القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-400-030-7
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٨٤

جهرا في الجهريّة وإخفاتا في الإخفاتيّة ، فإذا أتى بالجهر في موضع الإخفات أو بالعكس ، أو أتى بالإتمام في موضع القصر فقد أتى بما هو المأمور به بأحد الأمرين ، فيسقط ذلك الأمر بالامتثال ، والأمر الآخر أيضا بعدم الموضوع والمحلّ ؛ لأنّ محلّ الجهر أو الإخفات أو القصر في صلاة المسافر هو المأمور به بالأمر الذي سقط بالامتثال.

وكذلك فيما نذر أن يأتي بصلاته الواجبة مقرونة بخصوصيّة مستحبّة ؛ وذلك كما لو نذر بصلاة الظهر مثلا جماعة ، أو في المسجد فأتي بها منفردا أو في الدار ، فالأمر الأوّل العبادي يسقط بإتيان الفريضة بدون تلك الخصوصيّة لإتيانه بما هو متعلّقة وإلاّ يلزم طلب الحاصل. والأمر النذري أيضا يسقط ، لعدم بقاء المحلّ والموضوع له ، لأنّ متعلّقه كان خصوصيّة في متعلّق الأمر الأوّل ، ومع الإتيان به لا يبقى محلّ لتلك الخصوصيّة حتّى يأتي بها.

نعم الالتزام بالأمرين بالبيان المتقدّم لازمه استحقاق العقاب فيما إذا كان عالما بالحكم أو جاهلا مقصرا ، لتفويته للواجب بإتيانه المأمور به بذلك الأمر بدون الخصوصيّة في مورد النذر ، وبدون أن يقصر في مورد المسافر ، وبدون الجهر في مورد الجهر ، وبدون الإخفات في مورد الإخفات.

ولا بأس بالالتزام بذلك بأن يقال بصحّة صلاته وعدم وجوب الإعادة إذا أتى بالمستثنى ـ أي الخمسة ـ وغيرها ممّا ثبت ركنيّته وكان مع ذلك مستحقّا للعقاب من ناحية تفويته الواجب الآخر ، أي سائر الأجزاء والشرائط.

هذا حاصل ما أفاد في إمكان شمول « لا تعاد » مورد العلم بالحكم.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا صرف فرض ، وإلاّ فهو أمر مخالف للواقع ، والمسلّم المقطوع أنّه ليس للصلاة إلاّ أمر واحد متعلّق بمجموع هذه الأجزاء والشرائط وإعدام تلك الموانع ، بأنّ ما هو داخل تحت ذلك الأمر قيدا وتقييدا نسمّيه الجزء ، وما هو‌

٨١

داخل تحت ذلك الأمر تقييدا لا قيدا فإن كان التقييد الداخل تحت الأمر هو التقييد بوجود شي‌ء فنسمي ذلك الشي‌ء بالشرط ، وإن كان هو التقييد بعدم شي‌ء نسمّي ذلك الشي‌ء بالمانع.

فمرادنا من عدم إمكان شمول صحيحة « لا تعاد » لمورد العلم بأجزاء الصلاة وشرائطه وموانعه ولزومه للخلف والمناقضة ، هو بعد الفراغ عن أنّه ليس للصلاة إلاّ أمر واحد متعلق بالمجموع. ولا ينافي وحدته في مقام الثبوت بيانه بصورة القطعات في مقام الإثبات والتبليغ إلى المكلّفين ، فتارة يبيّن جزئيّة شي‌ء للصلاة بصورة عدمها بعدمه ، كقوله « لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب » (١) و « لا صلاة إلاّ بطهور » (٢) و « لا صلاة لمن يقم صلبه » (٣) وأمثال ذلك. وتارة بالأمر به فيها ، كقوله : فكبّر واقرأ سورة من سور القرآن ، واغسل ثوبك ، واستقبل ، وأمثال ذلك. وتارة بصورة أخرى كالنهي عن الصلاة في غير المأكول وأمثاله.

وعلى كلّ حال الأوامر المتعلّقة بالأجزاء والشرائط ليست إلاّ أوامر غيريّة مولويّة ، أو إرشادية إلى أنّ المركّب المأمور به حصوله وـ وجوده موقوف على وجود هذا الشي‌ء في الأجزاء والشرائط ، وعلى عدمه في الموانع.

وأمّا نقضه ببعض أفعال الحجّ بأنّ الحجّ صحيح لا يجب إعادته مع ترك ذلك الفعل عمدا مع العلم بحكم ذلك الفعل أي بوجوبه في الحجّ.

فجوابه أنّه لو دلّ دليل على مثل ذلك من إجماع أو رواية معتبرة فلا بدّ من حمله على كونه من قبيل الواجب في الواجب ، أو من قبيل تعدّد المطلوب ، وإلاّ يكون من‌

__________________

(١) سبق ذكره في ص ٨٠.

(٢) « الفقيه » ج ١ ، ص ٣٣ ، باب وقت وجوب الطهور ، ح ٦٧ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ١ ، ص ٤٩ ، ح ١٤٤ ، باب آداب الأحداث الموجبة للطهارة ، ج ٨٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١ ، ص ٢٢٢ ، أبواب أحكام الخلوة ، باب ٩ ، ح ١.

(٣) « الكافي » ج ٣ ، ص ٣٢٠ ، باب الركوع وما يقال فيه من التسبيح و. ، ح ٦ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٧٨ ، ح ٢٩٠ ، باب كيفيّة الصلاة وصفتها ، ح ٥٨ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٤ ، ص ٩٣٩ ، أبواب الركوع ، باب ١٦ ، ح ٢.

٨٢

قبيل الخلف والمناقضة ، وعلى كلّ حال لا ينبغي الارتياب في عدم شمول الصحيحة لحال العمد مع العلم بالحكم.

