القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

منه ، لأنّ مثل هذا الرجل لا يعتقد بوجود شخص يتقرّب إليه بوقفه.

نعم يمكن أن يكون وقفه لعطفه ورأفته على الفقراء والضعفاء ، وهذا غير قصد القربة.

ثمَّ إنّه تقدم أنّه للواقف جعل المتولّي والناظر للوقف نفسه أو غيره ، وفي كليهما يجوز استقلالا واشتراكا ، وذلك لقوله عليه‌السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ».

وحاصل الكلام : أنّه ليس من شرائط الواقف أن يكون مسلما ، فيصحّ وقف الكافر إذا كان واجدا لشرائط صحّة الوقف والموقوف والموقوف عليه والواقف إذا كان الموقوف من المسلمين.

وأمّا إذا لم يكن من المسلمين فلا يشترط في صحّة وقفه بعض ما كان شرطا للموقوف فيما إذا كان الواقف مسلما ، كأن يكون للموقوف منفعة محلّلة ، فيجوز أن يقف الخنزير مثلا على أهل ملّته.

وهكذا لا يشترط في وقفه بعض ما يشترط في الموقوف عليه إذا كان الواقف مسلما ، كأن لا يكون الوقف عليه محرّما ، مثل الوقف على بيوت النيران ، ويجوز إذا كان الواقف مجوسيّا ، وكذلك يجوز على البيع والكنائس إذا كان نصرانيا.

المطلب الخامس

في شرائط الموقوف عليه‌

والمشهور أنّها أربعة :

الأوّل : أن يكون موجودا.

الثاني : أن يكون معيّنا.

الثالث : أن يكون ممّن تصحّ تملّكه.

٢٨١

الرابع : أن لا يكون الوقف عليه محرّما.

أمّا [ الشرط ] الأوّل : وهو أن يكون موجودا ، فلأنّ الشيخ قدس‌سره ادّعى الإجماع عليه في المبسوط. (١) وقال في الجواهر : ولأنّ الوقف يقتضي تمليك الموقوف عليه للمنفعة وحدها ، أو هي مع العين ، والمعدوم ليس قابلا للتمليك (٢).

أقول : إنّ ما ادّعاه في الجواهر ـ من اقتضاء عقد الوقف تمليك الموقوف عليه للعين الموقوفة مع منفعتها ، أو خصوص منفعتها ، وأنّ المعدوم ليس قابلا للتمليك ـ فممنوع صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى : فهو كوقف المسجد وأنّه ليس تمليكا لأحد ، بل هو فكّ ملك كالعتق ، وعلى كلّ حال يأتي الكلام فيه مفصّلا إن شاء الله تعالى.

وأمّا الكبرى : وهو أنّ المعدوم ليس قابلا للتمليك ، ففيه : أنّ الملكيّة من الأمور الاعتباريّة ، وليست من الأعراض الخارجيّة كي لا يمكن أن توجد قبل وجود موضوعه ولو كان آنا من الآنات ، وذلك لأنّ العرض ليس لوجوده استقلال ولو كان آنا واحدا ، لأنّ وجوده في نفسه عين وجوده في موضوعه.

وإن شئت قلت : إنّ العرض في جوهر ذاته بحسب الوجود أمر ناعتي ، ففرض الاستقلال لوجوده ولو كان بآن خلف. وأمّا الملكيّة أمر اعتباري عرفا أو شرعا ، لا وجود لها في الخارج أصلا ، وكما يمكن اعتبارها لشخص موجود ، كذلك يمكن اعتبارها لشخص معدوم فعلا ولكن سيوجد.

نعم لو فرضنا أنّه لا يوجد أصلا فالاعتبار له لغو ، ولا يساعد على اعتبارها في هذه الصورة لا الشرع ولا العقلاء والعرف ، وخصوصا في المعدوم بالمعنى الذي يشمل الحمل ، فإنّه واقعا بل في بعض الصور تامّ الخلقة سوى فيه الروح وتمام الأعضاء.

__________________

(١) « المبسوط » ج ٣ ، ص ٢٩٢ و ٢٩٣.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٢٧.

٢٨٢

وحاصل الكلام : أنّ الأمر الاعتباري تحقّقه في عالم الاعتبار تابع لاعتبار من بيده الاعتبار ، ولا دخل في الوجود الفعلي لمن يعتبر له فيه.

هذا ، مضافا إلى ورود نقوض كثيرة على من ينكر إمكان تمليك المعدوم والذي سيوجد :

منها : مسألة الوقف على البطون المتتالية ، بناء على تمليك كلّهم حال إجراء العقد الصحيح ، فإنّ الواقف ينشأ ملكيّة الجميع في ذلك الحال ، غاية الأمر أنّ فعليّة الملكيّة لكلّ بطن في ظرف وجود ذلك البطن ، كما هو شأن جعل الأحكام الشرعيّة بطور القضايا الحقيقيّة في جميع الموارد ، وضعيّة كانت أم تكليفيّة.

ومنها : أنّهم جوّزوا الوقف على أولاده الموجودين ومن يوجد بعد ذلك ، والكلام في تصحيحه كما ذكرنا في تصحيح الوقف على البطون ، وموارد أخر ، فلا نطول الكلام.

فالإنصاف : أنّ عمدة مدرك هذا الاشتراط هو الإجماع المدّعى في المبسوط (١) ، فإن تمَّ فهو ، وإلاّ فلا موجب لهذا الشرط.

وما ذكروه في هذا المقام من عدم قابليّة المعدوم للتمليك ، أو عدم الدليل على صحّة مثل هذا الوقف ، أو فساده ، كلّها لا يرجع إلى محصّل.

أمّا الأوّل : فقد عرفت إمكانه بل وقوعه. وأمّا الثاني : فلإطلاقات أدلّة الوقف.

وأمّا الثالث : فلحكومة الإطلاقات عليها.

