القواعد الفقهيّة - ج ٢

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٩٢

أي البئر التي حفرها في الطريق أو في ملك غيره عدوانا وبدون إذن صاحبه ـ جثة حيوان ميّت ، لا يعلم أنّ سبب موته هل هو وقوعه فيها كي يكون حافر البئر ضامنا له ، أو ألقيت ميتة فيها حتّى لا يكون ضمان في البين؟ وحيث أنّ الضمان موضوعه موته وتلفه بسبب وقوعه فيها ، فإذا شكّ فيه يكون مجرى أصالة البراءة عن الضمان ، واستصحاب حياته إلى زمان وقوعه مثبت.

وأمّا لو علم بأنّ سبب الموت وقوعه فيها ، ولكن يحتمل أن يكون بدفع شخص عن عمد واختيار بحيث يكون موجبا لسقوط الضمان عن ذي السبب ، وذلك لتوسط فعل فاعل عاقل عن عمد واختيار بين ذلك السبب والتلف ، فالضمان يكون على المباشر المختار لا على ذي السبب.

فربما يتوهّم كون الضمان على ذي السبب بتوهّم أصالة عدم دفع أحد له.

ولكن أنت خبير بأنّه مثبت ، لأنّ لازم عدم دفع أحد عقلا هو وقوع التلف والتردي بفعل ذي السبب خاصّة. إلاّ أن يقال : إنّ موضوع الضمان مركّب من كون موته بوقوعه فيها مع عدم دفع أحد ، فأحد جزئيّ الموضوع وهو الوقوع في البئر بالوجدان على الفرض ، والجزء الآخر أي عدم دفع أحد بالأصل ، فتأمّل.

ومنها : ما قال في الشرائع أيضا : ولو أزال وكاء الظرف فسال ما فيه ضمن‌ إذا لم يكن يحبسه إلاّ الوكاء ، وكذا لو سأل منه ما ألان الأرض تحته فاندفع ما فيه ضمن بلا خلاف ، لأنّ فعله سبب مستقلّ للإتلاف. أمّا لو فتح رأس الظرف فقلّبته الريح أو طائر ، أو ذاب بالشمس ففي الضمان تردّد ، والأشبه أنّه لا يضمن ، لأنّ الريح والشمس كالمباشر فيبطل حكم السبب (١).

أقول : أمّا الأوّل أي إزالة الوكاء الذي هو عبارة عن الرباط الذي يشد به رأس القربة أو غيرها ، فالظاهر أنّه من الإتلاف مباشرة فخارج عن محلّ الكلام ، لأنّ فكّ‌

__________________

(١) « الشرائع » ج ٣ ، ص ٢٣٨.

٤١

الرباط عن القربة بحيث يكون موجبا لأسأله ما فيها من دهن ، أو لبن ، أو دبس ، أو غيره من المائعات يكون من قبيل المسبّب التوليدي ، كالإلقاء في النار والإحراق.

ففكّ الرباط بعنوانه الأوّلي فكّ رباط ، وبعنوانه الثانوي هو إسالة المائع الذي في تلك القربة. وإن أنكرت ذلك فلا أقل من أنّه من باب العلّة التامّة والمعلول.

هذا فيما إذا كان سيلان ما في الظرف مترتّبا على إزالة الوكاء كما هو المفروض.

وإلاّ لو لم يكن كذلك ، بل كان سيلان ما فيه متوقّفا على أمر آخر زائدا على إزالة الوكاء ، كأن يقلّبه الريح أو طائر أو على إذابة الشمس له ، فهو الشقّ الآخر الذي ذكره ، وقال فيه بعدم الضمان ، معلّلا بأنّ الريح والشمس كالمباشر فيبطل السبب. وإن كان هذا الكلام أيضا محلّ تأمّل بل إشكال ، لما ذكرنا وتقدّم بأنّ كلّ فعل صدر من فاعل عاقل مختار ، وكان عادة سببا لوقوع التلف ، ولم يتوسّط بين ذلك السبب والتلف فعل فاعل عاقل مختار ، وإن توسّط أمر آخر وعلّة أخرى كالريح والطائر والشمس ، فيكون الضمان على ذي السبب. ولا يبطل حكم السبب إلاّ بتوسيط فعل فاعل عاقل مختار.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الضمان في مسألة إزالة الوكاء يكون من باب الإتلاف بالمباشرة ، وليس من قبيل الضمان بالتسبيب.

وأمّا في مسألة فتح رأس الظرف وإسالة ما فيه من المائع بواسطة إذابة الشمس لما فيه يكون من باب التسبيب.

نعم لو لم يكن فتح رأس الظرف سببا لوقوع التلف عادة ، وإنّما وقع التلف من باب الاتفاق ، كما أنّه فتح رأس الظرف في الغرفة ، ومن باب الاتّفاق دخل فيها طائر وقلّبتها فلا ضمان في هذه الصورة. كما أنّ في صورة تقليب الريح أيضا كذلك لو لم يكن الظرف في مهب الريح ، وعلى خلاف المتعارف والعادة هبت ريح وقلّبته فأيضا لا ضمان ، لما ذكرنا من أنّ في الضمان بالتسبيب لا بدّ وأن يكون فعل ذي السبب سببا لوقوع التلف بحسب العادة لا بصرف الاتّفاق.

