القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

الحبل بعد تسعة أشهر ، قال عليه‌السلام : « إنّما الحبل تسعة أشهر ». قلت : تتزوّج؟ قال عليه‌السلام :

« تحتاط بثلاثة أشهر ». قلت : فإنّها ادّعت بعد ثلاثة أشهر ، قال عليه‌السلام : « لا ريبة عليها تزوّجت إن شاءت » (١).

وهذه الرواية لها ظهور جليّ في أنّ من تدّعي الحبل بعد مضيّ تسعة أشهر من طلاقها أيضا يجب عليها أن تحتاط بثلاثة أشهر إن ادّعت بقاء الحبل بعد ذلك أيضا ، وهذا مرجعه إلى أنّ احتمال بقاء الحمل إلى سنة موجود ، ويجب ترتيب الأثر بعدم جواز التزويج قبل انقضاء السنة.

ومنها : خبر عبد الرحمن بن الحجّاج ، قال : سمعت أبا إبراهيم عليه‌السلام يقول : « إذا طلّق الرجل امرأته فادّعت حبلا ، انتظر بها تسعة أشهر ، فإن ولدت وإلاّ اعتدّت بثلاثة أشهر ، ثمَّ قد بانت منه » (٢).

ومنها : خبر أبان عن ابن حكيم ، عن أبي إبراهيم عليه‌السلام أو ابنه عليهما‌السلام قال عليه‌السلام في المطلّقة يطلّقها زوجها ، فتقول : أنا حبلى ، فتمكث سنة ، فقال عليه‌السلام : « إن جاءت به لأكثر من سنة لم تصدق ، ولو ساعة واحدة في دعواها » (٣).

فمن هذه الروايات يستكشف أنّ الشارع لم يلغ احتمال كونها أكثر من تسعة إلى السنة وإن كان نادرا.

نعم يستظهر منها أنّ احتمال الزائد على السنة ملغى في نظره ، ولذلك أجمعت‌

__________________

(١) « مسالك الأفهام » ج ١ ، ص ٤٠٨ ، في أحكام الأولاد ، « الكافي » ج ٦ ، ص ١٠١ ، باب المسترابة بالحمل ، ح ٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ١٢٩ ، ح ٤٤٥ ، في عدد النساء ، ح ٤٤.

(٢) « مسالك الأفهام » ج ١ ، ص ٤٠٨ ، في أحكام الأولاد ، « الكافي » ج ٦ ، ص ١٠١ ، باب المسترابة بالحمل ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ١٢٩ ، ح ٤٤٤ ، في عدد النساء ، ح ٤٣.

(٣) « مسالك الأفهام » ج ١ ، ص ٤٠٨ ، في أحكام الأولاد ، « الكافي » ج ٦ ، ص ١٠١ ، باب المسترابة بالحمل ، ح ٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ١٢٩ ، ح ٤٤٦ ، في عدد النساء ح ٤٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ٤٤٢ ، أبواب العدد ، باب ٢٥ ، ح ٣.

٤١

الإماميّة الاثنتي عشريّة على نفي الزائد عنها ، ولم يقل به أحد ، وقلنا إنّ صاحب الجواهر وجّه إجماع المرتضى ـ قدس‌سره ـ بأنّ مراده نفي الزائد على السنة ، وقلنا : إنّه حسن.

أقول : لا شكّ في أنّ الغالب في أكثر الحمل هو تسعة أشهر كما نراه بالوجدان. نعم قد يزيد أو ينقص أيّام قلائل ، ولا شكّ في أنّ لكلّ أمر من الأمور الخارجيّة مصاديق وأفراد غالبيّة ، ومصاديق نادرة شاذّة ، وذلك كما أنّ البلوغ واليأس في المرأة أفرادها الغالبية في البلوغ يكون بإكمال تسع سنين هلاليّة ، وفي اليأس بإكمال خمسين أو ستّين ، والشارع لاحظ في الحكم بحيضيّة الدم الخارج عن المرأة الأفراد الغالبيّة إذ لم ير محذورا في ذلك ، فحكم بعدم الحيضيّة في أقلّ من تسع وأكثر من خمسين أو ستّين ، مع أنّ النساء يختلفن في ذلك قطعا حسب اختلاف امزجتهنّ ، إذ لا محذور مهمّ في عدم مراعاة الأفراد النادرة ، فأيّة مفسدة مهمّة في الحكم بحيضيّة دم ليس بحيض في الواقع ، أو بالعكس في الأفراد النادرة.

وأمّا إذا كان في عدم ملاحظة الأفراد النادرة مفاسد عظيمة ـ كما في ما نحن فيه ، لأنّ نفي النسب مع ثبوته واقعا ربما ينجرّ إلى مفاسد عظيمة ، كنكاح العمّ لبنت أخيه ، والأخ للأخت ، أو حرمان شخص عن ثروته الكثيرة ، أو عن شرف أسرته الجليلة ـ فحينئذ يجب مراعاة الأفراد النادرة. فمكث الحمل وبقاؤه في الرحم إلى السنة وإن كان في غاية القلّة والندرة ، ولكن مع ذلك مراعاته لازم لما ذكرنا ، ولذلك أمر بالاحتياط بثلاثة أشهر بعد مضيّ تسعة أشهر كما تقدّم.

