القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت أنّ من شروط صحّة الوقف الدوام والتأبيد ، فلو وقف على من ينقرض غالبا ، كما إذا وقف على أولاده بلا فصل ، أي البطن الأوّل مثلا ، أو ولو قال بطنا بعد بطن إلى عشرة أبطن ، أو مطلقا ولكن لم يذكر عنوانا آخر كالفقراء أو الفقهاء بعدهم ، فهل يبطل فلا يقع وقفا ولا حبسا ، أو يقع حبسا فيرجع بعد انقراضهم إلى الواقف أو ورثته؟

فيه أقوال :

الأوّل : وقوعه وقفا.

الثاني : وقوعه حبسا.

والثالث : بطلانه وعدم وقوعه لا وقفا ولا حبسا.

أمّا الثالث ـ أي البطلان وعدم وقوعه لا وقفا ولا حبسا ـ فنسبه في الشرائع إلى القيل (١) ، وقال في الجواهر في شرح العبارة : كما عن المبسوط إرساله أيضا ولكن لم أتحقّق قائله (٢).

أمّا الأوّل ـ أي وقوعه وقفا ـ فنسب إلى الشيخين قدس‌سرهم (٣) والمختلف (٤) والتذكرة (٥) ، وقال في الجواهر : وأكثر الأصحاب (٦).

وأمّا الثاني فنسب إلى جماعة منهم جامع المقاصد (٧) وثاني الشهيدين في كتبه‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢١٦.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٥٥.

(٣) الشيخ المفيد في « المقنعة » ص ٦٥٥ ، الشيخ الطوسي في « النهاية » ص ٥٩٩.

(٤) « مختلف الشيعة » ج ٦ ، ص ٢٦٥ ، كتاب الوقف ، مسألة : ٣٧.

(٥) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٤٣٣.

(٦) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٥٦.

(٧) « جامع المقاصد » ج ٩ ، ص ١٦.

٢٦١

الثلاثة المسالك (١) والروض (٢) والروضة (٣) والإرشاد (٤) والمختلف (٥) والتنقيح (٦) وإيضاح النافع وغيرهم.

والظاهر أنّ القول بالبطلان في غاية الشذوذ ، وأمّا القولان الآخران فكلّ واحد منهما له شهرة ، وعلى كلّ حال فمقتضى ما ذكرنا أنّ الفرق بين الوقف والحبس ليس إلاّ بالتأبيد والتوقيت ، فيقع حبسا لا محالة ، لأنّه بناء على هذا يكون حبسا للعين وتسبيلا للثمرة مدّة عدم انقراضهم ، وهذا هو الحبس.

غاية الأمر يبقى الكلام في أنّه يجوز إنشاء الحبس بصيغة « وقفت » أم لا؟

وهذا ليس فيه كثير إشكال بناء على أنّ حقيقة الوقف والحبس واحدة ، وهو إيقاف العين عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، غاية الأمر في الوقف دائما ، وفي الحبس موقّتا.

ولكن يرد عليه أنّ الحبس بعد انقضاء المدّة يرجع فيه المال المحبوس إلى المالك ، وفي الوقف خرج عن ملكه فلا يرجع إليه أو إلى ورثته ، بل الصحيح أنّ في الحبس لم يخرج المال عن ملك المالك ، بل هو تسبيل المنفعة موقّتا فهذا الاختلاف وغيره من الآثار والأحكام يدلّ على أنّهما ليسا حقيقة واحدة ، فإذا قصد الوقف وأنشأ بصيغة الوقف لا بدّ وأن يكون إمّا وقفا إن كان صحيحا ، وإمّا أن يكون باطلا.

وأمّا ما يقال : من أنّهما حقيقة واحدة ، والاختلاف في الأحكام والآثار من ناحية اختلافهما في المرتبة ، كالوجوب والاستحباب عند هذا القائل ، فالوقف هو الحبس‌

__________________

(١) « مسالك الأفهام » ج ١ ، ص ٢٧٨.

(٢) « مفتاح الكرامة » ج ٩ ، ص ١٧.

(٣) « اللمعة ـ الروضة البهية » ج ٣ ، ص ١٦٩.

(٤) « إرشاد الأذهان » ج ١ ، ص ٤٥٢.

(٥) « مختلف الشيعة » ج ٦ ، ص ٢٦٧.

(٦) « التنقيح الرائع » ج ٢ ، ص ٣٠٣.

٢٦٢

المطلق غير المحدود ، والحبس هو الحبس المحدود المعيّن مدّته.

فعلى فرض صحّة هذا الكلام ، فإذا قصد مرتبة من تلك الحقيقة لا تقع مرتبة أخرى ، لأنّ العقود تابعة للقصود ، والمفروض أنّه فيما نحن فيه قصد الوقف ، فوقوع مرتبة أخرى لا وجه له ، فبناء على هذا لا بدّ من القول بوقوعه وقفا إن لم نقل بالبطلان.

ولكن يرد على هذا أيضا أنّ من شرائط صحّة الوقف الدوام والتأبيد ، بل احتملنا أن يكون داخلا ومأخوذا في حقيقة الوقف.

ويمكن أن يجاب عنه أوّلا : بأنّ الدوام ليس مأخوذا في حقيقة الوقف ، وليس دليل يدلّ على هذا ، وإنّما قلنا باعتباره فيه للإجماع ، وادّعاء الإجماع مع شهرة المخالف في هذه المسألة ـ حيث أنّهم يقولون بصحّته وقفا ـ لا يخلو عن غرابة.

وثانيا : المراد من الدوام المعتبر في الوقف هو أن لا يحدّد الوقف ومدّة حبسه ، وأمّا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه فعقليّ وليس من قبيل تحديد الحكم ، فلو قال لزيد :

بعتك هذه الدار بكذا ، فلم يحدّد تمليكه لزيد ولكن ملكيّة زيد ينعدم بموته عقلا ، إذ لا يمكن بقاء الحكم بدون الموضوع. وفيما نحن فيه إذا قال : وقفت على أولادي النسل الأوّل منهم ، لم يحدّد وقفه وحبسه ، وإنّما ينتفي الحبس بانقراضهم عقلا ، لا بتوقيت وتحديد من قبل المالك.

