القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

فحكم بحرمة هذه العناوين الحاصلة من الرضاع.

وبعبارة أخرى : جعل الرضاع مثل النسب في ترتّب حرمة النكاح على هذه العناوين الحاصلة منها.

وأمّا العناوين الملازم لهذه العناوين في النسب ـ كعنوان أخت الابن ، بحيث يكون الابن ابنا نسبيّا ، والأخت لذلك الابن أيضا إذا كان أختا نسبيّا ـ فلا محالة لا يخلو من أحد أمرين : إمّا أن تكون بنتا له إذا كانت الأخت اختيّته لذلك الابن باعتبار تولّدهما من هذا الأب ، وإمّا أن تكون ربيبة له إن كانت أختيّته باعتبار تولّدهما من أمّ واحد ، ولا يشتركان في الأب.

فالحرمة التي في أخت ابنه من جهة أحد الأمرين : إمّا من جهة أنّها ابنته ، أو من جهة أنّها ربيبته ، وإلاّ لم يجعل الشارع عنوان أخت الابن موضوعا للحرمة ، ولذلك لو فرضنا ـ محالا ـ وجود أخت ابن في النسب مع عدم كونها ربيبة ولا بنتا لا تحرم ولكن هذا وقوعه في النسب محال. وأمّا في الرضاع فليس بمحال ، كما قلنا إنّ بنات المرضعة أو بنات صاحب اللبن وان كنّ من غير المرضعة أخوات من الرضاعة للمرتضع ، وليست بنتا ولا ربيبة لأبي المرتضع ، ولذلك لو لم تكن تلك النصوص الخاصّة لم نقل بحرمتهنّ على أبي المرتضع. ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى إطالة الكلام.

الجهة السادسة‌

في أنّ الرضاع كما أنّه إن حصل أحد العناوين المحرمة به قبل النكاح والتزويج يكون موجبا لحرمة التزويج يكون موجبا لبطلان الزوجيّة ، كذلك لو حصل بعد التزويج ـ بمعنى : أنّه إن كانت زوجته غير محرّمة عليه لعدم تعنونها واتّصافها بأحد العناوين المحرّمة لا نسبا ولا رضاعا ـ أحد العناوين المحرمة بواسطة الرضاع يكون‌

٣٨١

موجبا لصيرورة الزوجة المحلّلة محرّمة.

كما أنّه في النسب لو فرضنا أنّه يمكن انقلاب عنوان المحلّل إلى أحد العناوين المحرّمة ، لكنّا نقول بالحرمة بعد. ما كانت محلّلة.

ولكن هذا الانقلاب في النسب لا يمكن ، بخلاف الرضاع ، فإنّه من الممكن أن لا تكون المرأة معنونة بعنوان محرّم ، ثمَّ يطرأ عليها عنوان المحرّم بواسطة الرضاع بعد التزويج.

ومعلوم أنّه متى ما وجد موضوع الحكم ، يترتّب الحكم عليه ، فالمائع الذي كان خمرا وكان نجسا وحراما شربه متى صار خلاّ يصير طاهرا ويكون شربه حلالا ، وكذلك الأمر في العكس متى صار الخلّ خمرا يصير نجسا ويكون شربه حراما ، فتغيير النسبة يرجع إلى تغيّر الموضوع ، غاية الأمر في النسب لا يمكن ، وفي العناوين الحاصلة من الرضاع يمكن.

والسرّ في ذلك : أنّ العناوين الحاصلة من النسب من لوازم الوجود ، ولا يمكن انفكاكها عن موضوعاتها ، بخلاف العناوين الحاصلة من الرضاع ، فإنّها ليست من لوازم الوجود.

وقد وردت في هذا المعنى ـ أي : في كون العنوان الحاصل من الرضاع اللاحق على النكاح محرّما ـ روايات :

منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لو أنّ رجلا تزوّج جارية رضيعة ، فأرضعتها امرأته فسد النكاح » (١).

فكلّ عنوان محرّم حصل من الرضاع بالنسبة إلى زوجته التي كانت قبل الرضاع زوجة له بالنكاح الصحيح يفسد نكاحه ، كما أنّ هذا العنوان لو كان حاصلا قبل‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٥ ، ص ٤٤٤ ، باب نوادر في الرضاع ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٤ ، ص ٣٠٢ ، أبواب ما يحرم بالرضاع ، باب ١٠ ، ح ١.

٣٨٢

النكاح لكان يمنع عن التزويج بها.

فلا فرق بين أن يكون حصول العنوان المحرّم قبل التزويج ، أو بعده ، أو مقارنا له ، فلو تزوّج بصغيرة فأرضعتها أمّ ذلك الزوج ، يفسد نكاح الصغيرة ، لأنّها تصير أختا له ، إذ لا معنى للأخت إلاّ بنت الأبوين ، أو بنت أحدهما ، وها هنا زوجته الصغيرة بنتا لأمّه من جهة الرضاع كما أنّه لو أرضعتها جدة الزوج ـ أي أمّ أبيه ـ تصير عمّة له ، لأنّها تصير بواسطة إرضاع أمّ أبيه لها أختا لأبيه ، فتكون عمّة له ، لأنّه لا معنى للعمّة إلاّ كونها أختا لأبيه ، كما أنّه لو أرضعتها جدّته ـ أي أمّ أمّه ـ تصير خالته ، لأنّها بإرضاع أمّ أمّه لها تصير بنتا للجدّة ، فتكون أختا لأمّه ، وهذا معنى الخالة.

ومعلوم أنّه في جميع هذه الصور يفسد نكاح الصغيرة بواسطة الرضاع الطارئ واللاحق.

فهاهنا نذكر فروعا للرضاع اللاحق على العقد الذي صار سببا لفساد النكاح السابق :

منها : أنّه لو كان له زوجتان إحديهما صغيرة ، والأخرى كبيرة ، فأرضعت الكبيرة الصغيرة تحرم الكبيرة ، لأنّها تصير أمّ زوجته ، وكذلك تحرم الصغيرة إن كان رضاعها من لبنه ، أو دخل بالكبيرة وإن لم يكن من لبنه ، لكونها بنتا له في الأوّل ، وربيبة ـ أي بنت زوجته المدخول بها ـ في الثاني.

