القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

ومنها : الشروط المخالفة لمقتضى العقد ، فيكون العقد المشتمل على مثل هذا الشرط فاسدا ، للتناقض بين مدلول العقد ومفاد الشرط ، إمّا مطابقة وصريحا ، وإمّا التزاما. فالأوّل كما إذا قال : بعتك هذا بشرط أن لا تملكه. والثاني كما إذا قالت هي أو قال وكيلها : زوجتك موكّلتي فلانه بشرط أن لا تستمتع منها أيّ استمتاع.

والوجه في فساد هذا الشرط ومفسديته للعقد واضح ، وقد بيّنّا ذلك في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم » فراجع (١).

ومنها : فيما إذا كان الشرط غير مقدور ، فيكون العقد المشتمل على مثل هذا الشرط غير قابل للوفاء. فلا يشمل أدلّة وجوب الوفاء بالعقد ، ولا أدلّة وجوب الوفاء بالشرط ، فيكون مثل هذه المعاملة لغوا وباطلا عند العقلاء ، ولا يمضيه الشارع أيضا ، فافهم.

ومنها : كون الشرط حراما ، وذلك مثل أن يبيع العنب على أن يجعله خمرا ، أو الخشب على أن يعمله صنما أو صليبا. لأنّ الشارع أسقط أمثال هذه المنافع عن درجة الاعتبار في عالم التشريع ، فلا يملكها المالك للعنب ، أو الخشب مثلا. فإذا حصر المنفعة التي يبيعهما ـ أي : العنب والخشب لأجل تلك المنفعة في المذكورات المحرّمات ـ يكون أكل المال بإزائها أكلا بالباطل ، فتكون المعاملة باطلة.

ولكن أنت خبير بأنّ خروج هذه الموارد عن تحت تلك الكلّية بالتخصّص لا بالتخصيص ، وذلك من جهة أنّ فساد العقد في تلك الموارد ليس لفساد العقد كما توهّم ، بل لوقوع خلل في بعض أركان العقد.

وبعبارة أخرى : موارد هذه الكلّية هي فيما إذا كان فساد الشرط من قبيل الواسطة في العروض ، بمعنى أنّ الفساد أوّلا وبالذات عرض على الشرط ، ويكون انتسابه إلى العقد بالعرض والمجاز ، لا أن يكون الشرط واسطة في الثبوت ، بمعنى أنّ‌

__________________

(١) راجع : ج ٣ ، ص ٢٦٧.

٢٢١

الفساد أوّلا وبالذات عرض على نفس العقد لاختلال بعض أركانه ، ويكون الشرط سببا وعلّة لعروض ذلك الاختلال على نفس العقد.

مثلا : إذا كان الشرط مجهولا ، كما إذا شرط أن يكون المبيع بكيل كذا ، أو بوزن كذا ، وكان ذلك الكيل أو ذلك الوزن مجهولا ، فتسرى الجهالة إلى نفس المبيع ، فيكون البيع غرريّا وفاسدا ، ففساد البيع ليس إلاّ لوقوع غرر في نفس البيع ، لا لفساد ذلك الشرط. وكذا في شرط البيع على البائع يكون بطلان مثل هذا البيع لأجل استلزامه للمحال ، للزوم الدور. فليس فساده ، لأجل فساد الشرط ، بل لو كان هذا الشرط جائزا كان هذا البيع فاسدا ، لما ذكرنا من استلزامه للمحال.

وإن شئت قلت : إنّ الشرط بوجوده يوجب فساد العقد ، لا بفساده ، لما قلنا إنّ وجود هذا الشرط موجب لصيرورة البيع الأوّل مستلزما للمحال وهو الدور. وأمّا إن أجبنا عن الدور ، فيخرج عن محلّ الكلام بالمرّة ، فلا يكون العقد ولا الشرط فاسدا. وقد تقدّم ما هو التحقيق فيه في قاعدة « المؤمنون عند شروطهم ». (١)

وكذا الشروط المنافية لمقتضى العقد بوجودها يوجب التناقض بين مفاد العقد ومفاد الشرط ، ولا يكون مستندا إلى فساد الشرط ، وكذلك الشرط غير المقدور بوجوده يوجب لغويّة المعاملة ، فليس فساده مستندا إلى فساد الشرط ، بل يكون لوجوده.

وخلاصة الكلام : أنّ تلك الموارد المذكورة خارجة عن تحت هذه الكلّية تخصّصا ، لا تخصيصا.

ثمَّ إنّ الذين اختاروا عكس ما اخترناه ـ أي قالوا بأنّ كلّ شرط فاسد يوجب فساد العقد ـ أيضا قالوا بخروج الشرط الذي يكون فساده ـ أي : عدم لزوم وجوب الوفاء به ـ من جهة لغويّته وعدم تعلّق غرض العقلاء به ، مع أنّه فاسد لا يوجب‌

__________________

(١) راجع : ج ٣ ، ص ٢٦٧.