وأمّا الشرط الثاني : وهو أن يكون الموقوف عليه معيّنا لا ترديد فيه ، كأن يقول : وقفت هذه الدار على أخي أو ابني ، أو يقول : على أحد أولادي ، ولكنّه يمكن أن يكون بين المثلين فرق بأنّه في الأوّل الموقوف عليه بحسب الواقع مردّد بين الأخ والابن ، ولكن في الثاني مفهوم أحد أولادي قابل للانطباق على كلّ واحد منهم ، فكلّ واحد‌

__________________

(١) « المبسوط » ج ٣ ، ص ٢٩٢.

٢٨٣

يجوز أن يتصرّف فيه بنحو الاستقلال لا بنحو التشريك ، فإذا سبق أحدهم فقد تصرّف فيما هو له وليس ضامنا للآخرين ، وإذا صار بينهم تشاحّ فالمرجع هي القرعة.

وعلى كلّ الدليل على اعتباره هو الإجماع ، فإن ثبت فهو ، والاّ فالدليل العقلي الذي تمسّكوا به فغير تامّ ، وهو عدم إمكان تمليك المبهم المردّد ، لما عرفت أنّ الملكيّة أمر اعتباريّ ، وليس من العوارض الخارجيّة التي تستدعي في الخارج موضوعا معيّن غير مبهم ، فهي قابلة لأن تتعلّق بأحد الشخصين أو إحدى الطائفتين.

وليس أمر هذا الأمر الاعتباري أعظم من العلم الإجمالي الذي هو صفة خارجيّة وموجود واقعي محمول بالضميمة ، ومع ذلك يتعلّق بالمردّد ، وكما أنّه بناء على صحّة تزويج إحدى بناته ، أو طلاق إحدى زوجاته ، أو عتق أحد عبيده يستخرج ذلك الأمر المبهم المردّد بالقرعة ، فكذلك يتعيّن الموقوف عليه بالقرعة.

وأمّا الشرط الثالث : وهو أن يكون الموقوف عليه ممّن يصحّ تمليكه ، فلو لم يكن قابلا للتملك فلا يصحّ تمليكه ، لأنّ صحّة التمليك متوقّف على قابليّة الطرف للتملّك ، وإلاّ فالتمليك بدونها غير ممكن ، فالكافر الحربي حيث أنّ الشارع لم يمض كونه مالكا فالوقف عليه باطل ، بناء على أنّ الوقف تمليك وإن كان من جهات أخر لا يجوز الوقف عليه.

وعلى كلّ حال ، فالبحث ها هنا عن أنّ الوقف هل هو مشروط بكون الموقوف عليه قابلا لتمليكه العين الموقوفة أم لا؟ بعد الفراغ عن أنّه قابل أو ليس بقابل.

وأمّا البحث عن أنّ العبد أو المرتدّ الفطري قابل أو ليس بقابل ، فهو خارج عن محلّ كلامنا.

إذا عرفت هذا ، فنقول : لو كان حقيقة الوقف هو التمليك ، أو كان التمليك من لوازم طبيعة الوقف شرعا ، فاعتبار هذا الشرط في محلّه ، إذ التمليك بدون التملّك لا يعقل. وأمّا إذا لم يكن التمليك من لوازم الوقف ـ بل كان التمليك في بعض أقسام الوقف من‌

٢٨٤

أحكام ذلك القسم شرعا ـ فلا وجه لاعتبار هذا الشرط ، إلاّ ادّعاء الإجماع ، فإن ثبت فهو وإلاّ فلا. وسنتكلم في هذه المسألة وأنّ الوقف حقيقته التمليك ، أو ملازم معه ، أو ليس شي‌ء منها فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأمّا الشرط الرابع : وهو أن لا يكون الوقف عليه محرّما ، وذلك كالوقف على الملاهي ، وأن يصرف في المعاصي ، وطبع كتب الضلال واستنساخها ، وأن يعطى لمن يرد على المذهب ويوقع الشبهات في قلوب المؤمنين ، وكالوقف على مبلّغي الأديان الباطلة ومروّجي العقائد الفاسدة.

واعتبار هذا الشرط بناء على اشتراط قصد القربة في تحقّق الوقف واضح ، إذ لا يمكن قصد القربة بما هو محرّم ومبغوض ، وبناء على عدم الاشتراط أيضا لا يصحّ الوقف على من يكون الوقف عليه محرّما ، لأنّ مثل هذا الوقف مبغوض عند الشارع ، وما هو مبغوض عنده لا يمضيه قطعا ، والمعاملات صحّتها تحتاج إلى الإمضاء ، وإلاّ فمقتضى الأصل في جميع المعاملات هو الفساد.

ولذلك قلنا في دلالة النهي في المعاملات على الفساد أنّه ذلك فيما إذا كان متعلّقا بالمعنى الاسم المصدري ، لأنّه حينئذ تكون المعاملة بالمعنى الاسم المصدري أي أثر العقد مبغوضا ، فلا يقع الإمضاء عليه ، فيكون باطلا.

إذا ظهر لك ما ذكرنا ، تعرف أنّ أغلب الفروع التي ذكرها الفقهاء في هذا المقام يرجع البحث فيها إلى صغريات هذا الشرط :

منها : عدم جواز الوقف على الكفّار ، أو جوازه مطلقا ، أو التفصيل بين الحربي والذمّي ، بعدم الجواز في الأوّل ، والجواز في الثاني.

ومنها : جوازه على الكنائس والبيع وعدم جوازه.

ومنها : جواز الوقف على استنساخ وطبع الكتب السماويّة المحرّفة ، أي التوراة والأناجيل ، فلا وجه لتطويل الكلام فيها.

٢٨٥

ثمَّ إنّ الموقوف عليه تارة يكون معيّنا لا إهمال ولا إجمال فيه ، سواء أكان شخصا كزيد مثلا ، أو كلّيا كعنوان طلبة مدرسة فلان ، فلا كلام فيه.

وأخرى : يشكّ في شمول ذلك العنوان الذي جعله موقوفا عليه في العقد لبعض الأشخاص أو الأصناف ، فإن ثبت انصراف ذلك العنوان إلى بعض مصاديقه ، أو إلى بعض الأصناف التي تحت ذلك العنوان فيؤخذ به ، وإن لم يثبت فيجب الأخذ بإطلاقه إن كان في مقام البيان من تلك الجهة ولم يقيّد ، وإلاّ يرجع إلى الأصول العمليّة.