وليس حرمة الكبيرة موقوفا على كون المشتق حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ ، يتوهّم أنّ ظرف حصول الأمومة ظرف سقوط الزوجيّة ، فلا يمكن حصول هذا العنوان إلاّ في ظرف سقوط الزوجيّة بواسطة الرضاع المحرّم ، فلا تجتمع الأمومة مع الزوجيّة في زمان كي يصدق عليها عنوان أمّ الزوجة ، إلاّ بناء على كون المشتق حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ.

٣٨٣

وفيه : أنّ سقوط زوجية الصغيرة معلول لإتيان عنوانها المحرّم ، وهي البنتيّة على تقدير ، وكونها ربيبة دخل بأمّها على تقدير آخر ، وهذان العنوانان مع عنوان الأمومة للكبيرة من قبيل المتضايفين وفي رتبة واحدة ، وفي تلك الرتبة زوجيّة الصغيرة لم تسقط ، لما قلنا من أنّ سقوطها من ناحية البنتيّة وكونها ربيبة اللتان في عرض أمومة الكبيرة ، فانفساخ الزوجيّة متأخّر رتبة عن الأمومة ، وهذا المقدار يكفي في صدق عنوان أمّ الزوجة الذي هو موضوع حرمة النكاح.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ المدار على حصول الأمومة في زمان كونها زوجة ، بمعنى أنّ « أمّ الزوجة » أو عنوان « أمّهات نسائكم » عند العرف عبارة عن أمّ المرأة التي تكون زوجة في زمان الذي هي أمّ لها وفيما نحن فيه لا يمكن ذلك ، لما قلنا من أنّ حصول نسبة الأمومة للمرضعة في زمان حصول نسبة البنتيّة ـ أو كونها ربيبة ـ للمرتضعة ، فزمان البنتيّة وكونها ربيبة متّحد مع زمان الأمومة ، فلو كانت الزوجيّة أيضا حاصلة في زمان حصول الأمومة يرجع إلى أن تكون بنتا أو ربيبة ، مع كونها زوجة في زمان واحد ، وهذا ممّا لا يمكن وواضح الفساد.

اللهمّ إلاّ أن يقال : يكفي في التحريم عنوان أمّ من كانت زوجته ، غاية الأمر في باب النسب لا ينفكّ هذا العنوان عن اجتماع الأمومة مع الزوجيّة وإن كان زمان الاجتماع قليلا ، لأنّ الأمومة في النسب إذا كانت حاصلة في مورد تكون من أوّل وجود البنت إلى الأبد ، فلا محالة في أيّ زمان حصلت زوجيّتها تكون أمومة الأخرى أيضا موجودة ، ولكن في الأمومة الحاصلة من الرضاع ليس الأمر كذلك ، لأنّه من الممكن حصول الزوجيّة في زمان ـ مع عدم وجود أمومة المرضعة ـ ثمَّ تحصل الأمومة بواسطة الرضاع المحرّم ، مع عدم كونها زوجة في ذلك الزمان ، وإلاّ تكون حرمة المرضعة متوقّفة على كون المشتقّ حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ.

ومنها : أنّه لو كانت زوجة أحدهما كبيرة ، وزوجة الآخر صغيرة ، فطلّق كلّ واحد منهما زوجته وتزوّج بزوجة الآخر ، فأرضعت الكبيرة الصغيرة ، فبناء على ما‌

٣٨٤

قلنا من تحريم أمّ من كانت زوجته مثل تحريم أمّ الزوجة الفعلية ، فتحرم الكبيرة على الاثنين ، أمّا على زوجها الفعلي ، لأنّها بالرضاع المحرّم صارت أمّ من كانت زوجته ، أي قبل أن يطلّقها. وأمّا بالنسبة إلى زوجها السابق ، لأنّها أمّ من هي زوجته فعلا.

وإن كنّا أشكلنا على هذا في الفرع السابق بأنّ ظرف حصول الأمومة ظرف سقوط الزوجيّة ، والحقّ : أنّ في كليهما ـ أي : الزوج الفعلي والزوج السابق ـ منشأ التحريم هو أنّها ـ أي الكبيرة المرضعة ـ تصير أمّ من كانت زوجته قبل حصول الأمومة ، لأنّ حال حصولها حال سقوط الزوجيّة.

هذا بالنسبة إلى الكبيرة. وأمّا بالنسبة إلى الصغيرة ، فحرمتها على الزوج السابق واضح ، لأنّها تصير بنتا له بالرضاع إن كان اللبن لبنه ، وأمّا إن لم يكن اللبن لبنه ، فالحرمة جمعا أيضا واضح ، سواء دخل بزوجته الكبيرة المرضعة أم لا ، لأنّه لا يجوز الجمع بين الربيبة وأمّها وإن لم يدخل بأمّها.

وأمّا حرمتها ـ ولو في صورة الانفراد بها بأن يطلّق أمّها الرضاعيّة ، ويتزوّج بها ـ فمشروط بالدخول بها ، أي بالكبيرة المرضعة ، وإلاّ فلا.

وأمّا بالنسبة إلى زوجها الفعلي ، فإن كان اللبن لبنه فالحرمة من جهة أنّها تصير بنته الرضاعيّة. وأمّا إن لم يكن اللبن لبنه ، فمع الدخول سابقا بالكبيرة التي كانت زوجته أيضا ، تحرم الصغيرة ، لأنّها بنت زوجته المدخولة بها ، ومع عدم الدخول تحرم جمعا مع أمّها ، وأمّا انفرادا فلا.

ومنها : أنّه لو كانت له أمة موطوءة فأرضعت زوجته الصغيرة ، أمّا الأمة فتحرم عليه على كلّ حال ، لأنّها أمّ زوجته.

والإشكال بأنّها لا تصير أمّا للمرتضعة إلاّ بعد سقوط زوجيّتها بالرضاع المحرم ـ فلا يتحقّق عنوان أمّ الزوجة في الخارج ـ أجبنا عنه فلا نعيد.

وأمّا زوجته الصغيرة فهي أيضا تحرم ، لأنّها بواسطة هذا الرضاع المحرّم تصير إمّا‌

٣٨٥

بنتا له ـ لو كان اللبن له ـ وإمّا ربيبته ، لأنّها بنت الرضاعي لامرأة دخل بها بوطي شرعي.