والإنصاف أنّ قول المشهور وإن كان قويّا بحسب المدرك ، مضافا إلى اشتهاره بين أرباب الفتوى. ولكن مراعاة هذا الاحتياط لا ينبغي أن يترك ، لما ذكرنا من المفاسد العظيمة في تركه ، ولعلّه لذلك ذهب جماعة من أعاظم أساطين الفنّ‌

٤٢

كالمرتضى (١) والعلاّمة في المختلف (٢) والشهيد الثاني في المسالك (٣) ـ قدّس الله أسرارهم ـ إلى هذا القول ، مع ما رأوا من القوّة في مدرك القول المشهور. وقد ذهب إلى هذا القول أيضا الفقيه المتتبّع السيّد الطباطبائي اليزدي ـ قدس‌سره ـ في حواشيه على التبصرة.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فنقول :

تارة : يكون الزاني مدّعيا للفراش يدّعى الولد في مقابله ، فهذا هو القدر المتيقّن من مورد القاعدة إن كان صاحب الفراش ـ أي : الزوج دواما أو انقطاعا ، أو المالك ـ واجد للشرائط المذكورة التي كانت نتيجتها إمكان تكون ذلك الولد من مائه عادة ، وإن كان الفقهاء اشترطوا الدخول قبلا أو دبرا ، وعدم كون مدّة الحمل أقلّ من أقلّ الحمل والأكثر من أكثره ، لكن المقصود هو ما ذكرناه ، أو الحقّ ما ذكرناه وإن لم يكن مقصودا لهم.

وأخرى : يكون الواطئ بالشبهة يدّعي الولد في مقابل الفراش بالمعنى الذي ذكرنا للفراش.

وظاهر الأصحاب أنّه يقرع بينهما.

ولكن عندي في هذا تأمّل ، لأنّه بناء على ما ذكرنا من أنّ الشارع جعل الفراش أمارة لكون الولد لصاحب الفراش فيما يمكن أن يكون له تكوينا وشرعا. أمّا تكوينا فبوصول نطفة صاحب الفراش إلى رحمها ، وأمّا شرعا فبأن لا يكون حمله أقلّ من أقلّ الحمل ولا أكثر من أكثره ، فلصاحب الفراش أمارة على أنّ الولد له وهي الفراش ، فلا تصل النوبة إلى القرعة.

كما حقّقناه في قاعدة القرعة أنّها تستعمل في الشبهة الموضوعيّة التي لا يجوز فيها‌

__________________

(١) « الانتصار » ص ١٥٤.

(٢) « مختلف الشيعة » ج ٧ ، ص ٣١٦ ، المسألة : ٢٢٢.

(٣) « مسالك الأفهام » ج ١ ، ص ٤٥٨.

٤٣

الاحتياط ولا يجب ، وتكون من المعضلات والمشكلات ، ومع وجود الأمارة في بعض أطراف العلم الإجمالي ينحلّ العلم ، ولا يبقى إجمال في البين.

وبعبارة أخرى : قلنا إنّ القرعة أمارة حيث لا أمارة في البين ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ أماريّة الفراش مخصوصة بما إذا كان في قبال الزناء ، لا في قبال الوطي بالشبهة.

وهذا الاحتمال أبطلناه فيما تقدّم ، وقلنا إنّ أماريّته مطلقة ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الولد للفراش » كلام مستقلّ ، ومفاده أنّ الفراش ـ أي كون الرجل له حقّ المضاجعة في ذلك الفراش مع المرأة التي تنام فيه ، ويكون لها نحو اختصاص به ـ أمارة شرعيّة على أنّ الولد الذي ولد في ذلك الفراش ملحق بصاحب الفراش عند الشكّ ، فيكون حال الفراش حال البيّنة.

نعم الفرق هو أنّ البيّنة أمارة في جميع الموضوعات ، والفراش أمارة في خصوص إلحاق الولد بصاحب الفراش فيما أمكن الإلحاق به.

وأمّا الجملة الأخرى ، أي : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وللعاهر الحجر » فلا ربط له بالجملة الأولى ، بل ذكره لطرد المدّعي المقابل لصاحب الفراش ، لأنّ المدّعي المقابل لصاحب الفراش في مورد الحديث كان زانيا ، فطرده بهذا الكلام.

وأمّا فيما إذا لم يمكن ، كما إذا كان صاحب الفراش لم يمسّه لا قبلا ولا دبرا ، أو لم يمض من حين وطئه مدّة أقلّ الحمل ، أو تجاوز من زمان وطئه إلى الوضع أكثر مدّة الحمل ، فلا يكون الفراش أمارة ، القطع بالعدم شرعا. وفي مثل هذه الصورة يعطي الولد الواطئ بالشبهة ، لأنّه مدّع بلا معارض ، أو للقطع بأنّه منه.