٢٢٢

فساد العقد.

وهذا كان منشأ تفصيل ابن المتوج البحراني بأنّ الشرط الفاسد مفسدا للعقد ، إلاّ فيما إذا كان جهة فساد الشرط لغويّته وعدم تعلّق غرض العقلاء به ، فإنّ العقد لا يفسد به (١) ، لأنّ وجود ذلك الشرط وعدمه سواء ، فلا يؤثّر في العقد.

وأنت خبير بأنّ خروج هذا القسم أيضا من قبيل التخصّص لا التخصيص ، لأنّ أدلّة وجوب الوفاء بالشرط منصرفة عن مثل هذه الشروط. نعم في باب النكاح ورد الدليل على أنّ بعض الشروط الفاسدة ـ كشرط عدم التزويج والتسرّي عليها ـ لا يوجب فساد عقد النكاح ، وقلنا إنّ تلك الروايات الواردة في باب النكاح ممّا تدلّ على أنّ الشرط الفاسد لا يفسد العقد. (٢)

وقد ظهر لك ممّا ذكرنا أنّ التفاصيل في هذه المسألة لا وجه لها ، وأنّه ينبغي أن تحرّر المسألة ذات قول بالإفساد مطلقا ، وقول بعدمه مطلقا كما هو المختار ، وأمّا الموارد التي صارت سببا لتلك التفاصيل فهي خارجة عن تحت القاعدة تخصّصا.

الأمر الخامس : في بيان موارد جريان هذه القاعدة ، فنقول :

تجري هذه القاعدة في جميع العقود ، فإذا باع شيئا وشرط عليه شرطا مخالفا للكتاب والسنّة أو لمقتضى أصل العقد ـ لا مقتضى إطلاقه ـ أو لم يكن مقدورا ، أو لم يكن ممّا فيه غرض عقلائي ، أو كان مجهولا ، أو كان مستلزما للمحال ، أو لم يكن منجّزا ، أو لم يلتزم به في متن العقد ، فمثل هذه الشروط لا يجب الوفاء بها قطعا لا كلام فيه. وقد بيّنّا جميع ذلك في شرح قاعدة : « المؤمنون عند شروطهم » مع وقوع الخلاف في بعضها.

إنّما الكلام في أنّ هذه المذكورات توجب فساد ذلك العقد الذي وقعت هذه‌

__________________

(١) الشيخ الأنصاري في « كتاب المكاسب » ص ٢٨٧ ، حكى عن ابن المتوج.

(٢) تقدم راجع ص ١٩٥ ـ ١٩٨.

٢٢٣

الشروط في ضمنه أم لا؟

وقد عرفت أنّ بعضها خارج عن محلّ الخلاف تخصّصا لا تخصيصا ، وعمدة ما هو داخل في محلّ الخلاف هو الشرط الذي مخالف للكتاب والسنّة ، فإذا باع أو أجار أو أعار أو رهن أو اقترض أو أودع أو صالح أو وكل ، أو أيّ عقد من العقود المذكورة في أبواب المعاملات ، وشرط شرطا مخالفا للكتاب والسنّة ، يكون محلا للخلاف.

وبناء على ما اخترناه في هذه القاعدة الشرط فاسد لا يجب الوفاء به ، ولكن لا يكون مفسدا لذلك العقد الذي وقع فيه. نعم في خصوص عقد النكاح ادّعى بعضهم خروجه عن محلّ الخلاف ، لورود أخبار كثيرة تدلّ على عدم فساد عقد النكاح بالشرط المخالف للكتاب والسنّة (١) ، مع دلالتها على أنّ ذلك الشرط فاسد لا يجب العمل به ، وقد عرفت أنّ تلك الأخبار كانت من جملة ما استدلنا بها على عدم الإفساد.

الأمر السادس : في أنّه هل يأتي هذا الخلاف في الإيقاعات أم لا؟ مثلا : لو أعتق عبده ، أو طلّق امرأته وشرط عليهما شرطا مخالفا للكتاب والسنّة ، فهل يوجب ذلك الشرط بطلان ذلك العتق وذلك الطلاق ، أم لا؟

ربما يقال بعدم دخول الشرط في الإيقاعات مطلقا ، سواء أكان شرطا صحيحا أو فاسدا ، وذلك من جهة أنّ الشرط لا بدّ وأن يكون بين اثنين ، والإيقاع ليس بين اثنين ، بل هو متقوّم بواحد ، فهو يعتق عبده من دون اطلاع أحد ، لا العبد ولا غيره ، أو يطلق زوجته من دون إخبارها. وأمّا لزوم كونه بحضور شاهدين عدلين ، فهو من باب الإشهاد ، لا أنّ الطلاق بين المطلّق وبينهما.