٤٢

وأمّا مسألة إلانة الأرض تحته لأسأله الماء منه بواسطة إزالة الوكاء فهذا من قبيل معلول المعلول ، فإن كان إزالة الوكاء علّة لأسأله الماء منه ، وإسالة الماء منه علّة لإلانة الأرض تحته ، وإلانة الأرض تحته علّة لانقلابه وتلف ما فيه ، فبإيجاد السبب الأوّل تترتّب عليه الأسباب الطوليّة ويكون حالها حال السبب الأوّل ، فيمكن أن يقال إنّ هذا أيضا من الإتلاف مباشرة.

ومنها : أيضا ما هو في الشرائع قال قدس سرّه ولو أرسل في ملكه ماء فأغرق مال غيره ، أو أجّج نارا فأحرقته لم يضمن ، ما لم يتجاوز قدر حاجته اختيارا مع علمه أو غلبة ظنّه ، إنّ ذلك موجب للتعدّي إلى الإضرار (١).

وفي هذه المسألة صور :

إحديها : هذه التي ذكرها في الشرائع.

الثانية : عين هذه الصورة إلاّ أنّها مع التجاوز عن قدر الحاجة.

الثالثة : أن لا يكون له علم ولا غلبة الظنّ بالتعدّي إلى الإضرار ، مع عدم التجاوز عن قدر الحاجة.

الرابعة : فيما إذا تجاوز عن قدر الحاجة ولكن لا علم له ولا ظنّ بالتعدّي.

الخامسة : عين هذه الصورة الرابعة ولكن مع العلم بعدم التعدّي.

السادسة : عين هذه الصورة الخامسة ولكن مع عدم التجاوز عن قدر الحاجة.

وفي جميع هذه الصور الستّ المفروض وقوع التلف ، وإلاّ لم يكن محلّ للبحث في أنّه يضمن أو لا يضمن.

أقول : أقوال الفقهاء المحققين والأساطين في هذه المسألة مختلفة جدا ، فليس في المسألة إجماع على الضمان ولا على عدمه ، فنتكلّم فيما هو مقتضى القواعد‌

__________________

(١) « الشرائع » ج ٣ ، ص ٢٣٧.

٤٣

الأوّليّة ، فنقول :

أمّا الصورة الأولى التي ذكرها في الشرائع ، فمع علمه بالإضرار وأنّ فعله هذا يكون سببا لتلف مال الغير فلا وجه لتخيّل عدم الضمان بصرف إذن الشارع في هذه الفعل ، لأنّ الإذن الشرعي لا يرفع الآثار الوضعيّة ، فلو أذن الشارع في أكل الميتة من باب الاضطرار فلا يرفع هذه الإذن نجاستها.

بل يمكن أن يقال : إن هذه الصورة من مصاديق الإتلاف مباشرة ، وليس من التسبيب ، لأنّه إذا علم أنّه يترتب على فعله هذا غرق مال الغير ، أو احتراقه ، أو جفاف شجر الجار القريب من النار التي أجّجها ولو كانت النار في ملكه ، فهو من مصاديق الإتلاف بالمباشرة حقيقة.

هذا مع أنّ كونه مأذونا في إرسال الماء في ملكه ، أو تأجيج النار فيه في هذه الصورة كلام بيّنّاه في قاعدة لا ضرر.

وأمّا القول بأنّ قاعدة الإتلاف لم ترد بهذه الألفاظ في رواية من طرقنا وإن اشتهرت في الألسنة والأفواه ، فليست دليلا لفظيا كي نتمسّك بإطلاقها ، كما ذكره صاحب الجواهر (١).

ففيه أنّه بيّنّا في صدر البحث عن هذه القاعدة وقلنا إنّنا وإن لم نجد رواية بهذه الألفاظ ، لا من طرقنا ولا من طرق الجمهور ، ولكن مضمون هذه القاعدة مروية بالسنة مختلفة ، فتكون من القواعد المصطادة من الموارد المختلفة من الروايات. مضافا إلى كونها بهذه الألفاظ من المسلّمات بين الخاصّة والعامّة ، ولا يزال يستدل الفقهاء عموما بهذه القاعدة على الضمان في الموارد الجزئيّة المشكوكة.

فلو سلّمنا أنّ مدركها الإجماع فقط يكون معقده مطلق ، فيكون حالها حال الدليل اللفظي فيتمسّك بإطلاقها.

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٣٧ ، ص ٦٠.

٤٤

والإنصاف أنّ هذه الفتوى من مثل المحقق قدس سرّه شيخ الفقهاء لا يخلو من غرابة ، وإن أسند هذا القول في المسالك إلى العلاّمة في القواعد والإرشاد أيضا (١).

وأمّا الصورة الثانية فتكون سببا للضمان بطريق أولى ، ولا يحتاج إلى التوضيح والبيان.

وأمّا الصورة الثالثة أي فيما لا يعلم بالتعدّي ولا يظنّ ولم يتجاوز قدر الحاجة ، فهذه الصورة على قسمين :

فتارة ترتّب التلف على هذا الفعل ليس غالبيّا وبحسب العادة ، وإنّما قد يقع اتّفاقا لعارض ، كما أنّه من باب الاتّفاق هبت ريح بخلاف العادة والمتعارف فأثرت النار في مال الجار.