ولذلك لو قال : وقفت على أولادي نسلا بعد نسل وبطنا بعد بطن ، واتّفق أنّهم لم ينقرضوا ، فالوقف صحيح ، مع أنّ بقاءهم من باب الاتّفاق لا ربط له بإنشاء الواقف.

ثمَّ إنّه بناء على القول بأنّه حبس صحيح ، فلا شكّ في أنّه بعد انقراضهم يرجع إلى المالك أو إلى ورثته.

وأمّا بناء على ما رجحناه من أنّه وقف صحيح ، فهل يرجع إلى المالك أو إلى ورثته إذا لم يكن المالك باقيا ، أو يرجع إلى ورثة الموقوف عليه ، أو يصرف في وجوه‌

٢٦٣

البرّ؟ وجوه بل أقوال :

وبيان الرجوع إلى المالك أو ورثته هو أنّه لو قلنا بأنّ حقيقة الوقف صرف حبس ماله وإيقافه عن ورود التقلّبات الاعتبارية عليه ، وتسبيل ثمرته على عنوان خاصّ أو أشخاص مخصوصين من دون إخراجه عن ملكه ، فالأمر في غاية الوضوح ، لأنّه ملكه ، وبعد موته ملك وارثه.

وأمّا إن قلنا بأنّه تمليك للموقوف عليهم فيما عدا وقف المسجد ، بل وفيما عدا الوقف على الجهات ، كالقناطر والخانات والرباطات ، فمقتضى القاعدة عدم رجوعه إليه أو إلى وارثه ، لأنّ رجوعه إليه بعد خروجه عنه يحتاج إلى دليل وهو مفقود. اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ خروجه عن ملك الواقف ليس مطلقا ودائميّا بل مقيّد ببقاء الموقوف عليهم ، فإذا انقرضوا يرجع إلى حالته الأولى ، بل ينبغي أن يقال يبقى على حالته الأولى ، لا أنّه يرجع إليها.

وأمّا إن قلنا بخروجه عن ملك الواقف ، وصيرورته ملكا مطلقا للموقوف عليهم غير مقيّد ببقائهم ، فإذا انقرضوا يكون لورثة البطن أو الشخص الأخير ، بمفاد قوله عليه‌السلام : « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه » (١). وليس التمسّك به من قبيل التمسّك بعموم العامّ في الشبهة المصداقية ، لأنّه بناء على عدم تقييد ملكيّته ببقائه يصدق عليه عنوان « ما تركه الميت » يقينا.

وأمّا القول بصرفه في وجوه البرّ فليس له وجه ، إلاّ أن يقال بأنّ المال خرج عن ملك الواقف مطلقا ودخل في ملك الموقوف عليهم مقيّدا ببقائهم ، فلا يرث وارثهم ولا الواقف ، لأنّ دخوله في ملكه ثانيا يحتاج إلى دليل وليس ، ومع ذلك كلّه الوقف باق على وقفيّته ، فيكون مثل الوقف المجهول المصرف يصرف في وجوه البرّ.

__________________

(١) النراقي في « مستند الشيعة » ج ١٤ ، ص ٤١٢ ، « مسند احمد » ج ٢ ، ص ٤٥٣ ، نحوه ، « سنن ابن ماجه » ج ٢ ، ص ص ٩١٤ ، ح ٢٧٣٨ ، باب ذوي الأرحام ، نحوه.

٢٦٤

ولكن أنت خبير بعدم تماميّة هذه المقدّمات ، خصوصا المقدّمة الأخيرة والأولى ، بل الأقوى من الوجوه المذكورة هو الرجوع إلى الواقف ، وذلك لأنّ المال إمّا لم يخرج عن ملكه بالمرّة ، أو يكون خروجه ما دام بقاء الموقوف عليهم لا مطلقا.

بقي الكلام في أنّه بناء على المختار من أنّه يرجع إلى الواقف أو ورثته ، فهل المراد هو الوارث حين موت الواقف ، أو حين انقراض الموقوف عليهم؟

وتظهر الثمرة فيما إذا كان للواقف ولدان ـ مثلا ـ أحدهما مات بعد موت المالك الواقف ، ولكن قبل انقراض الموقوف عليهم. والثاني باق إلى زمان انقراضهم ، فلو كان المراد الوارث حين موت الواقف فيرث ذلك الولد الذي مات قبل انقراض الموقوف عليهم ، ويكون شريكا مع أخيه الباقي إلى زمان الانقراض ، ويرث منه ورثته الباقون.

وأمّا لو كان المراد الوارث حال الانقراض ، فيكون جميع المال لذلك الولد الباقي إلى زمان الانقراض.

والظاهر أنّ المراد من الوارث هو الوارث حال موت الواقف ، لا الوارث حال الانقراض ، وذلك من جهة أنّ المناط في رجوع المال إليه كونه وارثا لمن يرجع إليه ـ أي الواقف ـ وهذا المعنى يثبت له حال موت الواقف المورث ، ولا ربط لانقراض الموقوف عليهم بكونه وارثا ، كما هو واضح.

إن قلت : إنّ حال موت الواقف ليس شي‌ء في البين كي يرثه هذا الوارث ، لأنّ الرجوع بعد الانقراض ، ولا بدّ في كونه وارثا من صدق « ما تركه الميّت من حقّ أو مال فلوارثه » والمفروض أنّه في حال موته لم يترك شيئا كي يرثه هذا الوارث.

قلت : بيّنّا أنّ الرجوع إلى المالك أو وارثه يكون إمّا بناء على عدم خروج المال الموقوف عن ملك الواقف أصلا ، وفي هذه الصورة واضح أنّه لا إشكال في البين. وإمّا بناء على أنّ تمليك الموقوف عليهم ليس تمليكا مطلقا ، بل يكون مقيّدا ببقائهم ، فمن زمان انقراضهم لم يخرج عن ملك المالك من أوّل الأمر.