وأمّا لو كان المدّعي المقابل للفراش هو أيضا صاحب الفراش ، ففيه صور أربع :

الأولى : أن لا يمكن لحوقه بالثاني وأمكن لحوقه بالأوّل ، كما إذا طلّق الأوّل زوجته وبعد انقضاء عدّتها تزوّجها الثاني ، فوضعت لأقلّ من ستّة أشهر من زمان‌

٤٤

وطئ الثاني ، ولم يتجاوز أقصى الحمل من زمان وطئ الأوّل ، فالولد ملحق بالأوّل لكونه ذا أمارة وفراش ، والثاني لا يمكن أن يكون أمارة لكونه ولدت في زمان يكون أقلّ من أقلّ الحمل ، فيستكشف بطلان نكاح الثاني لوقوعه في العدّة ، لأنّ انقضاء عدّة الأوّل بالوضع ، والمفروض أنّه تزوّجها قبل الوضع وتصير تلك المرأة محرمة على الثاني أبدا ، لأنّه وطأها في العدّة بعد العقد عليها.

الثانية : عكس الصورة الأولى ، وهو عدم إمكان لحوقه بالأوّل وإمكان لحوقه بالثاني ، كما إذا كانت الولادة بعد مضيّ أكثر الحمل من الوطي الأوّل ، ولا يكون أقلّ من أقلّ الحمل ، ولا أكثر من أكثره من حين وطئ الثاني ، ألحق بالثاني ، لعدم أماريّة فراش الأوّل ، لعدم الشكّ وعدم إمكان الإلحاق ، فيكون الفراش الثاني أمارة بلا معارض لها.

الثالثة : عدم إمكان الإلحاق بكلّ واحد منهما ، فيسقط أماريّة كليهما وينفي عنهما لما ذكرنا أنّ أماريّة الفراش في ظرف إمكان الإلحاق.

الرابعة : إمكان الإلحاق بكليهما ، فمقتضى القاعدة سقوط كليهما بالتعارض ، ولكن بناء الأصحاب على الإلحاق بالثاني ، لإحدى جهتين :

إمّا من جهة أنّ المراد من الفراش هو الفراش الفعلي ، ولا شكّ أنّ الفراش الفعلي هو الثاني ، دون الأوّل.

وفيه : أنّ لزوم الفعليّة في الفراش أمر مسلّم ، ولكن في زمان الوطي لا في زمان الوضع ، والمفروض أنّه في زمان الوطي كان كلاهما فعليّين.

وإمّا من جهة الأخبار ، وقد وردت روايات مستفيضة (١) في أنّ الولد يلحق‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ٣ ، ص ٤٧٠ ، ح ٤٦٣٩ ، باب النوادر ( من كتاب النكاح ) ح ٢٣ ، « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ١٦٨ ، ح ٥٨٤ ، في لحوق الأولاد بالآباء. ، ح ٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ١١٨ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ١٧ ، ح ١٣.

٤٥

بالفراش الثاني إن أمكن ، وإن كان لحوقه بالأوّل أيضا ممكنا.

وهو صحيح لا إشكال فيه.

وأمّا التمسّك بالإجماع مع وجود هذه الأخبار فلا وجه له ، لما ذكرنا مرارا فلا نعيد.

وقد عرفت أنّ المراد من الفراش في الحديث الشريف من له حقّ المضاجعة شرعا مع المرأة وأن يلامسها ، فالفراش كناية عن هذا الأمر ، وقد عرفت أنّ الزوج بكلا قسميه ـ الدوام والانقطاع ـ حيث أنّ له هذا الحقّ فيكون صاحب الفراش ، وكذلك مالك الجارية حيث له هذا الحقّ فيكون صاحب الفراش.

هذا ، مضافا إلى تطبيقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه القاعدة على زمعة ، وهو كان مالكا لا زوجا.

وأمّا الواطئ بالشبهة ، فليس له هذه الحقّ قطعا ، بل هو متعدّ ومتجاوز على عرض الغير ، غاية الأمر لا يعاقب لجهله ، فهو معذور بالنسبة إلى العقاب والمؤاخذة ، لا أنّ له هذا الحقّ شرعا. وجواز الوطي له حكم ظاهري ، لا أنّه واقعا له جائز ، إلاّ على القول بالتصويب الباطل ، فلا فرق بين الزاني والواطئ بالشبهة في حرمة الوطي واقعا.

نعم هناك فروق آخر بينهما ، وهو أنّ الشارع جعل الزناء موضوعا لأحكام لا تجري ولا تترتّب تلك الأحكام على الوطي بالشبهة ، من الحدّ ، وعدم إلحاق الولد به بالنسبة إلى بعض الأحكام ، كتوريثه من أبيه ، فادّعاء أنّ الواطئ بالشبهة صاحب الفراش عجيب.

وأمّا التحليل فكون المحلّل له صاحب الفراش فله وجه ، لأنّه بالتحليل يوجد له هذا الحقّ ، خصوصا إذا قلنا بأنّ التحليل عقد محتاج إلى الإيجاب والقبول ، فيمكن أن يقال بأنّه تزويج لها من المولى ، فيكون كالمتعة تزويجا موقّتا ، فهو أيضا صاحب‌

٤٦

الفراش كالزوج في عقد الانقطاع.

