القواعد الفقهيّة - ج ٥

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٥

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

المكيل أو الموزون والآخر من غيرهما ، فيختلف حكمهما حسب اختلاف عناوينهما.

فيجوز بيع الجوز بمثله مع التفاضل ؛ لأنّه معدود ، ولا يجوز بيع دهنه بالتفاضل ؛ لأنّه موزون ؛ فيختلف حكم الفرع والأصل. وكذلك لا يجوز بيع القطن والغزل بمثلهما مع التفاضل ؛ لأنّهما من الموزون ، ولكن الثياب المنسوج منهما يجوز بيعها مع التفاضل ؛ لأنّها ليست من الموزون ؛ فاختلف حكم الأصل والفرع.

والسّر في ذلك : أنّ الفرع داخل تحت عنوان ، والأصل تحت عنوان آخر ، والعنوانان مختلفان في الحكم من حيث دخول الربا وعدم دخوله.

المسألة الرابعة : هل يجوز بيع المكيل موزونا وبالعكس ، أم لا؟ فيه خلاف.

والبحث في هذه المسألة تارة في جواز البيع من ناحية لزوم الغرر ، وأخرى من ناحية دخول الربا إذا كان العوضان من جنس واحد.

أمّا البحث من الجهة الأولى : أي من ناحية لزوم الغرر الذي يكون منهيّا ، ففيه أقوال :

قول بعدم الجواز مطلقا.

وقول بالجواز مطلقا.

وقول بالتفصيل ، أي جواز بيع المكيل موزونا دون العكس.

وذلك من جهة أنّ اعتبار الكيل في المكيل ، أو الوزن في الموزون لأجل ارتفاع الغرر والجهالة والعلم بمقدار العوضين ، وفي هذه الجهة ربما يكون الوزن أضبط ، وارتفاع الغرر والجهالة به أوضح وأجلى ، حتّى قيل : إنّ الأصل في تعيين العوضين

في أبواب المعاوضات التي من المكيل أو الموزون هو الوزن ، والكيل أمارة عليه.

والتحقيق في هذا المقام هو أنّ اعتبار الكيل في المكيل ، والوزن في الموزون إن كان من جهة ارتفاع الغرر بهما وعدم كون البيع جزافا كما هو الظاهر ، فلا يبعد صحّة‌

١٤١

بيع المكيل موزونا ؛ إذ ارتفاع الغرر بالوزن أوضح ، ومعرفة المقدار به أدقّ.

وأمّا ما يقال من أنّ الوزن يعيّن المقدار من حيث الثقل والخفّة ، والكيل من حيث الأبعاد فلا يقاس أحدهما بالآخر ، فإنّه وإن كان صحيحا ، لكن عمدة النظر في غالب أفراد المبيع ـ المكيل والموزون ـ عند العرف والعقلاء إلى معرفة مقدارها من حيث الوزن والثقل ، لا الأبعاد.

نعم إذا كان الغرض في مورد يتعلّق بالمبيع من حيث حجمه ، وأبعاده دون ثقله ، ففي ذلك السنخ من المبيع لا يبعد أن يكون المناط في رفع الغرر والجهالة هو الكيل دون الوزن إذا كان ممّا يكال ، كما أنّه إذا كان الكيل أمارة على الوزن فيرتفع الغرر بالكيل ، وإن كان موزونا فيكفي الكيل في صحّة المعاملة.

ويدلّ على ذلك أيضا رواية عبد الملك بن عمرو قلت : أشترى مائة راوية من زيت فاعترض راوية أو اثنتين فأتّزنها ثمَّ آخذ سائره على قدر ذلك؟ قال عليه‌السلام : « لا بأس » (١). ولكن هذا في الحقيقة يرجع إلى معرفة المقدار بالوزن لا الكيل.

والحاصل : أنّ تعيين المقدار ومعرفته بالوزن يكفي في صحّة البيع ، وإن لم يكن المبيع ممّا يوزن ؛ ولذلك ترى أنّ الحنطة والشعير مع أنّهما من المكيل في زمن الشارع إجماعا يجوز بيعهما بالوزن ، وفي الجواهر (٢) الإجماع أيضا على صحّة بيعهما بالوزن.

وقال العلاّمة في التذكرة : إنّه لا يجوز بيع الموزون بجنسه جزافا ، وكذا لا يجوز بيعه مكيلا إلاّ إذا علم عدم التفاوت فيه ، وكذا المكيل لا يجوز بيعه جزافا ولا موزونا إلاّ مع العلم بعدم التفاوت. (٣) وقد عرفت ما هو الحقّ في المقام.

هذا كلّه كان من ناحية الغرر.

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٩٤ ، باب بيع العدد والمجازفة والشي‌ء المبهم ، ح ٧ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٢٦ ، باب البيوع ، ح ٣٨٣٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٢٥٥ ، أبواب عقد البيع وشروطه ، باب ٥ ، ح ١.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٣ ، ص ٣٧٣.

(٣) « تذكرة الفقهاء » ج ١ ، ص ٤٨٣.

١٤٢

و أمّا البحث من ناحية دخول الربا : فالعبارات الواردة في بيع المتجانسين وصحته وعدم كونه ربا على أقسام :

تارة بأن يكون مثلا بمثل ، كما في رواية محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : ما تقول في البرّ بالسويق؟ فقال : « مثلا بمثل لا بأس » (١). وبهذا المضمون روايات كثيرة.

وأخرى : أن يكون رأسا برأس ، كما في رواية صفوان عن رجل من أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الحنطة والدقيق لا بأس به رأسا برأس » (٢).

وثالثة : أن يكون العوضان سواء ، كما في رواية أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الحنطة بالدقيق؟ فقال : « إذا كانا سواء فلا بأس » (٣).

ففي صحّة بيع المتجانسين وعدم تحقّق الربا لا بدّ من صدق أحد هذه العناوين الثلاث عرفا ، فنقول :

العوضان اللذان من جنس واحد ، أو كانا في حكم الجنس الواحد ـ كفروع الأصل الواحد بعضها بالنسبة إلى البعض كالخبز بالنسبة إلى السويق ، أو جميعها بالنسبة إلى ذلك الأصل ، كالخبز بالنسبة إلى الحنطة مثلا ، أو الشيرج بالنسبة إلى التمر أو العنب مثلا ـ فإمّا أن يكون كلاهما من الموزون ، أو كلاهما من المكيل ، أو يكونان من المختلفين.

