القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

ثمَّ إنّ هذه الرواية تشمل المستحبّات كما تشمل الواجبات ، فلو كان في صلاة الليل ـ مثلا ـ بعض أذكارها المستحبّة ميسور له دون البعض الآخر ، فبتعذّر ذلك البعض لا يسقط البعض الميسور عن موضوعيّته للاستحباب.

وحيث أنّ السقوط عبارة عن ارتفاع حكم المعسور ، إذ لا معنى لارتفاع نفس المعسور ، فنفي السقوط عبارة عن عدم ارتفاع حكم الميسور ـ أي ثبوت حكمه ـ لأنّ النفي في النفي إثبات ، فيكون معنى الرواية أنّ حكم الميسور من كلّ شي‌ء باق ، ولا يسقط بسقوط حكم المعسور ، فإن كان حكمه الاستحباب فاستحبابه باق ، وإن كان الوجوب فوجوبه باق.

وأمّا ما قيل : من أنّ المنفي إن كان هو اللزوم فلا تشمل الرواية المستحبّات ، لأنّ الأجزاء الميسورة من المستحبّات لا لزوم لها كي يحكم الشارع بعدم ارتفاعها ، فتكون الرواية مختصّة بالواجبات ، وإن كان المنفي هو مطلق المطلوبيّة والرجحان ، فلا يثبت بها لزوم الإتيان بالميسور ، ويدلّ على أنّ الإتيان به راجح فقط.

وهذا خلاف ما يراد من الرواية ، لأنّ المقصود إثبات وجوب الباقي بعد تعذّر بعض أجزاء المركّب إن كان واجبا ، وبناء على التعميم استحباب الباقي بعد تعذّر البعض إن كان المركّب مستحبّا فلا بدّ وأن نقول بأنّ المنفي هو ارتفاع الوجوب عن الباقي بعد تعذّر بعض أجزاء المركّب ، فتكون الرواية مختصّة بالواجبات ولا تشمل المستحبّات.

ففيه : أنّ المنفي هو سقوط موضوعيّة الميسور لحكمه السابق قبل حدوث التعذّر ، أو موضوعيّته لحكمه على تقدير عدم تعذّر بعض الأجزاء ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك الحكم على تقدير عدم تعذّر بعض الأجزاء هو الاستحباب أو الوجوب. وقد بيّنّا في كتابنا « المنتهى » أنّ الموضوعيّة للحكم الشرعي من الأحكام الوضعيّة القابلة للجعل التشريعي ، فيكون أمر وضعها ورفعها بيد الشارع.

١٤١

ومن الواضح الجليّ أنّ قوله عليه‌السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » ليس إخبارا عن أمر خارجي ، بل هو في مقام التشريع يحكم ببقاء موضوعيّة الميسور من كلّ مركّب كان موضوعا لحكم شرعي على ما كان ، وعدم سقوط موضوعيّته بتعذّر بعض أجزائه ، سواء كان حكمه السابق هو الوجوب ، أو كان هو الاستحباب.

وأمّا ما قيل : من أنّ حكمه السابق هو كان الوجوب النفسي الضمني ، وهو في ضمن وجوب الكلّ ، فإذا ارتفع الوجوب عن الكلّ لتعذّر بعض أجزائه فيرتفع ذلك الوجوب الضمني عن الباقي قهرا ، ولو كان هناك بعد ذلك وجوب فهو الوجوب النفسي الاستقلالي ، وهو غير ذلك الوجوب الضمني ، فموضوعيّته ارتفع قهرا ولا معنى لعدم سقوطه ، ولو فرضنا أنّه كان له مثل الحكم السابق ، فهذا حكم جديد وموضوعيّة جديدة.

ففيه : ما قلنا في بعض صور جريان الاستصحاب في هذه المسألة ، أنّه على تقدير وجوب الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء فليس هذا وجوبا آخر ، بل هو عين الوجوب السابق.

وأمّا كونه ضمنيّا في السابق واستقلاليّا بعد حدوث تعذّر بعض الأجزاء لا يوجب تغيّرا في وجوب الباقي. والضمنيّة والاستقلاليّة مفهومان ينتزعان عن وجوب ما عدا الباقي وعدم وجوبه ، وبهذا الوجه أجرينا الاستصحاب الشخصي ، واعتمدنا عليه ودفعنا جميع الإشكالات.

ثمَّ إنّه بعد ما ظهر لك دلالة هذه الرواية على مفاد هذه القاعدة ، وشمولها للمركّب الواجب والمستحبّ ، أقول : إنّه يعتبر في مقام إجراء هذه القاعدة كسائر القواعد إحراز موضوعها ، وتشخيص أنّ الباقي بعد تعذّر البعض ميسور ذلك المركّب الكلّ ، لأنّ موضوع الحكم بعدم السقوط هو كون الباقي المتمكّن منه ميسورا لذلك المركّب ، فلا بدّ وأن يكون من مراتب ذلك المركّب ، غاية الأمر ولو كان إحدى مراتب النازلة منه كي‌

١٤٢

يصدق عليها أنّها ميسورة.

