القواعد الفقهيّة - ج ٤

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٤٢٣

الرابع : الأذان والإقامة قبل الصلاة مستحبّ عليه قبل الدخول في الصلاة ، وكذلك أذان الإعلام بناء على المشروعيّة ، وليس شي‌ء منها مستحبّا بناء على عدم المشروعيّة. وكذلك نفس الصلاة مع مستحبّاتها الكثيرة ـ التي كتب الشهيد قدس‌سره فيها كتاب الألفيّة والنفليّة ـ مستحبّة في حقّه بناء على مشروعيّة عباداته ، ولا يستحبّ شي‌ء منها بناء على عدم المشروعيّة.

وكتاب الألفيّة مشتمل على ألف واجب ، وكتاب النفليّة مشتمل على ما يزيد ثلاثة آلاف من المستحبّات ، فجميع هذه الأربعة آلاف أو أكثر من واجبات الصلاة ومستحبّاتها مستحبة على الصبيّ غير البالغ بناء على المشروعيّة ، فله أن يأتي بها بقصد أمرها الندبي.

وذكرها وبيان مدرك وجوبها واستحبابها خارج عن طور هذا الكتاب ، وقد أتعب الشهيد الأوّل قدس‌سره نفسه في استقصائها وذكرها في كتابيه ، وشرحهما الشهيد الثاني قدس‌سره أحسن شرح ، فلا حاجة إلى ذكرها.

والغرض ها هنا بيان أنّ هذه القاعدة ـ أي قاعدة مشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ ـ من أكبر القواعد الفقهية وأكثرها فرعا.

الخامس : الحجّ نفسها وواجباتها ومستحبّاتها الكثيرة التي بعد الصلاة لا يماثلها في كثرة الواجبات والمستحبّات عبادة ، فجميعها مستحبة في حقّ الصبيّ ، ويثاب ويوجر على الإتيان بها بناء على القول بمشروعيّة عبادات الصبيّ كما هو المختار.

وأمّا بناء على عدم المشروعيّة فلا يستحبّ شي‌ء منها عليه.

السادس : الصوم ، واجباته ومستحبّاته مستحبّة على غير البالغ بناء على المشروعيّة ، كما أنّ الاعتكاف أيضا كذلك. وأمّا بناء على عدم المشروعيّة فلا يستحبّ شي‌ء منها عليه ، وواجبات الصوم ومستحبّاته كثيرة ، وكذلك الاعتكاف.

ثمَّ إنّه بناء على ما اخترنا في معنى حديث رفع القلم عن الصبيّ من أنّ المراد برفع‌

١٢١

القلم رفع الأحكام الإلزاميّة كالوجوب والحرمة ، فالمكروه أيضا كالمستحبّ ليس مرفوعا عنه ، فبناء على هذا لو صام في شهر رمضان استحبابا ، أو في غيره من الأزمنة التي يكون الصوم فيها مستحبّة ، وهو كلّ أيّام السنة إلاّ المنهيّ عنه ، والمؤكّد منها أيّام خاصّة ، كصوم أيّام الليالي البيض ، ويوم الغدير وصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر ، وهو أوّل خميس منه ، وآخر خميس منه ، وأوّل أربعاء من العشر الثاني ، ويوم السابع عشر من ربيع الأوّل ، ويوم السابع والعشرون من رجب ، ويوم دحو الأرض ـ وهو اليوم الخامس والعشرون من ذي العقدة ـ إلى غير ذلك من الأيّام التي يستحبّ فيها الصوم ، فالمكروهات في حال الصوم مكروه في حقّه ، كالاكتحال والسعوط وشمّ الرياحين وغير ذلك.

كما أنّ أقسام الصوم المكروه كصوم يوم عاشوراء بناء على كراهته أيضا مكروه عليه ، كما أنّه لو صار جنبا بإدخاله في امرأة قبلا أو دبرا ، أو إدخال الغير فيها قبلا أو دبرا يكره عليه كلّ ما يكره على الجنب.

والحاصل : أنّ المكروهات كالمستحبّات غير مرفوع عنه ، فتكون في حقّه مكروها كالبالغين ، إلاّ أن يكون دليل الكراهة مخصوصا بالبالغين ، وذلك كالملاعبة مع زوجته في حال الصوم خوفا من الإنزال ، فهذا التعليل يوجب اختصاص هذا الحكم بالبالغين.

ثمَّ إنّه بناء على مشروعيّة عبادات الصبيّ غير البالغ المميّز لا وجه للقول بعدم جواز استيجاره للصلاة ، أو الصوم ، أو الحجّ عن الميّت ، بناء على ما هو المفروض من كون فعله ذا ملاك تامّ كالبالغين ، وإنّما ارتفع اللزوم إرفاقا ورأفة بهم ، فيمكن للصبيّ المميّز أن ينوب عن الميّت ، ويأتي بما على عهدته ، ويفرغ ما في ذمّته ، لأنّه لا خلل ولا نقصان في فعله.