والحاصل : أنّ الفراش عبارة عن كونه مالكا شرعا للوطي ، وله حقّ أن يفعل ، والمشتبه ليس له ذلك ، وإنّما يرتكب محرّما معفوا عنه ، لجهله. نعم فعله ليس زناء ، لأنّه أخذ في مفهوم الزناء الالتفات والعلم أو العلمي بالحكم والموضوع جميعا ، فلا يترتّب على عمله آثار المترتّبة على الزناء ، من عدم إرث الولد والحدّ وغيره.

فلو كان هناك واطئان بالشبهة وأمكن الإلحاق بكلّ واحد منهما يقرع بينهما ، أمّا لو اجتمع الزناء مع الوطي بالشبهة وأمكن الإلحاق بكلّ واحد منهما ، كما إذا وطيا في طهر واحد ، والوضع صار بعد التجاوز عن أقلّ الحمل ، وعدم التجاوز عن أكثر الحمل من زمان وطئ كلّ واحد منهما.

فإن قلنا : إنّ الزاني مطرود ولا نسب له مطلقا ، فلا شكّ أنّ الولد للواطئ شبهة ، وليس للزاني إلاّ الحجر.

وأمّا إن قلنا : إنّ طرده فيما إذا ادّعى في قبال الفراش ـ كما هو مورد الحديث لا مطلقا ونفي النسب بملاحظة الإرث لا مطلقا ، ولذلك يحرم على الزاني تزويج بنته من الزناء إجماعا بل ضرورة ـ فمقتضى القواعد الأوّليّة هو أن يقرع بينهما ، ولكن الظاهر اتّفاق الأصحاب عن أنّه للواطئ بالشبهة ، ويطرد الزاني ، لأنّه عليه‌السلام عبّر من الولد المخلوق من ماء الزاني « أنّه لغية ».

محمّد ابن الحسن القمّي ، قال : كتب بعض أصحابنا على يدي إلى أبي جعفر عليه‌السلام : ما تقول في رجل فجر بامرأة فحبلت ، ثمَّ أنّه تزوّجها بعد الحمل ، فجاءت بولد هو أشبه خلق الله به؟ فكتب عليه‌السلام بخطّه وخاتمه : « الولد لغية لا يورث » (١) والغية ظاهرها أنّه باطل وخائب ولا يعتنى به ، فمفاد هذه الرواية هو أنّ الولد لا يلحق بالزاني وإن لم‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٨ ، ص ١٨٢ ، ح ٦٣٧ ، في لحوق الأولاد بالآباء. » ح ٦١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٥ ، ص ٢١٤ ، أبواب أحكام الأولاد ، باب ١٠١ ، ح ١.

٤٧

يكن مدّع في مقابله ، فضلا عمّا إذا كان مثل الواطئ بالشبهة الذي لم يلغ الشارع نسبه ، حتّى أنّ بعضهم ادّعى صدق الفراش على وطئ الشبهة.

ولكن مع ذلك كلّه ظاهر الرواية أنّه لغية من ناحية الإرث ، لا أنّه لغية بقول مطلق حتّى من ناحية نكاح المحارم.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه لو زنى الاثنان بامرأة في طهر واحد فجاءت بولد يمكن القول بالاقتراع بالنسبة إلى الآثار غير الإرث.

تنبيه‌

ثمَّ إنّه من المعلوم والواضح الجلي أنّ الزناء قد يكون بالنسبة إلى الرجل والمرأة ، فيكونان زانيا وزانية ، والولد لا يرث من كلّ واحد منهما ويكون لغية من الطرفين.

وقد يكون الزناء من طرف واحد ، وذلك بأن يكون أحدهما متعمّدا ملتفتا ، والطرف الآخر مشتبها ، فيرث الولد من المشتبه دون الزاني والزانية.

وأمّا في غير الإرث فقد بيّنّا أنّه يلحق بهما بالنسبة إلى بعض الآثار ، كحرمة نكاح المحارم حتّى في الزناء من الطرفين ، بحيث يكونان باغ وبغيا ، فضلا عن أن يكون من طرف واحد.

هذا هو الذي اخترناه.

ولكن ظاهر المشهور وبعض الروايات هو أنّ الشارع ألغى النسب في الزناء. ولكن الالتزام بذلك مشكل جدّا ، خصوصا بالنسبة إلى نكاح المحارم ، كتزويج البنت من الزناء ، والأخت من الزناء.

وبناء على ما اخترناه فلو كان الولد الأكبر من الزناء لا يرث الحبوة ، ولكن يجب عليه قضاء صلوات أبيه.

٤٨

هذا إذا كان الزناء من الطرفين ، وأمّا إذا كان أحد الطرفين مشتبها ، فيلحق الولد بالمشتبه قطعا ، ويترتّب عليه جميع آثار النسب الصحيح. والله هو العالم بحقائق الأمور والأحكام.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

٤٩
٥٠

٣٨ ـ قاعدة

وعلى اليد

ما أخذت حتى تؤدّيه‌

٥١
٥٢

قاعدة وعلى اليد ما أخذت حتى تؤدّيه (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه ».

والبحث فيها من جهات :

الجهة الأولى

الفرق بين هذه القاعدة وقاعدة اليد‌

التي ذكرناها وشرحناها في المجلّد الأوّل من هذا الكتاب.