فالأوّل : كالحنطة والشعير مثلا ، والثاني : كالدقيق بالدقيق ، والثالث : كالحنطة‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٩ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ٩ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٠ ، أبواب الربا ، باب ٩ ، ح ١.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٥ ، ح ٤٠٣ ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح ٩ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٠ ، أبواب الربا ، باب ٩ ، ح ٥.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٥ ، ٤٠٧ ، باب بيع الواحد بالاثنين. ح ١٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤١ ، أبواب الربا ، باب ٩ ، ح ٦.

١٤٣

بالدقيق.

أمّا الأوّل : فلا شكّ في أنّه إذا باع منّا من الحنطة بمنّ منها ، يصدق العناوين الثلاثة ، أي « مثلا بمثل » ، وكذلك « رأسا برأس » وكذلك « كونهما سواء ».

وهناك في بعض روايات باب الصرف (١) علّق عليه‌السلام صحّة بيع الورق بالورق والذهب بالذهب بكونه وزنا بوزن ، وبأن لا يكون فيه زيادة ونقصان.

فإذا كان المراد من بيع الورق بالورق والذهب بالذهب بيع المتجانسين ، وذكر الذهب والورق من باب المثال ، فأيضا يصدق فيما ذكرنا من المثال أنّه بيع مثلا بمثل وبلا زيادة ولا نقصان أي من حيث الوزن ، ففيما إذا كان العوضان من الموزون لا شكّ في صحّة بيعهما موزونا ؛ لصدق جميع العناوين الخمسة.

وأمّا بيعهما بالكيل فلا يخلو من إشكال إذا كان بينهما تفاوت بحسب الوزن ، كما أنّه لو باع التمر بالدبس منه متساويا كيلا ، فالتمر والدبس منه كلاهما من الموزون ، فإذا بيع أحدهما بالآخر كيلا متساويا يكونان متفاوتين بحسب الوزن ؛ لأنّ الكيل من الدبس أثقل من نفس ذلك الكيل من التمر ، فلا يصدق على مثل ذلك البيع أنّ العوضين المتجانسين متساويان بلا زيادة ولا نقصان.

وذلك من جهة أنّ العرف يفهم من التساوي فيما يباع عندهم بالوزن التساوي في الوزن لا التساوي كيلا ، ومن قوله عليه‌السلام : « بلا زيادة ولا نقصان » عدمهما بحسب الوزن ، وهكذا قوله عليه‌السلام في الموزون « مثلا بمثل » يفهم المثليّة بحسب الوزن ، وكذلك قوله عليه‌السلام « رأسا برأس ». وأمّا قوله عليه‌السلام « وزنا بوزن » فصريح في ذلك.

نعم لو لم يكن بينهما تفاوت بحسب الوزن ، فلا يأتي هذا الإشكال ، كما أنّه إذا كان الكيل أمارة على الوزن فأيضا لا يأتي هذا الإشكال ، كما أنّه لو وزن كيلا ويعطى الباقي بذلك الحساب كما تقدّم في رواية عبد الملك بن عمرو.

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٥٦ ، أبواب الصرف ، باب ١ ، ح ٣ و ٤.

١٤٤

وأمّا الثاني : أي فيما إذا كانا من المكيل ، فلا شكّ في صحّة بيعهما كيلا ؛ لأنّ العرف لا يفهم من التساوي إلاّ التساوي بحسب الكيل. وكذلك الكلام في مثلا بمثل ورأسا برأس ، وأمّا قوله عليه‌السلام « وزنا بوزن » فهو في مورد الموزون ، فلا ربط له بمورد كون المبيع مكيلا أصلا.

إنّما الكلام في صحّة بيعهما بالوزن هل يجوز.

فقال جماعة : نعم ؛ لأنّ الوزن أضبط في معرفة التساوي وعدم الزيادة والنقصان الذي هو المناط في عدم تحقّق الربا ، وقد تقدّم أنّه عليه‌السلام فسّر المثليّة بقوله : « بلا زيادة ولا نقصان » وهو الصحيح. بل ربما يظهر من الشهيد في المسالك (١) دعوى الإجماع على صحّة بيع المكيل موزونا ، حيث قال كما في الجواهر حكاية عن المسالك : ونقل بعضهم الإجماع على جواز بيع الحنطة والشعير وزنا مع الإجماع على كونهما مكيلين في عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

ولكن ظاهر هذا الإجماع على جواز بيع المكيل موزونا ـ على تقدير ثبوته ـ هو في خصوص ارتفاع الغرر بالوزن وخروج المعاملة عن كونها جزافا ، فلا ينافي عدم صحّة بيع المكيل موزونا مثلا بمثل من ناحية الربا ؛ لعدم صدق التساوي عرفا فيما إذا بيع العوضان من المكيل بالتساوي وزنا.

فالأوجه في وجه الصحّة ما ذكرنا من أنّ المراد بقوله عليه‌السلام « مثلا بمثل » أو « رأسا برأس » أو غيرهما من العناوين التي ذكرناها هو عدم زيادة أحد العوضين على الآخر ، حيث أنّ هذا هو المناط في باب الربا ثبوتا وعدما ، فبثبوتها يثبت الربا وبعدمها يرتفع. ولا شكّ في أنّ التساوي بحسب الوزن أدلّ على عدم تحقّق الزيادة والنقصان من التساوي بحسب الكيل حتّى فيما يكال عند العرف.

__________________

(١) « مسالك الأفهام » ج ٣ ، ص ٣١٧.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٣ ، ص ٣٧٤.