فعدم الجواز وعدم الإجزاء لا يبقى له مجال ، ولو كان دليل على اشتراط البلوغ‌

١٢٢

في صحّة عبادة لكان تعبّدا يجب الالتزام ، ولكنّه ليس في البين إلاّ حديث رفع القلم (١) ، وحديث أنّ عمده خطأ (٢) ، ورواية أنّ جوازه أمره موقوف على الاحتلام ـ أي البلوغ (٣) ـ وقد عرفت الحال في هذه الأحاديث.

فالأقوى جواز استيجاره للعبادات التي يمكن النيابة فيها ، وإنّ الأحوط تركها ، خروجا عن مخالفة جمع كثير من أعاظم الفقهاء قدس‌سره.

وأمّا نذره أن يفعل ما هو عبادة غير مالي ، فأيضا بناء على مشروعيّة عباداته ، فبمقتضى القواعد الأوّليّة ينبغي أن يقال بصحّته ، ولكن لا قائل بها ، بل الظاهر انعقاد الإجماع على اشتراط البلوغ في صحّة النذر.

مضافا إلى أنّه يمكن أن يقال : إنّ من لوازم صحّة النذر وجوب الوفاء به ، لقوله تعالى ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (٤) فإذا لم يكن وجوب الوفاء في مورد فلا يصحّ النذر في ذلك المورد ، لانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم المساوي.

ولكن يمكن الجواب عن هذا بأنّ النذر لازمه أن يمكن الوفاء به ، ولذلك لا يجوز نذر ما لا يقدر عليه ، كما إذا نذر أن يحجّ ماشيا مع عدم قدرته على ذلك.

وأمّا وجوب الوفاء ، فهذا من الأحكام الشرعيّة التي رتّب الشارع عليه ، فمن الممكن أن يرفع الشارع هذا الحكم رأفة وامتنانا في بعض الموارد ، فالعمدة في وجه بطلان نذر الصبيّ غير البالغ هو الإجماع لا غير.

والحمد لله أوّلا وآخرا ، وظاهرا وباطنا.

__________________

(١) تقدم راجع ص ١١٢ ، هامش رقم (٣).

(٢) تقدم راجع ص ١١٨ ، هامش رقم (٢).

(٣) تقدم راجع ص ١١٨ ، هامش رقم (١).

(٤) الدهر (٧٦) : ٧.

١٢٣
١٢٤

٤٠ ـ قاعدة الميسور‌

١٢٥
١٢٦

قاعدة الميسور (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة المشهورة « قاعدة الميسور ».

وفيها جهات من البحث.

[ الجهة ] الأولى

في بيان مفادها‌

فنقول : المراد منها أنّ الشارع إذا أمر بمركب له أجزاء وشرائط وموانع ، فإذا تعذّر له إيجاد بعض الأجزاء أو بعض الشرائط أو تعسر عسرا يرفع التكليف عن المعسور ، أو تعذّر له ترك بعض الموانع ، أو تعسر فهل يسقط الوجوب بالمرّة ، ويرتفع عن جميع أجزاء ذلك المركّب مع شرائطه وموانعه ، المتعذّر منها وغير المتعذّر ، أم لا بل يرتفع عن خصوص ما هو المتعذّر منها ، وأمّا بالنسبة إلى الباقي فباق؟

ومعنى قاعدة الميسور هو أنّ الوجوب بالنسبة إلى المقدار الميسور من المركّب باق ، ولا يرتفع عن ذلك المقدار بواسطة ارتفاعه عن المقدار المتعذّر أو المعسور.

__________________

(*) « عوائد الأيّام » ص ٨٨ ، « عناوين الأصول » عنوان ١٩ ، « مناط الأحكام » ص ٢٥ ، « اصطلاحات الأصول » ص ٢٠١ ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنّة » ص ١١٨ ، « القواعد » ص ٢٩٧ ، « قواعد فقهي » ص ٢٩١ ، « القواعد الفقهيّة » ( مكارم الشيرازي ) ج ١ ، ص ٥٣٩.

١٢٧

[ الجهة ] الثانية

في مدركها‌

وهو أمور :

[ الأمر ] الأوّل : إطلاق دليل المركّب ، بمعنى أنّ دليل المركّب له إطلاق يشمل كلتا حالتي التمكّن من إيجاد الجزء وعدم التمكّن منه ، مثلا قوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (١) لو فرض أنّه له إطلاق يشمل كلتا حالتي التمكّن من رمي الجمرة وعدم التمكّن منه ، فإذا لم يكن متمكّنا منه وسقط الأمر عنه بواسطة عدم القدرة ، يتمسك بإطلاق دليل وجوب الحجّ لوجوب الباقي وعدم سقوطه بسقوط وجوب ذلك الجزء أو ذلك الشرط.

ولكن التمسّك بإطلاق دليل المركّب يتوقّف على أمور :

الأوّل : أن تكون مقدّمات الإطلاق فيه موجودة.