فنقول : عمدة البحث والنظر في تلك القاعدة كان في أماريّة اليد ، وأنّها مثل البيّنة والسوق تثبت الملكيّة والتذكية والطهارة ، وأنّ هذه المرأة التي تحت يده زوجته ، وأنّ هذه العين الموقوفة التي تحت يده هو المتولّي والناظر عليها أم لا؟

وموضع البحث أيضا هناك عامّ ، لا اختصاص له باليد الغاصبة أو غير المأذونة من قبل المالك ، بمعنى أنّ المراد من اليد هناك سيطرة الشخص واستيلائه على شي‌ء ، ولم‌

__________________

(*) « الحقّ المبين » ص ١٢٨ ، « عوائد الأيّام » ص ١٠٨ ، « خزائن الأحكام » ش ٢٤ ، « بلغة الفقيه » ج ٣ ، ص ٢٩١ ، « مجموعه رسائل » ص ٤٧٢ ، « دلائل السداد وقواعد فقه واجتهاد » ص ٦٢ ، « مجموعة قواعد فقه » ص ٢٥ ، قواعد فقه » ص ٩١ ، « قواعد » ص ١٨١ ، « قواعد فقه » ص ٧٥ ، « قواعد الفقه » ص ٨٤ ، « قواعد الفقه » ص ١١١ ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ج ١ ، ص ٨٣ ، « القواعد الفقهيّة » ( مكارم الشيرازي ) ج ٤ ، ص ٢٣١ ، « قواعد الفقيه » ش ٣٤ ، ص ٦٣ « ضمان يد غير قانونى » عباس كريمى ، ماچستير جامعه الشهيد بهشتى ، ١٣٦٨ ، « موجبات ضمان قهري وأسباب آن » غلامعلى پيراسته ، ماچستير ، جامعه طهران ، « يد مالكي ويد ضماني » أبو القاسم گرجى ، فصليّة « حقّ » دفتر ٩ سال ١٣٦٦ ، « قاعدة على اليد » سيد على محمد مدرس الأصفهاني ، « كانون وكلاء » العام ١٥ ، ش ٨٤.

٥٣

يكن حالها معلومة ، وأنّها يد المالك ، أو يد الغاصب ، أو يد المأذونة من قبل المالك ، أو يد الأمين شرعا ، كلّ ذلك غير معلوم ، فيبحث في أنّ مثل هذه اليد هل هي أمارة الملكيّة أو سائر ما ذكرناها أم لا؟ فالبحث دائما هناك عن جهة أماريّتها.

وها هنا موضوع البحث هو أنّ اليد المعلومة أنّها يد غير المالك ، وأنّها غير مأذونة من قبل المالك ، هل توجب الضمان ، أم لا بل يجب تكليفا ردّ ما في يده من مال الغير إلى صاحبه ، ففرق واضح بين موضوع البحث ها هنا ، وبينه هناك.

ونحن وإن تكلّمنا هناك قليلا من جهة كونها هل توجب الضمان أم لا ، وعن تعاقب الأيدي على مال الغير ، ولكن كان ذكرا تبعيّا ولم نستوف البحث ، ولذلك نذكر القاعدة ها هنا ، ونستوفي البحث عنها بمقدار وسعنا إن شاء الله تعالى.

الجهة الثانية

في مدرك هذه القاعد‌

فنقول : مدرك هذه القاعدة هو الحديث المعروف المشهور بين جميع الطوائف الإسلاميّة ، والذي رواه العامّة والخاصّة ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه » (١).

فالبحث عن سنده وأنّه صحيح أو ضعيف لا وجه له ، لأنّه بعد هذا الاشتهار بين الفقهاء وقبولهم له والعمل به فيكون موثوق الصدور ، الذي هو موضوع الحجّية ، بل لا يبعد أن يكون من مقطوع الصدور.

__________________

(١) « الخلاف » ج ٣ ، ص ٤٠٩ ، المسألة : ٢٢ ، « عوالي اللئالي » ج ٢ ، ص ٣٤٥ ، باب القضاء ، ح ١٠ ، « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ٨٨ ، أبواب الغصب ، باب ١ ، ح ٤ ، « سنن أبي داود » ج ٣ ، ص ٢٩٦ ، ح ٣٥٦١ ، باب في تضمين العارية ، « سنن ابن ماجه » ج ٢ ، ص ٨٠٢ ، ح ٢٤٠٠ ، أبواب الصدقات ، باب العارية ، « سنن الترمذي » ج ٣ ، ص ٥٦٦ ، ح ١٢٦٦ ، باب ما جاء في أنّ العارية مؤداة.

٥٤

وعلى كلّ حال لا كلام في حجيّته ، إنّما الكلام في دلالته ، وبيان المراد منه. وطريق كشف المراد منه هو معرفة ما هو المتفاهم العرفي منه.