فالظاهر عدم الضمان في هذه الصورة ، لا لأنّه مأذون في هذا الفعل ، لما ذكرنا من أنّ الإذن لا يرفع الضمان ، بل لما اشترطنا من أنّ الضمان لا يكون إلاّ فيما إذا كان الفعل الصادر عن ذي السبب سببا في الأغلب وبحسب العادة.

وأخرى يكون غالبيّا وبحسب العادة.

فالظاهر أنّه يضمن ، لأنّ فعله سبب غالبيّ لوقوع التلف ، كما أنّه في يوم هبوب الريح لو أجّج نارا ولكن لم يحصل له علم ولا ظن بالتعدّي إلى الإضرار بالجار لغفلته أو بلاهته ، مع أنّ التعدّي في مثل ذلك اليوم لم يكن اتفاقيّا ، بل كان أمرا عاديا متعارفا ، ففعله هذا سبب عادي للتلف ، ولم يتوسّط بينه وبين التلف فعل فاعل عاقل مختار ، الذي هو الضابط في استناد التلف إلى السبب.

وأمّا الصورة الرابعة فيضمن بطريق أولى ، لأنّ المفروض أنّه تجاوز عن قدر الحاجة.

__________________

(١) « مسالك الافهام » ص ٢٥٧.

٤٥

وأمّا الصورة الخامسة فعمدة الوجه في القول بعدم الضمان فيها هو العلم بعدم التعدّي. ولكن هذا العلم ليس له أثر ، لأنّه على الفرض أوجد سبب التلف الذي هو سبب الضمان ولكن باعتقاد انّه لا يتلف ، وقد تبيّن خطأ اعتقاده وأنّه جهل مركّب ، فما ذكرنا من الضابط في استناد التلف إلى فعله تحقق فيكون ضامنا.

وأمّا الصورة السادسة وهي أن لا يتجاوز قدر الحاجة مع علمه بعدم التعدّي ، فإذا كان وقوع التلف اتّفاقيّا وليس فعله سببا غالبيا لوقوع التلف فلا يضمن ، لما بيّنّا من اشتراط الضمان يكون فعل ذي السبب سببا غالبيا ، وإذ ليس فليس. وأمّا لو كان سببا غالبيا وهو علم بعدم التعدّي لغفلته أو بلاهته فيضمن ، لما ذكرنا في القسم الثاني من الصورة الثالثة.

ومنها : ما في التذكرة من انّه : لو فتح القفص ، أو حلّ قيد الفرس ، أو العبد المجنون‌ فبقيا واقفين ، فجاء إنسان ونفرهما فذهبا فالضمان على منفرهما ، لأنّ سببه أخصّ فاختصّ الضمان به ، كالدافع والحافر (١).

ولعلّ مراده بقوله : « لأنّ سببه أخصّ » أنّ فعل المنفرد لا ينفكّ عن فرارهما ، بخلاف فتح القفص بالنسبة إلى الطائر ، وحل القيد بالنسبة إلى الفرس والعبد المجنون فإنّه يمكن أن لا يتعقّب بفرار الطائر في فتح القفص ، وأن لا يتعقّب بفرار الفرس والعبد المجنون بالنسبة إلى حلّ قيدهما ، فكأنّه أراد بذلك أنّ النفر جزء الأخير من العلّة التامّة لفرارهما.

وأمّا فتح القفص بالنسبة إلى الطائر الواقف بعد الفتح ، وكذلك حل القيد بالنسبة إلى الفرس والعبد المجنون الواقفين بعد حلّ القيد من قبيل المعدّ.

ولا شكّ في أنّ استناد المسبّب إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها أولى من استناده إلى المعدّ ، كما أنّ في مسألة الحافر والدافع يكون الأمر كذلك أيضا ، فالاستناد‌

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٣٧٥.

٤٦

إلى الدافع الذي هو الجزء الأخير من علّة التلف أولى من استناده إلى المعدّ الذي هو حفر الحافر.

هذا ما قاله في التذكرة مع ما فسرنا به كلامه قدس‌سره.

ولكن أنت عرفت ممّا ذكرنا في مقدّمة هذه الفروع أنّ من شرائط كون الضمان على السبب هو أن لا يتوسّط بين فعل ذي السبب وبين التلف فعل فاعل عاقل مختار ، وإلاّ ينسب إلى ذلك الفاعل لا إلى السبب ، وذلك واضح جدّا.

وفيما نحن فيه وقع ذلك التوسّط بين السبب الذي هو عبارة عن فتح القفص وعن حلّ القيد ، وبين الفرار فعل الفاعل والعاقل المختار ، وهو تنفير ذلك الإنسان ، فينسب الفرار إليه لا إلى فتح القفص أو حلّ القيد.

ومنها : أيضا ما في التذكرة من أنّه : لو حلّ رباط سفينة فذهبت أو غرقت بالحل ضمن ، لأنّه سبب في الإتلاف ، سواء كان يعقّب فعله أو تراخي (١).