الثاني : أن لا يكون لدليل ذلك الجزء أو الشرط المتعذّر إطلاق يدلّ على جزئيّته أو شرطيّته مطلقا ، سواء كان المكلّف متمكّنا من إيجاده أم لا ، إذ مع إطلاقه لا يبقى مجال للتمسّك بإطلاق دليل المركّب ، لحكومة إطلاق دليل الجزء على إطلاق دليل المركّب.

الثالث : أن لا يكون اللفظ الموضوع لذلك المركّب موضوعا للصحيح إذا كان من العبادات ، وذلك لأنّه بناء على أن يكون كذلك لا يمكن التمسّك بإطلاقه في رفع جزئيّة مشكوك الجزئيّة ، أو شرطيّته كذلك.

نعم لا بأس بالتمسّك بإطلاقها المقامي ، كما شرحنا كلّ ذلك مفصّلا في كتابنا « المنتهى ».

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٩٧.

١٢٨

[ الأمر ] الثاني : الاستصحاب. ومعلوم أنّ بقاء الوجوب بالنسبة إلى البقيّة ـ أي ما عدى المتعذّر من الأجزاء والشرائط والموانع وجودا بالنسبة إلى الأولين ، وعدما بالنسبة إلى الأخير ـ الذي هو عبارة عن الاستصحاب حيث أنّه مفاد الأصل العملي ، فلا تصل النوبة إليه ، إلاّ بعد فقد إطلاق دليل المركّب وإطلاق دليل القيد ، أي الجزء والشرط وعدم المانع ، إذ مع فرض إطلاق دليل المركّب مع إجمال دليل القيد ، فبقاء الوجوب للبقيّة معلوم بواسطة الإطلاق.

فلا يبقى موضوع لجريان الاستصحاب ، لحكومة إطلاق دليل المركّب عليه ، ومع فرض إطلاق دليل القيد سواء كان إطلاق لدليل المركّب أو لم يكن ، يكون سقوط الوجوب بالنسبة إلى البقيّة معلوما.

أمّا في فرض إجمال دليل المركّب فواضح ، وأمّا في فرض إطلاقه فلحكومة إطلاق دليل القيد على إطلاق دليل المركّب ، فلا مجال لوصول النوبة إلى الاستصحاب ، إلاّ فيما إذا كان دليل المركّب ودليل القيد كلاهما مجملين.

وأمّا إذا كان أحدهما مطلقا ، أو كان كلاهما مطلقين ، فلا تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وذلك لحكومة الأمارات التي منها الإطلاقات على الأصول مطلقا ، محرزة كانت أو غير محرزة.

ثمَّ إنّ تقرير الاستصحاب ها هنا من وجوه :

الأوّل : استصحاب بقاء الجامع بين الوجوب النفسي المحتمل الوجود المتعلّق بما عدا القيد بعد تعذّره ، ووجوب الغيري الذي كان متعلّقا بما عدا القيد المتعذّر من باب المقدّمة.

ومعلوم أنّ هذا الوجه مبنيّ على وجوب المقدّمات الداخليّة بالوجوب الغيري ، مثل المقدّمات الخارجيّة.

١٢٩

بيان ذلك : أنّ وجود ذلك الجامع في ضمن الوجوب الغيري لما عدا قيد المتعذّر كان متيقّن الوجود ، وحيث أنّه من المحتمل وجوب النفسي المستقلّ لما عدا ذلك القيد المتعذّر بعد تعذّره ، فيكون بقاء ذلك الجامع مشكوكا بعد تيقّن وجوده ، فيكون مجرى الاستصحاب.

وفيه أوّلا : أنّ المقدّمات الداخليّة ـ أي أجزاء المركّب الواجب ـ ليست واجبة بالوجوب الغيري ، وقد حقّقنا ذلك في باب مقدّمة الواجب.

وثانيا : أنّ هذا الاستصحاب يكون من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ، الذي قلنا بعدم جريانه وعدم تماميّة أركانه. وعمدة الإشكال فيه هو أنّ وجود الطبيعة في ضمن كلّ فرد غير وجوده في ضمن الفرد الآخر ، فوجود الجامع في ضمن الوجوب الغيري في المفروض متيقّن الارتفاع ، وفي ضمن الوجوب النفسي المحتمل مشكوك الحدوث ، فليس هناك وجود واحد متيقّن الحدوث ، ويكون هو مشكوك البقاء.

وثالثا : إثبات الوجوب النفسي المستقلّ لما عدى القيد المتعذّر بهذا الاستصحاب مثبت.

الثاني : استصحاب نفس الوجوب النفسي الذي كان متعلّقا بالمركّب قبل حدوث تعذّر القيد.

والإشكال : بأنّ موضوع ذلك الوجوب كان مجموع المركّب ، والمفروض ارتفاع ذلك الموضوع بواسطة تعذّر بعض أجزائه ، والبقيّة على تقدير وجوبها تكون موضوعا آخر ، ولا يمكن بقاء الحكم مع ارتفاع موضوعه وتبدّله ، حتّى ولو كان الباقي واجبا لكان وجوبا آخر غير الوجوب الأوّل ، لما ذكرنا من تبدّل الموضوع من الأكثر إلى الأقلّ.