فنقول : من المعلوم أنّ كلمة « على اليد » خبر مقدّم للموصول ، أي كلمة « ما » في « ما أخذت » فتقدير الكلام عبارة عن أنّ الذي أخذته اليد ثابت أو مستقرّ على اليد ، وذلك من جهة أنّ الظرف أي « على اليد » يحتاج إلى عامل ومتعلّق مقدّر ها هنا ، لأنّه ليس في الكلام ، أي جملة « على اليد ما أخذت » فعل أو شبه فعل يكون قابلا لأن يتعلّق به الظرف ، فلا بدّ من تقديره.

والمقدّر العامل للظرف إن كان من أفعال العموم ـ ك‍ « استقرّ » أو « ثبت » أو « كان » أو « حصل » يسمّى بأفعال العموم ، لأنّ كلّ فعل وحدث صدر عن الفاعل يصدق أنّه استقرّ وجوده ، وكان ، وثبت ، وحصل ـ يسمّى الظرف بظرف المستقرّ. ووجه التسمية واضح.

وإن كان من أفعال الخصوص ـ ك‍ « ضرب » و « أكل » و « شرب » إلى غير ذلك من الأفعال الخاصّة ، التي هي عبارة عن الأحداث الخاصّة ، كلّ واحد منها لا ينطبق على الآخر ، بل شي‌ء مقابل أو مخالف له ـ يسمّى الظرف بظرف اللغو ، لأنّه ملغى عن الضمير المستتر فيه يرجع إلى العامل.

وظاهر الكلام حسب المتفاهم العرفي أنّ الظرف ظرف مستقرّ ، لا ظرف لغو ، فيكون المعنى أنّ الذي أخذته اليد ثابت ومستقرّ على اليد ، وهذا الثبوت والاستقرار باق على اليد ولا يرتفع عنها إلاّ بالأداء ، فنفس ما أخذت على عهدته وثابت على اليد إلى غاية ذلك الثبوت ، وغايته هي أداء ما أخذته.

وأمّا وجه أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي من الحديث هو أنّ الظرف مستقرّ لا لغو فلجهات :

الأولى : أنّ الظاهر أنّ نفس ما أخذت يكون على اليد ، من دون إضمار في البين ،

٥٥

لأنّ التقدير والإضمار خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلاّ بعد عدم استقامة الكلام بدونه. وفيما نحن فيه الكلام بدون الإضمار في غاية الاستقامة ، لما ذكرنا من أنّ معنى الحديث ـ إذا كان الظرف ظرف مستقرّ ـ أنّ نفس المال الذي مثلا أخذت بدون الإذن يكون مستقرّا على ذلك اليد أي عهدته مشغولة به ، كما سنبيّن معنى « اليد » في المقام ، ولا يفرغ ذمّته إلاّ بأداء ذلك الذي أخذه إلى صاحبه.

وأمّا احتمال أن يكون العامل المقدّر « يجب » أو « يلزم » فيبعده ، بل ينفيه أنّ الأحكام التكليفيّة لا تتعلّق بالذوات والأعيان الخارجيّة ، بل لا بدّ وأن يكون متعلّقها فعل المكلّف ، فيحتاج في المقام إلى التقدير. والفعل المناسب لان يكون متعلّقا ليجب أو ليلزم في المقام هو الأداء والردّ ، ليكون معنى الحديث أنّه يجب أو يلزم ردّ ما أخذه من الغير وأداؤه إليه.

ولكن أنت خبير بأنّه مضافا إلى كونه خلاف الأصل ، ركيك إلى أقصى الغاية ، لأنّه يجب أن يكون الفعل مع غايته واحدا ، أي يكون معنى الحديث : يجب ردّ ما أخذ إلى أن يردّ.

وأمّا احتمال أن يكون المتعلّق ليجب أو ليلزم المقدّر هو « الحفظ » كي يكون المعنى : يجب أو يلزم حفظ ما أخذ حتّى يؤدّيه ، فبعيد جدا.

أمّا أوّلا : فلما قلنا إنّ التقدير خلاف الأصل ، لا يصار إليه إلاّ لضرورة. وليس ها هنا ضرورة إلى التقدير ، لأنّ ظاهر الكلام بدون التقدير في كمال الاستقامة ، لأنّه عبارة عن أنّ نفس ما أخذته اليد ثابت في ذمّة اليد ، ولا يمكن الخروج عنه إلاّ بأداء ما هو ثابت في العهدة إلى من هو صاحب المال المأخوذ. وهذا معنى لطيف ، له كمال الملائمة مع الأخذ بالقوّة والقهر ، ومع الأخذ بدون إذن المالك ، ويشبه لما هو مفاد سائر أدلّة باب الغصب من قوله عليه‌السلام : « لأنّ الغصب كلّه مردود » (١) وغيره (٢).

__________________

(١) « الكافي » ج ١ ، ص ٥٤٢ ، باب الأنفال ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣٠٩ ، أبواب الغصب ، باب ١ ، ح ٣.

(٢) « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٣٠٨ ، أبواب الغصب ، باب ١ و ٧.