ومعلوم أنّ مقتضى الأصل عدم ثبوت الوقف لذلك المشكوك ، كلّ ذلك فيما إذا كان مراد الواقف من ذلك مشكوكا.

وأمّا إن كان معلوما فيؤخذ به ، إلاّ أن يكون فيه الإشكال من جهة صحّة الإنشاء بذلك اللفظ ، وذلك من جهة أنّ المدار في العقود ليس على القصد فقط ، ولا على الإنشاء فقط ، بل لا بدّ وأن تكون المعاملة مقصودة له ومنشأه بالإنشاء الصحيح.

ولذلك وقع البحث في أنّه لو وقف على الفقراء ، فالمشهور ادّعوا انصرافه إلى فقراء نحلة الواقف ، لأنّ المسلم ـ مثلا ـ لا يقصد غالبا من الفقراء في وقفه ـ بل وفي سائر عطاياه ـ إذا كانت لوجه الله فقراء غير المسلمين ، وما ذهب إليه المشهور هو الصحيح. وقد ذكر بعضهم عناوين كثيرة وألفاظ متعدّدة وباحث عنها ، وكلّها يرجع إلى ما ذكرنا وأبحاث صغرويّة ، وقس الحال على هذا المنوال في سائر الموارد والمقامات ، فلا نطول المقام بذكر الأمثلة.

فرع‌

لو وقف على مصلحة معيّنة ، كما إذا وقف على طلاّب مدرسة دينيّة ، فانهدمت وصارت جزء للشارع العامّ ، بحيث لا أمل بحسب العادة في رجوعها مدرسة ، أو وقف على مسجد صار كذلك منهدما وصار جزء للشارع العامّ ، أو على قنطرة على نهر تغيّر مجرى ذلك النهر ، وصارت تلك القنطرة متروكة وبلا فائدة ، فهل يجب صرفه‌

٢٨٦

في وجوه البرّ ، أو يرجع إلى المالك ، أو يصير مباحا لكل أحد كالمباحات الأصليّة؟ وجوه.

فالذي يقول برجوعه إلى المالك إن كان وإلاّ إلى ورثته ، فبنى كلامه على أنّه من قبيل وقف منقطع الآخر ، فأمّا أن لا يخرج من ملك المالك أبدا ، لأنّه مثل الحبس عبارة عن تسبيل ثمرته مدّة بقاء الموقوف عليه ، فإذا وقع التلف على الموقوف ، فلا يبقى موضوع للتسبيل ، فقهرا ترجع المنفعة إلى مالك العين الذي هو الواقف ، ومنه إلى ورثته.

وأمّا القولان الآخران فمبناهما أنّ بالوقف يخرج عن ملك المالك ، فالذي يقول بأنّه يصرف في وجوه البرّ يقول وإن كان الموقوف يخرج عن ملك الواقف ، ولكن غرضه من هذا الإخراج صرف منافعه في ما هو البرّ عند الله تعالى ، ويكون موجبا للأجر والثواب ، ولكن عيّن ما هو البرّ في نظره بموضوع خاصّ ، فإذا ارتفع ذلك الموضوع الخاصّ الذي رجّحه على سائر مصاديق البرّ فيفقد تلك الخصوصيّة المرجّحة ، ولكن صرفه في أصل البرّ ممكن فيجب ، لأنّه بعض مطلوبه بل أصل مطلوبه ، ولم يفقد ممّا أراد إلاّ تلك الخصوصيّة المرجّحة.

بل يمكن أن يقال : إنّ المنشأ ينحلّ إلى طبيعة البرّ وتلك الخصوصيّة المرجّحة ، وليس من قبيل صرف الغرض كي تقول في باب العقود لا أثر للغرض ما لم يقع المراد والمقصود تحت الإنشاء ، ففي الحقيقة أنشأ تسبيل منفعة هذه العين الموقوفة على البرّ الذي هو المسجد أو المدرسة مثلا ، فإذا تعذّرت الخصوصيّة وأمكن صرفه في الجامع بين هذا المصداق وسائر المصاديق يجب العمل به ، لمكان ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) بمقدار ما أمكن.

وليس الجامع بين هذا المصداق وسائر المصاديق معنى جنسيّا حتّى تقول ينعدم الجنس بانعدام الفصل ، بل هو معنى متحصّل نوعيّ كسائر الطبائع والمهيّات النوعيّة ،

٢٨٧

والذي يقول بأنّه مباح لكلّ أحد كالمباحات الأصليّة ، يقول بأنّه بعد خروجه عن ملك الواقف وعدم دخوله في ملك الموقوف عليه على الفرض لعدم قابليّة الموقوف عليه الذي هو جهة من الجهات ـ وإلاّ لو كان ملكا للموقوف عليه لكان ينتقل إلى ورثته ، لا إلى ورثة الواقف ـ فقهرا بعد تعذّر الموقوف عليه يبقى ملكا بلا مالك ، فيكون كالمباحات الأصليّة.

والصحيح عندي بناء على خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف ـ وسيأتي تحقيقه وما هو المختار عمّا قريب إن شاء الله تعالى ـ هو الوجه الأوّل ، أي صرفه في وجوه البرّ. وبناء على عدم خروجه هو الوجه الثاني ، أي رجوعه إلى الواقف ، أو إلى ورثته إن لم يكن الواقف باقيا.

ووجه المختار في كلا الشقّين واضح.

أما الأوّل : فلأنّه بعد الخروج عن ملكه والقول بالانحلال لا مناص إلاّ من القول به. وأمّا الثاني : بعد القول ببقاء العين الموقوفة على ملك الواقف ، فلا بدّ من القول برجوعه إلى الواقف أو إلى ورثته ، بل في القول بالرجوع مسامحة ، لأنّه لم يخرج كي يرجع.

وأمّا الوجه الثالث فلا أساس له أصلا ، بل الأولى أن يعبّر عنه بصرف الاحتمال ، ولم أجد قولا به في الأقوال المنقولة ، بل سمعته عن بعض أساتيذي قدس‌سرهم قبل ستّين سنة.