١٤٥

وأمّا الثالث : أي فيما إذا كان أحد العوضين من المكيل والآخر من الموزون ، كالحنطة مع الدقيق ، بناء على أنّ الحنطة من الموزون والدقيق من المكيل ، فبناء على ما ذكرنا من صحّة بيع المكيل بالوزن جواز بيعهما متساويا بالوزن ؛ لما ذكرنا من أنّ الوزن أضبط وأدلّ في معرفة عدم الزيادة والنقصان الذي هو المناط في جواز بيع المتجانسين أحدهما بالآخر وزنا بوزن ومثلا بمثل ، وأمّا كيلا فلا يخلو من إشكال.

وأمّا قياس بيعهما من حيث لزوم الربا على بيعهما من حيث الغرر ، بأن يقال : إنّه كما يرتفع الغرر بكلّ واحد من الكيل والوزن ، فكذلك التساوي يحصل بكلّ واحد من الكيل والوزن.

ففي غير محلّه ؛ وذلك من جهة اختلاف الموضوع في المسألتين. فالموضوع في جواز البيع في باب الغرر هو ارتفاع الغرر والجهالة وعدم كونه جزافا ، والموضوع في باب الربا هو كون العوضين في متّحدي الجنسين أو ما كان في حكم متّحدي الجنسين متساويين بلا زيادة ولا نقصان ، فيمكن القول بارتفاع الغرر بكلّ واحد من الكيل والوزن. وأمّا التساوي وكونهما مثلا بمثل لا يتحقّق في الموزون إلاّ بالوزن ، وفي المكيل إلاّ بالكيل ، وفيما كان أحدهما مكيلا والآخر موزونا لا يحصل بكل واحد منهما.

فلا بدّ من علاج آخر لتصحيح بيعهما ، وهو أن يبيع كلّ واحد منهما بما هو من سنخه ، فالمكيل بالمكيل كيلا والموزون بالموزون وزنا ، أو يباع كلّ واحد منهما بغير جنسه كي يخرج عن موضوع الربا.

المسألة الخامسة : إذا كان البيع في شي‌ء مختلفا بحسب الحالات ، فيباع في حال بمشاهدة وفي حال بالوزن. وذلك كما في بيع الأثمار ، فما دام الثمر على الشجر يباع بالمشاهدة ، ولكن بعد الانفصال يباع وزنا أو كيلا مثل التمر والعنب وغيرهما ، فالظاهر أنّه في كلّ حال يلحقه حكم ذلك الحال ، فإذا بيع أو صولح عليه في حال كونه على الشجر لا يدخل فيه الربا ؛ لعدم كونه مكيلا أو موزونا. وأمّا بعد الانفصال يدخل فيه ؛

١٤٦

لتحقّق موضوعه ، وهو كونه مكيلا أو موزونا.

هذا فيما إذا كان الاختلاف بحسب الأحوال. أمّا فيما إذا كان الاختلاف بحسب نوع المعاملة ، فما إذا بيع لا يباع إلاّ مكيلا أو موزونا ، وأمّا الصلح فيقع عليه بالمشاهدة كما إذا قلنا بصحّة الصلح على صبرة من الحنطة أو الشعير من دون أن يكال أو يوزن ، فالظاهر دخول الربا حتّى في ذلك النوع الذي لا يكال ولا يوزن ، بل يكفي المشاهدة في صحّة وقوع الصلح عليه.

فلو أراد أن يصالح على صبرة من الحنطة أو الشعير أو غيرهما بصبرة أخرى من جنسه ، فلا بدّ وأن يكونا متساويين ، وإلاّ يكون من الربا المحرّم ؛ لتحقّق موضوعه ، وهو نقل أحد متّحدي الجنسين بعوض الآخر إلى الآخر ، مع أنّهما من المكيل أو الموزون بدون أن يكونا متساويين ومثلا بمثل.

المسألة السادسة : إذا كان شي‌ء يباع بكلّ من الوزن والعدّ ، فإذا كان باختلاف الأزمنة أو الأمكنة : مثلا يباع في بلد أو زمان بالوزن ، وفي بلد أو زمان آخر بالعدّ ، ففي كلّ زمان أو مكان يلحقه حكم ذلك الزمان أو ذلك المكان.

والوجه واضح.

وأمّا لو كان في زمان واحد أو مكان كذلك ، يختلف بحسب اشخاص المعاملات ، فقد يكون بيعه بالعدّ ، وقد يكون بالوزن ، فإن كان الغالب هو الوزن بحيث يصدق عند العرف أنّه موزون ، فيدخل فيه الربا ؛ لشمول الإطلاقات له ، للزوم حملها على المعنى العرفيّ ، وكذلك الأمر لو كان الغالب هو العدّ. وأمّا لو لم تكن غلبة في البين وصار موردا للشكّ ، فيمكن أن يقال إذا بيع بالوزن فيدخل فيه الربا ، وإن بيع بالعدّ فلا.

ولكن التحقيق : أنّ موضوع الحرمة وفساد المعاملة هو كون العوضين المتفاضلين المتّحدي الجنسين من المكيل أو الموزون ، فلا بدّ من إحراز الموضوع لإثبات هذا الحكم ، وإلاّ فمع الشكّ في كونه مكيلا أو موزونا فلا يثبت ، نعم التمسّك بإطلاقات أدلّة‌

١٤٧

صحّة البيع وغيره من المعاملات لصحّة مثل هذه المعاملة يكون من التمسّك بعموم العام أو إطلاق المطلق في الشبهات المصداقيّة ، فالأحوط مراعاة التساوي كيلا أو وزنا في مثل هذه المعاملة إذا كان العوضان من متّحدي الجنسين.

المسألة السابعة : الأوراق الماليّة المتعارفية الآن في الأسواق التي عليها مدار المعاملات من أيّ قسم كانت ، وبأيّ اسم سمّيت ، دينارا أو اسكناسا أو نوطا أو ريالا أو ليرة أو غير ذلك ، حيث أنّها ليست من المكيل ولا الموزون ، فلا يدخل فيها الربا ، وليست معرّفا وأمارة على مقدار من الذهب المسكوك أو الفضّة المسكوكة ، وإن كانت في بعض الأزمنة السابقة كذلك ـ بل هي بنفسها تكون أموالا بواسطة اعتبارها من الذين بيدهم الاعتبار ـ فلا يجرى عليها أحكام النقدين من لزوم القبض في المجلس إذا وقعت المعاملة بينها بعضها ببعض ، ولا زكاة فيها ، ولا يدخل فيها الربا.