وهذا فيما إذا كان المراد من الميسور هو الميسور من نفس المركّب ، مثلا الميسور من الوضوء أو الغسل بعد تعذّر بعض أجزائهما هو مرتبة منهما دون المرتبة الكاملة.

مثلا يمكن أن يقال : إنّ الوضوء أو الغسل مع المسح على الجبيرة في بعض أعضائهما مرتبة نازلة من الوضوء أو الغسل دون المرتبة الكاملة منهما ، التي في الوضوء عبارة عن غسل تمام بشرة الوجه واليدين من المرفق إلى رؤوس الأصابع ومسح الرأس والرجلين ، وفي الغسل عبارة عن إحاطة الماء على تمام بشرة البدن ، فالميسور من مركّب هو وجود مرتبة من ذلك المركّب وإلاّ إن لم يصدق عليه عنوان ذلك المركّب وكان أمرا مباينا له ، فلا يصدق عليه أنّه ميسورة.

إذا عرفت هذا فيرد ها هنا إشكال : وهو أنّ تشخيص هذا المعنى في الموضوعات العرفيّة ممكن غالبا ، لأنّ مفاهيم المركّبات العرفيّة غالبا معلوم عند العرف ، وأنّ الجزء المتعذّر هل له دخل في التسمية بحيث أنّه مع عدمه ينعدم المركّب ولا يصدق على الباقي عنوان ذلك المركّب ، أم ليس كذلك وليس له دخل في التسمية ، بل الجزء الفاقد يوجب سلب الكمال لا سلب أصل الحقيقة ، فإذا كان من القسم الأوّل فليس من ميسور المركّب ولا يشمله القاعدة ، بخلاف القسم الثاني فيصدق عليه أنّه ميسورة.

وأمّا إذا كان المركّب الكلّ من الموضوعات الشرعيّة ، كالصلاة والصوم والحجّ ، بل وكالوضوء والغسل والتيمم ، فإذا تعذّر إيجاد بعض أجزاء هذه المذكورات ، أو بعض شرائطها ، أو تعذّر ترك بعض موانعها ، فإطلاق الميسور على الباقي المتمكّن منها لا يخلو من إشكال.

وذلك من جهة عدم طريق للعرف إلى معرفة أنّ هذا الجزء أو الشرط المتعذّر وجودهما ، أو أنّ هذا المانع المتعذّر تركه هل له دخل في تحقّق ماهيّة هذا المركّب ، بحيث لو لم يكن في مورد تعذّر الجزء والشرط أو كان في مورد تعذّر ترك المانع لا‌

١٤٣

يوجد ماهيّة هذا المركّب ولو مرتبة ضعيفة منها ، ولا يصدق عنوان هذا المركّب الكلّ على الباقي المتمكّن منه.

وذلك من جهة أنّ دخل الجزء أو الشرط الكذائي في تأثير المركّب في الأثر المطلوب منه بحيث لو لم يكن لا أثر له أصلا لا يعرف إلاّ من بيان نفس الشارع ، فلا طريق إلى معرفة أنّه بعد بعض الأجزاء أو بعض الشرائط وجودا ، أو تعذّر بعض الموانع عدما إلاّ من طرف نفس الشارع الذي هو جاعله للوصول إلى الغرض المطلوب منه ، فلو لم يكن بيان من قبل الشارع لما كان يعرف العرف أنّ الحاجّ الذي يتحمّل المشاقّ ويأتي بجميع أعمال الحجّ من الإحرام والسعي والطواف وصلاته وأعمال منى جميعا ، ولكن لم يقف في وادي العرفات ولا في المشعر ، فهذا لم يحصل له الحجّ أصلا.

وكذلك من أتى بجميع أجزاء الصلاة وشرائطها وترك موانعها ، إلاّ أنّه ترك شرطا واحدا وهو أنّه أتى بها مثلا خمس دقائق قبل الوقت لا صلاة له ولو كانت مرتبة ضعيفة منها.

وحاصل الكلام : أنّ معرفة الأجزاء الركنيّة وكذلك شرائطها لا طريق إليها إلاّ من طرف بيان الشارع ، فبناء على هذا لا يمكن إحراز موضوع قاعدة الميسور في الموضوعات والمهيّات المخترعة من قبل الشارع ، فلا يمكن إجرائها فيها.

نعم أجزاء تلك العبادات ربما تكون من الموضوعات العرفيّة ، كالقيام والركوع والسجود في الصلاة ، وغسل البشرة في الوضوء أو الغسل ، والوقوف والسعي في الحجّ ، وأمثال ذلك ، فيمكن إجراء القاعدة في نفس هذا الجزء.

مثلا القيام أو الركوع لكلّ واحد منهما مراتب عند العرف ، فإذا لم يتمكّن من المرتبة العليا منهما فلا يسقطان بالمرّة ، بل على المكلّف أن يأتي بالمرتبة النازلة منهما التي يتمكّن منها. وهكذا الأمر في سائر الأجزاء والشرائط ، فلا نطيل الكلام أزيد‌

١٤٤

من هذا.