وفيه أوّلا : أنّهم يقولون بجواز اشتراط خدمة مدّة في عتق عبده.

وثانيا : قوله : « إنّ الشرط لا بدّ وأن يكون بين اثنين » إن كان مراده أنّه لا بدّ من‌

__________________

(١) تقدم راجع ص ١٩٩ ، هامش رقم (١).

٢٢٤

المشروط له والمشروط عليه ـ أو الشارط والمشروط عليه ـ فهذا موجود في الإيقاعات ، مثلا في الإطلاق المشروط له أو الشارط هو الزوج ، والمشروط عليها هي الزوجة ، وفي الإبراء بين الدائن والمديون ، وفي العتق بين السيد وعبده ، وهكذا في سائر الإيقاعات.

وإن كان مراده أنّه يحتاج إلى إيجاب من الشارط وقبول من المشروط عليه ـ فيكون الشرط من العقود ، لا أنّه فقط في ضمن العقود أو الإيقاعات أيضا ـ فمضافا إلى أنّه ليس كذلك قطعا ـ لأنّ الشروط الواقعة في ضمن العقود لم يقل أحد إنّه يحتاج صحّة الشرط إلى قبول مستقلّ من طرف المشروط عليه عدا قبول ذلك العقد ، اللهمّ إلاّ أن يقال : إنّ قبوله يتحقّق في ضمن قبول العقد وليس ببعيد ـ لا مانع من قبوله في الإيقاعات أيضا كما أنّهم قالوا في اشتراط خدمة العبد في عتقه بلزوم قبوله من طرف العبد.

وخلاصة الكلام : أنّه لا مانع عقليّا ولا شرعيّا عن دخول الشرط في الإيقاعات ، إلاّ أن يأتي دليل خاصّ في مورد مخصوص على المنع ، أو كان في الشرط خصوصيّة لا يلائم مع ذلك الإيقاع.

الحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

٢٢٥
٢٢٦

٤٤ ـ قاعدة

الوقوف على حسب

ما يوقفها أهلها‌

٢٢٧
٢٢٨

قاعدة الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة قاعدة : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها ».

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في بيان مدركها‌

فنقول : روى الصدوق عن الصفّار أنّه كتب إلى أبي محمّد الحسن بن علي عليه‌السلام في الوقف وما روى فيه عن آبائه عليهم‌السلام ، فوقّع عليه‌السلام : « الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله » (١).

وروى الكليني قدس‌سره عن محمّد بن يحيى ، قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمّد عليه‌السلام في الوقوف وما روى فيها ، فوقّع عليه‌السلام : « الوقوف على حسب ما يقفها أهلها إن شاء الله » (٢).

والظاهر أنّها رواية واحدة ، ومراد الكليني قدس‌سره من بعض أصحابنا هو محمّد بن‌

__________________

(*) « القواعد » ص ٣١٩.

(١) « الفقيه » ج ٤ ، ص ٢٣٧ ، ح ٥٥٦٧ ، باب الوقف والصدقة والنّحل ، ح ١ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٩٥ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٢ ، ح ١.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٧ ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة والنّحل. ، ح ٣٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٩٥ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٢ ، ح ٢.

٢٢٩

الحسن الصفّار أيضا ، إلاّ أنّ في الأولى بزيادة لفظة « تكون » قبل كلمة « على حسب » ، وكلمة « يوقفها » بصيغة باب الإفعال ، وفي الثانية « يقفها » بصيغة الثلاثي ، ولعلّ الثانية أصحّ ، لما ذكره في نهاية ابن أثير : من أنّه يقال وقفت الشي‌ء اقفه وقفا ، ولا يقال :

أوقفت ، إلاّ على لغة رديئة (١) ، وإن كان بصورة باب الإفعال في الروايات كثيرة. ولا حجّية لما في النهاية.

وروى الشيخ بإسناده عن محمّد بن الحسن الصفّار قال : كتبت إلى أبي محمّد عليه‌السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ كيف هو؟ فقد روى أنّ الوقف إذا كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقّتا فهو صحيح ممضى ، قال قوم : إنّ الموقّت الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والذي هو غير موقّت أن يقول : هذا وقف ولم يذكر أحدا ، فما الذي يصحّ من ذلك ، وما الذي يبطل؟ فوقّع عليه‌السلام : « الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله » (٢).

[ الجهة ] الثانية

في بيان المراد منها‌

بعد ثبوتها بهذه الروايات المعتبرة التي يثق الإنسان بصدورها وإن كانت مكاتيب ، لما ذكره المشايخ الثلاث في جوامعهم ، وصحّة سندها ، واعتماد جلّ الأصحاب في فتاواهم عليها واستنادهم إليها.

فنقول : الظاهر أنّه عليه‌السلام بعد السؤال عن الوقف وأحكامه وكيفيّته وما روي‌

__________________

(١) « النهاية » ج ٥ ، ص ٢١٦ ، مادة « وقف ».