المسألة الثامنة : إذا لم يكن الشي‌ء من المكيل ولا من الموزون ، فيجوز أن يبيع شاة بشاتين ، أو يبيع شاة ليس في بطنها شي‌ء بالشاة التي حامل وفي بطنها شي‌ء ، أو الشاة التي في ضرعها حليب بالتي ليس في ضرعها حليب ، كما أنّه يجوز بيعها بنفس الحليب ، والبعير بالبعيرين ، والثوب بالثوبين وإن كانا من جنس واحد.

وكذلك يجوز بيع دجاجة فيها بيضة بدجاجة كذلك أو خالية عنها ، كما يجوز بيعها بنفس البيضة ، ويجوز بيع نخلة فيها ثمرة بالتي ليست فيها ثمرة ، وأيضا بنفس الثمرة ، وكتاب بكتابين ، وفرش بفرشين ، وجميع ما ذكرناه وما لم نذكره من هذا القبيل من بيع واحد باثنين أو أكثر لا مانع فيه ؛ من أجل عدم كونه مكيلا أو موزونا كي يدخل فيه الربا.

المسألة التاسعة : لو كان جنس بعضه جيّد وبعضه ردي‌ء ، مثلا كان وزنة من الأرز نصفه من العنبر الغالي قيمته وهو لشخص ، ونصفه الآخر من صنف آخر رخيص ، وكان هذا النصف لشخص آخر ، فالمالكان باعا المجموع بوزنة من النصف‌

١٤٨

الجيّد ، فإن تبانيا على أن يكون عوض مالهما لكلّ واحد منهما بمقدار نفس ماله فلا إشكال ؛ إذ لا يكون رباء في البين. وأمّا لو تبانيا على أن يكون عوض مالهما لكلّ منهما بنسبة قيمة ماله إلى الثمن ، كما لو تباينا على أن يكون ثلثي الثمن لمالك النصف الجيّد ، والثلث الباقي لمالك النصف الرديّ فالمعاملة باطلة قطعا ؛ لكونها رباء.

وأمّا لو أطلقا ولم يكن تبان بينهما ، فربما يتولّد إشكال في البين ، وهو أنّ كلّ واحد من المالكين للمبيع يملك من الثمن بنسبة قيمة ماله ، لا بنسبة مقداره وكمّه ، فإذا كان قيمة النصف الجيّد ضعف قيمة النصف الرديّ ، فيملك مالك النصف الجيّد ثلثي الثمن ، ومالك النصف الرديّ ثلثا من تلك الوزنة التي هي ثمن للنصفين ، فتكون المعاملة باطلة ؛ لكونها رباء ، فيكون الإطلاق كالتصريح بأن يكون ثلثي الثمن لمالك النصف الجيّد الذي قلنا فيه ببطلان المعاملة ، لكونها رباء.

اللهمّ إلاّ أن يقال : بأنّ ظاهر بيع مجموع النصفين بالوزنة الجيّدة هو اشتراكهما في الثمن بالسويّة من حيث المقدار ، وبعبارة أخرى : حيث أنّ كلّ واحد منهما مالك لنصف المبيع ، فبواسطة البيع يصير مالكا لنصف الثمن.

ولكن فيه : أنّه لو فرضنا أنّ الثمن في نفس المفروض ليس من جنس المثمن ، فبناء المعاملات على أنّ كلّ واحد من المالكين لنصف مقدار المبيع يملك من الثمن بنسبة قيمة ما يملكه من المبيع ، لا بنسبة مقداره ؛ ولذلك ترى في باب تبعّض الصفقة لو باع شخص وزنتين من الحنطة إحداهما جيّدة وأخرى رديئة ـ وفرضنا أنّ قيمة الجيّدة ضعف الرديئة ـ بستّة دنانير ، فظهر أنّ الجيّدة ملك لغير البائع ، ولم يجز المعاملة صاحب الجيّدة ، فلا يملك مالك الرديئة إلاّ دينارين من الثمن ، ويستردّ الأربعة منه إنّ كان قبض الكلّ.

فالإنصاف : أنّ المعاملة المفروضة في هذه المسألة في صورة الإطلاق كالصورة التي يصرح مالك الجيّدة بأن يكون له من الثمن أزيد من النصف باطلة ؛ لكونها رباء ،

١٤٩

وذلك لأجل أنّ المعاملة في المفروض وفي أمثاله وفي باب تبعّض الصفقة تنحلّ إلى معاملتين ، وفي كلّ واحد منهما المبيع غير المبيع في الآخر ، فلكلّ واحد منهما من الثمن ما يقابل قيمته لا كمّيته.

هذا كلّه فيما إذا لم يحصل الاشتراك في المبيع بين النصفين بواسطة الاختلاط أو الامتزاج ، وإلاّ فإذا حصل الاشتراك في المبيع قبل البيع بواسطة الاختلاط ، فبناء على ما هو الصحيح من كون الاشتراك بنسبة ماليّة المختلفين لا بنسبة كمّيهما ، فلا يبقى إشكال في البين ، ولا يأتي الربا في البيع المذكور ؛ لأنّه بناء على هذا مالك النصف الجيّد من المبيع يملك ثلثي المبيع بواسطة اختلاط ماله الجيّد مع المال الرديّ الذي لشريكه ، فكون ثلثي الثمن له في المفروض يكون على القاعدة.

نعم يأتي كلام في نفس الاشتراك بنسبة ماليّة ماليهما لا كمّيهما ، وأنّه بناء على على أن يكون الاشتراك معاوضة ، وبناء على إتيان الربا في جميع المعاوضات حتّى المعاوضات القهريّة ، فيكون للاشتراك بالنحو المذكور ربا مردوعا من قبل الشارع ، فلا بدّ من القول بعدم كون نتيجة الاشتراك بين المالين الجيّد والرديّ إذا كانا من جنس واحد أو إذا كانا في حكم جنس واحد هو الاشتراك بنسبة ماليّة المالين وقيمتهما.