ونظير هذا الفرع تقدّم من أنّه لو فكّ القيد عن الدابّة فشردت ، أو عن العبد المجنون فأبق ، وقلنا : يستفاد من الروايات قاعدة كلية ، وهي أنّ كلّ فعل صدر عن الفاعل العاقل المختار ، وكان سببا لتلف شي‌ء ، ولم يتوسّط بينه وبين المسبّب ـ أي التلف ـ فعل فاعل عاقل مختار ، فيكون التلف مستندا إلى ذي السبب والضمان عليه.

فبناء على هذا حيث أنّ حلّ رباط السفينة يكون سببا لذهابها إلى عرض البحر ، فيوجب غرقها أو ضياعها.

فبمقتضى تلك القاعدة يكون الضمان على الذي حلّ الرباط ، ولا فرق بين حدوث حادث آخر كهبوب الرياح الشديدة والعواصف الموجبة لغرقها ، وبين عدم حدوث حادث آخر يوجب ذلك ، وذلك لما بيّنّا من الضابط في الاستناد إلى السبب ، فإنّه حاصل ولا يفرق في كلا المقامين. نعم ، لو لم يكن هذا الفعل ـ أي حلّ رباط السفينة ـ

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٣٧٥.

٤٧

سببا للغرق أو الضياع في العادة ، بل حدث عاصفة شديدة من باب الاتّفاق ، فيمكن أن يقال بعدم الضمان في مثل هذه الصورة ، وقد تقدّم جميع ذلك.

ومنها : ما ذكر في التذكرة أيضا من أنّه : لو وثبت هرة حال فتح القفص ودخلته وقتلت الطائر لزمه الضمان ، لأنّ الفتح يشتمل على إغراء الهرّة ، كما في تنفير الطائر (١).

والتشبيه بالتنفير لا يخلو من تأمّل ، لأنّ التنفير في حال انفتاح القفص من قبل العلّة التامّة بالنسبة إلى طيرانه وفراره. بخلاف فتح القفص فيما إذا لم تكن هرّة هناك ، ولكن من باب الاتّفاق وجدت هرّة حال الفتح.

اللهم إلاّ أن يقال : إنّ فرض المسألة في صورة وجود الهرّة هناك قبل الفتح ، وهي بحيث لا مانع من وثوبها على الطائر إلاّ انسداد باب القفص ، فيكون التشبيه في محله.

وأمّا الضمان : ففي المفروض على فاتح القفص على كلّ حال ، لما ذكرنا من الضابط.

إلاّ أن يقال : إنّ فتح باب القفص ليس سببا غالبيّا لوثوب الهرة.

وجوابه : أنّ المفروض حضور الهرة حال فتح القفص ، وفي مثل هذه الصورة سببية الفتح لوثوبها وإتلاف الطائر غالبي.

ومنها : أيضا ما في التذكرة من انّه لو كان شعير في جراب وبجنبه حمار ، ففتح فاتح رأسه ، فأكله الحمار في الحال لزمه الضمان‌ (٢). وهذا الفرع من جميع الجهات التي ذكرناها مثل الفرع السابق ، فلا نعيد. ولا أرى وجها لذكره بعد ذكر الفرع السابق ، كما لا أرى وجها لتقييد قوله : « فأكله الحمار » بكلمة « في الحال » إلاّ تخيّل أنّه لو لم يكن أكله في الحال فليس الأكل مستندا إلى فتح رأسه ، وإنما هو مستند إلى التفات الحمار بعد غفلته عنه ، أو إلى حدوث اشتهائه ، وهو غريب.

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٣٧٥.

(٢) المصدر.

٤٨

ومنها : ما ذكره في التذكرة أيضا وهو أنه : لو نقل صبيّا حرّا إلى مضيعة فاتّفق أن افترسه سبع فلا ضمان عليه‌ (١). وذلك أنّ النقل إلى المضيعة ليس مثل النقل إلى المسبعة ، لأنّ النقل إلى المسبعة ـ أي محلّ السباع ـ سبب غالبي لافتراسه.

وأمّا النقل إلى المضيعة فليس سببا غالبيا ، ولو افتراسه السبع كان من باب الاتّفاق وقد اشترطنا في السبب الموجب للضمان أن يكون سببا غالبيّا للتلف ، لأنّ المضيعة عبارة عن محلّ الضياع ، وعدم الاعتناء بشأن من يسكنه ، وأن تهمل شؤونه.

ومنها : ما ذكره في جامع المقاصد من أنّه لو منع المالك من إمساك دابّته المرسلة‌ حيث يتوقّع تلفها مع بقائها مرسلة. كما أنّه لو أرسلت في الليل في بريّة ، ولا تكون تلك الدابّة من الحيوانات القويّة التي تقدر على حفظ نفسها من السباع ، أو لم تكن الأرض مأمونة من الأخطار ، فحينئذ يكون إمساك المالك سببا لبقائها مرسلة ، وبقاؤها مرسلة ربما ينتهي إلى افتراسها أو تلفها من جهة أخرى (٢).

هذه جملة ممّا ذكره أساطين الفنّ من فروع الضمان بالتسبيب ، سواء لم يكن إتلاف بالمباشرة في البين أصلا ، أو كان ولكن كان ضعيفا.