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٣٢ ، ح ٥٦٢ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٩ ، « الإستبصار » ج ٤ ، ص ١٠٠ ، ح ٣٨٤ ، باب من وقف وقفا ولم يذكر الموقوف عليه ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٧ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٧ ، ح ٢.

٢٣٠

عنهم عليهم‌السلام فيه ، يجيب بصورة كبرى كلّية لهذه الأسئلة ، فيكون مفادها أنّ كلّ وقف ـ لعموم جمع المعروف بالألف واللام ـ يجب أن يعامل معه بحسب ما وقفه الواقف ، من الشروط ، والخصوصيّات ، والكيفيّات ، وما عيّنه من التصرّفات فيه ، ومن عيّنه لأن يكون ناظرا عليه.

ومعلوم أنّ مراده عليه‌السلام عن لزوم العمل مع الوقف على طبق جعل الواقف ـ ممّا ذكرناه ـ فيما إذا كان أصل الوقف وجميع خصوصيّاته وكيفيّته وشرائطه المجهولة مشروعة ، ولم تكن ممّا منع عنه الشارع ، مثلا : الشرط الذي شرطه الواقف في ضمن عقد الوقف يكون واجدا لشرائط صحّة الشروط.

وهكذا تدلّ هذه الجملة على أنّه لا يجوز أن يعامل مع الوقف ما ينافي حقيقته وإن لم يشترط فيه شرط أصلا.

وتوضيح هذا المعنى ـ الذي ذكرنا في المراد من هذه القاعدة ـ ببيان أمور :

الأوّل : في بيان حقيقة الوقف وشرح ماهيته؟

فنقول : عرّفه الفقهاء قدس‌سرهم بأنّه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة. والظاهر أنّ هذا التعريف مأخوذ من الأحاديث والروايات المرويّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام.

منها : ما رواه ابن أبي جمهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « حبس الأصل وسبل الثمرة » (١).

ومنها : ما رواه عبد الله بن عمر أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إن شئت حبست أصلها وتصدّقت‌

__________________

(١) « عوالي اللئالي » ج ٢ ، ص ٢٦٠ ، باب الديون ، ح ١٤.

٢٣١

بها » (١).

والمراد بكلمة « تصدّقت بها » هو التصدّق بثمرتها ، وهو عبارة أخرى عن تسبيل ثمرتها ، لأن الصدقة هو الإعطاء مجّانا بقصد القربة.

ومنها : ما تكرّر ذكره في روايات الباب عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام ، وهو قولهم وتعبيرهم عن الوقف بـ « صدقة لا تباع ولا تورث » (٢) تارة ، وتعبيرهم بـ « صدقة مبتولة » (٣) أخرى و « بتا بتلا » (٤). ثالثة ، وكلّ هذه الجمل يرجع مفادها إلى تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة.

وبعض الفقهاء بدّلوا كلمة « التسبيل » بالإطلاق ، والمراد واحد في الجميع كما هو ظاهر ، وإن كان الأقرب هو الأوّل ، بناء على أنّه من العبادات ويحتاج في وقوعه وصحّته إلى قصد القربة ، كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وبعضهم بدّل لفظة « الثمرة » إلى المنفعة ، ولا فرق بينهما ، وقد عبّر عنه في الروايات بالصدقة ، ولكن بوصف لا تباع ولا توهب ولا تورث.

ومعلوم أنّ الصدقة المتّصفة بهذه الصفات معناها أن يكون الشي‌ء موقوفا محبوسا عن النقل والانتقال ، وأن تكون ثمرته ومنفعته في سبيل الله ، ولفظ الوقف‌

__________________

(١) « صحيح البخاري » ج ٣ ، ص ٢٠٩ ، باب الشروط في الوقف ، « سنن أبي داود » ج ٣ ، ص ١١٦ ، ح ٢٨٧٨ ، باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف ، « سنن الترمذي » ج ٣ ، ص ٦٥٩ ، ح ١٣٧٥ ، باب في الوقف.

(٢) « الكافي » ج ٧ ، ص ٥٤ ، باب صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة والأئمة عليهم‌السلام ووصاياهم ، ح ٩ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٤٨ ، ح ٦٠٩ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٥٦ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ٩٨ ، ح ٣٨٠ ، باب أنّه لا يجوز بيع الوقف ، ح ٤ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٣ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٦ ، ح ٢.

(٣) « الكافي » ج ٧ ، ص ٥٦ ، باب ما يلحق الميت بعد موته ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٢٩٢ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ١ ، ح ٢.

(٤) « الكافي » ج ٧ ، ص ٥٤ ، باب صدقات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة والأئمة عليهم‌السلام ووصاياهم ، ح ٩ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٤٨ ، ح ٦٠٩ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٥٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٣ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٦ ، ح ٢.