يجاب عنه : بأنّ وحدة القضيّة المشكوكة والمتيقّنة بحسب الموضوع عرفي ، ولا‌

١٣٠

يجب أن يكون الموضوع فيهما واحدا بالدقّة العقليّة ، وإلاّ لا يجري الاستصحاب في الأحكام الكلّية أصلا إلاّ من جهة احتمال النسخ ، فيستصحب عدمه. وقد حقّقنا هذه المسألة في كتابنا « المنتهى ».

ولكن فيه : أنّ هذا الوجه من تقرير الاستصحاب لا يفي إلاّ بالموارد التي يكون موضوع القضيتين ـ المتيقّنة والمشكوكة ـ واحدا بنظر العرف ، وأمّا فيما لا يكون كذلك ، كما هو الأكثر في أبواب العبادات ، فإنّ حكم العرف بوحدة الحجّ المتعذّر فيه الوقوف في الموقفين ـ العرفات والمشعر ، الوقوف الاضطراري والاختياري ـ مع الحجّ المتمكّن فيه الوقوفان ، أو حكمه بوحدة صلاة فاقد الطهورين مع واجدهما أو أحدهما لا أثر له بعد العلم بأنّ الشارع يراهما متباينين حقيقة ، بل الواحدة العرفيّة ليست إلاّ بحسب الشكل فقط.

فليس للعرف طريق إلى تشخيص الوحدة بين المركّب التامّ الأجزاء والناقص في أغلب العبادات ، لعدم طريق له إلى معرفة الأركان ، وتميّزها عن غيرها إلاّ بما صرّح الشارع بركنيّتها.

وهذا الإشكال يأتي في إجراء قاعدة الميسور أيضا وسنتكلّم فيه إن شاء الله تعالى.

والحاصل : أنّ خطاب لا تنقض اليقين بالشكّ وإن كان تشخيص موضوعه بنظر العرف ، ولكن فيما يكون للعرف طريق إلى التشخيص ، لا فيما ليس لهم طريق إلى ذلك.

هذا ، مضافا إلى أنّ العرف أيضا ربما لا يرى الوحدة بين الفاقد للقيد والواجد له ، حتّى فيما إذا كان المركّب من الأمور العرفيّة ، فالاستصحاب بهذا الوجه لا يفي بجميع الموارد.

مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ القيد المتعذّر لو كان من قبيل الشرط أو المانع ، فيحتمل أن يكون بنظر العرف من قبيل الواسطة في الثبوت ، لا الواسطة في العروض ، فيكون‌

١٣١

ما هو الموضوع في القضيّتين بنظره واحدا.

وأمّا إذا كان من قبيل الأجزاء فلا يمكن ذلك ، إذ لا شكّ في أنّ الأمر المتعلّق بالمركّب ينبسط على جميع الأجزاء ، فكلّ جزء من الأجزاء يقع تحت الأمر المتعلّق بالمجموع ، فلا يكون من قبيل الواسطة في الثبوت ، بل هو بنفسه معروض ، ولا شكّ في انتفاء المركّب بانتفاء جزئه ، وأيضا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه ، فلا يبقى شكّ في بقاء الحكم عقلا ، وإن فرضنا وحدة الموضوع عرفا.

نعم بناء على هذا البيان يأتي وجه آخر للاستصحاب الشخصي ، سنذكره إن شاء الله تعالى.

لا يقال : فلا يجري الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة بناء على ما ذكر ، للقطع بانتفاء الحكم بعد تغيّر الموضوع ، وبدونه لا شكّ إلاّ من قبل احتمال النسخ.

وذلك من جهة أنّه هناك من المحتمل أن يكون القيد المنفي من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض ، وهذا الاحتمال موجب للشكّ في بقاء الحكم. بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الجزء المتعذّر ها هنا ليس واسطة في الثبوت قطعا ، بل هو يكون بنفسه معروضا ـ كما بيّنّاه ـ فالفرق بين المقامين في كمال الوضوح.

الثالث : أنّه لا شكّ في أنّ الباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء كان واجبا نفسيّا في ضمن المجموع المركّب منه وممّا تعذّر ، والجامع بين هذا الوجوب النفسي الضمني والوجوب النفسي المستقلّ المتعلّق بالمجموع كان موجودا يقينا ، وبعد انتفاء أحد فرديه ـ وهو الوجوب النفسي المتعلّق بالمجموع ـ يحتمل بقاؤه في ضمن الفرد الآخر ، وهو الوجوب المتعلّق بما عدا المتعذّر.