المطلب السادس

في اللواحق‌

ونذكر فيه أمور :

الأمر الأوّل : في أنّه هل بالوقف بعد إن تمَّ بشرائطه يخرج الموقوف عن ملك‌

٢٨٨

الواقف ويزول ملكه عنه ، أم لا؟

ظاهر المشهور هو الأوّل ، بل ربما يظهر من كلام الغنية (١) والسرائر (٢) الإجماع عليه ، والظاهر عدم الدليل على ما ذهب إليه المشهور ، لأنّ الشهرة والإجماع المنقول لا اعتبار بهما ، كما أثبتناه في محلّه ، والإجماع المحصّل أوّلا : ثبوته وتحقّقه غير معلوم.

وثانيا : على فرض ثبوته لا اعتبار به ، لما ذكرنا في هذا الكتاب مرارا أنّ الإجماعات التي من المحتمل القريب أن يكون اعتماد المتّفقين على مدرك أو مدارك ذكروها كما في المقام ، ليس من الإجماع المصطلح الذي أثبتنا حجّيته في الأصول.

وأمّا كون تشريع الوقف لأجل إخراج عين الموقوفة عن ملكه ـ وجعله في سبيل الله ـ فهذه دعوى بلا بيّنة ولا برهان ، بل ظاهر أدلّة تشريع الوقف هو أن يجعل الواقف ماله الموقوف محبوسا في عالم التشريع والاعتبار عن وقوع التقلّبات الاعتبارية عليه ، ليبقى صدقة جارية على مرور الدهور ، ويجعل ثمرته في سبيل الله تعالى للموقوف عليه الذي عيّنه ، ومن الواضح المعلوم أنّ مثل هذا المعنى لا يستلزم الخروج عن ملكه لا شرعا ولا عرفا.

وأمّا ما قيل : من أنّ فائدة الملك هو الانتفاع بثمرته ، أو وقوع التقلّبات الاعتبارية عليه ، فإذا لم يكن لا هذا ولا ذاك فاعتبار الملكيّة لغو ، لأنّ مورد الكلام هو الوقف المؤبّد ، وفي غيره لم ينكر المشهور عدم خروجه عن ملك الواقف ، بل إمّا لم يخرج أصلا ، أو خرج موقّتا ثمَّ يعود كما في الحبس ، بل وفي الوقف المنقطع الآخر.

وهذا الدليل وإن كان لا يخلو عن قوّة ، ولكنّه مع ذلك يمكن أن يقال : إنّ الملكيّة حيث أنّها من الأمور الاعتبارية يمكن اعتبارها ولو كان لأثر اعتباري.

وأمّا ما قيل : من أنّها صدقة ، ومن لوازم كون المال صدقة خروجه عن ملك‌

__________________

(١) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص ٥٤١.

(٢) « السرائر » ج ٣ ، ص ١٥٣ و ١٥٥.

٢٨٩

المتصدّق ، كما ربما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام في رواية طلحة ابن زيد : « إنّما هو بمنزلة العتاقة لا يصلح ردّها بعد ما يعتق » (١).

ففيه : أنّ هذا بالنسبة إلى الصدقة بالمعنى الأخصّ ، وهو غير الوقف.

وإن شئت قلت : إنّ هذا المعنى من لوازم بعض أقسام الصدقة ، لا الطبيعة المطلقة.

وأمّا ما قيل من القول بعدم خروج العين الموقوفة عن ملك الواقف ، يلزم تخصيص قوله تعالى ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) (٢) والأصل عدم التخصيص ، وذلك لأنّ وطي أمته التي وقفها لا يجوز قطعا ، فلو لم تكن خارجة عن ملكه ومع ذلك لا يجوز ، يلزم تخصيص هذه الآية ، لأنّ مفادها جواز وطي كلّ من كانت ملك يمينه.

وهذا استدلال عجيب ، لأنّ مورد أصالة العموم ـ أو بتعبير آخر أصالة عدم التخصيص ـ فيما إذا كان الشكّ في الخروج عن تحت العموم ، لا ما هو مقطوع الخروج عن الحكم ـ كما في هذه الآية الشريفة ـ والشكّ في كونه مصداقا ، فإذا لم يكن دليل على زوال ملكيّة المال الموقوف عن ملك الواقف ، ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فالأصل يقتضي بقاء الملكيّة.

هذا كلّه في الوقف المؤبّد ، ولكن مع ذلك كلّه القول ببقاء ملكيّة الواقف ـ مع ما عرفت من الإجماع على العدم الذي يظهر من كلام السرائر والغنية ، ومع ما عرفت من لغويّة اعتبارها مع عدم وجود أثر لها ، ومع الأخبار الظاهرة في انقطاع الواقف عن العين الموقوفة ، كقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في وقف عين التي كانت في ينبع « هي صدقة بتّا بتلا » (٣) والبت والبتل بمعنى القطع والانقطاع ، وظاهره أنّه عليه‌السلام قطع نفسه عنها ولم يبق له علاقة معها ـ مشكل جدّا.

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٥٢ ، ح ٦٢٢ ، باب : الوقوف والصدقات ، ح ٦٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣١٦ ، ح ٢٤٤٣٠ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ١١ ، ح ٣.

(٢) المؤمنون (٢٣) : ٦.

(٣) تقدم راجع ص ٢٣٢ ، هامش رقم (٤).

٢٩٠

ثمَّ إنّه بناء على الخروج عن ملك الواقف ، فهل يدخل في ملك الموقوف عليه ، أو في ملك الله تعالى ، أو يبقى بلا مالك ، أو يفصّل بين الوقف الخاصّ والعامّ؟

فالأوّل عبارة عن الوقف على الأشخاص ، والثاني على العناوين.

ففي الأوّل ينتقل إلى الموقوف عليهم ، وفي العامّ ينتقل إلى الله تعالى أو يفصّل بين الوقف الخاصّ وبين الوقف على الجهات ، كالمساجد والقناطر ولخانات التي في الطريق لعموم المسافرين ، ففي الأوّل ينتقل إلى الموقوف عليهم ، وفي الثاني إلى الله. وتفاصيل أخر. وجوه بل أقوال.