[ المبحث ] الثاني : في أنّها هل تشمل الإخلال العمدي مع الجهل بالحكم ، سواء كان الجهل عن تقصير ، أو عن قصور مطلقا ، أو يفرق بينهما بشمولها لمورد الجهل عن قصور دون ما إذا كان عن تقصير ، أو لا تشمل مطلقا؟ وجوه بل أقوال.

ذهب المشهور إلى عدم شمول الصحيحة للعامد الجاهل مطلقا ، قصورا كان أو تقصيرا. وفرّق الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره بين الجهل عن قصور فقال بالشمول ، وبين الجهل عن تقصير فقال بعدم الشمول. (١)

ثمَّ إنّ ما ذهب إليه المشهور من القول بعدم الشمول مطلقا لم يفرّقوا بين أن يكون الجهل بالحكم قصورا أو تقصيرا من أوّل الأمر ولم يكن مسبوقا بالعلم ، أو كان مسبوقا به. وبعبارة أخرى : لم يفرّقوا بين نسيان الحكم والجهل به من أوّل الأمر.

فالمشهور يقولون بعدم شمول الصحيحة للعامد الجاهل مطلقا ، سواء كان منشأ جهله نسيان الحكم أو كان من أوّل الأمر جاهلا ، وأيضا سواء كان جهله عن قصور أو عن تقصير.

وربما يستدلّ للقول المشهور بعدم شمول الصحيحة للإخلال العمدي مطلقا ـ سواء كان عن قصور أو تقصير ، وسواء كان الجهل بالحكم مسبوقا بالعلم به أو لم يكن كذلك ـ بأنّ الظاهر والمستفاد من الحديث هو نفي الإعادة في مورد لو لا هذا الحديث لكان مأمورا بالإعادة ، ونفيه للإعادة في مثل المورد المذكور يكون في غير الخمسة المذكورة كما هو صريح المستثنى فيكون العقد المستثنى منه من الحديث الشريف مفاده الذي هو عبارة عن عدم الإعادة مختصّا بمورد السهو ونسيان الموضوع ، لا نسيان الحكم الذي هو عبارة عن الجهل المسبوق بالعلم وما هو من قبيل‌

__________________

(١) انظر : « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٤٩٥.

٨٣

السهو والنسيان ، مثل الاضطرار وغيره ممّا يوجب سقوط الأمر بالمركّب التامّ الأجزاء والشرائط ، بحيث لو كانت الإعادة واجبة ويكون الإتيان بالتامّ الكامل لازما لا بدّ وأن يكون بصورة الأمر بالإعادة بقوله « أعد ».

وأمّا لو كان الأمر الأوّل المتعلّق بالمركّب التامّ الأجزاء والشرائط باقيا ولم يسقط ، فلا معنى لمجي‌ء أمر جديد من قبل المولى يأمر بالإعادة. وقد عرفت أنّ مجرى حديث « لا تعاد » هو فيما إذا كان الأمر الأوّل ساقطا بواسطة السهو والنسيان والاضطرار وأمثال ذلك.

فالعامد إلى الإخلال ـ ولو كان من جهة الجهل بالحكم قصورا أو تقصيرا أو من جهة نسيان الحكم ـ حيث أنّ الأمر الأوّل لم يسقط عنه لأنّ الجهل بالحكم لا يوجب سقوط الأمر مطلقا ، قصورا كان أو تقصيرا أو نسيانا ، وذلك للإجماع على اشتراك التكاليف بين العالم والجاهل بها ، وبعضهم ادّعى تواتر الأخبار على ذلك ، ولا فرق في ذلك بين الجهل قصورا أو تقصيرا وإنّما الفرق بينهما في أنّ الجاهل المقصّر يستحقّ العقاب دون القاصر ـ فلا يكون له خطاب جديد بعنوان « أعد » بل المحرّك له نحو الإتيان بالمأمور به الكامل التّام الأجزاء والشرائط هو الأمر الباقي إلى زمان ارتفاع الجهل بكلا قسميه ، وأيضا إلى زمان ارتفاع نسيان الحكم وحصول العلم به.

فإذا كان معنى الحديث كما استظهرنا نفي الإعادة عن مورد لو لا هذا الحديث كان مخاطبا بالإعادة فلا يشمل مورد العمد مطلقا ، سواء كان عالما بالحكم ، أو جاهلا قصورا أو تقصيرا ، أو ناسيا للحكم ؛ لعدم الأمر بالإعادة في هذه الموارد ولو لم يكن هذا الحديث ، بل كان وجوب الإتيان بالتامّ بعد رفع الجهل بنفس الأمر الأوّل لبقائه وعدم سقوطه بواسطة الجهل ولو كان عن قصور أو كان بواسطة نسيان الحكم.

وبهذا البيان قال شيخنا الأستاذ قدس‌سره بعدم شمول الحديث للعامد الجاهل مطلقا (١).

__________________

(١) « كتاب الصلاة » ج ٢ ، ص ٤٠٦ ، رسالة في صحيحة لا تعاد.

٨٤

ولكن أنت خبير بأنّ مفهوم الإعادة عبارة عن إيجاد الشي‌ء بعد إيجاده ثانيا أو ثالثا ، وهكذا مقابل الإيجاد ابتداء من غير سبق إيجاده ، غاية الأمر أنّ الإعادة بالمعنى المذكور قد تكون إعادة بالدّقة بحيث يكون الوجود الثاني مثل الوجود الأوّل بالدّقة ـ وأمّا كون الوجود الثاني نفس الوجود الأوّل بالدقّة فمحال بالضرورة ـ وقد تكون إعادة عرفا ولو كان المعاد لا يكون على طبق الوجود الأوّل تماما وطابق النعل بالنعل.