ولكن كل هذه الفروع كانت فيما إذا كان السبب واحدا. أمّا إذا تعدّد السبب سواء كانا اثنين أو أكثر ، فإمّا يكونا وجدا في عرض واحد ، وإمّا مترتّبان في الوجود.

أمّا الأوّل : فهما أو كلّهم إن كانوا أكثر من اثنين يشتركون في الضمان ، وذلك كما أنّه لو حفر جماعة بئرا في الطريق ، فوقع فيها دابّة أو مال آخر ، لأنّ اختصاص بعضهم بالضمان دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

وأمّا الثاني : أي فيما إذا كان مترتّبين في الوجود ، فحوالة الضمان على أوّلهما وجودا ، وذلك لأنّ مع وجود أوّلهما تحقّق ما هو سبب الضمان ، ولا يرفع حكمه ـ أي كونه سببا‌

__________________

(١) « تذكرة الفقهاء » ج ٢ ، ص ٣٧٦.

(٢) « جامع المقاصد » ج ٦ ، ص ٢١٩.

٤٩

للضمان ـ إلاّ بتوسيط فعل فاعل عاقل مختار بينه وبين التلف ، والمفروض أنّه ليس في المقام.

فلو حفر أحدهما بئرا في الطريق ، أو في ملك غيره بدون إذنه ورضاه ، فوضع بعد ذلك شخص آخر حجرا في حافة تلك البئر ، فعثرت دابّة بواسطة ذلك الحجر ووقعت في تلك البئر فالضمان على الحافر ، لما ذكرنا من الضابط.

والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا.

٥٠

١٦ ـ قاعدة الاشتراك‌

٥١
٥٢

قاعدة الاشتراك (*)

ومن جملة القواعد الفقهيّة قاعدة « اشتراك المكلّفين في الحكم رجالا ونساء إلى قيام يوم القيامة » أي ما دام بقاء هذه الشريعة المقدّسة.

وبعبارة أخرى : إذا ثبت حكم لأحد المكلّفين أو لطائفة منهم ـ سواء كان ثبوته بخطاب لفظي أو دليل لبّي ، من إجماع أو غيره ـ فيكون شاملا لجميع المكلّفين في جميع الأزمنة إلى قيام يوم القيامة ، إلاّ أن تكون مأخوذا في الموضوع خصوصية وقيد لا ينطبق إلاّ على شخص خاص ، أو طائفة خاصّة ، أو في زمان خاصّ كزمان حضور الإمام عليه‌السلام مثلا.

وفي هذه القاعدة جهات من البحث :

[ الجهة ] الأولى

في مداركها‌

وهي أمور :

الأوّل : الاستصحاب بضميمة عدم القول بالفصل‌ بين الحاضرين في زمان التكليف بمعنى أنّ الشارع إذا أمر شخصا أو طائفة بفعل من الأفعال ، أو نهى عن ارتكاب أمر‌

__________________

(*) « الأصول الأصليّة والقواعد الشرعية » ص ٣١٠ ، « عناوين الأصول » عنوان ١ ، « أصول الاستنباط بين الكتاب والسنة » ص ١١٥ ، « القواعد » ص ٤١ ، « قواعد فقهي » ص ٢٢٧ ، « القواعد الفقهية » ( فاضل اللنكراني ) ص ٢٩٥ ، « قواعد الفقهية » ش ٣٢ ، ص ٦١.

٥٣

كذلك ، فجميع الموجودين في ذلك الزمان محكومون بذلك الحكم.

فإذا قال الراوي السائل عن الإمام عليه‌السلام : نسيت أنّ في ثوبي أو بدني نجاسة ، وبعد الفراغ ذكرت ذلك؟ فقال عليه‌السلام : اغسل ثوبك أو بدنك وأعد الصلاة ، نعلم بأنّ جميع الموجودين في زمان جواب الإمام عليه‌السلام محكومون بهذا الحكم ، وليس مختصّا بنفس السائل.

فإذا تبيّن اتّحاد الموجودين في زمان صدور ذلك الحكم بالقطع واليقين الوجداني ، فإن حصل شكّ في بقاء ذلك الحكم في الأزمنة المتأخّرة وبالنسبة إلى الموجودين بعد ذلك الزمان يستصحب ، فيثبت بقاؤه تعبّدا وبحكم الشارع.

وفيه : أوّلا : أنّ الخطاب إذا كان متوجّها إلى شخص خاصّ ، أو طائفة مخصوصة ، فمن أين نعلم باتّحاد الموجودين في هذا الحكم وهو أوّل الكلام ومصادرة على المطلوب.

وثانيا : إذا علمنا اتّحاد الموجودين في ذلك الحكم مع من توجّه إليه الخطاب ، فنعلم باتّحاد الجميع أي سواء كانوا موجودين أو معدومين ، لأنّه لا خصوصيّة لوجودهم في ذلك الزمان ، فلا يبقى مجال ومورد للاستصحاب ، لأنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ في البقاء ، وأمّا مع القطع بالبقاء فلا موضوع له حتى يجري.

وثالثا : أدلّة اللفظيّة على بقاء أحكام هذه الشريعة إلى قيام يوم القيامة حاكمة على هذا الاستصحاب.