أقول : لو لم يوجد دليل على الانتقال إلى الموقوف عليه ، ووصلت النوبة إلى حكم الشكّ ، فلا شكّ في أنّ مقتضى الأصل عدم الانتقال.

وأمّا الدليل على الانتقال ، فعمدته عند القائلين به أمران :

أحدهما : بقاء الملك بدون مالك ، وهو غير معقول.

والثاني : أنّ الملكيّة اعتبار عقلائيّ أمضاها الشارع لترتّب آثار عليها ، فإذا رأينا أنّ الشارع يرتّب آثار الملكيّة لشخص أو عنوان بالنسبة إلى مال ، نستكشف ملكيّة ذلك المال لذلك الشخص ، أو لذلك العنوان عند وجودهما ، وهذا من الحكم بوجود اللزوم لوجود لازمه ، ولا شكّ في أنّ ملكيّة نماء مال وثمراته من الآثار ولوازم ملكيّة نفس ذلك المال ، وأيضا لا شكّ في أنّ نماءات مال الموقوف وثمراته تكون للموقوف عليهم.

أقول أمّا الأوّل : ففيه : أنّ كون المال بلا مالك لا مانع منه ، فإنّ المباحات الأصليّة التي يدفع بإزائها المال مال وليس لها مالك ، وكذلك الأموال التي يعرض عنها أصحابها بناء على القول بخروج تلك الأموال عن ملك أصحابها بالإعراض عنها ، فأموال وليس لها مالك قبل وضع آخر يده عليها.

وأمّا الملك بدون المالك وإن كان لا يمكن وغير معقول إلاّ أنّ كون المال الموقوف‌

٢٩١

ملكا بعد زوال ملك الواقف عنه أوّل الكلام ، ويكون ادّعاؤه شبه مصادرة.

وأمّا الثاني : فإنّ ملكيّة النماءات والثمرات من قبيل لازم الأعمّ بالنسبة إلى ملكيّة العين ، فإنّ المستأجر يملك منافع العين بعقد الإجارة مع عدم كونه مالكا للعين ، وهكذا في العارية بناء على أنّها تمليك منفعة لا تمليك صرف الانتفاع بها. ومعلوم أنّه لا يمكن استكشاف الملزوم الخاصّ من اللازم الأعمّ.

هذا ، مضافا إلى أنّ بعض أقسام الوقف ، كالوقف على الجهات العامّة ـ كالمساجد والقناطر والجسور والخانات الموقوفة في الطرق لنزول عامة المسافرين ـ ليس الموقوف عليه فيها قابلا لأن يتملك.

والقول بأنّ الملكيّة أمر اعتباري وليس عرضا خارجيّا فتابع لاعتبار المعتبرين ، فإذا اعتبروه لهذه الجهات فيتحقّق في عالم الاعتبار.

وفيه : أنّها وإن كان كذلك ، ولكن العقلاء أو الشارع لا يعتبرون ذلك الأمر الاعتباري إلاّ في مورد يكون مصحّحا لاعتبارهم ، فلا يعتبرون الولاية أو القيمومة على الصغير ـ مثلا ـ لسفيه أو مجنون ، ونرى بالوجدان أنّهم يستنكرون اعتبار الملكيّة لجماد أو نبات ، بل ولحيوان غير الإنسان.

ومضافا إلى أنّ هذه الدعوى معارض بمثلها ، وهو أنّه كما يستكشف من وجود الأثر واللازم وجود الملزوم ، كذلك يستكشف من نفي الأثر واللازم نفي الملزوم ، ولا شكّ أنّ من لوازم الملكيّة جواز التصرّف في الملك ببيع أو هبة أو صلح وسائر التقلّبات المشروعة في عالم الاعتبار التشريعي ، ولا شكّ في أنّ الموقوف عليه ليس له هذه التصرّفات حقيقة ، إذ هي ضدّ حقيقة الوقف الذي هو الحبس والإيقاف في عالم الاعتبار التشريعي.

فيمكن أن يقال بعدم الملكيّة لعدم جواز هذه التصرّفات.

ولكن الجواب في كلا المقامين واحد ، وهو أنّه لا وجود اللازم الأعمّ يدلّ على‌

٢٩٢

وجود الملزوم الخاصّ ، ولا نفي الأثر الذي ليس لازما لنفس الطبيعة ، بل قد يكون وقد لا يكون لنفي تلك الطبيعة.

وبعبارة أخرى : الأثر فيما نحن فيه ـ أي : التصرّفات في العين وجواز ورود التقلّبات عليه ـ ليس أثرا لطبيعة الملك مطلقا ، سواء أكان طلقا أو غير طلق ، بل أثر للملك الطلق ، والوقف على تقدير كونه ملكا ليس بطلق ، فنفي اللازم وإن كان يدلّ على نفي الملزوم ، لكن فيما إذا كان من لوازم الشي‌ء مطلقا ، لا من لوازم بعض أقسامه ، كما فيما نحن فيه ، نعم يدلّ على نفي ذلك القسم الذي هو لازمه.

وممّا ذكرنا ظهر : أنّ ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره ـ من التفصيل بين الوقف على الجهات ، فقال بعدم انتقال الملك إلى تلك الجهة ، لعدم قابليّتها للتملّك ، ونفي البعد عن الانتقال إلى الموقوف عليهم في الأوقاف الخاصّة ، والعناوين العامّة القابلة للتملّك (١) ـ قول وتفصيل بلا دليل ، ولم يقم هو دليل على هذه الدعوى ، وما ذكروه عرفت حاله.

الأمر الثاني : في الوقف على أولاده.

وللوقف على الأولاد في مقام الإنشاء صور :

فتارة : يقف على أولاده بدون قيد الصلبي ، وأخرى : معه.

فإذا كان أولاده بدون قيد الصلبي ، فهل يشمل أولاد أولاده ، أو يختص بالصلبي؟

أي بدون واسطة ، كما أنّه لو كان مقيّدا بالصلبي لا يشملهم يقينا إلاّ مع قرينة.

وظاهر المشهور اختصاصه بالصلبي ، وعدم شموله لأولاد الأولاد.