٥٦

وأمّا ثانيا : فلأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام بيان ردّ مال الغير الذي وقع تحت يده وإيصاله إلى صاحبه ، لا في مقام حفظ مال الغير عن التلف ، مضافا إلى أنّ الظاهر من أمثال هذه التراكيب عرفا هو كون عهدته وذمّته مشغولة بما يكون مستعليا ، فإذا قال له : علىّ كذا درهم ـ مثلا ـ فهو إقرار واعتراف بأنّ ذلك المقدار على ذمّته وفي عهدته. أو إذا قال لي : على فلان كذا مقدار ، لا يفهم منه إلاّ ادّعاء أنّه له في ذمّة فلان ذلك المقدار.

والسّر في ذلك : أنّ كلمة « على » موضوعة للنسبة الاستعلائيّة التي بين شي‌ء ومدخول على ، فإذا قيل : زيد على السطح ، فعلى تحكي عن النسبة الاستعلائيّة التي بين زيد ومدخول على ، فيفهم من هذا الكلام أنّ زيدا مستعل على السطح ، والسطح مستعلي عليه ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت » حيث أنّ الموصول مبتدأ مؤخّر ، فيرجع مفاد الكلام إلى أنّ المال الذي أخذته اليد يكون مستعليا على اليد ، ومستقرّا عليها كاستقرار زيد واستعلائه على السطح.

ثمَّ إنّ « اليد » ليس المراد منها هي الجارحة المخصوصة ، لأنّه ربما لا يكون للأخذ ـ الغاصب أو بدون إذن المالك أو الشارع الذي هو وليّ المالك ـ تلك الجارحة المخصوصة ، أو الشي‌ء المأخوذ ليس قابلا لأن يؤخذ بالجارحة المخصوصة ، بل المراد منه ها هنا الاستيلاء على الشي‌ء خارجا ، أو في عالم الاعتبار الشرعي أو العرفي.

وبهذا المعنى يقال ليس الأمر بيدي ولو كان لكنت أفعل كذا ، ونفس الاستيلاء التكويني أو الاعتباري حيث أنّه من صفات المستولي ، فإذا قيل : إنّ الشي‌ء الفلاني على اليد بهذا المعنى ، فالمراد منه على المستولي باعتبار استيلائه.

وبهذا الاعتبار قال الله تعالى حكاية عن قول اليهود ـ لعنهم الله ـ ( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) (١) فالمراد من قولهم ( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) أي ليس له القدرة على الإنفاق والتوسعة‌

__________________

(١) المائدة (٥) : ٦٤.

٥٧

في رزق العباد ، فأجابهم الله تعالى بقوله ( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) أي من التوسعة والتضييق حسب المصالح التي يراها.

فظهر أنّ اليد كناية عن الاستيلاء خارجا وتكوينا ، أو عرفا ، أو شرعا واعتبارا.

وقد تكون كناية عن المستولي المتّصف بصفة الاستيلاء.

وفيما نحن فيه بهذا المعنى الأخير ، فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت » ظاهر في أنّ المال الذي أخذه إنسان واستولى عليه يكون على تلك اليد ، أي يكون مستعليا ومستقرّا على ذلك المستولي باعتبار استيلائه على ذلك المال ، وهذا معنى عرفي لهذه العبارة.

ثمَّ إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن حكم بأنّ الذي أخذه المستولي يكون مستقرّا ومستعليا عليه ، غيّاه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حتّى تؤدّيه » أي هذا الاستعلاء والاستقرار مغيى بأداء ما أخذ ، بمعنى أنّه مستمرّ إلى حصول تلك الغاية ، أي أداء ما أخذ ولا يرتفع إلاّ به.

إذا ظهر ذلك ، فنقول : هذا معنى الضمان عرفا ، لأنّ معنى ضمان الشي‌ء وإن عرّفوه بتعاريف متعددة ، ولكن العرف لا يفهم من لفظ « الضمان » إلاّ استقرار الشي‌ء وثبوته في عالم الاعتبار في عهدة الضامن ، فليس الضمان أمرا خارجيّا تكوينيّا ، أي ليس من مقولات العشر ، إذ ليس له ما بحذاء في الخارج ، بل هو أمر اعتباري يعتبره الشرع أو العقلاء ، أو كلاهما معا.

فإذا كان الأمر كذلك ، فذات الموجود الخارجي بوجوده الخارجي لا يمكن أن يكون في الذمّة والعهدة ، لأنّ الموجود الخارجي وعاء وجوده عالم الخارج ، لا عالم الاعتبار ، إذ ليس عالم الاعتبار إلاّ عبارة عن الموجودات الاعتباريّة التي لا وجود لها إلاّ في عالم الاعتبار ، فلا يمكن أن يكون الموجود الخارجي موجودا في عالم الاعتبار ، وإلاّ يلزم انقلاب الخارج اعتبارا ، وذلك كما أنّ الموجود الخارجي لا يمكن أن يكون موجودا في الذهن وإلاّ يلزم انقلاب الخارج ذهنا ، وهو محال.

٥٨

فمعنى كون المأخوذ في ذمّة الآخذ وفي عهدته ، هو أنّ المهيّة الموجودة في الخارج إن وقعت تحت اليد غصبا أو بدون إذن المالك أو الشارع ، يعتبرها الشارع أو العقلاء أو كلاهما في عهدة الآخذ. والمراد من الذمّة والعهدة هو عالم الاعتبار الذي هو عبارة عن نفس الاعتبارات ، فعهدة كلّ شخص وكذلك ذمّته عبارة عن اعتبارات الشارع أو العقلاء بالنسبة إليه.