الثاني : الاتّفاق القطعي من الأصحاب على اشتراك الجميع‌ في جميع الأعصار والأمصار في الحكم المتوجّه إلى بعض آحاد المكلّفين ، فإنّهم ـ رضوان الله تعالى عليهم ـ يستدلّون من الصدر الأوّل وأوّل زمان تأليف الفقه في كتبهم ، ككتب ابن الجنيد وابن أبي عقيل القديمين ، إلى زماننا هذا على الحكم الشرعي لكلّ واحد من آحاد المكلفين وفي أيّ زمان كانوا ، بالخطابات الخاصّة المتوجّهة إلى شخص خاصّ‌

٥٤

كقوله عليه‌السلام لزرارة أو محمد بن مسلم أو غيرهما في مورد خاصّ : « اغسل » أو « أعد الصلاة » وأمثال ذلك.

والإنصاف أنّه يستكشف من هذا كشفا قطعيّا بأنّه كان من المسلّم المقطوع عندهم اتّحاد جميع المكلّفين في جميع الأحكام ، إلاّ أن يكون موضوع ذلك الحكم مقيّدا بقيد حاصل في البعض دون البعض ، كقوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (١) فإنّ موضوع وجوب الحج قيّد بقيد ، وهو أن يكون الشخص مستطيعا ، فمن لم يكن كذلك لا يجب عليه الحج. ولكن بعد وجود موضوعه أي الإنسان العاقل البالغ الحرّ المستطيع ، يشترك في هذا الحكم جميع أفراد هذا الموضوع ومصاديقه في أي عصر ، ومن أيّ مصر كانوا.

فليس المراد من الاشتراك إلاّ أنّ كلّ من ينطبق عليه عنوان « موضوع الحكم » فهو محكوم بذلك الحكم ، وإلاّ فكيف يمكن أن يقال : إنّ من لا يكون من مصاديق موضوع الحكم يثبت له هذا الحكم؟ وهل هذا إلاّ خلف ومناقضة؟!

ومثل هذا الاتّفاق القطعي كاشف قطعي عن اتّحاد حكم الجميع عندهم عليهم‌السلام.

ولذلك ترى لم يناقش أحد في استدلالهم بالقضايا والخطابات الشخصيّة لحكم الجميع ، بل تلقّوه بالقبول. نعم ربما يناقشون في أدلّتهم من جهات أخر ، كما هو المتعارف في الأبحاث الفقهيّة.

الثالث : ارتكاز عامّة المسلمين حتّى العوام بأنّ حكم الله في هذه الواقعة واحد‌ للجميع.

ولذلك ترى أنّ أحدهم لو سئل عن الإمام عليه‌السلام ، أو عن مقلّده حكما شرعيّا لموضوع أو لفعل من الأفعال ، وسمع ذلك الحكم غيره ممن هو مثله ، لا يتأمّل ولا يتردّد في ثبوته في حقّه ، ولا يحتمل أن يكون حكم الله في حقّ ذلك السائل غير حكم الله‌

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٩٧.

٥٥

في حقّه فهذا المعنى أي وحدة التكليف واشتراكه بين جميع المكلفين شي‌ء مرتكز في أذهان جميعهم ، ولا يمكن ذلك إلاّ بوصوله إليهم من مبدإ الوحي والرسالة ، ثمَّ من هؤلاء إلى من بعدهم ، وهكذا إلى زماننا.

ولعلّ إلى هذا ينظر كلام بعض المحققين حيث يقول : والقول بأنّ الكون في زمان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخيل في اتّحاد الصنف الذي هو شرط شمول الخطابات ، هدم لأساس الشريعة ، وذلك من جهة أنّ الأحكام إن كانت مخصوصة بالحاضرين في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المخاطبين ، أو مطلق الموجودين في ذلك الزمان فقط ، فانتهى أمر الدين ـ العياذ بالله ـ وتكون الناس بعد ذلك كالبهائم والمجانين. وهذا أمر باطل بالضرورة ، لأنّه يوجب هدم أساس الدين.

فادّعاء الضرورة على اشتراك الجميع في التكاليف لا بد فيه ، بل هو كذلك.

وهذا لا ينافي اختصاص بعض التكاليف ببعض الطوائف دون بعض ، بل ببعض الأشخاص دون سائرين ، لأنّ المراد من الاشتراك عدم اختصاص التكليف بمن توجّه الخطاب اليه ، كما أشرنا إلى ذلك وقلنا : إنّ قوله عليه‌السلام لزرارة أو محمّد بن مسلم مثلا « أعد » أو « اغسل » أو « لا يعيد » مثلا ، ليس من جهة اختصاص ذلك الحكم بهما وأمثالهما من الرواة ونقله الأحاديث ، بل توجيه الخطاب إليهما أو إلى غيرهما من باب أنّهم من مصاديق طبيعة المكلّفين ويبيّنون حكم المسألة بهذه الصورة.

وهذا لا ينافي كون موضوع الحكم ـ أي المكلف ـ مقيدا ببعض القيود ، أو متّصفا ببعض الصفات ، أو كونه من طائفة خاصّة من الطوائف ، أو كونه من النساء أو من الرجال ، وأمثال هذه الاختلافات ، بل لا بدّ منها لعدم كونه الأحكام جزافيّة ، بل تابعة للمصالح والمفاسد التي في متعلّقاتها وموضوعاتها.