ولكن كلّ ما ذكرنا ـ بالنسبة إلى عدم إمكان إحراز موضوع قاعدة الميسور في المهيّات المخترعة عن قبل الشارع ـ كان فيما إذا كان المراد من كلمة « الميسور » في الرواية المذكورة الميسور من المركّب المأمور به. وأمّا إذا كان المراد منه الميسور من أجزائه لا نفس المركّب ، فلا يأتي هذا الإشكال ، لأنّ الميسور من الأجزاء أمر عرفي يفهمه كلّ أحد ، فالمركّب عن عدّة أمور لو تعذّر بعض أجزائه ، فالباقي من الأجزاء الذي تحت قدرته وهو متمكّن من إتيانه يصدق عليه أنّه الميسور من أجزاء ذلك المركّب ، سواء صدق عليه عنوان ذلك المركّب أو لم يصدق.

نعم يبقى الكلام في أنّ المراد من الميسور في مقام الإثبات هل هو ميسور المركّب أو الميسور من الأجزاء؟

والإنصاف أنّ لفظ « الميسور » وإن كان مطلقا من هذه الجهة ، لأنّ كلّ واحد منهما يصدق عليه الميسور ، ولكن إرادة الميسور من الأجزاء منه بعيد جدّا ، لأنّ الميسور من الأجزاء يصدق على جزء واحد من المركّب الذي يكون أجزائه عشرين مثلا وتعذّر تسعة عشر منها وبقي واحد منها تحت التمكّن ، فيقال وجوب هذا الواحد لا يسقط بتعذّر باقي الأجزاء ، فهذا في غاية البعد من ظاهر هذا الكلام.

وأمّا الثالث : أي قوله عليه‌السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كله » فدلالته على هذه القاعدة في غاية الوضوح ، لأنّ ظاهر هذا الكلام أنّ الشي‌ء الذي لا يمكن الإتيان بجميعه لا يجوز ترك جميعه ، بل يجب الإتيان بالمقدار الذي يمكنه أن يدركه ويكون تحت قدرته. وأمّا احتمال أن يكون المراد من الموصول خصوص الكلّي ـ باعتبار أفراده المتعدّدة كي يكون المعنى : أنّ من لا يمكنه إدراك جميع أفراد الطبيعة التي أمر بها لا يجوز له ترك جميع تلك الأفراد ، بل يجب عليه أن يأتي بالمقدار المقدور منها ـ لا وجه له أصلا ، لأنّ ظهور جملة « ما لا يدرك كلّه » في الكلّ أقوى من ظهورها في خصوص‌

١٤٥

الكلّي. وهذا واضح جدّا.

نعم لا بأس بأن يقال إطلاق لفظ الكلّ في الجملتين يشمل كلّ أجزاء المركّب المأمور به ، وكلّ أفراد الكلّي الذي أمر به ، وأمّا تخصيصه بكلّ أفراد الكلّي يكون بلا مخصّص وليس له وجه ظاهر.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه إن كان إشكال في دلالة قوله عليه‌السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » على هذه القاعدة لما ذكرنا ، لكن لا إشكال في دلالة الروايتين الأولى والثالثة عليها ، وفيهما غنى وكفاية.

الجهة الثالثة

في موارد تطبيقها‌

فنقول : موارد تطبيقها في المسائل الفقهيّة كثيرة واستقصائها لا مجال له في هذا المختصر ، ولكن نذكر جملة منها. ولا يخفى أنّ أغلب موارد تطبيق هذا القاعدة ممّا نذكرها ها هنا ـ أو ممّا لم نذكرها ـ وردت أدلّة خاصّة على لزوم الإتيان بالباقي الميسور في الواجبات ، وعلى استحبابه في المستحبّات.

فمنها : ما إذا تعذّر تعدّد الغسل في المتنجّس بالبول ـ بناء على لزوم التثنية في البول فيما إذا غسل بالماء القليل ـ وهو متمكّن من غسله مرّة واحدة ، فهل يجب لأثر تخفيف النجاسة أم لا؟ الظاهر جريان القاعدة.

ومنها : إذا كان الإناء ولغ فيه الكلب والخنزير ولا يقدر على التعفير ، فهل يجب غسله بالماء القراح وحده بهذه القاعدة أم لا؟

الظاهر جريان القاعدة ولزوم الإتيان بالمقدار الميسور. ولكن يمكن أن يقال في هذين الموردين أنّ الشارع جعل سبب التطهير هو التعدّد في البول والغسل مع التعفير‌

١٤٦

في الولوغ ، فإذا لم يوجد السبب لا يوجد المسبّب ، ويبقى الإناء على نجاسته في مسألة الولوغ ، والثوب المتنجّس على نجاسته في مسألة المتنجّس بالبول.

وحيث أنّ وجوب الغسل في المسألتين مقدّميّ ، وتحصيل طهارة الثوب وطهارة الإناء ليستعمل فيما هو مشروط بالطهارة ، فإذا علم بعدم حصول الطهارة بدون التعدّد في البول وبدون التعفير في الولوغ ، فيكون الغسل الواحد في الأوّل وبدون التعفير في الثاني لغوا وبلا فائدة ، فلا معنى لأن يكونا واجبين بالوجوب المقدّمي. اللهمّ إلاّ أن يقال بأنّهما يوجبان التخفيف في النجاسة ويرفعان مرتبة منها ، ولا يبعد ذلك.