بقي الكلام في مسألة مهر هذه الزوجة الصغيرة التي سقطت زوجيّتها بواسطة الرضاع ، هل تستحقّ تمام المهر أو نصفها ـ بناء على أن يكون مثل الطلاق قبل الدخول ، لأنّ الصغيرة التي سقطت زوجيّتها بواسطة الرضاع غير مدخولة بها ـ أو لا تستحقّ شيئا منه؟ وجوه وأقوال :

والأظهر هو استحقاق تمام المهر ، لما هو المختار من صيرورة المهر ملكا لها بنفس العقد ، ولذلك قالوا : إنّ الطلاق قبل الدخول موجب لرجوع نصف المهر إلى الزوج بناقل جديد ، وهو الطلاق قبل الدخول ، فإذن استحقّت الصغيرة بنفس العقد تمام المهر ، وسقوطه كلاّ أو نصفا يحتاج إلى دليل حاكم على استصحاب بقاء ملكيّتها لها ، وليس شي‌ء في البين إلاّ استحسانات قياسيّة التي لا اعتبار بها.

مثل أن يقال : كما أنّ الطلاق قبل الدخول يوجب التنصيف فهاهنا أيضا ذلك الملاك موجود ، وهو سقوط الزوجيّة قبل أن يدخل بها وبعبارة أخرى : ذهاب الزوجيّة قبل أن ينتفع منها صار سببا للتنصيف ، وفيما نحن فيه يكون الأمر أيضا كذلك ، فإنّ الرضاع المحرّم صار سببا لذهاب الزوجيّة قبل أن ينتفع منها.

ولا شكّ في أنّ هذا قياس باطل في مذهبنا ، بل الدليل على التنصيف هي الآية الشريفة (١) والأخبار الشارحة لها (٢) ، فالظاهر هو استحقاقها لتمام المهر ، لأنّ القول بالتنصيف قياسا على الطلاق قبل الدخول باطل.

وأمّا ما ذكره صاحب الجواهر قدس‌سره من القول بسقوط المهر مستندا إلى المشهور (٣) ـ

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٣٧.

(٢) « البرهان في تفسير القرآن » ج ١ ، ص ٢٢٨ ، الأحاديث ١ ـ ٤.

(٣) « جواهر الكلام » ج ٢٩ ، ص ٣٢٥.

٣٨٦

بل ربما يظهر من عبارته عدم وجدانه الخلاف صريحا إلاّ ما عن التذكرة بأنّ السقوط أقوى (١). قال : ولعلّه يؤذن باحتمال عدم السقوط ـ فعلى كلّ حال مستندهم في سقوط المهر هو أنّ انفساخ العقد ـ وانحلاله.

وان شئت قلت بطلانه ـ يقتضي رجوع كلّ ما انتقل منه إلى طرفه إليه ثانيا ، بمعنى : عوده إليه ، وذلك من جهة أنّ بقاء كلّ من العوضين على ملك من انتقل إليه موقوف على بقاء العقد واستمراره ، إذ أنّ بقاء الأثر تابع لبقاء مؤثرة وعلته ، وتبعية المعلول لعلّته حدوثا وبقاءا ـ كاد أن يكون من البديهيات ، ولذلك ترى أنّ كلّ عقد تعقبه الفسخ ـ بإقالة أو خيار ـ يرجع كلّ مال إلى صاحبه قبل العقد ، ففساد العقد من أيّ سبب كان نتيجته ارتفاع آثار العقد من حين البطلان والفساد.

ولا شكّ في أنّ ثبوت المهر من آثار صحّة عقد النكاح. نعم النماء الذي وجد للمهر إلى حين الفساد هي للمرتضعة ، لما قلنا إنّ ارتفاع آثار العقد من حين وقوع الفساد لا من أوّل الأمر ، فإذا ارتفع العقد وصار النكاح فاسدا وباطلا ، فقهرا يرتفع أثره الذي هو عبارة عن ثبوت المهر.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام.

ولكن أنت خبير بأنّ باب النكاح ليس من قبيل باب المعاوضات بالنسبة إلى الزوجيّة والمهر ، بحيث يكون التعهّد من طرف الزوج بأن يكون المهر الذي هو ملك الزوج يكون للزوجة على أن تكون زوجيّتها أو بضعها للزوج عوض المهر ، بحيث يكونان ـ أي : الزوج والزوجة ـ يتبادلان بين المهر والبضع أو الزوجيّة.

وذلك من جهة أنّ حقيقة عقد النكاح عبارة : عن تعهّد الزوجة بأن تكون زوجة للرجل ، فالمنشأ في عقد النكاح في الإيجاب هي زوجيّة المرأة لزوجها ، وحيث أنّها من الأمور الاعتباريّة قابلة للجعل والإنشاء ، وفي القبول يتعهّد الزوج قبول هذه‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٩ ، ص ٣٢٥.

٣٨٧

الزوجيّة المنشأة من قبل الزوجة أو وكيلها أو وليّها ، والالتزام بلوازمها وأحكامها ، وليس معاوضة في البين أصلا.

ولو كان من قبيل المعاوضات كان لازمه سقوط مهر المسمّى بعد فساد النكاح بالرضاع المحرّم ، حتّى وإن كانت التي فسد نكاحها هي الكبيرة المدخولة. ولا يمكن القول به فيما لا يكون الفساد من قبلها ، بل بثبوت المهر في النكاح حكم شرعي ، فإن عيّنوا في العقد فهو ، وإلاّ فالشارع حكم بمهر المثل ، فليس مقتضى انفساخ العقد وبطلانه رجوع المهر إلى الزوج بعد ذهاب الزوجيّة ، وقياس فساد النكاح بباب فسخ المعاوضات وانفساخها ـ كما صدر عن صاحب الجواهر قدس‌سره (١) ـ ليس في محلّه.

فالأظهر ـ كما قلنا ـ أنّ المهر صار ملكا للزوجة بنفس العقد ، غاية الأمر ملكا متزلزلا لا مستقرّا ، واستقراره بأحد أربعة أشياء : إمّا الدخول ، وإمّا ارتداد الزوج ، أو موته أو موت الزوجة ، وهذا حكم الشارع في المهر ، وليس فساد النكاح وسقوط الزوجيّة من أسباب سقوط المهر. ولو شكّ في بقائه بعد فساد العقد وبطلان النكاح يستصحب ، إلاّ أن يأتي دليل حاكم على هذا الاستصحاب ، وليس في المقام شي‌ء من هذا القبيل.