٢٦٥

وبعبارة أخرى : صار تقطيعا في ملكيّة المالك مثل الحبس ، حيث أنّه يصير ملكا موقّتا له ، فخروجه عن ملك الواقف بمقدار زمان الحبس ، وفي باقي الأزمنة باق على ملكه ، وفيما نحن فيه أيضا بناء على هذا المبنى كذلك ، أي خارج عن ملك الواقف بمقدار بقاء الموقوف عليهم ، وفي باقي الأزمنة باق على ملكه ، فلا يبقى إشكال في أنّه ينتقل حين موته إلى ورثته.

ثمَّ إنّه بعد ما عرفت أنّ أحد شروط صحّة الوقف إخراج الواقف نفسه عن الموقوف عليهم كي لا يكون من قبيل الوقف على النفس ، لأنّه باطل إجماعا ـ كما تقدّم مفصّلا ـ فلو وقف على أحد العناوين كالفقهاء أو السادات أو غيرهما من العناوين ، وشرط عليهم أداء ديونه أو إدرار مئونته أو عياله أو غير ذلك ممّا يرجع إلى نفسه ، فهل هذا من قبيل الوقف على النفس كي يكون باطلا ، أو ليس كذلك فيكون صحيحا؟

أقول : إن كان شرط عليهم إدرار مئونته أو أداء ديونه من غير منافع الوقف ومن ماله الآخر ، فلا إشكال في أنّه ليس من قبيل الوقف على النفس. وإن شرط أن يكون من منافع الوقف ، فيكون وقفا على النفس ، من جهة أنّ المراد من الوقف على النفس هو أن يرجع تمام الثمرة والمنفعة أو بعضها إلى الواقف ، وما نحن فيه كذلك ، فيكون هذا الشرط فاسدا. وحيث أنّ الشرط الفاسد ليس بمفسد ، وهو إحدى القواعد التي رتّبناها في الجزء الرابع من هذا الكتاب ، فيكون الوقف صحيحا ويصرف في نفس العنوان الموقوف عليهم ، ولو شرط صرف بعض منافعه وثمرته على أهله أو أضيافه أو على أولاده وإن كانوا ممّن هم نفقتهم واجبة عليه ، لأنّ هذا ليس من قبيل الوقف على نفسه.

وأمّا إذا شرط أداء زكاته الواجبة ، أو الخمس الواجب في ماله ، فهذا الشرط فاسد ، لأنّه من قبيل الوقف على نفسه. ولو شرط عليهم الحجّ له به بعد موته من منافع هذا الوقف ، فالظاهر عدم صحّة هذا الشرط.

٢٦٦

فرع :

إذا استثنى مقدارا من منافع العين الموقوفة ، أو من نفس العين لنفسه ، فالظاهر أنّه ليس من الوقف على النفس ، بل هو إخراج عن أصل الوقف ، فيرجع إلى أنّه لم يقف تمام هذه العين ، أو لم يسبل تمام منافعه ، فلا إشكال فيه أصلا.

فرع آخر :

لو جعل نفسه متوليّا وناظرا على الوقف ، وجعل مقدارا من منافع ذلك الوقف قليلا أو كثيرا للمتولّي ، فهل هذا من قبيل الوقف على النفس وباطل ، أم لا؟.

أقول : إذا كان بمقدار المتعارف ، كالعشر من منافع الوقف ، فالظاهر أنّه لا إشكال فيه ، لأنّه في الواقع من قبيل الأجرة مقابل عمله وتعبه في إدارة الوقف من عمارته وإجارته وإصلاح شؤونه وسائر تصرّفاته.

ولا شكّ في أنّ حال الوقف حال الأملاك الشخصيّة ، كما أنّهم يجعلون أجرا للذي يدير ذلك الملك ، وقد يكون الأجر حصّة من منافع ذلك الملك ، وليس معنى ذلك أن يكون شريكا فيه ، بل يكون كسائر مؤن ذلك الملك ، فيكون حال المتولي والناظر في الوقف حال ذلك الرجل الذي يدير أمر ملك غيره ويديره.

وأمّا إذا كان كثيرا كتسعة أعشار منافعه مثلا لو جعلها للمتولّي الذي هو نفس الواقف ما دام حيّا وفي الطبقة الأولى ، وعيّن غيره بعد مماته ، وجعل له مقدارا متعارفا ، فالإنصاف أنّه لا يخلو عن إشكال ، لأنّه بنظر العرف وقف على نفسه ، فكأنّه جعل نفسه موقوفا عليه ، وإن كان بحسب الظاهر يقال : إنّه حقّ التولية ، ولكن في مقام اللبّ ليس بإزاء إتعابه في إصلاح شؤون الوقف وإدارة أموره.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ عمدة دليل بطلان الوقف على النفس هو الإجماع كما تقدّم ، ولا شكّ في أنّه ليس إجماع في مثل المقام ، بل القائلين بصحّة مثل هذا المقدار للمتولّي كثير ، إن لم يكن من القائلين بالبطلان أكثر.

٢٦٧

أو يقال : بأنّه من باب استثناء هذا المقدار من المنافع مدّة حياة المتولي عن الوقف ، فلا إشكال من ناحية الوقف على النفس أصلا.

وأمّا من ناحية الاستثناء ، فالظاهر أنّه أيضا لا إشكال فيه ، لأنّ مرجع استثناء هذا المقدار في تلك المدّة عدم تعلّق الوقف بهذا المقدار من ثمرة الوقف في مدّة حياة ذلك المتولّي. ولا مانع من هذا لا عقلا ولا شرعا ، بل لو استثنى في ضمن إجراء الصيغة مقدار مئونته ما دام حيّا من منافع الوقف ، لا إشكال فيه ، لأنّ الوقف تعلّق بما عدا هذا المقدار.

ولذلك يجوز وقف العين باعتبار بعض منافعها ، ويبقى الباقي في ملك الواقف ، مثلا يجوز وقف الشاة لأن يعطي لبنها للأطفال الرضع ، ويبقى سائر منافعها للواقف ، وكذلك البستان باعتبار ثمرة نخيلها ، فتبقى منافعها الأخر للواقف.