غاية الأمر وجوب الباقي بعد ما كان ضمنيّا ينقلب استقلاليّا ، ولا إشكال فيه ، لأنّ الاستقلاليّة مفهوم ينتزع من أمر وجودي وهو وجوب الباقي ، وأمر عدمي وهو عدم وجوب الجزء المتعذّر. أمّا الثاني فهو المفروض ، وأمّا الأوّل فيثبت‌

١٣٢

بالاستصحاب.

وفيه : أنّ إثبات وجوب الباقي باستصحاب الجامع مثبت.

ويمكن تقرير هذا الوجه بشكل آخر ، وهو أنّ الجامع بين الوجوب النفسي الاستقلالي للمجموع مع الوجوب النفسي الاستقلالي للباقي بعد تعذّر بعض الأجزاء كان موجودا يقينا في ضمن وجوب المجموع ، وبعد تعذّر بعض الأجزاء وإن كان انعدم وجوب المجموع ، ولكنّه حيث أنّه من المحتمل حدوث وجوب نفسي استقلالي للباقي ، فوجود الجامع محتمل البقاء ، فيستصحب.

وفيه أوّلا : أنّه من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي الذي قلنا بعدم جريانه.

وثانيا : إثبات وجوب الباقي باستصحاب الجامع مثبت.

أمّا إنّه من القسم الثالث من أقسام الكلّي ، لأنّ الجامع الموجود يقينا كان وجوده في ضمن الوجوب المتعلّق بالكلّ ، وقد انعدم قطعا ، واحتمال بقائه من جهة احتمال حدوث فرد آخر من مصاديق ذلك الجامع حال انعدمه ـ وهو وجوب النفسي الاستقلالي للباقي ـ عين القسم الثالث من استصحاب الكلّي.

وأمّا إنّه مثبت ، فمن جهة أنّ الجامع في المفروض له فردان : وجوب الكلّ ، ووجوب الباقي ، وبعد انعدام أحد الفردين وهو وجوب الكلّ فلو فرضنا بقاء الجامع كما هو مفاد الاستصحاب ، فلا بدّ وأن يكون في ضمن الفرد الآخر وهو وجوب الباقي ، وهذا لازم عقلي لوجود الجامع وبقائه ، وليس عينه.

الرابع : استصحاب الجامع بين الوجوب النفسي الضمني الذي كان لغير المتعذّر من الأجزاء قبل حدوث التعذّر ، والوجوب النفسي الاستقلالي المحتمل حدوثه للباقي بعد حدوث التعذّر ، ولا شكّ في أنّ هذا الجامع كان موجودا يقينا في ضمن الوجوب النفسي الضمني للباقي قبل حدوث التعذّر ويشكّ في بقائه بعد حدوث التعذّر لاحتمال‌

١٣٣

حدوث الوجوب النفسي الاستقلالي للباقي بعد التعذر.

وفيه : أنّ هذا أيضا أوّلا من القسم الثالث من أقسام الكلّي ، وثانيا أنّه مثبت. ومن كثرة وضوحه لا يحتاج إلى البيان.

الخامس : وهو الذي اعتمد عليه وسليم عن هذه الإشكالات ، وإن ذكرته في كتابنا « منتهى الأصول » بصورة الاحتمال.

وتوضيحه ببيان مقدّمة : وهي أنّ الإرادة إذا تعلّقت بمركّب ، فكلّ جزء من أجزاء ذلك المركّب يقع تحت قطعة من تلك الإرادة ، وليست الإرادة ، وليست الإرادة أمرا بسيطا متعلّقا بالمجموع بحيث يكون وجودها وجودا واحدا غير قابل للانحلال ، بل تنبسط على جميع الأجزاء نحو انبساط البياض ـ مثلا ـ على الجسم المعروض له.

ولأجل هذه الجهة قلنا إنّ المقدّمات الداخليّة ـ أي الأجزاء ـ ليست واجبة بالوجوب الغيري ، بل واجبة بالوجوب النفسي الضمني ، وأيضا لهذه الجهة قلنا بالانحلال في باب العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر ، فإنّ الأقلّ معلوم تفصيلا وجوبه النفسي وكونه تحت الإرادة ، ويبقى كون الزائد تحت الإرادة مشكوكا ، فيكون مجرى البراءة.

وأمّا كون وجوب الأقلّ مردّدا بين أن يكون ضمنيّا أو استقلاليّا ، فأوّلا : لا دخل له بالمقام ، وثانيا : قلنا إنّ الاستقلاليّة مفهوم ينتزع عن وجوبه وعدم وجوب غيره معه ، ولا فرق في كونه واجبا ومتعلّقا للإرادة بين أن يكون معه غيره أو لا يكون.

إذا عرفت هذا فنقول : فما عدى الجزء المتعذّر قطعا كان قبل حدوث التعذّر واجبا وكان تحت الإرادة ، وبعد حدوث التعذّر بالنسبة إلى بعض الأجزاء يشكّ في بقاء تلك القطعة التي كانت متعلّقة بما عدا الجزء المتعذّر ، إذ من المحتمل ارتفاع خصوص تلك القطعة المتعلّقة بخصوص الجزء المتعذّر ـ من باب أنّه تكليف بالمحال إذا كان ذلك الجزء متعذّرا ، أو من باب أنّ التكليف به مناف مع كون الشريعة سمحة‌

١٣٤

وسهلة إذا كان إيجاد ذلك الجزء متعسّرا ـ لا ارتفاع الإرادة بالمرّة.