نعم ها هنا فرع آخر ، بل فروع ذكرها صاحب الجواهر قدس‌سره وهو أنّ : المرتضعة لو ارتضعت من ثدي المرضعة من قبل نفسها بدون مداخلة المرضعة بل بدون التفاتها وشعورها بذلك ، كما أنّها لو كانت نائمة ، أو مثل النوم ممّا يوجب عدم الالتفات كالإغماء مثلا وسعت هي ـ أي : المرتضعة ـ وامتصّت ثديها ، فهل يكون لها مهر ، أم لا؟ بل يسقط حتّى على القول بعدم سقوط المهر لو لم يكن الارتضاع من قبل نفسه ، بل أرضعتها الكبيرة ، وذلك من جهة أنّها هي التي أفسدت النكاح من دون مدخليّة الكبيرة في ارتضاعها ، فهي التي فوتت منافع الزوجيّة على زوجها ، فلا تستحقّ المهر‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٩ ، ص ٣٢٥.

٣٨٨

الذي هو في الحقيقة مقابل البضع (١).

ولكن أنت خبير بأنّه بناء على ما ذكرنا وتقدّم ، ليست الزوجيّة ولا البضع مالا كي يكون إتلافهما موجبا للضمان ، ولو كان من غير قصد وشعور ، ولا يقابلانه كي يكون إتلافهما موجبا لرجوع مقابلهما ـ أي المهر ـ إليه.

نعم يمكن أن يتمسّك في بعض الموارد بقاعدة لا ضرر ، بأن يقال مثلا ـ فما إذا أرضعت زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة بقصد بطلان زوجية نفسها وزوجيّة الصغيرة ، فحكم الشارع ببقاء المهر ، وعدم سقوطه ضرر على الزوج ، لأنّ بقاء المهر إن كان مع بقاء الزوجيّة ، ففي نظر العرف ليس ضررا ، والعقلاء يقدمون على ذلك وإن لم يكن كذلك ، بمعنى أنّ المهر كان باقيا في عهدته ، أو كان متعيّنا في عين خارجي وكانت خارجة عن تحت ملكيّة الزوج مع عدم الزوجيّة وبطلانها ، فهي خسارة عندهم.

إن قلت : هذه الخسارة نشأت من إقدام الزوج ، والحديث (٢) لا يشمل هذا الضرر ، بل التحقيق ـ كما بيّنّا في محلّه ـ أنّ حديث « لا ضرر » يرفع الحكم الذي نشأ من قبله الضرر ، وها هنا لم ينشأ الضرر من قبل حكم الشارع ببقاء المهر ، بل نشأ من إقدامه على جعل هذا المقدار من ماله مهرا وإخراجه عن ملكه.

قلت : إقدامه على إخراج هذا المقدار من ماله وصيرورته ملكا للزوجة مبنيّ على دوام الزوجيّة وعدم بطلانها ما دام حيّين ، ولم يقدم على إعطاء المهر لزوجيّة يوم بلا أيّ انتفاع في البين ، فحكمه ببقاء المهر في ظرف سقوط الزوجيّة ضرريّ ، ولا شكّ في أنّ هذا الضرر نشأ من قبل حكم الشارع ، لا من اقدام الزوج.

ولكن مع ذلك كلّه التمسّك بقاعدة لا ضرر لسقوط المهر لا يخلو من نظر وتأمّل ،

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٩ ، ص ٣٢٤ ، في أحكام الرضاع ، المسألة الرابعة.

(٢) « الكافي » ج ٥ ، ص ٢٩٢ ، باب الضرار ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٢ ، ص ٣٦٤ ، أبواب الخيار ، باب ١٧ ، ح ٣ ـ ٤.

٣٨٩

بل لا يخلو من غرابة ، وذلك من جهة أنّ الشارع لم يحكم ببقاء المهر في ظرف سقوط الزوجيّة وذهابها كي يكون هذا الحكم المجعول ضرريّا ، بل الشارع حكم بأنّ الزوجيّة بدون المهر لا يمكن ، وأيضا حكم أنّ مهر المسمّى به في العقد يدخل في ملك الزوجة ، وأيضا حكم ببقاء الملكيّة لمالكه ولا يخرج إلاّ بناقل شرعي ، فإذا جاء دليل وناقل شرعي على خروج المهر تماما ، أو بعضه عن ملك الزوجة ، فهو كما أنّه في الطلاق قبل الدخول جاء الدليل على خروج نصف المهر عن ملكها ورجوعه إلى الزوج ، وأيضا في ارتداد الزوجة برجوع الجميع ، فهذه الأحكام الثلاثة ـ أي : حكمه بلزوم المهر ، وحكمه بدخول المهر في ملك الزوجة بمحض العقد ، وحكمه ببقاء كلّ مال في ملك مالكه وعدم خروجه عنه إلاّ بناقل شرعي ، أو جاء دليل على سقوط ملكيّته ـ ليس واحد منها ضرريّا كي يرتفع بقاعدة لا ضرر.

وأمّا القول : بأنّ هذه الخسارة وقعت بفعلها ـ أي الكبيرة ـ لأنّها أرضعت ، أي إذا كان حصول الرضاع بفعل الكبيرة بغير أمر الزوج بل بدون رضاه ، أو بفعل الصغيرة كما إذا ارتضعت من قبل نفسها ، أي إذا كان حصول الرضاع بفعل الرضيعة من دون مدخليّة الكبيرة ، كما إذا كانت الكبيرة نائمة وهي سعت إليها وارتضعت ، فيجب أن تغرم للزوج الكبيرة أو الصغيرة. وبعبارة أخرى : التي سببت حصول الرضاع المحرّم ، سواء أكانت الغرامة مساوية للمهر أو أكثر أو انقص هي إحديهما.

ففيه أوّلا : أنّ هذا غير سقوط المهر وعدمه الذي هو الآن محلّ الكلام.