ولكن هذه الكلمة بحسب الوضع اللغوي تكون موضوعه لمطلق الولد ، سواء أكان بلا واسطة أو معها ، فيشمل الجميع ، إلاّ أن يدّعي الانصراف وهو غير بعيد ، لأنّ مشهور الفقهاء الكبار إذا فهموا منه كون الولد بلا واسطة مع أنّ الأساطين منهم‌

__________________

(١) السبزواري في « كفاية الأحكام » ص ١٤٢.

٢٩٣

عربيّون وهم أعرف بظواهر لغتهم ، والمناط في باب الألفاظ هو ظهورها في معنى ، فإنّه حجّة ، لا أنّه موضوع لكذا أو كذا.

وأمّا لو قال : على أولادي وأولاد أولادي ، فهل يشمل خصوص البطن الأوّل والثاني فقط ، أو يعمّ جميع البطون؟

فذهب المشهور إلى أنّ كلمة « أولادي » ينصرف إلى بلا واسطة ، أي البطن الأوّل ، وكلمه « أولاد أولادي » إلى البطن الثاني فقط ، فلا يعمّ جميع البطون. وهو الصحيح ، لأنّ ذكر أولاد أولادي قرينة على عدم عموم كلمة أولادي الأوّل ، وإلاّ لما كان يحتاج إلى الثاني.

كما أنّه أيضا قرينة على اختصاصه بالبطن الثاني فقط ، ولا يشمل سائر البطون لعين تلك الجهة ، إذ لو يؤخذ بعموم لفظ « الأولاد » فلم يكن ذكره محتاج إليه بل كان لغوا ، فيكون ذكره قرينة على عدم العموم في المضاف وفي المضاف إليه.

وأمّا شمولها للذكر والأنثى بل الخنثى ، وإن كان الولد بحسب الوضع اللغوي عامّا يشمل الذكر والأنثى والخنثى ، ولكن حيث قلنا إنّ المناط هو الظهور لا المعنى الحقيقي ، فلا بدّ من مراعاة الظهورات ، وهي تختلف بحسب الأعصار والأمصار ، ففي هذا الزمان ـ مثلا في العراق ـ ينصرف لفظ الولد إلى الذكر ، ولا يشمل الأنثى ولا الخنثى.

فلو كان الواقف من أهل هذه البلاد وفي هذا الزمان ، يجب الأخذ بظاهرهما وما هو المتفاهم العرفي بينهم ، وإن كان بحسب الوضع اللغوي له معنى عامّ.

وأمّا لو قال : وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن ، فهل يشمل البطون على الترتيب أو على التشريك؟ بمعنى أنّ الابن يشارك أباه ، وكذا ابن الابن يشارك أباه وجدّه وهكذا ، أو لا يصل إلى الطبقة الثانية إلاّ بعد موت الطبقة الأولى ، فلو كان للواقف ابن واحد حيّ وابن مات أبوه فهل يشارك عمّه ، أو لا؟

فبناء على القول بالترتيب لا يشارك ، وعلى التشريك يشارك.

٢٩٤

وقد تقدّم أنّه يجب الأخذ بظاهر كلامه عند الإنشاء إن لم يعلم بمراده. والظاهر حسب المتفاهم العرفي من هذه العبارة هو الترتيب لا التشريك ، بمعنى أنّه لا تصل النوبة إلى الطبقة الثانية ما دام من الطبقة الأولى يكون موجودا ولو كان واحدا ، فلا تصل إلى أحفاده ما دام أولاده الصلبي موجودا. وهذا الترتيب بين الطبقات يستفاد من ظاهر لفظ « بعد » ، وهو واضح. والاحتمالات الأخر ملقى بنظر العرف.

الأمر الثالث : في أنّ الوقف لا يبطل بخرابه وانهدامه ، لا بجواز بيعه.

أمّا الأوّل : فلأنّ وقف دكّان أو دار أو بستان ـ مثلا ـ مثل بيعه أو هبته أو سائر الاعتبارات الواردة عليها ، فكما أنّه لا تبطل تلك العناوين بخرابه وانهدامه ، فكذلك في الوقف ، لأنّه أيضا أحد الاعتبارات الواردة عليه وليس الموقوف عنوان الدار أو الدكّان مثلا ، بل تلك القطعة من الأرض المعنونة بهذا العنوان.

فلو ارتفع العنوان فلا ينعدم موضوع الوقف بالمرّة ، بل الموقوف باق ، غاية الأمر وقع تغيّر فيه ، وهذا التغيير لا يضرّ ببقاء الوقف ولا ببقاء الموقوف عليه ، فلا وجه لبطلان الوقف.

نعم لو جاء دليل على أنّه خرج عن كونه وقفا بإتيان دليل على جواز بيعه ، فهو المتّبع ، وإلاّ فمقتضى الأصل بقاء وقفيّته حتّى مع جواز بيعه ، لبقاء الموضوع عرفا ، وهو تلك القطعة من الأرض التي كانت معنونة بعنوان الحمّام أو الدار أو الدكّان أو غير ذلك.

وأمّا الثاني : أي : عدم بطلان الوقف بجواز بيعه : فلأنّ بطلان الشي‌ء إمّا بانعدام علل قوامه ـ وذلك لأنّه بعد انتفاء علل قوامه جميعا لو بعضها أو بقي يلزم الخلف ، أي يلزم أن يكون ما فرضه داخلا في قوامه لا يكون داخلا في قوامه ، وهو محال ـ وإمّا بإتيان دليل تعبّدي على بطلانه.