وصحّة هذا القسم من الوقف ـ بناء على كونه عبارة عن صرف حبس الأصل عن التقلّبات في عالم التشريع ، وجعل ثمرته للموقوف عليهم ـ لا إشكال فيه ، لأنّ هذه الاستثناءات تدلّ على أنّ الثمرة المجعولة للموقوف عليهم ما عدا هذا المقدار ، كما هو شأن كلّ استثناء في كلّ مقام ، وهو أنّ حكم المستثنى منه يشمل ما عدا مقدار المستثنى.

وأمّا بناء على أنّه عبارة عن تمليك الموقوف عليهم للعين الموقوفة ، ربما يتوهّم : أنّه كيف يمكن أن تكون عين واحدة ملكا لشخصين باعتبارين ، فباعتبار بعض المنافع تكون ملكا للموقوف عليهم ، وباعتبار بعض آخر تكون ملكا للواقف.

ولكن جوابه : أنّه يمكن أن يكون الأصل بتمامه ملكا للموقوف عليهم فاعتبار ذلك البعض من المنافع ، ويكون من قبيل ما لو آجر الملك قبل الوقف باعتبار بعض الثمرة ، كما لو آجر البستان باعتبار بعض ثمرته ، فأوقفه باعتبار بعض الآخر ، فيصير البستان ملكا للموقوف عليهم ، ولكن مجرّدا عن بعض المنافع. وأمّا لو كان مجرّدا عن جميع المنافع دائما أبدا فاعتبار التمليك لغو.

٢٦٨

وأمّا ما ذهب بعض الأساطين قدس‌سرهم من مقاربي عصرنا إلى صحّة كون عين واحدة ملكا لشخصين باعتبارين ـ بأنّ تمام العين من دون شركة الآخر ملكا لهذا ، وكذلك تمام العين يكون ملكا للآخر ، غاية الأمر ملكيّة كلّ واحد منهما لتمام العين باعتبار بعض منافعها غير بعض الآخر ـ فلا يخلو عن غرابة.

وأمّا لو وقف على العناوين العامّة ، كالمساجد على المصلّين ، والقناطر لكافة المسلمين بل لكافّة العابرين ، والخانات لكافّة المسافرين ، أو المدارس الدينيّة لكافّة طلاّب العلوم الدينيّة الإسلامية ، وكان مصداقا لأحد هذه العناوين ، فلا إشكال في أنّ هذا ليس من الوقف على النفس لو انتفع بها ، لأنّه كسائر مصاديق هذه العناوين ، فحاله حالهم.

وذلك من جهة أنّ الوقف على الجهة ليس من قبيل الوقف على الطبيعة السارية كي يكون كلّ فرد منها موقوفا عليه ، فيكون بالنسبة إلى حصّة الواقف من قبيل الوقف على النفس ، وذلك لو وقف على السادات أو الفقهاء أو الفقراء وكان هو منهم ، فشموله لنفسه ربما يقال إنّه من قبيل الوقف على النفس ، والوقف على إمام مسجد يكون هو إمامه حين الوقف أو إذا صار بعد الوقف يكون من هذا القبيل ، لأنّ إمام المسجد عنوان عامّ هو أحد مصاديقه ، غاية الأمر في كلّ زمان فرده منحصر بواحد غالبا.

وكذلك الوقف على أفقه البلد ، أو الأفقه بقول مطلق ، وكان هو مصداقه حين الوقف ، أو صار بعد ذلك من هذا القبيل.

وأمّا الفرق بين كونه كذلك حين الوقف في الفرعين ـ أي : مسألة الوقف على إمام المسجد ، ومسألة الوقف على الأفقه وأنّه صار مصداقا لذلك العنوان بعد الوقف ـ بالصحّة في الثاني دون الأوّل ، فلا وجه له أصلا ، والمسألة خلافيّة ، ولكن الأظهر عندي هو صحّة هذا الوقف وفاقا للمشهور.

٢٦٩

أمّا أوّلا : فلأنّ الموقوف عليه هو العنوان ، وصرف قابليّته للتطبيق على نفسه لا يوجب صيرورته موقوفا عليه. وذلك كما أنّه لو باع صاعا من هذه الصبرة ـ مثلا ـ فالمبيع قابل للانطباق على كلّ واحد من صيعان الموجودة فيها ، ومع ذلك ليس شي‌ء من الصيعان ـ بعد تفرّقها في الخارج وانقسامها إلى صيعان منفصلة ـ مبيعا إلاّ بعد التطبيق وإقباضه للمشتري ، وإلاّ قبل القبض تعيّن أحدها لمعيّن ترجيح بلا مرجّح.

وأحدها غير المعيّن غير معقول ، لأنّ الصيعان الموجودة كلّ واحد معيّن وجميعها يكون مبيعا ، لأنّ قابليّة الانطباق في الجميع خلاف الفرض ، إذ المفروض أنّ المبيع صاع واحد ، فلا مناص إلاّ القول بأنّ قبل القبض كلّ واحد منها ليس مبيعا ، وبالقبض يتحقّق صفة المبيعيّة.

ففيما نحن فيه تمليك الثمرة للعنوان ، ولا يصير ملكا لنفس الواقف الذي مصداق إلاّ بعد ، فهو ليس بنفسه موقوفا عليه.

وثانيا : قلنا إنّ بطلان الوقف على نفسه لا دليل عليه إلاّ الإجماع ، والإجماع مع ذهاب المشهور إلى جواز انتفاعه من الوقف إذا وقف على عنوان الفقهاء الفقراء أو ما يشابههما إذا كان هو من مصاديق تلك العناوين.

مسألة :

إذا وقف وشرط عوده إليه إذا احتاج ، فيه أقوال :

قول بصحّة الوقف والشرط جميعا ، فيرتّب عليه آثار الوقف ما دام لا يحتاج إليه ، وعند الاحتياج يعود إلى ملكه. وحكى عن المرتضى قدس‌سره (١) دعوى الإجماع على هذا القول ، وادّعى بعضهم أنّ هذا هو قول الأكثر ، وعن جماعة بطلان الوقف والشرط ، وحكى عن ابن إدريس (٢) دعوى الإجماع على ذلك.

__________________

(١) « الانتصار » ص ٢٢٦.