وفي الإعادة عرفا قد يكون الوجود الأوّل مشتملا على زيادات ، وقد يكون بالعكس ، وقد يكون إعادة ادّعاء من حيث ترتيب الآثار.

وبناء على هذا ففي موارد الإخلال العمدي ـ من جهة الجهل بالحكم بكلا قسميه ، أو نسيانه ـ ولو كان لزوم الإتيان بالصلاة التامّ الأجزاء والشرائط بعد الالتفات إلى أنّه أخلّ بإتيانها كما هي من جهة ترك جزء أو شرط أو ارتكاب مانع يكون بالأمر الأوّل ، ولكن هذا الوجود التامّ حيث أنّه يكون بعد ذلك الوجود الناقص الذي أتى به يصدق عليه أنّه إعادة ، فلو لم يكن هذا الحديث كان مقتضى الأمر الأوّل الباقي أن يأتي به ويعيده تامّ الأجزاء ، ولكن هذا الحديث ينفي إعادته ثانيا تامّا ويقول بكفاية ذلك الناقص الذي أتى به.

فالإنصاف أنّه لا قصور في شمول الحديث لموارد الجهل والنسيان للحكم ، من جهة صدق الإعادة على الإتيان بها ثانيا تامّ الأجزاء والشرائط.

والشاهد على ما ذكرنا ورود لفظ « يعيد » في جملة من الأخبار مع عدم سقوط الأمر الأوّل.

منها : ما ورد فيمن أجهر في موضع الإخفات متعمّدا أو بالعكس كذلك « أنّه نقض صلاته وعليه الإعادة » (١).

__________________

(١) « الفقيه » ج ١ ، ص ٣٤٤ ، باب احكام السهو في الصلاة ، ح ١٠٠٣ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ١٦٢ ، ح ٦٣٥ ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره. ح ٩٣ ؛ « الاستبصار » ج ١ ، ص ٣١٣ ، ح ١١٦٣ ، باب وجوب الجهر بالقراءة ، ح ١ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٤ ، ص ٧٦٦ ، أبواب القراءة ، باب ٢٦ ، ح ١.

٨٥

ومنها : قوله عليه‌السلام فيمن صلّى أربعا في السفر « أنّه إن قرأ عليه آية التقصير وفسرت له فصلّى أربعا أعاد » (١).

والحاصل أنّ إنكار شمول حديث « لا تعاد » لموارد الإخلال العمدي الصادر عن الجهل بالحكم قصورا أو تقصيرا ، أو الناشئ عن نسيان الحكم استنادا إلى عدم صدق الإعادة على الإتيان بالصلاة التامّ لأنّه بالأمر الأوّل ، لا بخطاب « أعد » ممّا لا أساس له ولا يمكن الركون إليه.

نعم يمكن أن يستدلّ للمشهور بأنّ شمول الحديث للإخلال العمدي في مورد الجهل بالحكم ـ مطلقا ، قصورا أو تقصيرا ، وكذلك في مورد نسيان الحكم الذي هو أيضا عبارة عن الجهل بالحكم غاية الأمر جهل مسبوق بالعلم وإلاّ في حال النسيان لا شكّ في أنّه جهل ـ يرجع إلى إبطال الأدلّة الدالّة على أنّ ما عدا الخمسة من الأجزاء والشرائط والموانع أيضا لها دخل في الصلاة ، إمّا بوجودها كالأوّلين أي الجزء والشرط ، أو بعدمها كالموانع.

وذلك من جهة ما ذكرنا مرارا أنّ الأحكام الشرعيّة ـ وإن لم تكن لها إطلاق ـ يشمل حال الجهل بها ؛ وذلك لأنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة ، لا تقابل السلب والإيجاب.

وقد شرحنا المسألة في باب المطلق والمقيّد في كتابنا « منتهى الأصول » (٢) فالدليل على عدم إمكان التقييد بقيد هو بنفسه دليل على عدم إمكان الإطلاق اللحاظي بالنسبة إلى ذلك القيد ، ولا شكّ في عدم إمكان تقييد الحكم بحال الجهل أو العلم به ؛ لأنّ هاتين الصفتين متأخّران عن الحكم المتعلّق بهما ، ومعنى التقييد بهما جعلهما جزءا‌

__________________

(١) « الفقيه » ج ١ ، ص ٤٣٥ ، باب الصلاة في السفر ، ح ١٢٦٥ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٣ ، ص ٢٢٦ ، ح ٥٧١ ، باب الصلاة في السفر ، ح ٨٠ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٥ ، ص ٥٣١ ، أبواب صلاة المسافر ، باب ١٧ ، ح ٤.

(٢) « منتهى الأصول » ج ١ ، ص ٤٦٨.

٨٦

لموضوع فيكون مقدّما على الحكم باعتبار كون كلّ واحد منهما جزء لموضوعه ، ومتأخّرا عنه باعتبار كون الحكم متعلّقا لكل واحد منهما ، فيلزم تقدّم الشي‌ء على نفسه. فإذا كان التقييد بهما ـ أي العلم والجهل ـ غير ممكن فيكون الإطلاق أيضا كذلك ؛ لما ذكرنا من أنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

ولكن هذا في الإطلاق اللحاظي ، والإطلاق بنتيجة الإطلاق لا مانع منه كما أنّ التقييد بنتيجة التقييد أيضا لا مانع منه. ونتيجة الإطلاق في المقام يثبت بادعاء الاتّفاق على اشتراك الجاهل والعالم في التكاليف ، فلو شمل هذا الحديث مورد الإخلال العمدي جهلا بكلا قسميه ـ أي قصورا أو تقصيرا ـ فيكون معارضا مع تلك الأدلّة الكثيرة الدالّة على جزئيّة ما عدا الخمسة من أجزاء الصلاة ، وكذلك بالنسبة إلى ما تدلّ على شرائطها وموانعها : لأنّ مفاد « لا تعاد » بناء على شموله لحال الجهل ونسيان الحكم نفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة عن جميع أجزاء الصلاة وشرائطها وموانعها ما عدا هذه الخمسة المذكورة في الحديث.