وثانيا : ليس كلّ إضرار يتدارك بالمال ، بل لا بدّ أن ينطبق عليه أحد أسباب الضمان من الإتلاف ، أو يد العادية ، أو غير ذلك من أسبابه. وفيما نحن فيه إرضاع الكبيرة أو ارتضاع الصغيرة ـ بدون مدخليّة الكبيرة ـ لا يوجب تلف مال كي يكون ضامنا لذلك التالف ، لأنّ الزوجيّة ليست من الأموال ، والبضع وإن كان في بعض الموارد يقابل بالمال ، ولكن مع ذلك ليس من الأموال كي يكون تفويته موجبا للضمان.

٣٩٠

وممّا ذكرنا ظهر لك حال الفروع الأخر التي ذكروها في هذا المقام ، مثل ما ذكروا فيما إذا كانت مختارة في الإرضاع بدون ملزم شرعي ، كما إذا خافت على حياة الرضيعة إن لم ترضعها ، وكذا بدون إجبار أو إكراه وأمثال ذلك ممّا يخرجها عن الاختيار والاستقلال ، هل للزوج أن يرجع إليها فيما يغرمه من المهر للرضيعة أم لا ، بناء على عدم السقوط؟ ووجّهوا الرجوع إليها بأنّها سببت فوات زوجيّة الرضيعة والانتفاع بها.

وذلك لما عرفت من عدم كون الزوجيّة أو البضع مالا كي يكون إتلافهما موجبا للضمان.

وأيضا ما ذكروا من أنّ الرضيعة لو سعت إليها وامتصت ثديها وهي مكّنتها ولم تمنعها ، هل هذا التمكين بمنزلة فعلها وإرضاعها استقلالا ، فعليها غرامة جميع ما يؤدّي الزوج للصغيرة أو ينصف بينهما؟

بمعنى أنّ نصف المهر يسقط بواسطة سعي الصغيرة بنفسها إليها وارتضاعها من لبنها ، فسقوط الزوجيّة بفعلها ، فلا تستحقّ نصف المهر لشركتها مع الكبيرة في إسقاط الزوجيّة ، والنصف الآخر تغرمه الكبيرة لشركتها في إسقاط الزوجيّة بتمكينها الرضيعة من الامتصاص والارتضاع.

ولكن أنت خبير بأنّ جميع هذه الوجوه والكلمات ظنون استحسانيّة غير معتبرة لا ينطبق على قواعد باب الضمان ، وعرفت أنّه لا وجه لسقوط المهر.

هذا كلّه بالنسبة إلى المرتضعة الصغيرة ، وأمّا المرضعة الكبيرة التي سقطت زوجيّتها وبطل نكاحها بواسطة الرضاع المحرّم ، فإن كان الزوج دخل بها فلا مورد للشكّ في ثبوت مهرها وعدم سقوطه ، وأمّا إن لم تكن مدخولة وفسد نكاحها بالرضاع المحرّم ـ وكان إرضاعها باختيارها بدون ملزم شرعي ولا إجبار ولا إكراه ـ فربما يقال بسقوط مهرها ، لأنّها سببت سقوط زوجيّتها من دون إجبار ولا إكراه‌

٣٩١

ولا ملزم شرعي في البين ، فيكون حالها حال المرتدة قبل الدخول ، وقد أفتى بذلك سيّدنا الأستاذ قدس‌سره في كتابه وسيلة النجاة (١).

ولكن أنت خبير بأنّ إجراء حكم المرتدة قبل الدخول عليها قياس باطل اللهمّ إلاّ أن يكون إجماع على السقوط في هذه الصورة ، وإلاّ قد عرفت أنّ مقتضي القواعد الأوليّة عدم السقوط مطلقا ، وعدم ضمان المرضعة مطلقا.

الجهة السابعة‌

في أنّه كما أنّ العناوين السبعة النسبيّة المعروفة المذكورة في الآية الشريفة ـ وهي الأمّ والبنت والأخت والعمّة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت ـ إن حصلت بالرضاع ، تكون موجبة للحرمة كذلك أربع عناوين أخر ، أي عنوان حليلة الابن ، وعنوان أمّ الزوجة ، وعنوان زوجة أبيه ، وعنوان الربيبة بشرط الدخول بأمّها ، لأنّ هذه العناوين الأربعة أيضا ممّا حرّم الله نكاحهنّ ، ومذكورات في الكتاب العزيز.

غاية الأمر : أنّ العناوين المحرّمة على قسمين : قسم منها تارة يحصل بالنسب وحدها ، وأخرى بالرضاع وحده ـ كعنوان الأمّ والبنت والأخت ـ وقسم منها لا يحصل بالرضاع وحده ، بل لا بدّ من انضمام نسب أو سبب إليه ، كالعناوين الأربعة المتقدّمة ، فإنّ هذه العناوين الأربعة لا تحصل بالرضاع وحده ، ولا بد في تحقّقها من وجود سبب في البين ، كما أنّها لا تحصل بالنسب وحده أيضا.

والحاصل : أنّ العنوان الذي جعل الشارع موضوعا لحرمة النكاح ، كما أنّه لو حصل بالنسب وحده ، أو به وبالنسب مركّبا منهما ـ كالعناوين الأربعة المتقدّمة ـ يكون محرّما ، كذلك لو حصل بالرضاع وحده ، أو به وبالسبب مركّبا منهما كالعناوين الأربعة المذكورة ، يكون محرّما ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » ‌

__________________

(١) « وسيلة النجاة » ج ٢ ، ص ٣٧٣ ، كتاب النكاح ، القول في الرضاع ، مسألة : ١٤.

٣٩٢

ولا يلزم أن يكون حصول العنوان بالرضاع وحده.

ولكن فليعلم أنّه في الموضوعات المركّبة من السبب والنسب إنّما يقوم الرضاع مقام ما هو دخيل في الموضوع باعتبار النسب ، لا باعتبار السبب ، مثلا في الموضوعات الأربعة المذكورة ، كحليلة الابن مثلا ، حيث أنّه مركّب من أمرين : أحدهما نسب وهو أنّ الزوج ابن له ، والآخر أنّ هذه المرأة حليلة وزوجته ، فالابن الرضاعي يقوم مقام ابن النسبي.

وأمّا كون هذه المرأة حليلته لا بدّ وأن يتحقّق بسببه ، ولا يمكن أن يحصل بالرضاع ، كما أنّه لا يحصل بالنسب أيضا.