أمّا الدليل التعبّدي من إجماع أو آية أو رواية معتبرة ، فليس شي‌ء من هذه في‌

٢٩٥

المقام ، فالعمدة هو الوجه الأوّل ، أي انتفاء شي‌ء ممّا هو داخل في قوامه ، فلا بدّ وأن ينظر ويلاحظ هل عدم جواز البيع من مقوّمات حقيقة الوقف وماهيّته كي يبطل بجواز البيع ، أو من بعض آثاره وأحكامه كي لا يكون ارتفاعه وجوازه موجبا لبطلانه إذا جاء دليل من نصّ أو إجماع على جواز بيعه عند عروض بعض العوارض؟

إذا عرفت هذا ، فنقول : قد تقدّم أنّ الوقف عبارة عن الإيقاف وحبسه عن التقلّبات الاعتباريّة ، كبيعه وهبته والصلح عليه وغير ذلك ، ومقتضى هذا التعريف أنّ عدم جواز البيع كسائر التبدّلات الاعتباريّة داخل في حقيقة البيع وفي قوام ذاته ، أو لا أقلّ من مقتضيات ذاته ، فلا بدّ من القول ببطلانه عند جوازه.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ حقيقة الوقف وإن كان هو الحبس عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، ولكن لا مطلقا ، بل ما لم يعرض عليه أحد موجبات جواز بيعه ، وإلاّ ففي صورة حدوث أحد تلك الموجبات لجواز بيعه يجوز بيعه ، مع أنّه وقف. نعم بوقوع البيع خارجا لا يبقى موضوع للوقف ، فيرتفع قهرا.

وهذا أيضا يظهر من ظاهر عبارتهم أنّه يجوز بيع الوقف في مورد كذا وكذا ، فإنّ ظاهرها أنّ البيع يرد على الوقف.

وعلى كلّ حال قالوا بجواز بيع الوقف في موارد وصور :

الأوّل : أن يخرب الوقف بحيث يسقط عن المنفعة بالمرّة ، بمعنى أنّه لا يمكن انتفاع الموقوف عليهم به مع بقاء عينه.

ووجه جواز البيع في هذه الصورة هو أنّ حبس العين عن البيع وعن سائر التقلّبات كان لأجل أن ينتفع الموقوف عليهم به ، وهذه الغاية هو المراد والمقصود الأصلي من إنشاء الوقف ، فإن لم يمكن الانتفاع به أصلا فيكون الإيقاف لغوا.

ولذلك قلنا من شرائط صحّة الوقف أن يكون الموقوف ذا منفعة محلّلة قابلة‌

٢٩٦

للتسبيل ، فالمنع عن البيع يكون لأجل هذه الجهة ، فإذا لم تكن منفعة في البين فلا مانع عن البيع ، لأنّ إبقاءه لغو ولا فائدة فيه.

وأمّا أدلّة المنع ، فادّعاء الإجماع على عدم جواز البيع ، مع ذهاب الأكثر إلى الجواز في هذه الصورة فممّا لا ينبغي أن يتفوّه به.

وأمّا قول أبي الحسن عليه‌السلام في رواية عليّ بن راشد : « لا يجوز شراء الوقف ، ولا تدخل الغلة في ملكك » (١) لا إطلاق لها يشمل هذه الصورة ، لورود هذه الرواية في مورد وجود منفعة العين الموقوفة كاملة ، وإنّما كان سؤال الراوي عن اشتراء الوقف من جهة مجهوليّة الموقوف عليه ، ولذلك قال عليه‌السلام : « ادفعها إلى من أوقفت عليه » قال :

لا أعرف لها ربّا ، قال عليه‌السلام : « تصدّق بغلتها ». فليس عليه‌السلام في مقام بيان أنّ الوقف بأيّ حال من الأحوال لا يجوز شراؤها.

وإن شئت قلت : إنّها منصرفة عن هذه الصورة التي ترجع إلى إبقائها بلا فائدة حتّى تتلف.

وبعبارة أخرى : المراد منها أنّ الوقف ليس على حدّ سائر الأملاك المطلقة ، بحيث يجوز بيعه وشراؤه مطلقا.

وأمّا قوله عليه‌السلام « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » فأجنبيّ عن هذا المقام ، لأنّ ظاهره لزوم العمل على طبق ما قرّره الواقف من القيود والشروط حين إنشاء الوقف.

ومعلوم أنّ إبقاؤها وعدم بيعها بعد ما لم تكن لها منفعة أصلا ـ وكان إبقاؤها لغوا وبلا فائدة ـ ليس من الكيفيّة التي أنشأ الواقف الوقف بتلك الكيفيّة ، ولا من الشروط أو القيود التي قرّر الوقف عليها حال الإنشاء.

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٧ ، باب : ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح ٣٥ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٤٢ ، ح ٥٥٧٦ ، باب : الوقف والصدقة والنحل ، ح ١٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٣ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٦ ، ح ١.

٢٩٧

وأمّا قوله عليه‌السلام : « صدقة لا تباع » في طائفة من الأخبار المتقدّمة ، (١) فالظاهر أنّ المراد منه أنّ الوقف ليس على حدّ سائر الأملاك المطلقة ، بل لا يجوز بيعه وشراؤه إلاّ بعد دليل على الجواز في بعض الحالات الطارئة عليه ، فيكون مخصّصا لأدلّة عدم جواز بيعه إن كان لها عموم ، ومقيّدا إن كان لها إطلاق.

ويكون ذلك الدليل الدالّ على الجواز حاكما على أصالة عدم جواز البيع ، أو استصحاب المنع الذي كان قبل طروّ تلك الحالة ، على تقدير جريانه وتماميّة أركانه ، فيدور الأمر بين أحد هذه الأمور الثلاثة :

أحدها : إبقاؤها حتّى تتلف. وهذا ممّا يأباه الذوق الفقهي والفهم السليم.

والثاني : بيعه وإعطاء ثمنه للموجودين. وهذا تضييع لحقّ البطون اللاحقة.

الثالث : تبديله بعين أخرى تكون ذات منفعة جارية كالمبدّل ، فتكون صدقة جارية كالأصل ، وربما يكون في البدل نفعا أكثر من الأصل.