وذلك من جهة أنّ لازم جزئيّة شي‌ء أو شرطيّته أو مانعيّته للصلاة في حال الجهل بكلا قسميه لزوم إعادته بعد الالتفات إلى الإخلال به ، خصوصا إذا كان الالتفات مع بقاء الوقت. ونفي لازم هذه الأمور بالحديث ـ كما هو المدّعى بناء على شموله لحال الجهل ـ مستلزم لنفي هذه الأمور ، أي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة في حال الجهل.

فيدور الأمر بين رفع اليد عن ظاهر تلك الأدلّة الدالّة على الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة في حال الجهل ، وبين حملها على حال العلم فتكون جزئيّة تلك الأجزاء وكذلك شرطيّتها ومانعيّتها مخصوصة بحال العلم ـ وهذا خلاف الإجماع ، بل خلاف ما ادّعى من تواتر الأخبار ، بل الضرورة على اشتراك الجاهل والعالم ـ وبين حمل « لا تعاد » على مورد السهو والنسيان ، أي لا تجب الإعادة فيما إذا كان الإخلال صدر عن سهو أو عن نسيان الموضوع ، حتّى لا يشمل مورد الجهل مطلقا.

٨٧

ولا محذور في هذا الحمل ، بل هو المتعيّن ، فيكون من قبيل دليل نفي الضرر والحرج حاكما على الأدلّة الأوليّة ، أي يدلّ على تضييق دائرة الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ، ورفعها ونفيها في حال السهو والنسيان.

وذلك مع أنّ سياق الحديث من أول الأمر ليس إلاّ في مقام التعرّض لحال السهو والخطأ ونسيان الموضوع.

والانصاف أنّ القول بشمول الحديث لحال الجهل ، خصوصا إذا كان عن تقصير لا ينبغي أن يصدر عن فقيه ، بل لا يتصوّر تقصير بناء على نفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من غير هذه الخمسة في حال الجهل ؛ إذ ليس في تلك الحال جزء أو شرط أو مانع حتّى يجب عليه التعلّم ، حتّى يكون تركه تقصيرا.

نعم لو قلنا بأنّ توجيه التكليف إلى الجاهل القاصر قبيح لعجزه عن الامتثال ـ كما ربما يخطر بالبال ـ فيكون مثل السهو والخطأ ونسيان الموضوع مشمولا للحديث ، كما أنّه ليس ببعيد إن لم يكن إجماع على الخلاف.

وأمّا شموله للجاهل المقصّر مع الالتفات في الوقت وبقاء الوقت لأداء الصلاة لا يخلو من غرابة.

وأمّا ما نقل عن الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره من التفصيل بين الجهل قصورا وقال بشموله له ، وبين الجهل عن تقصير وقال بعدم الشمول. (١) فإن كان وجهه ما احتملناه من عدم صحّة توجيه الأمر إلى الجاهل القاصر لعجزه عن الامتثال فله وجه ، وإن كان أيضا لا يخلو من إشكال. وأمّا إن كان وجهه ـ كما حكى عنه ـ أنّ هذه الصحيحة في مقام بيان حكم من كان له تكليف واقعا ، فتكليفه في زمان الجهل بالناقص ، وعدم وجوب الصلاة التامّ الأجزاء والشرائط عليه ، فلا يشمل الجاهل المقصر ؛ لأنّه بسبب تقصيره استحقّ العقاب فسقط أمره بالتامّ بواسطة العصيان ،

__________________

(١) انظر : « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٤٩٥.

٨٨

فليس أمر بالتامّ متوجّه إليه حتّى يشمله الحديث ، ويكون مفاده أيّها الجاهل الذي أنت مأمور بإتيان المركّب التامّ إتيانك بالناقص يكفي ويجزي ، ولا يجب عليك الإعادة ، لأنّه ليس مأمورا به بعد العصيان واستحقاق العقاب.

فهذا كلام عجيب لا ينبغي أن يسند إلى مثل شيخنا الأعظم الأنصاري ، وحيث أنّ مواقع الخلل فيه واضح ولذلك لا نتعرّض لما فيه.

[ المبحث ] الثالث : في بيان ما هو المستفاد من ظاهر الصحيحة ، أي فيما تدلّ عليه بالدلالة التصديقيّة :

فتارة : نتكلّم في عقد المستثنى منه ، أي قوله عليه‌السلام « لا تعاد الصلاة ».

وأخرى : في عقد المستثنى ، أي قوله عليه‌السلام « إلاّ من خمس ».

أمّا الأوّل :

فالكلام فيه من جهات‌

[ الجهة ] الأولى : ظاهر هذه الجملة أنّ كلّ إخلال وقع في الصلاة إذا لم يكن ذلك الإخلال من قبل الخمسة ، ولم يكن عن عمد مع العلم بالحكم أو مع الجهل به مطلقا سواء كان عن قصور أو عن تقصير فلا يوجب الإعادة ؛ فينتج رفع الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة عن جزء أو شرط تركهما خطأ أو نسيانا ، أو أتى بمانع كذلك.

وبعبارة أخرى : في كلّ مورد سقط الأمر بالصلاة الكاملة التامّة بواسطة العذر العقلي أو الشرعي ، وكان بمقتضى إطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط يجب عليه الإعادة في الوقت ، بل القضاء في خارج الوقت بعد رفع العذر ؛ فحديث « لا تعاد » يرفع الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ، وينفيها بنفي الإعادة ، فيكون الحديث حاكما على إطلاق أدلّة الأجزاء والشرائط والموانع ، بحيث لو لم يكن حديث « لا تعاد » لكان مقتضى تلك الإطلاقات ثبوت الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة حتّى في حال السهو والنسيان ؛ ولازمه وجوب الإعادة في الوقت بعد رفع العذر.