ومنها : إذا تعذّر مقدار الذي عيّن الشارع من الدلاء في نزح البئر لوقوع النجاسات فيها ، ولكن يمكن له نزح بعض ذلك المقدار ، فهل تجري قاعدة الميسور لوجوب نزح مقدار الممكن إن قلنا بوجوب النزح ، أو لاستحبابه بناء على القول باستحبابه وبناء على القول بجريانها في المستحبّات ، كما هو المختار عندنا.

الظاهر جريانها إلاّ على الإشكال المتقدّم من كون وجوب النزح وجوبا مقدّميّا ، ومع عدم حصول ذي المقدمة يكون لغوا.

والجواب عن هذا الإشكال هو الجواب المتقدّم ، فلا نعيد.

والإنصاف : أنّ قاعدة الميسور على تقدير شمولها للمستحبّات تجري في الواجبات والمستحبّات النفسيّة ، وأمّا جريانها في الواجبات المقدّميّة مع العلم بأنّ هذا المقدار الميسور من المقدّمة لا تأثير له في إيجاد ذي المقدّمة مشكل جدّا ، بل في بعض الموارد يكون من المضحكات.

ومنها : أنّه لو تعذّر السدر والكافور في غسل الميّت ، فهل يجب الغسل بالماء القراح باعتبار أنّه الميسور من الغسل مع الخليط بأحدها ، أم لا؟

والظاهر جريان القاعدة ها هنا بدون إشكال في البين ، لأنّ هذا الغسل واجب نفسيّ ، فلا مانع من أن يكون الواجب والمطلوب أغسال ثلاثة بالماء القراح ، أحدها‌

١٤٧

هو المشروع الأوّلي بجعله كذلك ، واثنان منها بقاعدة الميسور.

ومنها : في باب الكفّارات لو تعذّر عتق الرقبة المؤمنة ، ولكنّه متمكّن من عتق غير المؤمنة ، فهل يجب بقاعدة الميسور ، أم لا؟

الظاهر جريانها ووجوب عتق الرقبة غير المؤمنة ، بناء على جريانها في الواجب المقيّد بقيد فيما إذا تعذّر قيده.

وربما يقال بأنّ المقيّد بقيد إذا تعلّق به الوجوب ـ كما في المثال المذكور ـ ففاقد ذلك القيد يباين الواجد له ، فليس بميسورة كي تشمله قاعدة الميسور ، كما أنّ ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا أمرتكم بشي‌ء فأتو منه ما استطعتم » (١) هو أن يكون المستطاع بعضا خارجيّا لذلك الشي‌ء الذي أمر به الشارع.

وكذلك الأمر في قوله عليه‌السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (٢) ويكون مفاده لزوم الإتيان بالبعض الخارجي لذلك الكلّ المأمور به ، وفاقد القيد ليس بعضا خارجيّا لواجد القيد ، بل هو بعض تحليلي له ، وذلك من جهة أنّ القيد مع ذات المقيّد لهما وجود واحد ، لا أنّ لكلّ واحد منهما وجود حتّى يكون من قبيل المركّب الخارجي والكلّ وجزئه.

فلا يشمله أدلّة قاعدة الميسور ، إذ ليس مجموع القيد والمقيّد كلاّ خارجيّا بالنسبة إلى ذات المقيّد وحدها ، ولا أنّ ذات المقيّد جزء خارجي للمجموع ، ولا أنّه ميسورة.

ولذلك قالوا في بيع الجارية المغنّية بالبطلان وعدم كونه من باب تبعّض الصفقة ، كلّ ذلك من جهة أنّ ذات المقيّد مع قيده موجودان بوجود واحد في الخارج ، لا أنّ لكلّ واحد منهما وجود يخصّه ، فالتركيب بينهما اتّحادي لا انضمامي.

__________________

(١) « صحيح مسلم » ج ٢ ، ص ٩٧٥ ، ح ١٣٣٧ ، كتاب الحجّ ، ح ٤١٢ (٧٣) باب فرض الحج مرة في العمر ، « سنن النسائي » ج ٥ ، ص ١١٠ ، باب وجوب الحجّ.

(٢) « عوالي اللئالي » ج ٤ ، ص ٥٨ ، ح ٢٠٧.

١٤٨

وفيه : أنّ القيود ليست على نسق واحد ، فتارة : يكون القيد من قبيل الفصل ، وذات المقيّد من قبيل الجنس. كما إذا أمره أن يأتي بحيوان ناطق ، وهو لا يقدر على الإتيان بهذا القيد ، ويقدر على إتيان الحيوان غير الناطق. ولا شكّ في أنّ في هذا القسم من القيد والمقيّد لا تجري قاعدة الميسور ، لعين ما ذكره هذا القائل. ولا شكّ في أنّ التركيب بين القيد والمقيّد في هذا القسم اتّحادي.