(٢) « السرائر » ج ٣ ، ص ١٥٦ و ١٥٧.

٢٧٠

وقول بصحّته حبسا لا وقفا ، وصحّة الشرط أيضا. وبه قال في الشرائع (١).

والأقوى هو القول الأوّل بناء على عدم كون التأبيد داخلا في ماهيّة الوقف ، وهو واضح ، وإلاّ فالقول الثالث الذي قال به في الشرائع ، وذلك من جهة أنّ التأبيد لو كان شرطا في تحقّق ماهية الوقف ، فحيث أنّ مرجع هذا الشرط إلى عدم التأبيد ، فلا يقع الوقف قطعا ، فيدور أمره بين البطلان بالمرّة ، أو وقوعه حبسا.

فإن قلنا : بأنّ الوقف والحبس حقيقتان مختلفتان ، فيكون باطلا بالمرّة ، لأنّ الذي قصده الواقف ـ وهو الوقف ـ لم يقع ، لعدم التأبيد ، والحبس أيضا لا يقع ، لأنّ العقود تابعة للقصود ولكن حيث قلنا بأنّهما حقيقة واحدة ـ غاية الأمر الفرق بينهما بخصوصيّة زائدة على الماهيّة والحقيقة ، بل تكون تلك الخصوصيّة من العوارض المصنّفة وهي التأبيد ـ فيقع حبسا ويصحّ الشرط أيضا ، لعدم كونه مخالفا لمقتضى العقد ولا للكتاب والسنّة ، لأنّ عود الملك إلى الحابس ليس مخالفا للكتاب ، ولا الحبس يقتضي عدمه.

فالعمدة في المقام هو أنّ التأبيد داخلا في حقيقة الوقف وتحقّق ماهيّته ، أم لا؟

فإن لم يكن داخلا في حقيقة الوقف فيصحّ الوقف والشرط ، كما ذهب إليه المشهور ، لأنّه قصد الوقف ، وشرط رجوعه إليه عند الحاجة مناف لإطلاق عقد الوقف لا له مطلقا ، فلا مانع من صحّة الوقف والشرط جميعا.

وأمّا إن كان داخلا في حقيقة الوقف ، وكان الوقف والحبس حقيقتين مختلفتين ، فلا يقع شي‌ء منهما. وهو القول الثاني الذي ذهب إليه ابن إدريس وادّعى عليه الإجماع.

وأمّا إن كانا حقيقة واحدة مع اعتبار التأبيد في الوقف شرعا في تحقّق الوقف ، فيقع حبسا ويصحّ الشرط أيضا ، وهو قول صاحب الشرائع.

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢١٧.

٢٧١

ثمَّ إنّه لمّا رجّحنا فيما تقدّم في شروط صحّة الوقف اعتبار التأبيد ، فلا يمكن الموافقة مع قول المشهور. ولمّا رجّحنا أنّ الوقف والحبس حقيقة واحدة ، فلا بدّ ـ بناء على ما رجّحنا ـ من الذهاب إلى ما قاله في الشرائع من صحّة الشرط ووقوعه حبسا.

هذا بحسب القواعد.

وهناك روايتان تمسّك كلّ واحد من الطرفين من القائلين بالصحّة والبطلان بهما :

أحدهما : خبر إسماعيل بن الفضل قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدّق ببعض ماله في حياته في كلّ وجه من وجوه الخير قال : إن احتجت إلى شي‌ء من المال فأنا أحقّ به ، ترى ذلك له وقد جعله لله يكون له في حياته ، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا أو يمضي صدقة؟ قال عليه‌السلام : « يرجع ميراثا على أهله » (١).

الثاني : قوله عليه‌السلام : « من أوقف أرضا ثمَّ قال : إن احتجت إليها فأنا أحقّ بها ثمَّ مات الرجل ، فإنّها ترجع إلى الميراث » (٢).

ويروي هذا الخبر في المستدرك عن دعائم الإسلام بدل « أرضا » « وقفا » ، وبدل « ترجع إلى الميراث » « رجع ميراثا » (٣) والمعنى واحد.

والظاهر أنّ الثلاثة خبر واحد ، فتارة نقل مسندا ، وأخرى نقل مرسلا.

وعلى كلّ حال الذي يستدلّ بها على بطلان الوقف يقول قوله عليه‌السلام : « ترجع إلى الميراث » أو « رجع ميراثا » أو « يرجع ميراثا على أهله » كلّها تدلّ على عدم صحّة هذا الوقف وبطلانه ، لأنّ الوقف لا يرجع ميراثا إلى أهله ، وباق إلى أن يرث الله‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٤٦ ، ح ٦٠٧ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٥٤ ، وكذلك ، ج ٩ ، ص ١٣٥ ، ح ٥٦٨ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ١٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٩٧ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٣ ، ح ٣.

(٢) « دعائم الإسلام » ج ٢ ، ص ٣٤٤ ، ح ١٢٨٨ ، ذكر ما يجوز من الصدقة وما لا يجوز.

(٣) « مستدرك الوسائل » ج ١٤ ، ص ٤٧ ، أبواب كتاب الوقوف والصدقات ، باب ٢ ، ح ٣.

٢٧٢

السماوات والأرضين وما فيهما.

والذي يستدلّ بها على صحّة الوقف والشرط جميعا يقول : إنّ ظاهر « يرجع » أو « رجع » هو الدخول ثانيا بعد خروجها.

فظاهر هذه الروايات هو خروج ما وقف بالوقف ثمَّ رجوعه إليه بالشرط لاحتياجه إليه في حياته ، فتدلّ على صحّة الشرط أيضا ، فإذا رجع إليه ومات عنه فطبعا يكون ميراثا إلى أهله بقواعد الإرث وأدلّته ، وإسناد الرجوع إلى الميراث من باب أنّ الميراث معلول لرجوعه إليه بالشرط ، فأسند الرجوع إلى المعلول باعتبار رجوع علّته ، فيكون من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم.

والإنصاف : هو أنّ الثاني أصح ، لأنّه عليه‌السلام بعد قول السائل : « يكون له في حياته ، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثا » ، فكأنّه فرّع كونه ميراثا بعد هلاك الرجل على كونه له في حياته ، فجوابه عليه‌السلام بأنّه يرجع ميراثا ظاهر في تصديقه عليه‌السلام له في هذا التفريع ، وأنّه يكون له في حياته.