ويمكن أن يوجّه التبديل ، مضافا إلى ما ذكرنا أنّ الواقف أنشأ حبس العين بجهاتها الثلاث لجريان منافعها على الموقوف عليهم ، والمراد من الجهات الثلاث : الخصوصيّات ، والنوعيّة ، والماليّة للعين الموقوفة. وبعد تعذّر إبقاؤها شرعا بجهاتها الثلاث لكونها لغوا لا فائدة فيه ، ولا يترتّب عليه الأثر المقصود من وقفها ، وإمكان إبقائها بجهتين ، أي : الماليّة ، والجهات النوعيّة ، كما إذا كان الموقوف دارا فخربت ، وهي في مكان لا ينتفع بها أصلا ، ولكن أرضها واقعة بجنب دار أو دكّان أو خان يشتريها ربّ تلك الدار أو ذلك الدكّان أو الخان بأعلى القيم ، فيشتري دارا أخرى بثمن تلك الخربة دارا أوسع وأحسن منه بعشر مرّات ، فيمكن إبقاء حبس ماليّة تلك الدار الموقوفة مع جهاتها النوعيّة ، فلا وجه لعدم الالتزام بالإبقاء والقول بذهابه من البين.

ثمَّ إنّهم ذكروا ها هنا احتمالات وأقوال لا يهمّنا ذكرها بعد ما عرفت ممّا هو‌

__________________

(١) تقدم راجع ص ٢٣٢ ، هامش رقم (٢).

٢٩٨

الصواب ، فذكرها والنقض على بعضها وإبرام بعضها الآخر لا فائدة فيها إلاّ تطويل المقام.

الصورة الثانية : أن يكون خرابه سببا لقلّة الانتفاع به ، كما إذا خرب دكّان أو خان ، وكان نفعهما حين ما كانا دكّانا وخانا كثيرا ، لأنّهم كانوا يستأجرونهما لمحلّ كسبهم وتجارتهم ، ولكن بعد خرابها وصيرورتها عرصتين وإن كانوا يستأجرونهما بمقدار قليل لبعض الحوائج ، ولكن بالنسبة إلى النفع الأوّل في حكم العدم ، فالمشهور ذهبوا إلى عدم جواز بيعه ، لأنّ إبقاءه ليس بلا فائدة ، غاية الأمر قليلة ولو كان قلّة المنفعة كانت سببا لجواز البيع ، فإذا كان الدكّان أو الخان في سوق كثير المارّة مزدحمة بالناس ، ثمَّ اتّفق أن صار ذلك السوق قليل المارّة بواسطة وجود الشوارع والأسواق المعمورة في ذلك البلد وإقبال الناس عليها ، فيقلّ طلاّب ذلك الدكّان أو ذلك الخان ، وربما يبلغ في القلّة ونزول غلّته إلى عشر ما كان في الأوّل ، فهل ترضى من نفسك أن تقول بجواز بيع مثل ذلك الدكّان والخان؟!

فالإنصاف : أنّ ما ذهب المشهور إليه من عدم جواز بيعه في هذه الصورة جيّد ولا بأس به. نعم لو قلّت منفعته بمقدار لا يعدّه العرف ذا منفعة ، بل يرونه عادم المنفعة ، فالظاهر إلحاقه بالصورة الأولى ، لأنّ الوقفيّة أيضا اعتبار من اعتبارات الشرع ، بل هو أيضا مثل الملكيّة من الاعتبارات العرفيّة التي أمضاها الشارع ، وليس من مخترعاته ، فإذا كان نفعه قليلا بحيث يرى العرف حبسه وتسبيل منفعته لغوا ، فلا تشمله أدلّة المنع عن بيع الوقف.

اللهمّ إلاّ أن يقال بجريان استصحاب عدم جواز البيع قبل أن تقلّ منفعته إلى ذلك الحدّ ، وذلك أيضا فيما إذا حصل الشك.

وأمّا إذا كان اعتبار الوقف لغوا في مثل هذا المال الذي بنظرهم يكون مسلوب المنفعة ـ وإن كان له منفعة قليلة ـ فلا يأتي شكّ كي يستصحب المنع.

٢٩٩

الصورة الثالثة : لو زال العنوان الذي وقفه الواقف بذلك العنوان ، كالحمّام والبستان ، فوقف الأوّل لأن يغتسل فيه الزوّار أو الطلاّب مثلا ، والثاني لأن ينتفع بثمرته الفقراء ، فخربا وصارا عرصتين ، ولكن يمكن أن ينتفع الموقوف عليهم بهما بعد خرابهما وزوال عنوانهما بمنافع أخر أكثر من الأوّل أو ما يساويه.

فقال جماعة بجواز بيعهما بعد زوال عنوانهما ، لأنّ الواقف وقف الحمّام أو البستان ، والمفروض أنّ ما هو الموجود ليس بحمّام ولا ببستان ، فلم يبق ما هو الموقوف كي يقال بوقفيّته.

وأشكل عليه : بأنّ تعلّق الوقف بهذه العناوين مثل تعلّق البيع والهبة بها ، فكما أنّه لو باع الحمّام أو البستان ، أو وهبهما لا يخرجان عن ملك المشتري أو الموهوب له بزوال عنوانيهما وصيرورتهما عرصتين ، فكذلك لا يخرجان عن الوقفيّة بزوال العنوانين.

وما قيل في الفرق : بأنّ الحمّام أو البستان في البيع والهبة مورد ، وفي الوقف عنوان ، لا يخلو عن مجازفة.

اللهمّ إلاّ أن يكون مراد هذا القائل أنّ في باب البيع والهبة يملك الأرض مع بنائها للمشتري والموهوب له ، ولذلك لو خربا وانهدما لا تخرج أرضهما عن ملكه ، بخلاف الواقف فإنّه يحبس هذا العنوان لتسبيل منفعته.

فعمدة نظره إلى تسبيل منفعة هذا العنوان ، فإذا زال فلا يبقى موضوع للحبس ولا لتسبيل منفعته ، لأنّه بناء على ما ذكرنا يكون مراد الواقف ـ وما أنشأه ـ هو تسبيل منفعة هذا العنوان ، لا منفعة هذه الأرض التي بنى عليها هذا العنوان ، فإذا وقف دارا على أن يسكن فيه إمام المسجد الفلاني مثلا ، فانهدمت وصارت عرصة لا بناء عليها ، فإنّه وإن كان من الممكن أن تكون لتلك الأرض منافع كثيرة ، يجعلها مخزن للبعض الأجناس ، أو محلاّ للسيّارات ، ولكن هذه المنافع لم ينشأ نسبتها من‌

٣٠٠