ومعلوم أنّ الإرادة بعد التمكّن من إيجاد متعلّقها تابعة للملاك وجودا وعدما ، فيتمّ أركان الاستصحاب من اليقين السابق والشكّ اللاحق ، وهذا الاستصحاب شخصي وليس بكلّي.

ثمَّ لا يخفى أنّ الرجوع إلى الاستصحاب يكون بعد عدم دليل لفظي على لزوم الإتيان بالميسور ، أو أمارة لبيّة كالإجماع ، وإلاّ لو كان إطلاق دليل أو رواية معتبرة أو إجماع على لزوم الإتيان بما عدا الجزء المتعذّر أو عدم لزومه ، فلا تصل النوبة إلى هذا الاستصحاب.

[ الأمر ] الثالث : الإجماع والاتّفاق على أنّ الأمر المتعلّق بمركّب لا يسقط بصرف تعذّر بعض أجزائه أو تعسّره ، بل يكون ما عدا ذلك الجزء المتعذّر باق على مطلوبيّته ووجوبه.

والإنصاف : أنّ الإجماع على هذا العنوان العامّ وإن لم نتحقّقه ، ولكن لا سبيل إلى إنكاره بالنسبة إلى بعض مصاديقه وصغرياته ، خصوصا في مثل الحجّ والصلاة في غير الأجزاء الركنيّة لهما ، ومع ذلك لا يصحّ الاعتماد على مثل هذه الإجماعات التي يمكن أن يكون اتّفاقهم مستندا إلى بعض هذه الأدلّة التي أقيمت في هذا المقام.

[ الأمر ] الرابع : الروايات الواردة في هذه القاعدة :

منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته في الحجّ : « أيّها الناس قد فرض الله عليكم الحجّ فحجّوا » فقال رجل : أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم » ثمَّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ذروني ما تركتم فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شي‌ء فدعوه » (١).

__________________

(١) « صحيح مسلم » ج ٢ ، ص ٩٧٥ ، ح ١٣٣٧ ، كتاب الحج ، ح ٤١٢ ، (٧٣) باب فرض الحج مرة في العمر ، « سنن النسائي » ج ٥ ، ص ١١٠ ، باب وجوب الحج.

١٣٥

منها : ما روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (١).

منها : أيضا عنه عليه‌السلام : « ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه » (٢).

وهذه الروايات الثلاث لكثرة اشتهارها بين الفقهاء وعملهم بها لا يحتاج إلى التكلّم عن سندها ، أو الإشكال عليه بالضعف.

وعمدة الكلام هو التكلّم في دلالتها

فنقول :

أمّا الحديث الأوّل المرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقريب الاستدلال به على هذه القاعدة هو أنّه لا شكّ في أنّ مرجع الضمير في كلمة « منه » هو الشي‌ء المأمور به ، فتكون كلمة « من » ظاهرة في التبعيض ، لأنّ الشي‌ء المأمور به له بالنسبة إلى قدرة المكلّف حالات ثلاث : فتارة يكون تمامه مقدورا ، وأخرى تمامه غير مقدور ، وثالثة يكون بعضه مقدورا وبعضه غير مقدور.

أمّا على الأوّلين فحاله معلوم ، فيجب إتيان تمامه على الأوّل ، ولا يجب عليه شي‌ء على الثاني.

وأمّا على الثالث فثلاث صور : الأوّل إتيان تمامه ، وهذا لا يجب قطعا ، لأنّه تكليف بما لا يطاق. الثاني : عدم إتيان تمامه. الثالث : التبعيض بوجوب الإتيان بالمقدور منه فقط.

وهذا الأخير هو مفاد القاعدة ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فأتوا منه ما استطعتم » ظاهر في هذا الأخير.

__________________

(١) « عوالي اللئالي » ج ٤ ، ص ٥٨ ، ح ٢٠٥.

(٢) « عوالي اللئالي » ج ٤ ، ص ٥٨ ، ح ٢٠٧.

١٣٦

وذلك من جهة أنّ كلمة « من » وإن كانت قد تأتي لبيان ما قبلها وأنّه من أيّ جنس ، كقولهم : خاتم من فضة ، لكنّه فيما نحن فيه لا يمكن ذلك ، لأنّ مدخول « من » ضمير راجع إلى نفس الشي‌ء ، فلا يمكن أن يكون مفسّرا ومبيّنا له ، كما هو شأن « من » البيانيّة.