ومعلوم أنّ كونه له في حياته لازم صحّة الشرط ، وصحّة الشرط ملازم مع صحّة الوقف.

إن قلت : كونه له في حياته يمكن أن يكون من جهة بطلان الوقف ، لا من جهة صحّة الشرط.

قلت : إن لفظ « الرجوع » ظاهر في العود إليه بعد الخروج عن ملكه ، فلا يمكن أن يكون له لبطلان الوقف ، لأنّه مع بطلان الوقف يكون له من أول الأمر ، ويكون ميراثا من أول الأمر بعد هلاكه ، لا أنّه يرجع ميراثا.

وأمّا ما قيل : من أنّ ظهور الخبرين وإن كان في البطلان وعدم صحّة مثل هذا الوقف مع مثل هذا الشرط ثابتا ، إلاّ أنّه عليه‌السلام حكم بالفساد والبطلان من جهة قصة الواقف أن يكون هو الموقوف عليه إنّ احتاج ، ومعلوم أنّ مثل هذا الوقف وقف على‌

٢٧٣

النفس وباطل ، لكنّه لا ربط له بمحلّ كلامنا ، مضافا إلى أنّه خلاف ظاهر هذه الروايات.

ينفيه : قوله عليه‌السلام : « يرجع ميراثا » لما بيّنّا من أنّ الرجوع هو العود بعد الخروج ، وهذا لا يلائم مع ما قال.

وأمّا اعتذاره عن هذا : أنّه بملاحظة قصده الوقف وعقده عليه ـ وان الوقف ممّا يخرج ـ فعجيب.

وأمّا ما أوردوا على صحّته وقفا :

منها : أنّه خلاف مقتضى عقد الوقف.

وأجبنا عنه : أنّه خلاف اقتضاء إطلاق العقد ، لا أنّه خلاف مقتضى العقد مطلقا.

ومنها : أنّه خلاف اشتراط الدوام في الوقف.

وأجبنا عنه : أنّ اشتراط الدوام على فرض تماميّته هو الدوام في مقابل التوقيت ، كأن يقول : وقفت هذا سنة ، أو أزيد ، أو أقلّ.

ومنها : أنّه يرجع إلى الوقف على النفس.

وفيه : أنّه في الحقيقة شرط زوال الوقف ، لا أن يكون الوقف باقيا ، ويكون هو الموقوف عليه.

ومنها : التعليق وأنّ التعليق في العقد موجب لبطلانه إجماعا.

وفيه : أنّ دعوى الإجماع في مورد الخلاف لا ينبغي أن يصدر من الفقيه ، مضافا إلى أنّ العقد لا تعليق فيه ، وإيقاع الوقف منجّز لا تعليق فيه ، وإنّما الشرط أثره رفع الوقف لا تعليقه ، فلا تعليق ، لا في الإنشاء ولا في المنشأ.

٢٧٤

المطلب الثالث

في شرائط الموقوف‌

وهي أن يكون عينا مملوكا يمكن الانتفاع بها مع بقائه ، وأن يكون لها البقاء مدّة معتدّة بها ، وأن يكون نفعه محلّلا ، وأن لا يكون متعلّقا لحقّ الغير ، بحيث يكون ذلك الحقّ مانعا عن التصرّف فيها ، وأن تكون ممّا يمكن إقباضها.

أمّا الشرط الأوّل : فلأنّه لو كان منفعة ، فلا يمكن تحقّق حقيقة الوقف الذي هو عبارة عن حبس الأصل وتسبيل ثمرته ، لأنّ تسبيل الثمرة ينطبق على نفس أصل الموقوف الذي هي المنفعة ، فلا يبقى له أصل حتّى يحبس.

فبناء على هذا الشرط لا يصحّ وقف المنافع ، كمنفعة الدار أو الدكان أو الخان التي ملكها بالإجارة ، وإن كانت لمدّة طويلة.

وأيضا لا يصحّ أن يكون دينا في ذمّة غيره ، كما لو كان له شيئا في ذمّة غيره.

وأيضا لا يصحّ أن يكون كلّيا في ذمّة نفسه.

والوجه فيهما أيضا عدم صحّة اعتبار الحبس ولو في عالم الاعتبار ، لأنّ الكلّي في ذمّة غيره أو في ذمّة نفسه ، حيث أنّه غير معيّن ، فلا معنى لحبسه وتسبيل ثمرته.

وقياسه على صحّة وقوع البيع والصلح عليه لا وجه له ، وذلك من جهة أنّ تلك النواقل الشرعيّة مفادها نقل ما في ذمّته إلى الغير ، فيملك ذلك الغير في ذمته ذلك الكلّي ، أو نقل ما يملكه في ذمّة الغير إلى غيره ، ولا يتصور مانع في كلا الفرضين ، بخلاف الوقف ، فإنّ تحقّقه موقوف على حبس شي‌ء تكون له ثمرة وتسبيل ثمرته ، ومثل ذلك في الكلّي الذي في ذمّته أو يملكه في ذمّة غيره ليس له اعتبار عقلائي.

وإن شئت قلت : كما أنّه لا يحبس الكلّي وطبيعة صرف وجود الإنسان مثلا في الحبس التكويني ، كذلك يكون الأمر في الحبس التشريعي. وإن أبيت إلاّ عن إمكانه وعدم وجود مانع في البين ، ففي الإجماع غنى وكفاية ، حيث أنّ عدم صحّة الوقف‌

٢٧٥

الكلّي بقسميه ـ أي سواء أكان في ذمّته ، أو في ذمّة غيره ـ إجماعيّ لا خلاف فيه.

وأمّا الشرط الثاني : أي كونه مملوكا ، لأنّ غير المملوك إمّا لأنّه ليس ممّا يملك ، كالخنزير وكلب الهراش ، لأنّه ليس له منفعة يسبله. وإمّا من جهة أنّه ملك غيره ، فتصرّفاته فيه غير نافذة.