والحاصل : أنّ معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » أنّ كلّ ما تحرم بواسطة النسب ـ أي : العنوان الحاصل من النسب ، سواء أكان جزء للموضوع ، أو كان تمام الموضوع ـ يقوم مقامه ذلك العنوان إذا حصل من الرضاع ، فإن كان ذلك العنوان الحاصل من النسب تمام الموضوع ، يكون الحاصل عن الرضاع أيضا تمام الموضوع ، وإن كان جزءا فيكون هو أيضا كذلك ، ويحتاج في ترتيب حكمه إلى وجود جزئه الآخر بسببه.

ثمَّ إنّ الموضوع المركّب تارة يكون الجزء ان حاصلين من النسب ، كبنت الأخ والأخت ، فيقوم الرضاع مقام الاثنين ، فالأخ والأخت الرضاعيين إذا كان لكلّ واحد منهما بنت رضاعي ، تكون كالبنت النسبي للأخ والأخت النسبيين ، غاية الأمر برضاعين : رضاع لحصول الأخية أو الأختيّة ، ورضاع آخر لحصول البنتيّة. وأخرى : أحدهما من النسب والآخر من الرضاع ، كالبنت الرضاعي للأخ النسبي أو لأخت النسبي ، أو بالعكس كالبنت النسبي للأخ أو الأخت الرضاعيين.

والحاصل : أنّ الإضافة الحاصلة بين شخصين أو الأشخاص قد يحصل من النسب ، أي الولادة من أب وأمّ أو من أحدهما ، وقد يحصل من الرضاع ، أي من‌

٣٩٣

الارتضاع من ثدي امرأة لبنها يكون من فحل بالشرائط المتقدّمة ، بمعنى أنّه تحصل إضافة بين المرتضع والمرضعة ، وبينه وبين صاحب اللبن ، وحيث أنّ الإضافة من الطرفين وليست متشابهة الأطراف ، كإضافة الأخ إلى الأخ أو الأخت إلى الأخت ، فإنّ الإضافة في الأوّل من الطرفين يعبّر عنها بالأخوّة ، وفي الثاني من الطرفين يعبّر عنها بالأختيّة ، فكلّ واحدة منهما أخت بالنسبة إلى الأخرى.

وتحصل إضافة بين المرتضع وبين أب المرضعة ، وبينه وبين أمّها ، وبينه وبين أخ المرضعة ، وبينه وبين أخت المرضعة ، وهكذا سائر أقارب المرضعة النسبيين لها أو الرضاعيين ، فالإضافة التي تحصل بين المرضعة وبينه تسمّى من طرفه ابنا إن كان المرتضع ذكرا ، أو بنتا إن كانت أنثى ، ومن طرف المرضعة تسمّى أمّا. وهذه الإضافة تسمّى متخالفة الأطراف.

والإضافة التي تحصل بينه وبين صاحب اللبن أيضا متخالفة الأطراف ، ومن طرفه تسمّى ابنا ، ومن طرف صاحب اللبن تسمّى أبا ، والإضافة التي تحصل بينه وبين أخوة صاحب اللبن من طرفهم تسمّى عمّة أو عمّا ، ومن طرف المرتضع تسمّى بابن الأخ أو ابنته ، كما أنّ الإضافة التي تحصل بينه وبين أب صاحب اللبن أو أمّه من طرفهما تسمّى بالجدّ والجدّة ، ومن طرفه تسمّى بالحفيد أو الحفيدة.

والإضافة التي تحصل بينه وبين أب المرضعة أو أمّها من طرفهما أيضا تسمّى بالجدّ أو الجدّة ، ومن طرفه بالسبط أو الحفيدة.

وهكذا بالنسبة إلى سائر الإضافات الحاصلة من النسب تحصل من الرضاع أيضا مثلها ، ويكون الاسم مثل ذلك الاسم.

والفرق أنّ العناوين الحاصلة من النسب ينسب إلى النسب ، والحاصلة من الرضاع ينسب إلى الرضاع ، ففي الأوّل يقال : الأب والأمّ والابن والبنت والأخ والأخت والعمّ والعمّة والخال والخالة والجدّ والجدّة النسبيون ، وفي الثاني يقال أيضا‌

٣٩٤

بنفس تلك العناوين والأسماء ، ولكن بإضافة قيّد الرضاعيّون.

والحاصل : أنّ كلّ إضافة تحصل بين شخصين أو أشخاص بواسطة النسب ـ أي : الولادة من أب وأمّ ، أو الولادة من أحدهما ـ تحصل من الرضاع أيضا ، أي من الامتصاص من ثدي امرأة ذات لبن بالشرائط المتقدّمة ، فإذا كان ذلك العنوان الحاصل من النسب موضوعا للحرمة ، فمثل ذلك العنوان إذا حصل من الرضاع أيضا يكون موضوعا لحرمة النكاح ، وإذا كان ذلك العنوان النسبي الذي هو موضوع لحرمة النكاح مركّبا من جزئين ، كلاهما حاصلان من النسب ، فالرضاع يقوم مقام كلّ واحد منهما ، غاية الأمر برضاعين.

وأمّا إذا كان أحد الجزئين يحصل من النسب والآخر من السبب ، فالرضاع يقوم مقام الجزء الذي يحصل من النسب ، وأمّا الجزء الآخر الذي يحصل من السبب ، فلا بدّ من حصوله بسببه ، كي يتمّ الموضوع ، وذلك من جهة أن التنزيل في باب الرضاع باعتبار النسب ، كما تقدّم مفصّلا.

وأمّا العناوين التي لم تجعل موضوعا للحرمة ـ ولكنّها في النسب لا تنفكّ عن أحد العناوين المحرّمة ، وتستلزمها إذا حصلت من الرضاع ، كعنوان أخت البنت مثلا ، حيث أنّه في النسب لا تنفكّ عن كونها إمّا بنتا وإمّا ربيبة مدخولة بأمّها ، وكلاهما من العناوين المحرّمة ـ فلا توجب التحريم من جهة حصول هذا العنوان ، إلاّ أن يكون هناك دليل آخر على التحريم ، كما أنّه في المثل المذكور ورد : « لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن » (١).