٨٩

فالحديث يضيق دائرة الإطلاقات ، ويخصّص هذه الأمور ـ أي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ـ بغير حال السهو والنسيان ، بل بغير الاضطرار. وأمّا في هذه الموارد فينفي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة بل ينفي هذه الأمور في كلّ مورد سقط الأمر ، ولو بواسطة التزاحم والإكراه.

والسرّ في ذلك أنّه لو كان أمر بالصلاة التامّ الأجزاء والشرائط فيعارض الحديث ؛ لأنّ مقتضى ذلك الأمر يكون الإعادة بعد الالتفات ، خصوصا إذا كان رفع العذر في الوقت مع بقائه لأدائه ، ولا حكومة لدليل « لا تعاد » على دليل ذلك الأمر ، بخلاف ما إذا سقط الأمر ولو كان سقوطه بواسطة التزاحم أو الإكراه أو الاضطرار ، فليس شي‌ء في البين يعارض هذه الصحيحة إلاّ دليل الأجزاء والشرائط ، وقد تقدّم أنّها محكومة بلا تعاد ، ويكون حال لا تعاد بالنسبة إليها حال أدلّة نفي الضرر والحرج بالنسبة إلى العمومات وإطلاقات الأدلّة الأوّليّة ، فلا تبقى معارضة في البين.

[ الجهة ] الثانية : في أنّ هذا الحكم ، أي عدم وجوب الإعادة في الموارد المذكورة من السهو والنسيان والخطأ والاضطرار وغيرها عند الإخلال بها هل يختصّ بالنقيصة ، أو يشمل الزيادة أيضا فيما إذا كانت الزيادة موجبة للإعادة؟

الأقوى هو الشمول ؛ وذلك من جهة أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي من هذه الجملة أنّ الخلل الواقع من غير ناحية هذه الخمسة لا يكون موجبا للإعادة ، سواء كان سبب وقوع الخلل نقيصة شي‌ء من الأشياء التي لها دخل في الصلاة وجودا أو عدما ، أو زيادته.

فلا يرد عليه أنّ التقدير في طرف المستثنى منه إمّا أن يكون وجود الشي‌ء ، فيلزم أن يكون مفاد الحديث عدم وجوب الإعادة من وجود كلّ ما اعتبر في الصلاة إلاّ من وجود هذه الخمسة. وهذا المعنى واضح البطلان. وإمّا أن يكون عدم الشي‌ء ، فيكون مفاد الحديث لا تجب الإعادة من عدم كلّ ما اعتبر في الصلاة إلاّ من عدم هذه‌

٩٠

الخمسة. وهذا المعنى وإن كان في حدّ نفسه صحيحا ولكن خلاف ظاهر الحديث ؛ إذ ظاهره عدم وجوب إعادة الصلاة مطلقا ، ومن أيّ جهة كانت إلاّ من ناحية هذه الخمسة.

إذ الظاهر من كلمة « لا تعاد الصلاة » نفي طبيعة إعادة الصلاة ، لا خصوص نفي إعادتها من قبل شي‌ء. دون شي‌ء ولو كان معنى الحديث عدم إعادتها من ناحية خصوص عدم كلّ شي‌ء معتبر وجوده في الصلاة لم تشمل الإعادة من قبل وجود بعض القواطع ، كالتكلّم فيها سهوا مثلا ، وقد عرفت أنّ ظاهره العموم ، خصوصا بقرينة الاستثناء. والمستثنى ممّا يكون زيادتها ونقيصتها موجبة للإعادة ، فبحكم وحدة السياق لا بدّ وأن يكون المستثنى منه أيضا زيادتها ونقيصتها لا توجب الإعادة.

فالإنصاف أنّه لا ينبغي أن يشكّ في أنّ الظاهر والمتفاهم العرفي في معنى الحديث نفي الإعادة مطلقا ، من أيّ سبب وناحية كانت موجبة للإعادة لو لا هذا الحديث ، سواء كان الإخلال من ناحية زيادة شي‌ء فيما إذا كانت الزيادة لو لا هذا الحديث موجبة للإعادة ، أو كان من ناحية نقيصة شي‌ء وجوده أو عدمه معتبر في الصلاة.

[ الجهة ] الثالثة : في أنّه بعد ما عرفت ما ذكرنا من معنى الحديث يظهر لك أنّه لا فرق في عدم وجوب الإعادة بين أن يكون الخلل من ناحية فقد جزء ـ كما لو ترك فاتحة الكتاب مثلا في الركعتين الأوليين ، أو في إحديهما ما لم يكن ذلك الجزء من الخمسة المستثناة ـ أو كان من ناحية ترك شرط سهوا ونسيانا ما لم يكن من الخمسة المستثناة ، كالطمأنينة والاستقرار مثلا ، أو كان من ناحية وجود مانع أو قاطع ما لم يكن من الخمسة ، كالتكلّم سهوا أو نسيانا ، أو صلّى في غير المأكول سهوا أو نسيانا.