والموضوعات والمتعلّقات تختلف من حيث المصلحة والمفسدة باعتبار اختلاف قيودها وأوصافها وحالاتها ، كالحريّة والرقيّة والاستطاعة وعدمها ، والسفر والحضر ،

٥٦

وغير ذلك من العوارض والحالات الطارئة على المكلّفين.

فباعتبار وجود صفة الاستطاعة مثلا يكون صدور الحجّ من المكلّف له مصلحة ملزومة ، فهذه الصفة توجب وجوب الحجّ على المكلّف ، فلا بدّ من تقييد الموضوع بهذا القيد ، ولذلك قيّد وجوب الحجّ في الآية الشريفة بهذا القيد ، وقال الله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (١).

وخلاصة الكلام في المقام أنّ اختلاف الأحكام بالنسبة إلى المكلّفين باختلاف القيود ، والصفات ، والحالات الطارئة على الموضوعات من أوضح الواضحات.

فليس المراد من قاعدة الاشتراك أنّ جميع المكلّفين سواء كانوا واجدين لقيود موضوع الحكم أم لم يكونوا واجدين ، حكمهم سواء ، لأنّ بطلان هذا الكلام ضروري.

بل المراد أنّ الحكم الذي رتّب على موضوع يشمل جميع من هو ينطبق عليه الموضوع؟ أم مختصّ بمن توجّه إليه الخطاب؟ أو بمن يكون موجودا في زمان الخطاب؟ وكذلك القضايا الشخصية التي يسأل الراوي الفلاني عن حكمها هل يكون جواب الإمام عليه‌السلام مختصّا بنفس السائل؟ أو يكون عاما لكلّ من ينطبق عليه موضوع الحكم الذي صدر عنه عليه‌السلام في مقام الجواب؟

وبعبارة أخرى : يكون الخطاب إلى السائل بعنوان أنّه أحد مصاديق موضوع الحكم ، لا بعنوانه الشخصي.

الرابع : الأخبار الواردة في هذا الباب ، الدالة على أنّ حكم الله تعالى مشترك بين الكلّ ، وخصوصية الأشخاص ـ أي العوارض المشخصة لهم ـ لا دخل لها في كونهم موضوعا للأحكام ، ككونه ابن فلان ، أو لونه كذا ، أو من الطائفة الفلانيّة وأمثال ذلك.

وبعبارة أخرى : الدين الإسلامي عبارة عن مجموع الأحكام المكتوبة في الكتب الفقهية ، من الطهارات إلى الديات التي أساسها في القرآن الكريم ، مع شرح وإيضاح‌

__________________

(١) آل عمران (٣) : ٩٧.

٥٧

وبيان من الأحاديث النبويّة أو التفاسير التي صدرت عن الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين.

وهذه الأحكام لم يجعل لشخص خاصّ أو لطائفة خاصّة ، بل مجعولة لكافّة المسلمين ، بل لجميع ولد آدم من زمان بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة ، وليس مخصوصا بزمان دون زمان. وهذا لا ينافي اختصاص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض الأحكام : لأنّ الأحكام ـ كما قلنا ـ تابعة للمصالح والمفاسد ، وذلك الموجود المقدّس لامتيازه عن سائر البشر ، وبلوغه إلى أعلى مراتب الكمال صار موضوعا للأحكام الخاصّة به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بل يمكن أن يقال : إنّ تلك الأحكام الخاصّة أيضا ليس موضوعها شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل لعنوان كلي ، وهو من بلغ إلى هذه المرتبة من الكمال ، غاية الأمر أنّ الكلي منحصر في الفرد ، إذ غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصل إلى هذه المرتبة ولن يصل إلى آخر الدهر.

وها هنا تحقيق دقيق في معنى الخاتمية وأنّها ليست قابلة للتعدّد ، ليس المقام مقام ذكره.

وعلى كلّ حال كان كلامنا في ذكر الأخبار التي تدلّ على اشتراك الأحكام بين جميع المكلّفين ، وعدم اختصاصها بالمخاطبين أو الموجودين في زمان الخطاب :

فمنها : ما رواه في الوسائل عن محمّد بن يعقوب الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بكر بن صالح ، عن القسم بن يزيد الزبيدي ، عن أبي عمرو الزهري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل في كتاب الجهاد ، في باب من يجوز له جمع العساكر والخروج بها إلى الجهاد ، قال عليه‌السلام فيه بعد كلام طويل في شرائط من يتصدّى لجمع العساكر للجهاد : « لأنّ حكم الله عزّ وجلّ في الأوّلين والآخرين وفرائضه عليهم سواء ، إلاّ من علّة أو حادث يكون ، والأوّلون والآخرون أيضا في منع الحوادث شركاء ، والفرائض عليهم واحدة ، يسأل الآخرون من أداء الفرائض عما يسأل عنه‌

٥٨

الأوّلون ، ويحاسبون عمّا به يحاسبون » (١).