٢٣٢

أيضا يفيد معنى التحبيس أو الحبس عن النقل والانتقال ، ولكن حيث أنّه ـ كما سيأتي إن شاء الله تعالى ـ يعتبر في صحّة الوقف قصد القربة ، وأيضا صرف حبس المال من دون تسبيل الثمرة أو المنفعة لغو ، فلذا يكون أخصّ من مطلق الحبس ، وإلاّ فلا فرق بين أن يقال وقفته وأوقفته ووقّفته ـ بالتضعيف ـ وبين أن يقال : حبّسته وأحبسته وحبّسته بالتضعيف.

فالوقف المصطلح عند الفقهاء وعند الشرع ـ وإن كان استعماله في لسان الشرع قليلا ، ويعبّر عنه في لسان الشرع غالبا بالصدقة ، غاية الأمر مقيّدة بالعناوين التي ذكرناها ـ هو حبس الأصل وتسبيل الثمرة ، كما عرّفه الفقهاء بهذا. والمراد من التسبيل هو جعلها في سبيل الله.

وما ذكرنا كان لشرح حقيقة الوقف وماهيّته ، وإلاّ فتعاريف الفقهاء لموضوعات الأحكام غالبا تكون تعاريف لفظيّة ، تكون بالأعم تارة ، وبالأخصّ أخرى ، لا طرد ولا عكس لها.

ثمَّ إنّه لا شكّ في أنّ هذا المعنى الذي ذكرنا للوقف ليس أمرا تكوينيا ، كحبس إنسان ، أو حيوان في الخارج ، فإنّه لا يحصل إلاّ بأسباب خارجيّة ، بل هو اعتبار عرفي أو تشريعي لا يوجد إلاّ بالإنشاء ممّن له أهليّة هذا الإنشاء.

وإذا كان الأمر كذلك فربما يعتبر الشارع أو العرف ـ بناء على كون هذا المعنى عندهم قبل شرعنا ـ أمورا في جانب العقد والوقف والواقف والموقوف والموقوف عليه ، كما أنّه ظاهرهم الاتّفاق على لزوم كون الإنشاء بالصيغة.

ثمَّ يقع الكلام في أنّه عقد يحتاج إلى القبول ، أو لا يحتاج مع أنّه عقد ، أو لأنّه إيقاع ، وكما أنّه شرط الشارع في طرف المنشئ أن يكون عاقلا بالغا مالكا غير ممنوع التصرّف بحجر من فلس أو سفه وأمثال ذلك ، وكما أنّه شرط في جانب المنشأ أيضا أمورا نذكرها إن شاء الله تعالى.

٢٣٣

ونبيّن هذه الأمور في ضمن مطالب :

المطلب الأوّل

في أنّ الوقف عقد يحتاج إلى القبول ، أو إيقاع‌

أو عقد ولكن لا يحتاج إلى القبول القولي ، بل يكون نفس تصرّف الموقوف عليهم في العين الموقوفة وقبضهم لها قبولا فعليّا ، كما يكون الأمر كذلك في باب الجعالة بناء على أنّه عقد لا إيقاع ، بل في باب الوصيّة بناء على أنّها عقد ولا يعتبر القبول ، وإن رجّحنا نحن اعتبار القبول فيها ، وظاهر الأصحاب أنّه عقد وإن اختلفوا في اعتبار القبول فيه؟

والظاهر أنّه عقد كما هو ظاهر الأصحاب ، بل صريح جماعة ، بل جماعة منهم كالمحقّق رحمهم‌الله وغيره يعرفون الوقف بأنّه عقد ثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة (١).

ويحكي تعريفه بما ذكر عن القواعد (٢) والتنقيح (٣) وإيضاح النافع والكفاية (٤).

وذلك من جهة أنّه لا ريب في أنّ الوقف حقيقة واحدة ، بمعنى أنّه ليس الوقف على الجهات كالمسجد والرباط والقنطرة حقيقة ، وعلى العناوين العامّة كالفقراء والعلماء والسادات وغير ذلك من العناوين وعلى الذريّة مثلا حقيقة أخرى ، بل الوقوف في الجميع بمعنى واحد كما هو الظاهر المتبادر من استعمالاتهم.

وأيضا الظاهر بل المعلوم أنّ الوقف على العناوين العامّة أو الخاصّة تمليك لهم كما سيأتي ، وظاهر التمليك والتملّك الاختياري هو أنّه معاهدة من الطرفين ، فيكون عقدا‌

__________________

(١) « شرائع الإسلام » ج ٢ ، ص ٢١١.

(٢) « قواعد الأحكام » ، ج ١ ، ص ٢٦٦.

(٣) « التنقيح الرائع » ج ٢ ، ص ٣٠٠.

(٤) « كفاية الأحكام » ص ١٣٩.