ولكن جماعة قالوا : بأنّها أيضا توجب التحريم ، وهذا هو المعروف عندهم بعموم المنزلة.

__________________

(١) تقدم راجع ص ٣٦١ ، هامش رقم (١).

٣٩٥

ولنذكر فروعا يختلف الفتوى عند من يقول بعموم المنزلة وعند من لا يقول وينكر عموم المنزلة ، وإن تقدّم الكلام فيها مفصّلا.

الأوّل : ما تقدّم من المثال ، أعني زوجتك لو أرضعت بلبنك أختها ، فتصير تلك الأخت بنتك الرضاعيّة ، فتصير زوجتك أخت بنتك الرضاعيّة ، وأخت البنت في النسب تستلزم أحد العنوانين المحرّمين ، أي إمّا بنته أو ربيبته المدخولة بأمّها ، وكلاهما من العناوين المحرّمة ، فمن يقول بعموم المنزلة يقول بالتحريم ، ومن لا يقول بعموم المنزلة لا يقول بالتحريم ، وقد بيّنّا فيما تقدّم بطلان عموم المنزلة.

الثاني : لو أرضعت زوجتك بلبنك ابن أخيها أو بنت أخيها ، فذلك الابن أو البنت يصير ابنك أو بنتك ، فتصير زوجتك عمّة لولدك الرضاعي ، وعمّة الولد في النسب ملازمة مع العنوان المحرّم ، أي أخت الإنسان ، فلو قلنا بعموم المنزلة تصير زوجته حراما عليه ، وإلاّ فلا.

الثالث : لو أرضعت زوجتك بلبنك عمّها أو عمّتها أو خالها أو خالتها ، فتصير أمّ هؤلاء ، وعنوان أمّ عمّ الزوجة أو أمّ عمّتها في النسب ملازم مع كونها جدّة للزوجة من طرف الأب ، وهو عنوان محرّم ، وكذلك أمّ خال الزوجة وخالتها في النسب ملازم مع كونها جدّة الزوجة من طرف الأمّ ، وهو عنوان محرّم ، فإذا قلنا بعموم المنزلة تصير تلك الزوجة حراما على زوجها ، وإلاّ فلا.

الرابع : لو أرضعت زوجتك بلبنك أحد أولاد عمّها ، أو أحد أولاد خالها ، فتصير أبا لهم ، أي أبا لابن عمّها وأبا لابن خالها ، وفي النسب عنوان أب ابن عمّ الزوجة ملازم مع كونه عمّا لها ، وعنوان أب ابن خالها ملازم مع كونه خالا لها ، فتصير زوجها عمّا أو خالا لها ، وبناء على صحّة عموم المنزلة فإذا قلنا بصحّة عموم المنزلة تكون تلك الزوجة حراما على زوجها ، وإلاّ فلا.

الخامس : لو أرضعت زوجتك أخاك أو أختك لأبويك ، فتصير أمّا لهما ، أي أمّ‌

٣٩٦

أخيك أو أمّ أختك لأبوين ، ولا شكّ في أنّ هذين العنوانين في النسب ملازمان مع كونها أمّا له ، فلو حصلا من الرضاع وقلنا بعموم المنزلة ـ تصير زوجته في المفروض حراما ، لصيرورتها بمنزلة أمّ النسبي. وأمّا إن لم نقل به فلا تحرم ، لأنّ عنوان أمّ الأخ الأبويني أو أمّ الأخت الأبويني لم يجعل في النسب موضوعا لحرمة النكاح ، وإن كان كلّ واحد منهما ملازم مع العنوان المحرّم ، أي عنوان الأمّ.

السادس : لو أرضعت زوجتك ابن ابنتك ، أو ابنة ابنتك ، فتصير أمّا لكلّ واحد منهما ، ولا شكّ أنّه في النسب هذان العنوانان ، أي عنوان أمّ ابن البنت ، أو عنوان أمّ بنت البنت ملازمان لكونها بنتا له ، ولكن نفس هذين العنوانين لم يجعلا موضوعا للحرمة.

فإن قلنا بعموم المنزلة تصير زوجتك حراما عليك ، لأنّها تصير بمنزلة ابنتك النسبي ، وإن لم نقل فلا تحرم ، لأنّ هذين العنوانين الحاصلين من الرضاع المفروض ، أي : عنوان أمّ ابن البنت ، أو عنوان أمّ بنت البنت ليسا من العناوين المحرّمة ، وإن كانا ملازمين في النسب للعنوان المحرّم ، أي البنتيّة.

السابع : لو أرضعت زوجتك ابن أختك أو بنتها ، فتصير أمّ ابن أختك أو أمّ ابنة أختك ، ومعلوم أنّه في النسب هذان العنوانان ملازمان للأختيّة التي هي من العناوين المحرّمة ، وإن لم يكونا بنفسهما من العناوين المحرّمة.

فإن قلنا بعموم المنزلة تصير زوجتك حراما عليك ، لأنّها تصير بمنزلة أختك للنسب ، وإن لم نقل ـ كما أوضحناه فيما تقدّم ـ فلا تحرم ، لأنّ العنوانين الحاصلين من الرضاع ليسا من العناوين المحرّمة.

الثامن : لو أرضعت زوجتك عمّك أو عمّتك أو خالك أو خالتك ، فتصير أمّا لهم من الرضاعة ، ولا شكّ في أنّ عنوان أمّ العمّ وعنوان أمّ العمّة في النسب ملازمان لكونها جدّة للإنسان من طرف أبيه ، إن كان العمّ والعمّة مع أبيه من أمّ واحدة ، وكذا‌

٣٩٧

عنوان أمّ الخال وأمّ الخالة في النسب ملازمان لكونها جدّة من طرف أمّك ، إن كان الخال والخالة مع أمّك من أمّ واحدة.

فإن قلنا بعموم المنزلة فتصير زوجتك حراما عليك ، من جهة أنّها تصير بمنزلة جدّتك من طرف أبيك ، أو جدّتك من طرف أمّك ، وهما من العناوين المحرّمة ، أي يكونان من مصاديق عنوان الأمّهات. وأمّا إن لم نقل بعموم المنزلة فلا تحرم ، لأنّ عنوان أمّ العمّ والعمّة والخال والخالة ليس من العناوين المحرّمة ، وإن كانت ملازمة لعنوان المحرّم.