وأمّا مسألة الفضولي فقد تقدّم الكلام فيه.

وأمّا الشرط الثالث : أي يمكن الانتفاع بها مع بقائها ، فلو كان من المأكولات والمشروبات حيث أنّ الانتفاع بها بإتلافها أكلا أو شربا ، فلا يصحّ وقفها ، لعدم تصوير حبس العين فيها مع تسبيل ثمرتها ، وهذا واضح جدّا.

وأمّا الشرط الرابع : وهي أن يكون له البقاء مدّة معتدّة بها ، من جهة عدم صدق تحبيس الأصل وتسبيل ثمرته مع عدم بقاء مدّة معتدّة بها ، فلا يصدق هذا المعنى على وقف الورد للشمّ ، لعدم بقائه مدّة يصدق عليه حبس الأصل وتسبيل ثمرته عرفا.

وأمّا الشرط الخامس : أي كانت للعين الموقوفة منفعة محلّلة ، كي يصدق عليه التسبيل ، خصوصا إذا كان صحّة الوقف مشروطا بقصد القربة ، فإذا كانت المنفعة التي يقفها لأجل تسبيل تلك المنفعة محرّمة ، فيكف يتقرّب بمثل هذا الوقف إلى الله ، وكيف يقال : إنّ الواقف سبلها في سبيل الله تعالى؟ وهذا الأخير بناء على ما استظهرنا من التسبيل أنّ المراد من هذه الكلمة جعلها في سبيل الله تعالى.

وأمّا الشرط السادس : وهو أن لا يكون متعلّقا لحقّ الغير المانع عن التصرّف. ووجه هذا الاشتراط واضح ، لأنّه إذا كانت العين لا يجوز التصرّف فيها ببيع أو هبة أو صلح أو غير ذلك بواسطة كونها متعلّقا لحقّ الغير ، كالعين المرهونة ، أو الأعيان التي تركها الميّت مع كون دينه مستوعبا لتمام التركة ، فبناء على الانتقال إلى الورثة ولكن متعلّقة لحقّ الديّان ، وكالأموال غير المخمّسة أو غير المزكّاة بناء على كونها متعلّقة لحقّ السادات أو لحقّ الفقراء وأمثال المذكورات.

٢٧٦

فكما أنّ سائر النقل والانتقالات والتقلّبات الشرعيّة لا يجوز ـ وعلى فرض إيجاد المالك لها تكون غير ممضاة من قبل الشارع ، فيكون باطلا ـ فكذلك الوقف ، مضافا إلى أنّ الوقف ـ بناء على ما ذكرنا ـ يحتاج إلى قصد القربة ، وكيف يتقرّب بما هو ممنوع شرعا؟ نعم بعد ارتفاع المنع من التصرّف كما إذا فكّ الرهن ـ مثلا ـ أو أجاز المرتهن فلا مانع من وقفه ، وهذا واضح.

وأمّا الشرط السابع : أي كونه ممّا يمكن إقباضه ، لأنّه بناء على أن يكون القبض من شرائط صحّة الوقف فواضح ، فإنّ المشروط لا يتحقّق بدون شرطه. وأمّا بناء على أنّه شرط اللزوم ـ كما رجّحناه ـ فلأنّه لو لم يمكن إقباضه ـ كالطير في الهواء الشارد من عنده ولا يمكن إعادته ، أو الحيوان الآخر النافر الذي لا يمكن قبضه عادة ، أو العبد الآبق الذي حصل اليأس من عوده أو وجدانه أو التغلب عليه وأمثال ذلك ـ يكون تسبيل ثمرته لغوا بل لا ثمرة له كي يسبل.

تنبيه :

ما ذكرنا في الشرط الخامس أنّه لا بدّ وأن يكون للعين الموقوفة منفعة محللة كي يكون التسبيل بلحاظها ، لا يلزم أن تكون تلك المنفعة لها فعلا ، بل يكفي في صحّته كونها لها ولو بعد مدّة. فلو وقف بستانا غرس فيه النخيل ، وهي صغار لا تحمل إلاّ بعد سنين ، فهذا الوقف صحيح باعتبار تلك المنافع التي لها قوّة الوجود ، وإن كان وجودها بعد عشر سنين مثلا ، وهكذا الحال في سائر الموارد.

المطلب الرابع

في شرائط الواقف‌

قال في الشرائع : ويشترط فيه البلوغ ، وكمال العقل ، وجواز التصرّف (١).

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢١٣.

٢٧٧

ولكنّ الأولى أن يقال : ويشترط في الواقف أن يكون جائز التصرّف ، وأن يكون مختارا غير مكره عليه ، لأنّ البلوغ وكمال العقل مندرج في جواز التصرّف ، فيتفرّع على جواز التصرّف أن يكون بالغا ، لأنّه لا يجوز أمر الصبيّ حتّى يحتلم ، وأن لا يكون مجنونا ، لأنّه لا يجوز أمره حتّى يفيق ، وأن لا يكون محجورا عليه بفلس أو سفه ، وأن لا يكون عبدا بدون إذن مولاه ، لعدم نفوذ أمر العبد بدون إذن مولاه ، وهو بنفسه ( لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ‌ءٍ ) و ( كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ ).

ويتفرّع على اشتراط الاختيار أن لا يكون في وقفه مكرها مع عدم لحوق الرضا أوّلا : للإجماع ، وثانيا : لحديث الرفع (١) ، كما أنّ الإكراه مع عدم لحوق الرضا موجب لبطلان سائر عقوده وإيقاعاته كبيعه وهبته وصلحه وطلاقه وعتقه ، وذلك كلّه للإجماع المحصّل الذي لم يخالف أحد ولحديث الرفع ، ولأنّه « لا يحلّ مال امرء مسلم إلاّ بطيب نفسه » (٢).

ولا شكّ في أنّ صدور الوقف عن المالك مع الإكراه وعدم لحوق الرضا به مرجعه إلى أنّ أكل الموقوف عليه لماله يكون من غير طيب نفسه. وأمّا بناء على ما قاله الشهيدان بل العلاّمة قدس‌سرهم (٣) من عدم قصد المكره إلى وقوع مضمون العقد في الخارج فالأمر أوضح.