وأخرى : يكون من قبيل المعرّف لموضوع الحكم وإن كان عرضيّا ، كالجارية الروميّة ، فالقيد في هذا القسم وإن لم يكن منوّعا لذات المقيّد عقلا ، بل أضافه عرضيّة لها ، ولكن ليس أيضا عند العرف عرضا منضما إليها ، وإن كان بحسب الدقّة العقليّة كذلك.

ففي هذا القسم أيضا لا تجري قاعدة الميسور ، فإذا قال المولى : أعتق جارية روميّة ، وهو لا يقدر على ذلك ولكن يقدر على عتق جارية حبشيّة ، فالعرف يرى هذا الأخير مباينا للمأمور به ، فلا تجري هذه القاعدة ها هنا ، وذلك من جهة أنّ الجارية الحبشيّة ليست ميسور الجارية الروميّة عنده. والمناط في تشخيص المفاهيم هو فهم العرف.

وثالثة : عند العرف وبحسب متفاهمهم أيضا يكون وجود القيد خصوصيّة زائدة على وجود ذات المقيّد ، كما في الرقبة المؤمنة. ففي مثل هذا القسم الظاهر جريان هذه القاعدة ، فإذا أمر المولى بالصلاة الجهريّة وهو لا يقدر على إتيانها جهرا لجهة من الجهات ، فهل ترضى من نفسك بأن تقول بعدم كون الصلاة الغير الجهريّة ميسور الصلاة الجهريّة ، ولا يجب عليه شي‌ء حتّى مع قطع النظر عن الأدلّة الخارجيّة وأنّها لا تترك بحال.

والسر في ذلك : هو أنّ العرف يرى الصلاة شيئا ، وكونا جهرا شيئا خارجيّا زائدا على ذات الصلاة ومن الصفات العارضة عليها ، ويرى التركيب بينهما انضماميّا ،

١٤٩

وإن كان العرض يتّحد مع الذات بعد أخذه لا بشرط وجعله بصورة المشتقّ لا بصورة مبدأ الاشتقاق.

وأمّا عدم كون بيع الجارية المغنّية من قبيل تبعّض الصفقة ، فليس من جهة عدم كون وصف الغناء أمرا زائدا على الذات ، بل من جهة عدم الانحلال عند العرف إلى كون الذات مبيعا والوصف مبيعا آخر ، بل العرف يرى الذات المتّصفة بهذا الوصف مبيعا واحدا ، كما أنّ الجارية مع أنّه لها أجزاء يقينا ، من الرأس واليد والرجل وغيرها من سائر الأعضاء ، ومع ذلك لا ينحلّ إلى بيوع متعدّدة بعدد الأعضاء ، وذلك كلّه لأنّ العرف والعقلاء يرون المجموع مبيعا واحدا غير قابل للانحلال.

نعم باعتبار كسور المشاع يرونها بيوعا متعدّدة ، فلو ظهر أنّ نصف هذه الجارية ملك لغير البائع أو حرّ ـ إن قلنا بإمكان ذلك وعدم السراية ـ فينحلّ إلى بيعين ، ويكون من باب تبعّض الصفقة.

فظهر أنّه لو تعلّق الوجوب بذات متّصفة بصفة عرضيّة ، وكانت تلك الصفة من الأعراض الخارجيّة المحمولات بالضمائم ، وتعذّر تلك الصفة ، ولم تكن تلك الصفة عنوانا معرفة لذلك الشي‌ء ، ولم يكن منوّعا له عند العرف ، فبتعذّرها لا يسقط الوجوب أو الاستحباب عن ذلك الذات ، وتجري فيها قاعدة الميسور.

ومنها : أيضا في باب الكفّارات في عدد الأيّام في الصوم الذي جعل كفارة ، فلو لم يقدر على تمام العدد ولكن قدر على بعضها ، فهل تجري قاعدة الميسور ويحكم بوجوب المقدار المقدور منه ، أم لا فيسقط وجوب الباقي؟

الظاهر أنّها تجري ويحكم بوجوب الباقي.

وهذا فيما إذا لم يكن للصوم عدل لا تخييرا ولا ترتيبا واضح ، لأدلّة القاعدة.

وأمّا إن كان له عدل بأحد الوجهين ، فإن كان تخييرا كما فيما إذا أفطر في نهار شهر‌

١٥٠

رمضان متعمّدا بلا عذر بالحلال ، فبعد تعذّر إحدى الخصال الثلاث بتعيّن الآخران ، ولا تصل النوبة إلى إجراء قاعدة الميسور بالنسبة إلى الباقي. وهذا أيضا واضح.

وأمّا إذا كان العدل ترتيبا ، كما في كفّارة الظهار ، فإنّ إطعام ستّين مسكين جعل عدلا لصيام شهرين متتابعين بعد عدم استطاعة الصيام والعجز عنه ، لقوله تعالى : ( فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ). (١)

ففي هذا القسم يمكن أن يقال : إنّ وصول النوبة إلى العدل بعد العجز عن تمام مراتب السابقة لا العجز عن خصوص المرتبة التامّة.

ولكن الظاهر أنّ الترتيب بين المرتبة التامّة وما رتّب عليها ، لا تمام مراتب السابقة.