وأمّا كونها بمعنى الباء وإن كان ممكنا كي يكون المعنى كذلك : إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا بذلك الشي‌ء ما دام استطاعتكم ، ولكن هذا المعنى مع أنّه لا ينطبق على المورد ـ لأنّ السائل يسأل عن تعدّد الإتيان في كلّ عام بعد الفراغ عن القدرة على الإتيان في العام الأوّل. وإن شئت قلت : بعد الفراغ عن القدرة على إتيان صرف الوجود ـ يكون ذكر هذا القيد ركيكا ، من جهة أنّ اشتراط التكليف ووجوب الإتيان بالقدرة عقليّ وأمر واضح معلوم ، فلا بدّ وأن تكون كلمة « من » للتبعيض ، كما هو الظاهر والغالب من استعمالات هذه الكلمة ، فيكون المعنى هكذا : إذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا بعضه الذي تحت قدرتكم واستطاعتكم. وتكون الماء موصولة ، لا مصدريّة ولا ظرفيّة ، فيكون مفاد الحديث الشريف عين القاعدة.

نعم ها هنا إشكال : وهو أنّ الاستدلال بهذا الحديث على هذه القاعدة مبنيّ على أن يكون المراد من « الشي‌ء » في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا أمرتكم بشي‌ء » هو الكلّ والمركّب من عدّة أجزاء ، وأمّا لو كان المراد به الكلّي والطبيعة المنطبقة على الأفراد والمصاديق المتعدّدة من دون ملاحظة خصوصيّات المشخّصة لها فيكون المعنى هكذا : إذا أمرتكم بطبيعة كلّية ذات أفراد ومصاديق متعدّدة فأتوا بعض تلك الأفراد والمصاديق الذي تحت استطاعتكم وقدرتكم ، فيكون الحديث الشريف أجنبيّا عمّا نحن بصدده ، ويكون تامّ الانطباق على المورد ، لأنّ سؤال ذلك الصحابي كان عن لزوم تكرار الطبيعة وإيجادها في كلّ عام ، أو الاكتفاء بصرف الوجود منها ، والمتعيّن هو هذا الاحتمال وإلاّ يلزم عدم انطباقه على المورد وهو في غاية الركاكة.

ولا يمكن أن يقال بأنّ المراد من الشي‌ء كلا الأمرين : الكلّ والكلّي ، فيشمل المورد‌

١٣٧

والقاعدة جميعا ، وذلك لتنافي اللحاظين ، فلا يمكن جمعهما في استعمال واحد.

وفيه : أنّ إرادة الكلّ بهذا العنوان ـ أي الواحد المركّب من الأجزاء ـ والكلّي أيضا بهذا العنوان ـ أي الطبيعة الكلّية القابلة للانطباق على كثيرين ـ وإن كان لا يمكن جمعهما في استعمال واحد ، لما ذكرت من تنافي اللحاظين ، إلاّ أنّه لا مانع من إرادة الجامع بينهما ، إذ ليس بناء على هذا إلاّ لحاظ واحد ، وهو لحاظ الجامع بين الكلّ والكلّي ، لا لحاظ الكلّ والكلّي بخصوصيّتهما كي يكون من الجمع بين اللحاظين المتنافيين في استعمال واحد.

وأمّا ما أفاده شيخنا الأستاذ قدس‌سره من عدم إمكان أن يراد من « الشي‌ء » الأعمّ من الكلّ والكلّي كي يكون المعنى كما ذكرنا ، لعدم الجامع بينهما ، لأنّ لحاظ الأفراد يباين لحاظ الأجزاء.

فقد عرفت ما فيه ، لأنّ لحاظ الجامع بمكان من الإمكان ، إذ الشي‌ء من المفاهيم العامّة ، ومصدر مبنيّ للمفعول وبمعنى المشي وجوده ، ويكون مساوقا للوجود ولمفهوم الموجود في الممكنات ، فكلّ ممكن شي‌ء وجوده فهو موجود ، لعدم تخلّف الإرادة التكوينيّة عن المراد ، وأمّا ما ليس بممكن ، أو كان ولكن لم يشأ وجوده كالعنقاء مثلا فهو معدوم ، وليس بشي‌ء. وأمّا واجب الوجود فهو شي‌ء لا كسائر الأشياء أي ما شي‌ء وجوده ، لأنّ الوجود عين ذاته تعالى.

فبناء على هذا المركّب من الأجزاء الذي شي‌ء وجوده شي‌ء ، وكذلك الكلّي والطبيعة التي شي‌ء وجودها شي‌ء ، فوجود الجامع بين الكلّ والكلّي من أوضح الواضحات.

وأمّا ما أفاده أخيرا من عدم صحّة استعمال كلمة « من » في الأعمّ من الأفراد والأجزاء ، وإن صحّ استعمال « الشي‌ء » في الأعمّ من الكلّ والكلّي.