وعلى كلّ حال محلّ هذا البحث ليس هاهنا ، وموكول إلى كتاب الشركة.

المسألة العاشرة : الظاهر أنّ المعاملة الربويّة حرام وفاسدة بتمامها ، فلا يملك البائع ـ مثلا ـ شيئا من الثمن ، ولا المشتري شيئا من الثمن ؛ لا أنّ الحرمة أو الفساد مخصوص بالمقدار الزائد على أحد العوضين.

وذلك لوجوه :

الأوّل : أنّ ظاهر قوله تعالى ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (١) تقسيم المعاملات على قسمين في متّحدي الجنسين : أحدهما أن لا تكون لأحد العوضين زيادة على‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

١٥٠

الآخر وهو حلال وصحيح ، الثاني أن تكون المعاملة مشتملة على زيادة في أحدهما جزءا أو شرطا وهو حرام وباطل. ومعلوم أنّ المعاملة إذا كانت فاسدة فلا ينتقل شي‌ء من العوضين إلى صاحب العوض الآخر ، بل يبقى كلّ واحد منهما بتمامه في ملك من كان له قبل وقوع هذه المعاملة الفاسدة. وهكذا فسّر الآية الشريفة في مجمع البيان وقال : أي أحلّ الله البيع الذي لا رباء فيه ، وحرّم البيع الذي فيه الربا (١).

الثاني : ما قرّرنا وأثبتنا في إحدى قواعد هذا الكتاب أنّ العقود تابعة للقصود ، إذ لا شكّ في أنّ المتعاملين قصدا انتقال العوض المشتمل على الزيادة جزءا أو شرطا إلى الطرف المقابل بعوض ما ينتقل منه إليه ، فلو قيل : إنّ ما انتقل اليه هو العوض بدون تلك الزيادة ، فما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد ، ويخالف هذا تبعيّة العقود للقصود.

ولا يأتي ها هنا ما يقال في باب تبعّض الصّفقة ، من جهة أنّه هناك يمكن القول ـ بل لا بدّ منه ـ بأنّ العقد الواحد ينحلّ إلى عقدين كلاهما مقصودان ، غاية الأمر أنّ شرائط الصحة في أحدهما موجودة دون الآخر ، وأمّا في المقام القول بالانحلال لا معنى له ؛ إذ ليس في مقابل الزيادة شي‌ء كي يقال إنّه عقد آخر.

الثالث : الأخبار ، فإنّ ظاهرها بطلان المعاملة الربويّة وفسادها ، لا عدم انتقال الزائد فقط إلى صاحب العوض الآخر.

منها : قوله عليه‌السلام : « لا يصلح التمر اليابس بالرطب ، من أجل أنّ التمر يابس والرطب رطب ، فإذا يبس نقص » (٢).

وقوله عليه‌السلام وقد سئل عن العنب بالزبيب؟ قال : « لا يصلح إلاّ مثلا بمثل ». (٣)

__________________

(١) « مجمع البيان » ج ١ ، ص ٣٨٩.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٩ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ١٢ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٤ ، ح ٣٩٨ ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح ٤ ؛ « الاستبصار » ج ٣ ، ص ٩٣ ، ح ٣١٤ ، باب بيع الرطب بالتمر ، ح ٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٥ ، أبواب الربا ، باب ١٤ ، ح ١.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٩٠ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ١٦ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٧ ، ح ٤١٧ ،

١٥١

وبهذا المضمون أخبار كثيرة ، ولا شكّ أنّ ظاهر هذه الأخبار بطلان المعاملة المشتملة على تلك الزيادة للنقص الحاصل فيما بعد.

ومنها : ما قاله الصادق عليه‌السلام في رواية سيف التّمار : « إنّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كان يكره أن يستبدل وسقا من تمر المدينة بوسقين من تمر خيبر ، لأنّ تمر المدينة أدونهما ولم يكن عليّ يكره الحلال » (١).

ومعلوم أنّ ظاهر هذه الرواية أنّ نفس المعاملة ليست بحلال وفاسد ، لا الزيادة فقط.

ومنها : رواية سعد بن طريف عن أبي جعفر عليه‌السلام قال عليه‌السلام : « أخبث المكاسب كسب الربا » (٢).

فجعل عليه‌السلام المعاملة المشتملة على الزيادة من أخبث المكاسب ، ومعلوم أنّ خبث الكسب ظاهر في فساده وحرمته ، أي نفس المعاملة لا خصوص الزيادة.

ومنها : قوله عليه‌السلام في رواية حمّاد ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « الزائد والمستزيد في النار » (٣).

وظاهر هذا الكلام أنّ كون الزائد والمستزيد ـ أي المتعاملين في النار يكون لأجل معاملتهم ، فتكون تكوّن المعاملة التي تكون سببا لدخول النار حراما وفاسدا.

وهناك روايات أخر كثيرة لا يشكّ المتأمّل فيها في دلالتها على حرمة المعاملة‌

__________________

بيع الواحد بالاثنين ... ، ح ١ ؛ «الاستبصار» ج ٣ ، ص٩٢ ، ح ٣١٣ ، باب بيع الرطب بالتمر ، ح ١ «وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٥ ، أبواب الربا،باب ١٤ ح ٣.

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٨٨ ، باب المعاوضة في الطعام ، ح ٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٤٧ ، أبواب الربا ، باب ١٥ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٧ ، باب الربا ، ح ١٢ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٢٣ ، أبواب الربا ، باب ١ ، ح ٢.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ٩٨ ، ح ٤١٩ ، باب بيع الواحد بالاثنين ... ، ح ٢٥ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٥٦ ، أبواب الصرف ، باب ١ ، ح ١.

١٥٢

الربويّة لا الزيادة فقط ، وبناء على هذا يكون أصل المعاملة فاسدة ، ويكون ما يقبضه البائع فيها من الثمن ، وكذلك المشتري من المثمن من قبيل المقبوض بالعقد الفاسد ، فيجب ردّه إلى مالكه مع بقائه ، ومع تلفه يضمن القابض. نعم مع علم المعطي بفساد المعاملة يمكن أن يقال هو الذي أقدم على إتلاف ماله وهتك احترامه ، فلا يضمن القابض.