ومنها : ما ورد في بعض المستحبّات من قراءة السور المتعدّدة ، كما ورد في عمل أمّ داود ، أو السورة الواحدة مرّات كثيرة محدودة بحدّ كعشرة أو مائة أو ألف سورة التوحيد ـ مثلا ـ كما ورد في أعمال ليلة القدر ، أو بعض ليالي الآخر من شهر رمضان المبارك ، أو ليلة النصف من شعبان أو الأذكار الواردة في صلاة الليل من الاستغفار وغيره ، أو مائة مرّة « السلام على الحسين وأصحابه وأولاده عليهم‌السلام » في زيارة عاشوراء ، فلو لم يقدر على إتيان الجميع في الجميع ، ولكن قدر على إتيان البعض في جميع ما ذكرنا وغير ما ذكرنا من المستحبّات الكثيرة المشتملة على الأذكار المتعدّدة ، فهل تجري قاعدة الميسور ، أم لا بناء على ما اخترناه من تعميم القاعدة ، وشمولها للواجبات والمستحبّات؟

والظاهر جريانها ، فتعذّر البعض لا يوجب سقوط الاستحباب عن الجميع. فبناء على هذا لو تعذّر عليه الاستغفار سبعين مرّة في صلاة الليل مثلا ويقدر على ثلاثين‌

__________________

(١) المجادلة (٥٨) : ٤.

١٥١

مثلا فليأت به استحبابا.

والفروع لهذه القاعدة كثيرة لا يمكن استقصاؤها في هذا المختصر.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

١٥٢

٤١ ـ قاعدة

السوق‌

١٥٣
١٥٤

قاعدة السوق (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة « قاعدة السوق ». وهي أمارة على التذكية وغيرها.

وفيها جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مدركها‌

وهو أمور :

الأوّل : استقرار سيرة المسلمين والمؤمنين على أنّهم يدخلون الأسواق ويشترون اللحوم والجلود من دون السؤال عن أنّها ميتة أو مذكّى ، حتّى أنّ صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأئمّة المعصومين عليهم‌السلام أيضا كانوا كذلك ، وهذا شي‌ء لا يقبل الإنكار ، ولم يرد عنهم عليهم‌السلام ردع عن هذه السيرة ، بل هم أنفسهم عليهم‌السلام كانوا كسائر المسلمين يعملون بها ، فيدخلون سوق النخاسين ويشترون العبيد والإماء ، من دون أن يسألوا ويفتشوا هل هم أحرار قهروا فيبيعونهم ، أو عبيد.

حتّى أنّه قال عليه‌السلام في رواية حفص بن غياث : « لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق » (١) وظاهر هذه العبارة أنّ الاعتناء بهذه الاحتمالات ـ أي احتمال عدم التذكية في‌

__________________

(*) « القواعد » ص ١٤٩ ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكرانى ) ج ١ ، ص ٤٨٧.

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٨٧ ، الباب (٩) من

١٥٥

اللحوم والجلود ، واحتمال كونهم أحرار في العبيد والإماء ، واحتمال كونه مال الغير وأنّه سرق أو غصب في سائر الأموال ـ يوجب تعطيل الأسواق ، واختلال أمر المسلمين في معاملاتهم ، وهذا أمر مرغوب عنه عند الشارع ، فعدم الاعتناء بأسواق المسلمين وترتيب الأثر على هذه الوساوس منفور عنه.

الثاني : الإجماع على حجّية السوق ، فإنّه من قديم الزمان لم يشكّك أحد في حجّية السوق وفي أنّها أمارة التذكية.

ولكنّك عرفت ما ذكرنا مرارا من عدم اعتبار مثل هذه الإجماعات التي لها مدارك للمتّفقين يعتمدون عليها ، وليس من الإجماع المصطلح الذي بنينا في الأصول على حجّيته ، وكشفه عن رأي المعصوم عليه‌السلام.

الثالث : الأخبار :

منها : ما رواه الحلبي ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال : « اشتر وصلّ فيها حتّى تعلم أنّه ميتة بعينه » (١).

وبعد الفراغ من أنّ الظاهر أنّ المراد من السوق هو سوق المسلمين ، فأمره عليه‌السلام باشتراء تلك الخفاف المشكوكة ـ أنّها مأخوذة من المذكّى أو من الميتة والصلاة فيها حتّى تعلم بأنّها مصنوعة من الميتة ـ يدلّ على أنّ السوق أمارة التذكية ، إلاّ أن تعلم بخلافها ، وإلاّ فمقتضى أصالة عدم التذكية التي هي من الأصول التنزيليّة هو عدم جواز شرائها ، وعدم جواز الصلاة فيها ، فلا بدّ وأن يكون هناك أمارة حاكمة على ذلك الأصل ، وليست هي إلاّ السوق حسب المتفاهم العرفي من نفس هذه الرواية.