ففيه : أنّ كلمة « من » استعملت في الربط والنسبة التبعيضية بين الفعل ـ أي فأتوا‌

١٣٨

ـ ومفعوله ـ أي الشي‌ء ـ كما تقول : ملأت الكوز من النهر ، فالمراد أنّ ما ملأ الكوز بعض ماء النهر ، وليس كلمة « من » في هذا المثال مستعملة في بعض ماء النهر ، بل استعملت في الربط التبعيضيّة الذي بين قوله « ملأت » و « ماء النهر » وهكذا الأمر في المقام ، فكلمة « من » استعملت في الربط الكذائي بين الإتيان والشي‌ء ، وإذا كان المراد من الشي‌ء باعتبار كونه مصداقا للجامع بين الكلّ والكلّي هو الكلّ ، فيكون مصداق تلك النسبة هي الربط التبعيضية في الأجزاء ، وإذا كان المراد بذلك الاعتبار هو الكلّي فيكون المصداق هو الربط المذكور في المصاديق والأفراد ، وإن كان المراد هو الجامع فيشمل كلا الأمرين كما فيما نحن فيه.

والإنصاف : أنّه لو لم يكن المورد من قبيل الكلّي والأفراد لكان مقتضى فهم العرفي ـ الذي هو الميزان في استظهار المعاني من الأحاديث والروايات ، بل الآيات أيضا وعليه مدار الفقاهة ـ هو أنّ المراد من « الشي‌ء » الكلّ ، بقرينة كلمة « من » الظاهرة في التبعيض.

ولكن حيث أنّ المورد ليس من قبيل الكلّ والأجزاء ، فلا بدّ وأن نقول بأنّ المراد منه هو الأعمّ من الكلّ والكلّي لكي يندرج فيه المورد ويخرج من الركاكة.

هذا مع أنّه لو قلنا بمقالة صاحب الكفاية قدس‌سره في المعاني الحرفيّة ـ من أنّ الموضوع له في الحروف والأسماء واحد كلّ لمرادفه ، (١) فيكون في المقام كلمة « من » بمعنى البعض الذي هو مفهوم اسميّ أيضا ـ لا يرد شي‌ء على ما استظهرنا من الحديث من أنّ مفاده اعتبار هذه القاعدة.

وذلك من جهة أنّ لفظ « البعض » أيضا مفهومه مشترك بين بعض الأجزاء وبعض الأفراد ، فلو كانت ألفاظ الحديث هكذا : إذا أمرتكم بمركّب ذي أجزاء أو بطبيعة ذات أفراد فأتوا بعضهما الذي تحت استطاعتكم وقدرتكم. والمفروض أنّ ذلك‌

__________________

(١) « كفاية الأصول » ص ١١ ـ ١٢.

١٣٩

المركّب المأمور به ليس تمام أجزائه تحت قدرة المكلّف واستطاعته ، ولا تمامها خارج عن تحت قدرته ، بل يقدر على إتيان البعض دون البعض الآخر ، وكذلك في الطبيعة المأمور بها قادر على إتيان بعض الأفراد دون بعضها ، فهل يشكّ أحد في أنّ المراد به إتيان أجزاء المقدورة من ذلك المركّب والأفراد المقدورة من تلك الطبيعة؟

هذا تمام الكلام في الحديث الأوّل.

وأمّا الثاني : أي الحديث المرويّ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو قوله عليه‌السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » (١) فهو في دلالته على المطلوب أوضح ، لأنّ ظاهر هذا الكلام أنّ الميسور من كلّ ما أمر به الشارع الأقدس لا يسقط بواسطة سقوط المعسور من ذلك الشي‌ء ، فإذا أمر بالصلاة أو بعبادة أخرى ، فكان بعض أجزاء تلك العبادة معسورا وسقط التكليف عنه بواسطة تعسّره أو تعذّره ، فلا يوجب سقوط هذا البعض سقوط البعض الميسور من تلك العبادة. وهذا عين مفاد هذه القاعدة ، وليس ها هنا مورد مثل الحديث النبويّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كي يأتي الإشكال المذكور فيه ، فيحتاج إلى الأجوبة التي تقدّمت ، أو إلى غيرها.

نعم يمكن أن يكون المراد من قوله عليه‌السلام : « الميسور لا يسقط بالمعسور » أعمّ من الأجزاء والأفراد ، فباعتبار كونه الميسور من المركّب يكون الأجزاء غير المتعذّرة أو غير المتعسّرة ميسورة ، وباعتبار إضافته إلى الطبيعة الكليّة يكون ميسورها هو الأفراد غير المتعذّرة ، فيشمل كلا الأمرين ، ولا وجه لتخصيصه بأحدهما.

فكما أنّ الصلاة ـ مثلا ـ لو تعذّر إتيان بعض أجزائها دون البعض الآخر يشملها هذا الحديث ، فكذلك لو قال : أكرم السادات أو العلماء ، والمكلّف متمكّن من إكرام بعض دون بعض ، فلا يسقط وجوب إكرام الأفراد الميسور إكرامهم بواسطة تعذّر إكرام الآخرين أو تعسّره.

__________________

(١) « عوالي اللئالي » ج ٤ ، ص ٥٨ ، ح ٢٠٥.

١٤٠