ثمَّ إنّ ما ذكرنا في وجوب ردّ ما قبض في المعاملة الربويّة هو فيما إذا كان القابض عالما بالحكم والموضوع ، وأمّا إذا كان جاهلا بهما أو بأحدهما فسيأتي الكلام فيها.

ولا فرق فيما ذكرنا من بطلان المعاملة الربويّة بين أن تكون الزيادة جزء أو شرطا.

وما توهّم من أنّها لو كانت شرطا فيكون البطلان مبتنيا على أنّ الشرط الفاسد مفسد للعقد ، وأمّا إذا لم نقل بأنّ الشرط الفاسد مفسد فلا وجه للقول ببطلان المعاملة.

لا أساس له ، أمّا لو كان مدرك البطلان هي الآية أو الأخبار ، فقد تقدّم أنّ مفادهما هو بطلان البيع الربوي أو مطلق المعاوضات الربويّة ، سواء كان منشأ كونها ربويّة هو زيادة الجزء أو الشرط.

وأمّا لو كان المنشأ هو قاعدة تبعيّة العقود للقصود ، فلا شكّ أنّ قصد المتعاملين متعلّق بالمبادلة بين العوضين أي متّحدي الجنسين مشروطا بذلك الشرط. وبعبارة أخرى : المبادلة بين العوضين مع الشرط من قبيل بشرط شي‌ء ، فالمبادلة بين نفس العوضين ليس مقصودا أصلا ؛ لأنّ النسبة بين العوضين من دون الشرط وبينهما مع الشرط نسبة المتباينين ؛ إذ هي من قبيل نسبة بشرط لا إلى بشرط شي‌ء ، وهما متباينان.

ولا يقاس ما نحن فيه بمسألة خيار تخلّف الشرط ؛ لأنّه هناك المبيع شخص خارجي قصد نقله إلى المشتري غاية ، إلاّ أنّه التزم بكونه متّصفا بصفة كذا ، وهذا‌

١٥٣

التزام آخر غير قصد كونه مبيعا ومنقولا إلى الغير ، فتخلّف الشرط أو الوصف هناك لا يوجب عدم قصد نقل ذلك الموجود الخارجي.

نعم لو كان المبيع أمرا كليّا موصوفا بوصف ، فذات ذلك الكلّي ليس مقصودا ووصفه مقصودا آخر. وبعبارة أخرى : ليس من قبيل الالتزام في الالتزام ، فلو تعذّر الوصف يمكن القول بعدم إتيان خيار تخلّف الوصف أو الشرط ، بل تنفسخ المعاملة ويكون من قبيل تعذّر نفس المبيع.

فبناء على هذا في صورة كون الزيادة شرطا ، يمكن أن يقال بأنّ ما قصد لم يقع للمنع الشرعي ، وما وقع ـ أي انتقال العوضين بدون الشرط ـ لم يكن مقصودا.

والفرق بين المقام وبين مورد خيار تخلّف الوصف والشرط ، هو أنّه حيث أنّ المعاملة وقعت هناك على العين الشخصيّة ، فالقصد تعلّق بنقلها على كلّ حال ، أي سواء وجد الوصف أو الشرط أو لم يوجد ؛ لأنّ العين الخارجيّة لا تتغيّر عمّا هي عليه بوجود الوصف والشرط وعدم وجودهما. وأمّا في المقام فالقصد تعلّق بمبادلة شي‌ء بمقداره من جنسه مشروطا بشرط ، فإذا لم يوجد الشرط فما هو المقصود لم يقع.

نعم ها هنا أيضا لو وقعت المعاوضة بين العينين الشخصيّتين المتّحدتين في الجنس والمقدار ، وكانت المعاوضة مشروطة بشرط غير جائز شرعا ولو من جهة كونه رباء ، فبطلان مثل هذه المعاملة لا بدّ وأن يكون مستندا إلى دليل آخر غير تبعية العقود للقصود ، وهو كما تقدّم الآية والأخبار.

المسألة الحادية عشر : في أنّه بعد الفراغ عن بطلان المعاملة الربوية وفسادها ، هل هو فيما إذا ارتكب متعمّدا مع العلم بالحكم والموضوع ، أم لا بل يكون مطلقا باطلا ، وإن كان جاهلا بالحكم أو الموضوع ، بل وبهما؟

والفرق بين القولين واضح ،

ففي الصورة الأولى لو أخذ الربا جهلا بالحكم أو الموضوع أو بكليهما ، فيكون‌

١٥٤

الزائد ما له ولا يجب ردّه بالخصوص أو جميع العوض المأخوذ إلى صاحبه ؛ لعدم علمه بأنّه رباء أو أنّه حرام وإن كان يعلم بأنّه رباء.

وهذا بخلاف الصورة الثانية ، فإنّه يجب عليه الردّ مطلقا ، وإن كان جاهلا بأحدهما أو بكليهما.

وفي المسألة أقوال :

قول بعدم وجوب الردّ مطلقا أي سواء كان جاهلا بالحكم أو الموضوع أو بهما ، فلا يجب ردّ الزائد أو الجميع مطلقا وفي جميع الصور التي للجهل.

وهذا القول منقول عن الصدوق والشيخ (١) والشهيد (٢) والأردبيلي (٣) والحدائق (٤) والرياض.

وقول بوجوب الردّ وبطلان المعاملة مطلقا ، وأنّه لا فرق بين صور الجهل حكما أو موضوعا مع العلم ، فحال الجاهل حال العالم.

وقول بالتفصيل بين كون ما أخذ رباء موجودا ومعلوما ، وصاحبه الذي أخذ منه أيضا كذلك موجودا ومعروفا ، وبين ما لا يكون كذلك بأن يكون ما أخذه رباء تالفا إن كان مخلوطا أو ممتزجا غير معلوم ، أو كان صاحبه الذي أخذ منه غير موجود أو غير معروف ومعلوم ، فيجب الردّ في الأوّل ، ولا يجب في الثاني.