فمفاد الحديث الشريف هو أنّ كلّ مال أخذه أمّا جبرا وبالقوّة ، أو بدون إذن من قبل مالكه ، أو من قبل الشارع فهو مستقرّ بوجوده الاعتباري على صاحب تلك اليد. وهذا الوجود الاعتباري ثابت عليه ، لا يرتفع إلاّ بأداء ذلك المأخوذ فبالأداء يفرغ ذمّته.

وأداء ذلك المأخوذ في الدرجة الأولى يردّ نفس العين الخارجيّة التي وقعت تحت اليد ، ولكن إذا تلفت تلك العين الخارجيّة فبصرف تلفها لا يرتفع ذلك الموجود الاعتباري ، لأنّ بقاءه في العهدة ـ أي في عالم الاعتبار ـ مغيى بالأداء ، فما لم يؤدّ لا يرتفع ويكون باقيا ، ولا منافاة بين تلفه خارجا وبقائه في عالم الاعتبار ، فإذا كان باقيا بعد تلف العين فأداؤه بردّ نفس العين الخارجيّة محال ، فتصل النوبة إلى الدرجة الثانية من الأداء ، أي أداء مثله ، فإذا لم يوجد مثله وتعذّر أو تعسّر تحصيله تصل النوبة إلى الدرجة الثالثة من الأداء ، وهي أداء ماليّته ، أي قيمته.

والسرّ في ذلك هو أنّ ردّ المال إلى صاحبه إن كان ممكنا بجميع خصوصيّاته الشخصيّة فيجب ، لأنّه الفرد الحقيقي من الردّ بدون أيّ عناية. وإن لم يمكن ردّه بخصوصيّاته الشخصيّة بواسطة التلف ، إذ كلّ فرد من طبيعة ذلك المأخوذ غيره بحسب الخصوصيّات الشخصيّة ، ولكن يمكن ردّ ذلك الشي‌ء بالصفات النوعيّة ـ وان كان فاقدا لخصوصياته الشخصية ـ فيجب ردّ ذلك المثل.

وإنّما قلنا ذلك المثل ، لأنّ الفرد الذي يصدق عليه ذلك الشي‌ء بحسب الماهيّة ، مع‌

٥٩

كونه واجدا للصفات النوعيّة ، لا بدّ وأن يكون من أمثال ذلك التالف. بل المثل المنطقي أوسع من هذا ، إذ هو يطلق على كلّ فرد يكون متّحدا مع التالف في الماهيّة وإن لم يكن واجدا لجميع صفاته النوعيّة.

وعلى كلّ حال لا شكّ في أنّ المرتبة النازلة من ردّ التالف هي هذه المرتبة ، بعد عدم إمكان ردّه بجميع خصوصيّاته الشخصيّة ، وإن لم يمكن هذه المرتبة أيضا من ردّ ذلك الشي‌ء المأخوذ ـ والمفروض كما بيّنّاه أنّ ذلك الوجود الاعتباري باق في عهدته ، أي في عالم الاعتبار ، إذ لم يأت بالغاية التي توجب سقوطه ـ فتفريغ ذمّته الذي لازم بحكم الفعل والشرع يقتضي أن يأتي بمرتبة أخرى من ردّ التالف الممكنة ، وليست هي إلاّ أداء ماليّة التالف بعد عدم إمكان ردّ خصوصيّاته الشخصيّة ، ولا الجهات النوعيّة التي كانت للتالف ، فلا يبقى في البين ما يمكن ردّه إلاّ جهة ماليّته ، فتصل النوبة إليها ، وإن كانت هذه المرتبة أنزل من المرتبة الثانية.

وهذه المراتب ليس بصرف الدقّة العقليّة ، بل العرف أيضا يحكم مثل ما ذكرنا ، لأنّه أيضا بعد ما حكم بالضمان ـ بالمعنى الذي ذكرنا له ـ يرى في الدرجة الأولى ردّ نفس العين المأخوذة ، وبعد التلف وعدم إمكان ردّ نفس العين ، لو كان له مثل يحكم بلزوم ردّ المثل ، لأنّ في ردّ المثل لا يذهب من مال المغصوب منه إلاّ جهاته الشخصيّة ، وباقي جهاته تصل إليه ، أي جهة ماليّته وجهاته النوعيّة ، وجهاته الشخصيّة التي تذهب لا يمكن تداركها. وإن لم يكن له مثل ، أو تعسّر تحصيله فيحكم بأداء ماليّته ، إذ المقدار الممكن من وصول المال إلى صاحبه هو هذا المقدار.

وأمّا ما في بعض الروايات من وجوب إعطاء القيمة ابتداء بعد تلف المغصوب أو المأخوذ بدون إذن المالك ، من دون ذكر المثل ، فمن جهة كون المورد من القيميّات لا المثليّات.

وما ذكرنا من المراتب بالنسبة إلى المثلي والقيمي كان حسب الضابط العقلي‌

٦٠