__________________

أبواب الشهادات ، ح ١ ، « الفقيه » ج ٣ ، ص ٥١ ، ح ٣٣٠٧ ، باب من يجب رد شهادته ومن يجب قبول شهادته ، ح ٢٧ ، « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٦١ ، ح ٦٩٥ ، (٩١) باب البينات ، ح ١٠٠ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢١٥ ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدّعوى ، باب ٢٥ ، ح ٢.

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ٤٠٣ ، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره ، ح ٢٨ ، « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٢٣٤ ، ح ٩٢٠ ، (١١) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز الصلاة فيه ، ح ١٢٨ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٧١ ، أبواب النجاسات ، باب ٥٠ ، ح ٢.

١٥٦

ولا يمكن أن يقال : إنّ أمره عليه‌السلام بالاشتراء والصلاة فيها حكم ظاهري مجعول للشاكّ ، حتّى يعلم من قبيل أصالة الطهارة ، لأنّه لو كان كذلك لكان استصحاب عدم التذكية حاكما على ذلك الأصل غير التنزيلي ، وعلى فرض عدم حجّية الاستصحاب نفس أصالة عدم التذكية تجري ، لأدلّة خاصّة ، فلا يبقى محلّ لذلك الحكم الظاهري الموهوم.

نعم بناء على مسلك صاحب المدارك قدس‌سره من أنّ أصالة عدم التذكية ليست أصلا برأسها ، وإنّما هو نفس الاستصحاب في مورد الشكّ في التذكية ، والاستصحاب ليس بحجّة (١) ، لكان لهذا الكلام وجه.

ولكن تردّه أدلّة حجّية الاستصحاب أوّلا ، وعلى تقدير تسليم عدم حجّيته تردّه الأدلّة الخاصّة التي تدل على حجّية أصالة عدم التذكية.

ومنها : رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكية ، أيصلّي فيها؟ فقال : « نعم ليس عليكم المسألة ، إنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إنّ الدين أوسع من ذلك » (٢).

وهذه الرواية ظاهرة بل نصّ في أنّ في مورد الشكّ في التذكية لا يجب السؤال والتفتيش ويصلّى فيها ، مع أنّ مقتضى أصالة عدم التذكية هو عدم جواز الصلاة فيها ، إلاّ بعد المسألة وتبيّن أنّها ذكيّة ، فليس هذا إلاّ لأجل وجود أمارة على التذكية ، وهو هنا ليس إلاّ السوق.

ومنها : ما رواه الصدوق بإسناده عن سليمان بن جعفر الجعفري ، عن العبد الصالح‌

__________________

(١) « مدارك الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٨٧.

(٢) « قرب الإسناد » ص ٣٨٥ ، ح ١٣٥٨ ، أحاديث متفرقة ، « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٦٨ ، ح ١٥٢٩ ، (١٧) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح ٦١ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٧١ ، أبواب النجاسات ، باب ٥٠ ، ح ٣.

١٥٧

موسى بن جعفر عليه‌السلام مثله. (١)

عن ابن أبي نصر عن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشترى الخفّ لا يدري أذكيّ هو أم لا ، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري ، يصلّي فيه؟

قال عليه‌السلام : « نعم أنا اشترى الخفّ من السوق ويصنع لي وأصلي فيه ، وليس عليكم المسألة » (٢).

ومنها : رواية الحسن بن جهم ، قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام اعترض السوق فاشترى خفّا لا أدري أذكيّ هو أم لا؟ قال عليه‌السلام : « صلّ فيه ». قلت : فالنعل؟ قال عليه‌السلام مثل ذلك ، قلت : إنّي أضيق من هذا ، قال : « أترغب عمّا كان أبو الحسن يفعله » (٣).

ودلالة هاتين الروايتين الأخيرتين على أماريّة السوق على حذو ما سبق ، بلا تفاوت أصلا.

وها هنا أخبار أخر تدلّ على اعتبار سوق المسلمين ، وأنّه أمارة التذكية ، (٤) تركنا ذكرها ، لأنّ في ما ذكرنا غنى وكفاية.

الجهة الثانية‌

في أنّ اعتبار هذه القاعدة هل هو في خصوص إثبات التذكية في مورد الشكّ‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ١ ، ص ٢٥٧ ، ح ٧٩١ ، باب ما يصلّى فيه وما لا يصلّى فيه من الثياب وجميع الأنواع ، ح ٤٢.

(٢) « قرب الإسناد » ص ٣٨٥ ، ح ١٣٧٥ ، أحاديث متفرقة ، « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٧١ ، ح ١٥٤٥ ، (١٧) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح ٧٧ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٧٢ ، أبواب النجاسات ، باب ٥٠ ، ح ٦.

(٣) « الكافي » ج ٣ ، ص ٤٠٤ ، باب اللباس الذي تكره الصلاة فيه وما لا تكره ، ح ٣١ ، « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٢٣٤ ، ح ٩٢١ ، (١٧) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح ١٢٩ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٧٣ ، أبواب النجاسات ، باب ٥٠ ، ح ٩.

(٤) « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٢٣٤ ، ح ٩٢٢ ، (١٧) باب ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان وما لا يجوز ، ح ١٣٠ ، « وسائل الشيعة » ج ٢ ، ص ١٠٧٣ ، أبواب النجاسات ، باب ٥٠ ، ح ٨.