٢٣٤

حتّى إذا كان على الجهات العامّة كالمدارس والمساجد والقناطر والخانات والرباطات.

وأيضا صرّح جماعة ببطلانه بالردّ ، ولو كان إيقاعا لم يبطل ، وإذا كان عقدا فمقتضى الأصل هو احتياجه إلى القبول ، وهو أصالة عدم ترتّب الأثر إلاّ مع القبول.

اللهمّ إلاّ أن لا يكون القبول دخيلا في تحقّق عنوان الوقف عرفا ، فإذا تحقّق عنوانه فإطلاقه ينفي شرطيّة القبول في صحّته.

وعمدة استدلال القائلين بعدم لزوم القبول خلوّ الأخبار المشتملة على أوقاف الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام وسيّدة نساء العالمين عليهم‌السلام عن ذكر القبول.

وفيه : أنّه يمكن أن يكون خلوّ الأخبار المشتملة على أوقافهم من ذكر القبول من جهة أنّها في مقام بيان صدور كيفيّة الوقف عنهم عليهم‌السلام لا في مقام بيان تمام سبب حصول الوقف ، فلا إطلاق لها كي يتمسّك بها ، وأيضا يمكن أن يقال باكتفاء القبول من قيّم الوقف وإن كان هو نفسه ، كما في الجواهر (١).

وأمّا التفصيل بين الوقف الخاصّ والوقف العامّ ـ كما صدر عن بعض ـ فلا وجه وجيه له أصلا ، لأنّ اعتمادهم في هذا التفصيل على عدم من هو يقبل ، وجوابه إمكان قبول الحاكم أو من بحكمه.

وأمّا جريان الفضولي فيه أوّلا فمبنيّ على أنّه عقد أو إيقاع ، وأنّ الفضولي في البيع هل على القاعدة أو لأدلّة خاصّة؟ فإن قلنا إنّه إيقاع ، فالظاهر الإجماع على عدم جريان الفضولي في الإيقاعات ، وقد تقدّم أنّه ليس بإيقاع ، وقد تقرّر في محلّه أنّ صحّة معاملة الفضولي على القاعدة ، فمقتضى القاعدة جريانه فيه.

ولكن يمكن أن يقال بأنّه وإن لم يكن مانع عن جريانه فيه بمقتضى القاعدة ، إلاّ أنّه بناء على اعتبار قصد القربة فيه حال العقد وإنشائه ، فلا يحصل هذا الشرط وإن‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٧.

٢٣٥

قصد الفضول القربة حال العقد ، لأنّ قصد القربة عن غير الواقف لا أثر له وإن كان بعنوان النيابة عن المالك ، خصوصا من غير استنابة المالك.

وأمّا قصد المالك حال الإجازة فغير مفيد ، لأنّ الشي‌ء بعد وقوعه لا ينقلب عمّا وقع عليه. نعم بناء على عدم اعتبار قصد القربة فيه ، وبناء على كونه عقدا لا إيقاعا ، وبناء على أنّ جريان الفضولي في المعاملات على القاعدة لا أنّه فقط في البيع وبالأدلّة الخاصّة ، فلا إشكال في جريان الفضولي ، فإذا وقف شخص فضولة ملك شخص وأجازه المالك الواجد لشرائط الإجازة ولكونه واقفا يصحّ ذلك الوقف ، ويكون كما صدر عن نفس المالك.

وأمّا اعتبار كونه بقصد القربة في وقوعه وتحقّقه شرعا أو لا؟

فقد اختلف الفقهاء في ذلك ، واختار العلاّمة قدس‌سره في قواعده الاعتبار (١) ، وحكى ذلك أيضا عن الشهيد قدس‌سره في الدروس (٢) ، ويظهر من السرائر (٣) والغنية (٤) دعوى الإجماع على الاعتبار ، وحكى عن بعض دعوى الاشتهار بين القدماء.

ثمَّ إنّه لو لم يوجد دليل لا على اعتبار قصد القربة في تحقّقه ووقوعه ولا عدم الاعتبار ، فهل مقتضى الأصل أيّ واحد منهما؟

أقول : أمّا أصالة عدم الاعتبار الذي ذكرها في الجواهر (٥) فليس لها حالة سابقة على تقدير كون العدم نعتيّا. ومثبت إن كان محموليّا.

فتكون أصالة الفساد في المعاملات والعقود محكما ، لاحتمال دخله في تحقق ماهيّة الوقف شرعا ، ومع هذا الشكّ والاحتمال لا يبقى مجال للتمسّك بإطلاقات أدلّة الوقف ،

__________________

(١) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ٢٦٧.

(٢) « الدروس الشرعية » ج ٢ ، ص ٢٦٤.

(٣) « السرائر » ج ٣ ، ص ١٥٧.

(٤) « الغنية » ضمن « الجوامع الفقهية » ص ٥٤٠.