هذا فيما إذا لم يلحقه الرضا ، وأمّا فيما لحقه الرضا ، فإن كان وجه فساد عقد المكره وإيقاعه عدم القصد إلى وقوع مضمونه في الخارج ـ وأنّ العقود تابعة للقصود ، ففيه : أنّ القصد المعتبر في العقود هو أن يكون قصدا لإنشاء المعنى باللفظ ، فإن كان المراد‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٢ ، ص ٣٣٥ ، باب ما رفع عن الأمة ، ح ٢ ، « الفقيه » ج ١ ، ص ٥٩ ، ح ١٣٢ ، باب : فيمن ترك الوضوء أو بعضه أو شكّ فيه ، ح ٤ ، « الخصال » ص ٤١٧ ، ح ٩ ، رفع عن هذه الأمّة تسعة أشياء ، « وسائل الشيعة » ج ٤ ، ص ١٢٨٤ ، أبواب قواطع الصلاة ، باب ٣٧ ، ح ٢.

(٢) الطوسي في « الخلاف » ج ٣ ، ص ٤١٠ ، مسألة : ٢٣ ، « سنن الدار قطني » ج ٣ ، ص ٢٦ ، ح ٩١ ، « مسند أحمد » ج ٥ ، ص ٧٢ ، « سنن البيهقي » ج ٦ ، ص ١٠٠ ، باب : من غصب لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه جدارا.

(٣) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٤٢٨ ، فيما يشترط في الواقف.

٢٧٨

من نفي القصد هذا المعنى في عقد المكره فهو.

وإن كان لحوق الرضا فيما بعد لا يجعل العقد الواقع بدون قصد إنشاء المعنى عقدا مقصودا ، فيكون العقد باطلا ، لما ذكرنا من أنّ العقود تابعة للقصود.

ولكن هذه الدعوى باطلة ليس لها أصل ، لأنّ المكره أيضا مثل المختار يقصد إنشاء المعنى باللفظ ، غاية الأمر أنّه ليس له طيب النفس بوقوع مضمون العقد في عالم التشريع ، وإن كان مراده هذا المعنى الذي ذكرناه من عدم قصده ، فهذا لا يضرّ بصحّة العقد بعد حصول الرضا وطيب النفس.

وأمّا احتمال اعتبار مقارنة الرضا وطيب النفس لحال الإنشاء لا دليل عليه ، بل الإطلاقات كقوله تعالى ( إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (١) و « لا يحلّ مال امرء مسلم » تدلّ على خلافه ، فأيّ وقت لحق بالمعاملة الرضا يصدق عليها أنّها تجارة عن تراض ، وأنّها عن طيب النفس ، فلا وجه لبطلان وقف المكره إذا لحقه الرضا كسائر معاملاته.

ثمَّ إنّ ها هنا وردت روايات على صحّة وقف الصبيّ الذي بلغ عشرا ، وكذلك وصيّته وعتقه ، وهي :

الأوّل : خبر زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا أتى على الغلام عشر سنين ، فإنّه يجوز في ماله ما أعتق ، أو تصدّق ، أو أوصى على حدّ معروف وحقّ فهو جائز » (٢).

الثاني : خبر جميل بن درّاج ، عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « يجوز طلاق الغلام إذا كان‌

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٩.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٢٨ ، باب : وصية الغلام والجارية التي لم تدرك وما يجوز منها وما لا يجوز ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٤ ، ص ١٩٧ ، ح ٥٤٥١ ، باب : الحد الذي إذا بلغه الصبي جازت وصيته ، ح ٢ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٨١ ، ح ٧٢٩ ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٢١ ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب ١٥ ، ح ١.

٢٧٩

قد عقل ، وصدقته ، ووصيّته وإن لم يحتلم » (١).

الثالث : رواية الحلبي ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم؟ قال : « نعم إذا وضعها في موضع الصدقة » (٢).

ودلالة هذه الروايات على صحّة وقف الصبيّ إذا بلغ عشر سنين متوقّف على أن يكون المراد من التصدّق والصدقة خصوص الوقف ، أو المعنى الأعمّ من الوقف والصدقة بالمعنى الأخصّ ، وإلاّ لو كان المراد خصوص الأخير فلا دلالة فيها على المدّعى في هذا المقام ، وهو صحّة وقف الصبي الذي لم يبلغ مطلقا ، أو خصوص البالغ عشرا منهم.

وظهور لفظ الصدقة في خصوص الوقف أو في الأعمّ لا دليل عليه ، بل ظاهره بواسطة القرائن المذكورة فيها ـ من قوله عليه‌السلام : « على حدّ معروف وحقّ » في الأوّل ، ومن قوله عليه‌السلام : « قد عقل » في الثاني ، ومن قوله عليه‌السلام : « إذا وضعها في موضع الصدقة » في الثالث هو خصوص الصدقة بالمعنى الأخصّ ، الذي هو إعطاء مال لمؤمن بقصد القربة ، فلا مخصّص لعمومات عدم جواز أمر الصبي حتّى يحتلم بالنسبة إلى الوقف ، لأنّه من قبيل الشكّ في التخصيص ، فيتمسّك بأصالة العموم.

نعم لمّا وردت أخبار معمولة بها في نفوذ وصيّته ، فلو أوصى بالوقف ينفذ.

ثمَّ إنّه ليس من شرائط الواقف أن يكون مسلما ، بل يجوز وقف الكافر وإن قلنا باشتراط قصد القربة فيه ، لتمشية منه. نعم الذي لا يعتقد ـ العياذ بالله ـ بوجود إله العالم ، خالق السماوات والأرضين ، وينكر وجود صانع حكيم ، فقصد القربة لا يتمشّى‌

__________________

(١) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٨٢ ، ح ٧٣٣ ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح ٨ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٢١ ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب ١٥ ، ح ٢.

(٢) « تهذب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٨٢ ، ح ٧٣٤ ، باب : وصية الصبي والمحجور عليه ، ح ٩ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٢١ ، من أحكام الوقوف والصدقات ، باب ١٥ ، ح ١٣.

٢٨٠