١٥٨

فيها ، أو أوسع من هذا فيثبت بها الملكيّة أيضا ، فإذا دخل السوق ويريد أن يشتري متاعا ويحتمل أن يكون مسروقا ، أو يدخل سوق النخاسين ويريد أن يشتري عبدا أو أمة ويحتمل أن يكونا حرّين ، فهل السوق أمارة على أنّ ذلك ملك للبائع ، والأمة والعبد مملوكان لبايعهما أم لا ، بل الذي هو أمارة الملكيّة هي اليد ، فلو فرضنا عدم وجود يد عليه فلا طريق إلى إثبات ملكيته؟

والظاهر : أنّ ما هو أمارة الملكيّة هي اليد ، وصرف كونه في السوق لا يدلّ على أنّه ملك لأحد أهل هذا السوق ، أو لأحد من الناس ، إلاّ أن يكون من الأموال التي يعلم بأنّها ملك لأحدهم وإن كان المالك مجهولا ، فبصرف وجود أشخاص في سوق النخاسين في صفّ العبيد والإماء لا يمكن الحكم عليهم بالمملوكيّة ما لم يكونوا تحت يد أحد.

وأمّا مسألة الطهارة في بيع ما يتوقّف صحّة بيعه على الطهارة ـ بحيث لو لم يكن طاهرا لا يكون له منفعة أصلا ـ كالسكنجبين مثلا من جهة أصالة الطهارة ، ولذلك في الموارد التي يجري استصحاب النجاسة فيها يحكم بالنجاسة ، وبصرف كونه في السوق ووقوع البيع والشراء لا يحكم عليه بالطهارة.

وأمّا في موارد الشكّ في الطهارة والنجاسة من جهة الشكّ في التذكية وأن يحكم عليه بالطهارة بواسطة كونه في السوق ، ولكن ذلك ليس من جهة إثبات الطهارة بأماريّة السوق عليها أوّلا وبالذات ، بل من جهة أنّ السوق أمارة التذكية ، ومن آثار التذكية هي الطهارة ، وكذلك الأمر في الحلّية ، فلا يثبت به الحلّية ابتداء ، بل من آثار التذكية الواقعة على الحيوان المحلّل الأكل هو حلّية أكل لحمه بعد التذكية.

الجهة الثالثة‌

في أنّه هل السوق أمارة في عرض اليد ـ بحيث لو كان من في السوق في دكّانه‌

١٥٩

اللحم ويبيعه كالقصّاب أو كالفراء الذي يبيع في دكّانه الفراء ، وهكذا أمثالهما ، فهاهنا أمارتان على التذكية في عرض الآخر ـ أم لا؟ بل السوق أمارة على الأمارة ، بمعنى : أنّ الذي هو أمارة على التذكية أوّلا وبالذات هي اليد.

وأمّا سوق المسلمين فيستكشف منه أنّ البائع المجهول الحال ـ الذي لا يعلم حاله أنّه مسلم كي تكون يده أمارة التذكية ، أم لا فتجري أصالة عدم التذكية ويحكم بلزوم الاجتناب ـ مسلم ويده يد المسلم وأمارة ، وبناء على كونه أمارة على الأمارة ، فلو كان البائع معلوم الحال فلا أثر للسوق أصلا.

وذلك من جهة أنّ أماريّة الأمارة متقوّمة بعدم العلم على خلافها ولا على وفاقها ، فلو علم أنّ البائع مسلم تكون يده حجّة قطعا ، ولا حاجة إلى السوق أصلا ، كما أنّه لو علم أنّ البائع مشرك ، فكونه في سوق المسلمين لا أثر له ، وإن احتمل التذكية بأن تلقاه هذا المشرك من يد مسلم ، ولكن هذا الاحتمال لا أثر له ، لأنّه لا يثبت به التذكية ، لأنّ السوق المعلوم الوجود ليس أمارة على التذكية على الفرض ، ويد المسلم الذي معلوم الأماريّة مشكوك الوجود ، لأنّ المفروض أنّه ليس إلاّ صرف احتمال أن تكون يد هذا المشرك مسبوقا بيد المسلم وأنّه تلقاه من يده.

ولكن الظاهر من قيام سيرة المتديّنين على الاعتماد على سوق المسلمين في أمر التذكية ، وعدم السؤال والتفتيش عنها ـ هو أنّ كون هذا الجلد أو اللحم في سوق المسلمين يباع ويقع عليه التعاطي بينهم ـ علامة أنّهم يرونه مذكّى في الغالب ، كما هو الشأن في أغلب الأمارات ، وإلاّ فليس هناك أمارة تكون دائم المطابقة ، حتّى القطع الوجداني ، فضلا عن الأمارات الظنيّة التي مناط حجّيتها كونها غالب المطابقة.

وحاصل الكلام في هذا المقام هو أنّه بعد العلم بأنّ المسلمين يجتنبون عن لحم غير المذكّى بنصّ قوله تعالى ( إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ) (١) فتعاطي اللحم بالبيع والشراء في‌

__________________

(١) المائدة (٥) : ٣.

١٦٠