(٥) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٨.

٢٣٦

فإنّ قوله عليه‌السلام : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » حكم على الوقوف بعد الفراغ عن تحقّق أصل حقيقة الوقف وماهيّته بجميع ما له دخل في تلك الماهيّة عرفا أو شرعا.

نعم لو كان الوقف معنى عرفيّا كالبيع ، ويكون في نظر العرف موجودا بدون قصد القربة ، وتكون المطلقات باعتبار ما هو المفهوم منها عرفا ، فإذا احتملنا دخل شي‌ء فيه شرعا ، ولم يدلّ دليل على اعتباره فيمكن التمسّك بالمطلق لرفع الشكّ وعدم اعتبار ما شكّ في اعتباره شرعا في تلك الماهيّة.

وعلى هذا المبنى سلك شيخنا الأعظم قدس‌سره في التمسّك بالمطلقات في باب البيع في مكاسبه (١) ، ولكن فيما نحن فيه لا نعلم بتحقّق حقيقة الوقف ، لأنّ الوقف ليس من العناوين العرفيّة المحضة ، بل تصرّف فيها الشارع بضمّ بعض الخصوصيّات وحذف أخرى ، فليس المطلق ملقى إلى العرف بما يفهمه العرف ويكون عندهم هو الوقف.

ويكون من هذه الجهة شبيها بمفاهيم عناوين العبادات ، فإنّه هناك يصحّ التمسّك بالمطلقات بعد إحراز عنوان المطلق شرعا ، وإن احتمل دخل خصوصيّة أخرى زائدة على المسمّى ، وإلاّ لا بدّ من القول بعدم جواز التمسّك بالإطلاقات في أبواب العبادات بناء على الصحيحي ، والاكتفاء بالإطلاق المقامي في رفع الشكّ.

وأمّا الدليل على اعتبار قصد القربة في الوقف :

فمنها : الإجماع المدّعى من السرائر والغنية.

ويجيب عنه صاحب الجواهر قدس‌سره بأنّه لم نتحقّقه ، لخلوّ كثير من عبارات الأصحاب المشتملة على بيان شرائطه عنه. (٢)

__________________

(١) « كتاب المكاسب » ص ٨٠ و ٩٦.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٨ ، الوقوف والصدقات.

٢٣٧

أقول : قد تكرّر منّا عدم صحّة التمسّك بأمثال هذه الإجماعات ـ على فرض تحقّقه ـ في إثبات الاعتبار ، وذلك من جهة معلوميّة مدرك إجماعهم واتّفاقهم ، ولا أقلّ من احتمال كون مدركهم هذه الأدلّة التي سنذكرها ، ومع وجود هذا الاحتمال فلا يبقى مجال استكشاف رأي المعصوم عليه‌السلام بالحدس القطعي من هذا الإجماع والاتّفاق.

ومنها : قوله عليه‌السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه الله عزّ وجلّ » (١).

بناء على أنّ ماهيّة الوقف من أنواع الصدقة ، فهو صدقة خاصّة ، ولذا وصفوها عليهم‌السلام في الروايات العديدة بـ « لا تباع ولا توهب ولا تورث » (٢) فيكون مفهوم الوقف أخصّ من مفهوم الصدقة ، ولذلك عبّر عنه بالصدقة في جميع أصناف الوقف.

فالصدقات على أقسام : منها : الوقف ، ومنها : الزكاة ، ومنها : غيرهما من الصدقات الواجبة والمندوبة.

وقد عبّر عن الوقف على الولد بالصدقة في بعض الروايات ، كرواية عليّ بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يتصدّق على بعض ولده بطرف من ماله ، ثمَّ يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده؟ قال عليه‌السلام : « لا بأس بذلك » (٣).

واحتمال إرادة غير الوقف من الصدقة بعيد.

وخلاصة الكلام : أنّ تعبيرهم عليهم‌السلام عن الوقف بالصدقة كثير في الروايات في الأقسام المختلفة من الوقف ، في الوقف على الجهات ، وعلى العناوين ، وعلى الذريّة والأولاد ، فادّعاء أنّ النسبة بينهما عموم من وجه لا يخلو عن مجازفة.

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٠ ، باب ما يجوز من الوقف والصدقة. ، ح ١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٥١ ، ح ٦١٩ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٦٦ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣١٩ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ١٣ ، ح ٢ و ٣.

(٢) تقدم راجع ص ٢٣٢ ، هامش رقم (٢).

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٣٧ ، ح ٥٧٥ ، باب الوقوف والصدقات ، ح ٢٢ ، « الاستبصار » ج ٤ ، ص ١٠١ ، ح ٣٨٩ ، باب من تصدّق على ولده الصغار. ، ح ٥ ، « وسائل الشيعة » ج ١٣ ، ص ٣٠٠ ، في أحكام الوقوف والصدقات ، باب ٥ ، ح ١.