وظهور هذه الجملات والكلمات في اشتراك جميع المكلّفين من الأوّلين والآخرين في أحكام الله وفرائضه واضح ، لأنّ كلمة « الأوّلين والآخرين » جميع معرف بالألف واللام يفيد العموم ، فمعنى الحديث عبارة عن أنّ كلّ واحد من الأوّلين سواء في حكم الله عزّ وجلّ مع كلّ واحد من الآخرين ، وجميع الفرائض عليهم ـ أي على جميع الأوّلين والآخرين ـ واحدة. وهذا أفصح وأوضح عبارة لاتّحاد حكم جميع الأمّة من الأوّلين والآخرين.

نعم المراد من الاتّحاد أو الاشتراك ، اشتراك من كان من مصاديق موضوع الحكم ، كما تقدّم شرحه.

والظاهر أنّ هذا مراد من اعتبر في الاشتراك اتّحاد الصنف.

ومنها : النبوي المشهور ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « حكمي على الواحد حكمي على الجماعة » (٢).

فإنّ ظاهر هذه الجملة أنّ حكمي الذي هو حكم الله على أحدكم حكمي على الجميع ، بمعنى أنّه ما أخصّ أحدا بالحكم ، بل كلّكم في حكمي سواء.

هذا هو المتفاهم العرفي والظاهر من هذا الحديث الشريف ، ولا شكّ في حجّية ظواهر الألفاظ والجمل ، فيدلّ هذا الحديث المبارك على المطلوب ، وهو المطلوب.

ومنها : قوله عليه‌السلام في الخبر المشهور : « حلال محمد حلال إلى يوم القيامة ، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة » (٣).

تقريب الاستدلال بهذه الرواية أنّ بقاء الحلال والحرام إلى آخر الأزمنة من حياة‌

__________________

(١) « وسائل الشيعة » ج ١١ ، ص ٢٣ ، أبواب جهاد العدو وما يناسبه ، باب ٩ ، ح ١.

(٢) « بحار الأنوار » ج ٢ ، ص ٢٧٢ ، باب ما يمكن ان يستنبط من الآيات والأخبار ... ، ح ٤ ، وج ٨٠ ، ص ١٩٩ ، باب آداب الاستنجاء والاستبراء ، ح ٤.

(٣) « الكافي » ج ١ ، ص ٥٨ ، باب البدع والرأي والمقاييس ، ح ١٩ ، وج ٢ ، ص ١٧ ، باب الشرائع ، ح ٢ ، « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ١٢٤ ، أبواب صفات القاضي ، باب ١٢ ، ح ٤٧.

٥٩

البشر معناه أنّ الناس في جميع الأزمنة سواء في أنّ حلاله على أهل الزمان المتقدم حلال على أهل الزمان المتأخر ، وكذلك حرامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإذا كان مفاد الرواية وظاهرا اتّحاد أهالي أزمنة المتأخّرة مع أهالي أزمنة المتقدمة في الحكم ، فتدلّ على اتّحاد أهالي الزمان الواحد في الحكم بطريق أولى ، إذ مرجع مفاد الرواية إلى أنّ خصوصيات الشخصيّة لأفراد المكلّفين ليست دخيلة فيما هو الموضوع بعد اتّحادهم في الصنف بالمعنى الذي تقدّم.

وأمّا احتمال أن يكون مفاد الرواية هو الاتّحاد في خصوص الحلّية والحرمة ، لا في جميع الأحكام فعجيب ، إذ الحلال والحرام كناية عن مطلق الأحكام ، مضافا إلى أنّ مئال جميع الأحكام ومرجعها إلى الحلال والحرام ، لأنّ الواجب تركه حرام وفعله حلال بالمعنى الأعم ، كما أنّ المستحبّ والمكروه فعلهما وتركهما حلال بالمعنى الأعم ، كما أنّ الحلال بالمعنى الأخصّ أيضا كذلك مثل المستحبّ والمكروه. فالحلال والحرام يستوعبان جميع الأحكام التكليفيّة كما أنّ الأحكام الوضعيّة أيضا تنتهي من حيث العمل إلى الحلال والحرام بالمعنى الذي ذكرنا لهما ، فافهم.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « فليبلغ الشاهد الغائب » (١).

ولا شكّ في دلالة هذا الحديث الشريف على اشتراك الغائبين مع الحاضرين ، وإلاّ لو كان الحكم خاصّا بالحاضرين لما كان وجه لتبليغهم ، لأنّه كان من تبليغ حكم غيرهم إليهم ، فلا بدّ وأن يكون الحكم مشتركا بينهم حتّى يأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحاضرين بتبليغه إلى الغائبين.

وأمّا احتمال أن يكون مخصوصا بجماعة خاصّة من الغائبين مع الحاضرين ، لا عموم الغائبين.

__________________

(١) « الكافي » ج ١ ، ص ١٨٧ ، باب فرض طاعة الأئمّة ، ح ١٠ ، وج ١ ، ص ٢٩١ ، باب ما نصّ الله عزّ وجلّ على الأئمّة عليهم‌السلام واحدا فواحدا ، ح ٦ ، « تهذيب الأحكام » ج ٤ ، ص ١٤٣ ، ح ٣٩٩ ، باب الزيادات ، ح ٢١ ، « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٤٣٥ ، أبواب صلاة الجماعة ، باب ٣٦ ، ح ٩.

٦٠