ولا يخفى أنّه جميع الأمثلة المذكورة الثمانية من قسم لحوق الفساد بواسطة الرضاع المحرّم للعقد الصحيح ، كما أنّه لو فرضنا أنّ المرضعة ليس امرأة للشخص المفروض ، بل أجنبيّة عنه ، ويجوز نكاحها ، فبعد الرضاعات المذكورة تصير محرّمة ، فيمنع الرضاع عن وقوع النكاح الصحيح.

الجهة الثامنة

في طريق إثبات الرضاع‌

فتارة يكون دليل الإثبات هو الإقرار ، كأن يقول : هذه المرأة أختي أو بنتي من الرضاعة ، وهكذا في سائر العناوين المحرمة.

وأخرى : يكون هي البيّنة ، أي شهادة عدلين من الرجال.

وثالثة : شهادة النساء.

أمّا الأوّل ـ أي : في صورة الإقرار ـ فلا شكّ في لزوم الأخذ بما أقرّ إن كان على ضرره ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ » (١).

__________________

(١) « التنقيح الرائع » ج ٣ ، ص ٤٨٥ ، « جواهر الكلام » ج ٣٥ ، ص ٣ ، « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٢٢٣ ، ح ١٠٤ ،

٣٩٨

وأماريّة الإقرار لإثبات ما أقرّ به إن كان على ضرره ربما كان أقوى من البيّنة على ثبوت ما أقرّ به ، لأنّ العاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه ، فلا بدّ وأن يكون الإقرار على نفسه للفرار عن المفاسد المترتّبة على مخالفة الواقع ، فإذا لم يعلم بكذبه ـ من جهة العلم بأنّ إقراره لدواعي أخر غير بيان الواقع والإخبار عنه ـ لا بدّ وأن يحمل على أنّه بصدد بيان الواقع.

وعلى كلّ حال حجّية الإقرار ـ وأنّه طريق إلى إثبات ما أقرّ به ـ أمر مفروغ عنه فيما إذا كان على ضرره ، وعليها بناء العقلاء في مقام القضاء ، حتّى إنّهم يرون الإقرار من نفس الجناة أقوى دليل على صدور الجناية منه.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ الإقرار بكون هذه المرأة المعلومة إحدى محارمي من أمّ أو أخت أو بنت أو غيرها تارة يلاحظ بالنسبة إلى عمل نفس المقرّ مع تلك المرأة ، فلا أثر لإقراره أصلا ، بل العمل تابع لما هو الواقع ، فإن أحرز بمحرز وجداني أو تعبّدي ـ وبعبارة أخرى : قام عنده حجّة على ثبوت ما أقرّ به ـ يعمل على طبقها ، وإلاّ يكون من قبيل الشكّ في الموضوع ، فيجري أصالة الحلّ ، إلاّ في مواضع المستثناة التي حكم الشرع فيها بالاحتياط ، كما هو المعروف في باب الفروج والدماء ، بل قد يقال في الأموال أيضا.

هذا فيما إذا لم يعلم بخلاف ما أقرّ به ، وإلاّ فواضح لزوم العمل على طبق علمه.

وعلى كلّ حال لا أثر لإقراره بالنسبة إلى عمل نفسه ، فإذا أقرّ بأنّ هذه المرأة التي تحته وزوجته إحدى محارمه أمّا رضاعيّا مثلا ، وهو يعلم بأنّه ليس كذلك ، أو قام عنده حجّة على أنّه ليس كذلك مع كونه شاكّا ، فيجب ترتيب آثار الزوجيّة من لزوم إعطاء مهرها ، ويجب عليه نفقتها وسائر الآثار المذكورة في محلّها.

__________________

الفصل التاسع ، « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ١٣٣ ، أبواب الإقرار ، باب ٣ ، ح ٢.

٣٩٩

نعم لو أقرّ عند الحاكم وحكم الحاكم بالانفصال ، فيدخل في المسألة المعروفة ، وهي أنّه هل يجب ترتيب الأثر على حكم الحاكم حتّى مع علم المحكوم عليه بالخلاف ، أو قيام الحجّة عنده على الخلاف ، أمّ لا؟

وأخرى : يلاحظ هذا الإقرار بالنسبة إلى عمل المرأة التي تحته ، فإن صدّقته في هذا الإقرار ، فيرجع إلى إقرارها بثبوت ما أقرّ به هذا الزوج.

وحال هذا الإقرار حال إقرار الزوج في جميع ما ذكرنا ، ولا يجوز لها أن تتزوّج بغير هذا الزوج إن كانت تعلم بكذب إقرار الزوج وتصديقها له ، ومع الشكّ وعدم قيام حجّة على الوجود ولا على العدم ترجع إلى الأصول العمليّة ، وعلى أيّ حال لا أثر لإقراره ، ولا لإقرارها لها.

وثالثة : يلاحظ هذا الإقرار بالنسبة إلى عمل غيرهما الذي لا يعلم كذبه فلا شكّ في أنّه لو أقرّ عند الحاكم يؤخذ بإقراره بالنسبة إلى فيما ضرره ، لا فيما نفعه ، ويكون حال الإقرار عند الحاكم بأنّ زوجته إحدى محارمه رضاعا ، حال الاعتراف بأنّه مديون لزيد مثلا بكذا ، ويثبت ما أقرّ به بالنسبة إلى الأحكام والآثار التي للمقرّ به ، إذا كانت تلك الآثار عليها ، وكذلك يثبت بإقراره بالنسبة إلى الآثار التي عليها ، لا لها لغير الحاكم أيضا إذا لم يعلم بكذبه.

والحاصل : أنّ الإقرار عند العقلاء نافذ بالنسبة إلى ما عليه ، لا بالنسبة إلى ماله ، وإلاّ فكل مدّع في مقام الدعوى مقرّ ومعترف بما يدّعيه ، والشارع أمضى ما سلكه العقلاء في إنفاذ الإقرار بما عليه.

نعم ها هنا كلام في إنكاره للرضاع المحرّم بعد ما أقرّ واعترف به ، وأنّه هل يسمع منه هذا الإنكار ، أم لا بل يعدّ من قبيل الإنكار بعد الإقرار في باب الدعاوي والمخاصمات ، فلا يسمع؟.

٤٠٠