٢٣٨

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان الوقف على ما رواه ابن أبي جمهور في عوالي اللئالي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حبس الأصل وسبل الثمرة » (١) حتّى أنّ أكثر الفقهاء عرّفوا الوقف بأنّه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ، ويقول في القاموس : وسبله تسبيلا : جعله في سبيل الله تعالى (٢).

فبناء على هذا المعنى يكون حقيقة الوقف عبارة عن حبس الأصل وتوقيفه عن التقلّبات في عالم الاعتبار التشريعي ، وجعل ثمرته ومنفعته في سبيل الله ، وهل مع هذا يبقى شكّ في أنّ قصد القربة داخل في حقيقة الوقف؟!.

وقال الشيخ قدس‌سره في النهاية : وعلى كلّ حال ، فالوقف والصدقة شي‌ء واحد ، ولا يصحّ شي‌ء منهما إلاّ ما يتقرّب به إلى الله تعالى ، فإن لم يقصد بذلك وجه الله لم يصحّ الوقف (٣) ، انتهى.

وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام صاحب الجواهر قدس‌سره (٤) من حصول القطع للفقيه بعدم اعتباره بأدنى ملاحظة فيما ذكره من الوجوه لعدم الاعتبار ، فإنّا لاحظنا في جميع ما ذكره ولم يحصل لنا الظنّ ، فضلا عن القطع.

وأمّا ما ذكره من عدم كون الوقف صدقة لعدم اعتبار الفقر فيه مع اعتباره فيها ، فلا يدلّ على عدم كونه صدقة ، لأنّه من الممكن أن تكون أصناف الصدقة مختلفة في الأحكام والآثار.

وأمّا صحّة الوقف على الكافر أو من الكافر ، فلا ينافي اعتبار القربة. أمّا على الكافر الذمّي إذا كان أحد أبويه ، لأنّه يمكن أن يتقرّب به إلى الله في إحسانه إليهم الذي أمر به الله ، بل وفي غير الأبوين من الكفّار غير الحربيّين لا ريب في حسن‌

__________________

(١) تقدم راجع ص ٢٣١.

(٢) « القاموس المحيط » ج ٣ ، ص ٣٩٣ ، « السبيل ».

(٣) « النهاية » ص ٥٩٦.

(٤) « جواهر الكلام » ج ٢٨ ، ص ٩.

٢٣٩

الإحسان إليهم ، خصوصا إذا كانوا عجزة فقراء فأيضا ممكن التقرّب إلى الله بهذا الإحسان إليهم.

وأمّا من الكافر الذمّي ، فلأنّه من الممكن أن يقصد القربة وإن لم يحصل له التقرّب.

نعم بناء على اشتراط الإيمان في صحّة العبادة يدلّ على عدم كونه عبادة منه ، لا على عدم اعتبار قصد القربة.

وأمّا ما قيل : من أنّ قوله عليه‌السلام : « لا صدقة ولا عتق إلاّ ما أريد به وجه الله » أنّ نفي الحقيقة مبالغة في نفي الكمال ، فنفي الحقيقة ادّعائيّ لا حقيقيّ.

فهذا الادّعاء خلاف ظاهر الكلام وما يفهمه العرف من هذه الجملة ، فظاهر « لا » النافية للجنس نفي الحقيقة حقيقة ، لا ادّعاء.

وأمّا الإشكال على الاعتبار بأنّ الوقف على الأولاد والذرّيّة بل سائر الأقارب ليس المحرّك والداعي إلى الوقف هو التقرب إلى الله ، بل الداعي إلى ذلك هو حبّه لهم والعطف عليهم. وأن لا يبقوا محتاجين وفقراء معرزين.

ففيه : أنّ حبّه لهم ليس مانعا عن قصد القربة ، لأنّ الله تبارك وتعالى أيضا يحبّ التودّد إليهم والعطف عليهم ، فالعاقل إذا علم أنّ نفي قصد التقرب بهذا الفعل يحصل كلا الأمرين : حسن حال أقربائه بنفس هذا الفعل ، وثواب الآخرة والدرجات الرفيعة بقصده القربة فيه ، فلا محالة يقصد القربة بفعله هذا.

وأمّا صدوره في بعض الأحيان عن بعض الأشخاص بدون قصد القربة ـ وصرف العطف على أقربائه من قلّة مبالاته بأمور الآخرة وثوابها وعقابها ـ فهذا ليس دليلا على عدم الاعتبار ، كما أنّ الذين لا يبالون بمخالفة أحكام الدين يراءون في عباداتهم لأغراض دنيويّة ، ولا مانع من الالتزام ببطلان وقفهم في هذه الصورة.

كما أنّه في العتق أيضا لو أعتق أحد أقربائه غير الذين ينعتقون عليه قهرا لحبّه‌

٢٤٠