وأمّا ما ربما يقال من أنّ للشي‌ء ـ المقدّر في قوله عليه‌السلام « لا تعاد الصلاة » أي من شي‌ء ـ عموم أفرادي وإطلاق أحوالي ، فباعتبار العموم الأفرادي حيث أنّه نكرة‌

٩١

واقعة في سياق النفي يشمل كلّ فرد من أفراد الشي‌ء بنحو العامّ الاستغراقي ، وباعتبار إطلاقه يشمل حالة كون ذلك الشي‌ء جزء أو شرطا أو مانعا ، فلو شمل الجميع بالإطلاق فبالعموم الأفرادي يشمل كلّ فرد من أفراد الجزء ، وكذلك بالنسبة إلى الشرط والمانع. فشموله للموانع والشروط مضافا إلى الأجزاء يحتاج إلى ثبوت إطلاق للشي‌ء مضافا إلى عمومه الأفرادي ، والدليل على عموم الشي‌ء بنحو الاستغراقي موجود ولكن لا دليل في الحديث على ثبوت الإطلاق له بحيث يشمل الثلاثة ـ أي الأجزاء والشرائط والموانع ـ ولكن حيث أن الخمسة المستثناة مشتملة على الأجزاء والشرائط دون الموانع ، فبحكم وحدة السياق لا بدّ وأن يكون المراد في طرف المستثنى منه أيضا أعمّ من الأجزاء والشرائط ، ولا دليل على شموله للموانع.

ففيه أوّلا : أنّ المقدّر هو الإخلال لا الشي‌ء ، بمعنى أنّ العرف يفهم من قوله عليه‌السلام في عقد المستثنى منه « لا تعاد الصلاة » أي لا تعاد الصلاة من الإخلال بها ، فيكون الإخلال له عموم حسب التفاهم العرفي باعتبار سببه أيّ إخلال ، من أيّ ناحية وأيّ سبب إلاّ من ناحية هذه الخمسة ، فيشمل الموانع بنفس العموم من دون احتياج إلى العموم.

وثانيا : أنّ مصبّ العموم لكلمة « الشي‌ء » ـ على تقدير أن يكون هو المقدّر ـ هو الأجزاء والشرائط والموانع ، وذلك من جهة أنّ المراد من عدم وجوب إعادة الصلاة ومن الخلل الوارد عليها من ناحية كلّ شي‌ء أي كلّ شي‌ء من الأشياء التي لها دخل في تحقّق حقيقة الصلاة ، إمّا وجودا أو عدما ، فما هو دخيل وجودا قيدا وتقييدا فهو الجزء ، وتقيدا لا قيدا فهو الشرط ، وما هو دخيل عدمه أي الصلاة مقيّدة بعدمه بنحو يكون التقييد داخلا دون القيد فهو المانع ؛ فالحديث يشمل بعمومه الأجزاء والشرائط والموانع.

ولكن هذا العموم ليس عموما عقليّا لا يكون قابلا للتخصيص ، بل يمكن أن يرد الدليل بالنسبة إلى بعض الموانع ، أو بعض الشرائط ، بل بعض الأجزاء غير‌

٩٢

الأجزاء المذكورة في عداد الخمسة المستثناة ، أعني الركوع والسجود بأنّ الخلل من ناحيتها سهوا أيضا توجب الإعادة ، كما أنّه ورد بالنسبة إلى القيام المتّصل بالركوع ، وتكبيرة الإحرام من الأجزاء.

ولذلك قالوا إنّ الأركان ليست منحصرة بالخمسة المذكورة ، إن كان معنى الركن هو الذي يكون تركه عمدا أو سهوا موجبا للإعادة.

فلو سلّمنا أنّ وقوع الصلاة في غير المأكول يكون موجبا للإعادة ولو سهوا ، فهذا لا يدلّ على عدم شمول الحديث للموانع بناء على عدم كون المأكوليّة شرطا إذا كان لباس المصلي من الحيوان ، بل كان مالا يؤكل مانعا كما هو ظاهر موثّقة ابن بكير ، إذ من الممكن أن يكون فتواهم بالإعادة من جهة وجود دليل خاصّ عندهم.

[ الجهة ] الرابعة : في شمول الحديث للإعادة والقضاء جميعا ، بمعنى أنّه يدلّ على نفي الإعادة في الوقت ونفي القضاء في خارج الوقت.

بيان ذلك : أنّ المراد من نفي الإعادة في عقد المستثنى منه إن كان هو المعنى اللغوي للإعادة ، فيكون معناه نفي لزوم إيجادها ثانيا بعد ذلك الإيجاد الأوّل الذي سها عن إيجاد جزء أو شرط ، أو سها عن ترك مانع ، سواء كان الإيجاد الثاني في الوقت الذي نسمّيه بالإعادة اصطلاحا ، أو كان في خارج الوقت الذي نسمّيه بالقضاء ؛ لأجل شمول الإعادة بهذا المعنى اللغوي لكليهما بدون فرق أصلا.

وأما إن كان المراد منه نفي الإعادة بالمعنى الاصطلاحي للإعادة ـ أي إيجادها ثانيا في الوقت ـ فأيضا يدلّ على نفي القضاء بالدلالة الالتزاميّة ، بل يدلّ على نفيها بطريق أولى ؛ لأنّ لازم عدم لزوم الإعادة في الوقت سقوط الأمر عن الكامل التامّ وكفاية ما أتى به من الفاقد للجزء أو الشرط أو الواجد للمانع ، وإيفائه للغرض ؛ فلم يفت شي‌ء منه ، لا الواجب لسقوط الأمر بالامتثال بما أتى به من الناقص ، ولا الملاك لإيفاء ما أتى به للغرض ، فلا يبقى موضوع لوجوب القضاء.

٩٣

و أما المقام الثاني

أي التكلّم في عقد المستثنى من هذا الحديث‌

أي قوله عليه‌السلام « إلاّ من خمس : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والركوع ، والسجود » أيضا من جهات :

[ الجهة ] الأولى : في شرح الخمسة المذكورة فيه ، وأنّه ما المراد منها؟

فنقول :

الأوّل منها « الطهور ». وهذه اللفظة وإن كانت لها احتمالات :

منها : أن تكون بضم الطاء اسم مصدر مأخوذ من تطهّر ، كالوضوء من توضّأ.

