ونقض لعهده ، ومرجع الإقالة إلى هذا الذي ذكرنا.

فمعنى قول الملتزم للملتزم له « أقلني » أي ارفع اليد عن حقّك الذي كان عبارة عن أنّه كان لك إلزامي بالعمل بمقتضى هذا العقد ومضمونه ، فإذا كان اللزوم والإقالة من الطرفين فقهرا يرتفع اللزوم من البين ، فكأنّه بالنسبة إلى لزوم الوفاء لكلّ واحد منهما لم يكن عقد في البين ، ولعلّ هذا معنى انحلال العقد بالإقالة ، ولعلّ من هذه الجهة قالوا إنّ انحلال العقد بالإقالة وارتفاع اللزوم من البين يكون على القاعدة ، ولا يحتاج صحّة تأثيرها على وجود دليل في البين.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يمكن إنكار أنّ بناء العقلاء في جميع الأعصار والأمصار على لزوم العمل بعقودهم وعهودهم ، وعدم قدرة الملتزم بمعاهدة وتعاقد ـ وإن كان التزامه بدلالة التزاميّة لألفاظ العقود والمعاهدات ـ على رفع اليد عن التزامه ، وحلّ‌

٢٠٠