والقول الأوّل أي عدم وجوب الردّ مطلقا إمّا لصحّة المعاملة الربويّة حال الجهل بالحكم أو الموضوع أو الجهل بكليهما ، كما هو ظاهر كلام القائلين بهذا القول ؛ وإمّا تعبدا للآية والرواية مع بطلان المعاملة وفسادها. وذهب إلى هذا القول صاحب‌

__________________

(١) « النهاية » ص ٣٧٦.

(٢) « الدروس » ج ٣ ، ص ٢٩٩.

(٣) « مجمع الفائدة والبرهان » ج ٨ ، ص ٤٨٩.

(٤) « الحدائق الناضرة » ج ٢٠ ، ص ٢٢٠.

١٥٥

الحدائق (١) ، وهو عجيب.

وحكى احتمال التفصيل بين الجاهل بالحكم والجاهل بالموضوع ، وأيضا بين الجاهل بأصل الحكم وبين الجاهل بالخصوصيّات.

والأقوى من هذه الأقوال هو التفصيل بين ما كان المأخوذ رباء معزولا موجودا يعرفه من دون خلطه أو امتزاجه بسائر أمواله ، خصوصا إذا كان صاحبه موجودا ويعرفه ، فيجب ردّه عليه ، وبين ما ليس كذلك ، فلا يجب ردّه وحلال أكله.

ومدرك هذا التفصيل هو صحيح الحلبي وما رواه أبو الرّبيع الشامي ، وإلاّ فمقتضى القواعد الأوّلية وأدلّة حرمة الربا وبطلان المعاملة الربويّة وجوب ردّ جميع ما أخذه عوض ماله في المعاملة الربويّة ؛ لأنّه مقبوض بالعقد الباطل الفاسد ، ولم ينتقل إليه شي‌ء بذلك العقد.

فيده على ما قبض يد عادية يجب ردّه إلى مالكه إنّ لم يكن تالفا وكان موجودا وان تلف فهو ضامن ؛ لأنّ يده يد ضمان ، إلاّ أن يكون هو أقدم على إتلافه وهتك احترام ماله بواسطة علمه بالفساد. وإن لم يعرف المالك يكون من قبيل مجهول المالك ، يجب التصدّق عنه بإذن الحاكم.

وخلاصة الكلام : أنّ ما قبضه من الطرف في المعاملة الربويّة يكون من المقبوض بالعقد الفاسد ، وهو يجري مجرى الغصب ، فيكون القابض ضامنا. وادّعى الشيخ وفقيه عصره كاشف الغطاء ـ قدس سرّهما ـ الإجماع على ضمان القابض (٢) وقال ابن إدريس : إنّ البيع الفاسد يجري عند المحصّلين مجرى الغصب في الضمان (٣).

هذا حسب القواعد ، وأمّا مقتضى الروايات الواردة في الباب هو التفصيل الذي‌

__________________

(١) « الحدائق الناضرة » ج ٢٠ ، ص ٢٢٠.

(٢) « المكاسب » ص ١٠١.

(٣) « السرائر » ج ٢ ، ص ٣٢٦.

١٥٦

ذكرناه.

منها : ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يأكل الربا وهو يرى أنّه له حلال؟ قال : « لا يضرّه حتّى يصيبه متعمّدا ، فإذا أصابه فهو بالمنزل الذي قال الله عزّ وجل » (١).

ومنها : ما رواه الوشاء عن أبي المغراء قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « كلّ ربا أكله الناس بجهالة ثمَّ تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة. وقال : لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا وقد عرف أنّ في ذلك المال ربا ولكن قد اختلط في التجارة بغير حلال كان حلالا طيبا فليأكله ، وإن عرف منه شيئا أنّه ربا فليأخذ رأس ماله وليردّ الربا ، وأيّما رجل أفاد مالا كثيرا قد أكثر فيه من الربا ، فجهل ذلك ثمَّ عرفه بعد ، فأراد أن ينزعه فما مضى فله ويدعه فيما يستأنف » (٢).

ومنها : ما عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حمّاد ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أتى رجل أبي فقال : إنّي ورثت مالا وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربي ، وقد عرف أنّ فيه ربا واستيقن ذلك وليس يطلب لي حلاله لحال علمي فيه ، وقد سألت فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا :

لا يحلّ أكله؟

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « إن كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفا ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطا فكله هنيئا فإنّ المال مالك ، واجتنب ما كان يصنع صاحبه ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وضع ما مضى من الربا وحرّم عليهم ما بقي ، فمن جهل وسع له جهله حتّى يعرفه ، فإذا عرف تحريمه حرّم عليه ووجب عليه فيه العقوبة إذا ركبه كما يجب على من يأكل الربا » (٣).

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٤ ، باب الربا ، ج ٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٠ ، أبواب الربا ، باب ٥ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٥ ، باب الربا ، ح ٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣١ ، أبواب الربا ، باب ٥ ، ح ٢.

(٣) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٥ ، باب الربا ، ح ٥ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢٠ ، ص ٤٣١ ، أبواب الربا ، باب ٥ ، ح ٣.

١٥٧

ومنها : ما رواه أبو الرّبيع الشامي قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أربى بجهالة ثمَّ أراد أن يتركه؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أمّا ما مضى فله ، فليتركه فيما يستقبل. ثمَّ قال : إنّ رجلا أتى أبا جعفر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنّي ورثت مالا » وذكر الحديث نحوه (١).

ومنها : ما رواه محمّد بن مسلم قال : دخل رجل على أبي جعفر عليه‌السلام من أهل خراسان قد عمل الربا حتّى كثر ماله ، ثمَّ إنّه سأل الفقهاء فقالوا : ليس يقبل منك شي‌ء إلاّ أن تردّه إلى أصحابه ، فجاء إلى أبي جعفر عليه‌السلام فقصّ عليه قصّته ، فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : « مخرجك من كتاب الله ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ) (٢) والموعظة التوبة » (٣).

ومنها : ما رواه الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنّ الوليد ابن المغيرة كان يربي في الجاهليّة وقد بقي له بقايا على ثقيف وأراد خالد بن الوليد المطالبة بعد أن أسلم فنزلت ( اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) الآيات » (٤).