ومنها : أن تكون صفة مشبّه بمعنى الطاهر ، كالعجوز بمعنى العاجز.

ومنها : أن تكون صيغة مبالغة ، وهذا الوزن في صيغ المبالغة معروفة مشهورة بخلاف الاحتمالين الأوّلين فإنّ فيهما كلام.

ومنها : أن تكون اسم لما يتطهّر به ، كالوضوء والسحور ، والفطور ، لما يتوضأ وما يتسحّر وما يفطر به.

ومنها : أن تكون مصدرا من طهر.

وكلّ هذه الاحتمالات ما عدا الاحتمال الأوّل فيما إذا قرأت بفتح الطاء.

وعلى كل الظاهر منها في هذا الحديث أن يكون إمّا مصدرا من طهر بضم الهاء ، ويكون بمعنى الطهارة ، فيكون معنى الحديث أنه لا تعاد الصلاة إلاّ من أشياء أحدها الطهارة. وإمّا اسم لما يتطهّر به ، ويكون معنى الحديث أنّه لا تعاد الصلاة الاّ من أشياء أحدها ما يتطهّر به ـ أي الماء أو التراب ـ فيكون كناية عن الطهارة الحاصلة عن أحدهما حسب المتفاهم العرفي. وهذا المعنى يناسب قوله عليه‌السلام « فاقد الطهورين لا‌

٩٤

صلاة له » (١).

وعلى كلّ لا شكّ في أنّ الظاهر من هذه الكلمة هي الطهارة في الحديث الشريف ؛ لأنّها إن كانت مصدر الطهر بضم الهاء فهو مرادف للطهارة ، لأنّ كليهما مصدران لطهر بتنصيص أهل اللغة ، وإن كانت بمعنى ما يتطهّر به كالوضوء بفتح الواو فأيضا لا بدّ وأن يكون المراد منها هي الطهارة ؛ إذ لا معنى لإعادة الصلاة بواسطة السهو عن الماء والتراب إلاّ أن يكون المراد الطهارة الحاصلة منها ، فكأنّه قال عليه‌السلام : لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة أشياء أحدها الطهارة.

ثمَّ إنّ الطهارة وإن كانت أعمّ من الطهارة الحدثيّة والخبثيّة جميعا لكن الظاهر أنّ المراد منها في الحديث خصوص الطهارة الحدثيّة لأنّه لا شكّ في أنّ الحديث في مقام أهميّة هذه الخمسة التي ثلاثة منها من الشرائط واثنان منها من الأجزاء من بين سائر الأجزاء والشرائط ، فبتركها وإن كان سهوا لا تتحقّق الصلاة ولا توجد ، ومن هذه الجهة اصطلح الفقهاء على تسمية هذه الأمور ركنا ، وعرّفوا الركن بأنّه ما كان زيادته ونقيصته أو خصوص نقيصته سهوا وعمدا موجبا للبطلان. وحيث أنّه من مجموع الأخبار في الموارد المختلفة يفهم أهميّة الطهارة الحدثية حتّى اشتهر عنهم عليهم‌السلام أنّ فاقد الطهورين لا صلاة له ، وأيضا قوله عليه‌السلام « لا صلاة إلاّ بطهور » (٢) فمن باب مناسبة الحكم والموضوع وأهميّة الطهارة الحدثيّة في الصلاة يقطع الفقيه بأنّ المراد منها هي الطهارة الحدثية ، فالطهارة الخبثيّة للثوب والبدن داخلة في عقد المستثنى منه لا المستثنى ، فلو أخلّ بها سهوا ونسيانا لا يوجب الإعادة.

الثاني : « الوقت » ولا شكّ في أنّ المراد به هو الزمان الذي عيّن الشارع لكلّ واحدة من الفرائض الخمس ، وذلك الزمان لكلّ واحدة منها مذكور في الفقه في باب أوقات الفرائض الخمس ، وهي مشهورة معروفة عند أغلب المسلمين فلا حاجة إلى‌

__________________

(١) لم نجد هذه الرواية في الكتب الأربعة ووسائل الشيعة ومستدرك الوسائل وبحار الأنوار.

(٢) تقدم تخريجه في ص ٨٢ ، رقم (٢).

٩٥

ذكر تلك الأوقات وبيانها.

ومقتضى هذه الصحيحة أنّه لو أتى بها خارج الوقت مقدما عليه ، أو مؤخّرا عنه عمدا أو سهوا تكون صلواته باطلة.

ولكن وجوب القضاء في خارج الوقت الذي هو من المسلمات ـ بل الضروريّات ـ يدلّ على صحتها إذا أتى بعنوان القضاء لا الأداء ، ولكنّه لا شكّ في أنّه لو أتى بها بتمامها قبل الوقت تكون صلاته باطلة ، سواء أكان الإتيان بها قبل الوقت عمدا علما ، أو جهلا قصورا أو تقصيرا ، أو كان سهوا ونسيانا.

نعم لو دخل فيها قبل الوقت مع قيام الحجّة عنده على دخول الوقت ، ودخل الوقت قبل أن يفرغ عنها فالمشهور حكموا بالصحّة ، اعتمادا على رواية وردت بهذا المضمون ، وإلاّ فمقتضى هذه الصحيحة هو بطلانها ، لأنّ ظاهرها لزوم وقوع الصلاة بتمامها في الوقت ، فلو خرج شي‌ء منها عن الوقت ـ سواء كان المقدار الخارج قبل الوقت أو بعد الوقت ـ يكون داخلا في المستثنى لا في المستثنى منه.

ولكن إذا كان المقدار الخارج قبل الوقت مع قيام الحجّة عنده على دخول الوقت « فيدلّ » على صحّتها وعدم بطلانها رواية ابن أبي عمير ، عن إسماعيل بن رياح : « إذا صلّيت وأنت ترى أنّك في وقت ولم يدخل الوقت ، فدخل الوقت وأنت في الصلاة فقد أجزأت عنك » (١).