ومنها : ما رواه عليّ بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن رجل أكل ربا لا يرى إلاّ أنّه حلال؟ قال عليه‌السلام : « لا يضرّه حتّى يصيبه متعمّدا فهو ربا » (٥).

ومنها : ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره عن أبيه قال : إنّ رجلا أربى دهرا من الدّهر فخرج قاصدا أبا جعفر الجواد عليه‌السلام فقال له : « مخرجك من كتاب الله يقول الله ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) والموعظة هي التوبة ، فجهله بتحريمه ثمَّ معرفته به. فما مضى فحلال وما بقي فليستحفظ » (٦).

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ١٤٦ ، باب الربا ، ح ٩ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٢ ، أبواب الربا ، باب ٥ ، ح ٤.

(٢) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٧ ، ص ١٥ ، باب فضل التجارة وآدابها ، ح ٦٨ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٠ ، أبواب الربا ، باب ٥ ، ح ١.

(٤) « مجمع البيان » ج ١ ، ص ٣٩٢ ، والآية في سورة البقرة (٢) : ٢٧٨.

(٥) « مسائل علي بن جعفر » ص ١٤٧ ، ح ١٨٠ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٣ ، أبواب الربا ، باب ٥ ، ح ٩.

(٦) « نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى » ص ١٦١ ، ح ٤١٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٣ ، أبواب الربا ، باب ٥ ، ح ١٠.

١٥٨

وأيضا : عن أبيه قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن ، ومن أكله جاهلا بتحريمه [ بتحريم الله ] لم يكن عليه شي‌ء » (١).

وبعد التأمّل في هذه الأخبار وردّ بعضها إلى بعض تكون ظاهرة فيما اخترنا من التفصيل.

بيان ذلك : إنّ بعض هذه الروايات وإن كانت تدلّ على العفو عمّا مضى وعدم وجوب غرامته عليه بعد التوبة مطلقا أو فيما إذا كان المرتكب حين ارتكابه جاهلا بتحريمه ، سواء كانت عين المال الربوي موجودة أو ليست بموجودة وكانت تالفة ، وسواء كان مشخصا معزولا أو كان مشاعا مخلوطا.

ولكن قوله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي « إن كنت تعلم بأنّ فيه مالا معروفا ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك وردّ ما سوى ذلك ، وإن كان مختلطا فكله هنيئا فإنّ المال مالك » يقيّد المطلقات بما إذا كان المال الربوي موجودا معروفا معزولا وتعرف صاحبه ، ففي هذه الصورة ليس مشمولا لحكم المطلقات من حلّية أكله وعدم ضمان عليه ، بل يجب ردّه إلى صاحبه.

وهكذا في رواية أبي الربيع الشامي ، لأنّ سياقها عين سياق صحيحة الحلبي ؛ لأنّ فيها أيضا : « إن كنت تعرف شيئا معزولا وتعرف أهله وتعرف أنّه ربا فخذ رأس مالك ودع ما سواه » إلى آخر الحديث.

والحاصل : أنّ صحيحة الحلبي المنقولة بطرق متعدّدة فرّق بين كون المال الربوي معروفا معزولا ، وبين كونه مشاعا ومخلوطا ، ففي الأوّل حكم بوجوب الرّد وإن كان المرتكب حال ارتكابه جاهلا بالحكم أو الموضوع ، وفي الثاني حكم بجواز أكله وعدم‌

__________________

(١) « نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى » ص ١٦٢ ، ح ٤١٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٣ ، أبواب الربا ، باب ٥ ، ح ١١.

١٥٩

وجوب ردّه ، بل هناك قيد آخر ، وهو أن يعرف أهله أي من أخذ منه الربا ، أي صاحب الزيادة ومالكه. وكذلك الكلام في رواية أبي الربيع الشامي ، ولا وجه لما ذكروه من حمل الأمر على الاستحباب.

ولا شكّ في أنّ قوله عليه‌السلام ـ فيما إذا كانت عين الزيادة معلومة مشخّصة معزولة مع أنّها ملك الغير يقينا ـ « خذ رأس مالك ودع ما سواء » لا مجال لحمله على الاستحباب ؛ إذ وجوب ردّ المال المعيّن المشخّص للغير مع معلوميّة ذلك الغير أمر عقلي ، فمع كون الأمر من طرف الشارع بردّه والقول بكون الأمر ظاهرا في الوجوب حمل الأمر على الاستحباب لا يخلو من غرابة.

فالأقوى هو التفصيل الذي ذكرناه ، بل الأحوط معاملة مجهول المالك معه إذا لم يعرف صاحبه ، خصوصا إذا كان المال معلوما ومعزولا ولا يكون مختلطا ومشاعا.

هذا مفاد الأخبار في المقام.

وأمّا الآية أي قوله تعالى ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) (١).

فمع قطع النظر عن استشهاد الإمام عليه‌السلام بها وتطبيقها على موارد مذكورة في الروايات المتقدّمة ، ففيها احتمالات :

الأوّل : لو تاب المرتكب للربا عنه بعد ارتكابه مدّة من الزمن ، سواء كان عالما بتحريمه أم لا ، ثمَّ عرف فتاب بناء على أن تكون الموعظة بمعنى التوبة كما أنّها فسر بها في بعض الأخبار (٢) فله ما سلف ، أي الأموال التي أخذها رباء قبل أن يتوب يكون له وحلال له ولا يجب ردّه إلى صاحبه ، وإن كان المال معلوما معزولا وصاحبه الذي‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٢) « مجمع البيان » ج ١ ، ص ٣٩٢ ؛ « تفسير العيّاشي » ج ١ ، ص ١٥٢ ، ح ١٥٦ ؛ « مسائل على بن جعفر » ص ١٤٧ ، ح ١٨٠ ؛ « نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى » ص ١٦١ ، ح ٤١٣ و ٤١٤ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٤٣٣ ، أبواب الربا ، باب ٥ ، ح ٧ ، ١٠ و ١٢.

١٦٠