والإشكال في الرواية بضعف إسماعيل بن رياح مع أنّ الراوي عنه محمّد بن أبي عمير لا وجه له ، والمشهور عملوا بها. وعلى كلّ تقدير الحكم بالصحّة بواسطة الدليل الخاصّ أعني هذه الرواية ، وإلا مقتضى الصحيحة بطلانها كما ذكرنا. وأمّا إذا كان‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٣ ، ص ٢٨٦ ، باب وقت الصلاة في يوم الغيم والريح. ، ح ١١ ؛ « الفقيه » ج ١ ، ص ٢٢٢ ، باب مواقيت الصلاة ، ح ٦٦٧ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٣٥ ، ح ١١٠ ، باب أوقات الصلاة وعلامة كلّ وقت منها ، ح ٦١ ؛ وص ١٤١ ، ح ٥٥٠ ، باب تفصيل ما تقدّم ذكره في الصلاة. ، ح ٨ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٣ ، ص ١٥٠ ، أبواب المواقيت ، باب ٢٥ ، ح ١.

٩٦

مقدار الخارج بعد الوقت فإن أدرك من الوقت مقدار ركعة كان كمن أدرك الوقت جميعا ، وهذا أيضا بالأدلّة الخاصّة الواردة في هذا المقام ، وإلاّ فمقتضى عقد المستثنى لزوم إعادتها وإن كان إتيانها في خارج الوقت سهوا إن كان بعنوان الأداء. وتفصيل المسألة في الفقه في باب أوقات الفرائض.

الثالث : « القبلة » وهي معلومة معروفة عند جميع المسلمين ، حتّى صار أهل القبلة عنوانا لهم ، وهي عبارة عمّا أمر الله تعالى بتولية الوجه إليها في الصلاة بقوله تعالى ( فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (١) أي المسجد الحرام.

نعم وقع الخلاف في أنّها للبعيد عن الكعبة أو سمتها وجانبها؟ وعلى أيّ التقادير وأيّ قول اخترناه يكون مفاد عقد المستثنى بطلان الصلاة لو وقعت إلى غير القبلة وإن كان سهوا ونسيانا.

نعم ـ كما قلنا في الوقت ـ هناك أدلّة خاصّة تدلّ في بعض الصور والفروض على صحّة الصلاة وإن وقعت إلى غير القبلة من باب تخصيص الحديث أو الحكومة بالتوسعة فيها تعبّدا ، كقوله عليه‌السلام : « ما بين المشرق والمغرب كلّه قبلة » (٢) ومعلوم أنّ مقتضى عقد المستثنى كان لزوم الإعادة إذا صلّى سهوا أو نسيانا إلى غير القبلة ، لكن هذه الرواية حاكمة على عقد المستثنى ؛ لأنّ مفادها توسعة القبلة إلى ما بين المشرق والمغرب ، كما أنّه في الثاني من الخمسة التي مذكورة في عقد المستثنى ـ أو الوقت ـ أيضا قوله عليه‌السلام : « من أدرك ركعة من الصلاة في الوقت فقد أدرك الوقت » (٣) يكون حاكما على عقد المستثنى بسبب توسعة في الوقت تعبّدا.

ولا يخفى أنّ التوجّه إلى القبلة حيث أنّه شرط في جميع حالات الصلاة‌

__________________

(١) البقرة (٢) : ١٥٠.

(٢) « الفقيه » ج ١ ، ص ٢٧٨ ، باب القبلة ، ح ٨٥٥ ، « وسائل الشيعة » ج ٣ ، ص ٢١٧ ، أبواب القبلة ، باب ١٢ ، ح ٩.

(٣) « الاستبصار » ج ١ ، ص ٢٧٥ ، ح ٩٩٩ ، باب وقت صلاة الفجر ، ح ١٠ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٣ ، ص ١٥٨ ، أبواب المواقيت ، باب ٣٠ ، ح ٤.

٩٧

والاشتغال بها من أوّل الدخول فيها إلى آخرها ، فإذا خرج جزء صغير منها عن القبلة ولم يأت به إليها تكون الصلاة فاقدة لهذا الشرط ، وتكون داخلة في عقد المستثنى لا المستثنى منه. فلا فرق بين خروجها بتمامها عن القبلة وبين خروج مقدار منها عنه وان كان ذلك المقدار يسيرا.

الرابع : « الركوع » والخامس « السجود » وهما من مقولة الوضع ، وكلّ واحد منهما عبارة عن هيئة خاصّة حاصلة لجسم الإنسان من نسبة أجزاء جسمه بعضها إلى بعض ومجموعها إلى الخارج ، فيكونان كالقيام والقعود والانبطاح والاستلقاء ، فهذه كلّها أوضاع للجسم الإنساني.

وهذه المفاهيم كلّها مفاهيم عرفيّة ، يحمل ما يفهم العرف منها ، إلاّ إذا أتى دليل على أنّ الشارع تصرّف فيها في عالم موضوعيّتها لأحكامه بالزيادة أو النقيصة ممّا يفهمه العرف ، وأمّا إذا أطلق فيحمل على ذلك المعنى العرفي. فالركوع عند العرف له مصاديق بل مراتب ، فمن أوّل خفض الرأس من أوّل مرتبة من انحناء البدن إلى الانحناء والنفوس التامّ يسمّى عند العرف بالركوع ، فإن أطلق الشارع في حكمه عليه وقال مثلا : « اركع في كل ركعة من صلاتك » فإذا أتى بأيّ مصداق من مصاديقه العرفيّة وأيّة مرتبة من مراتبه فقد امتثل ، ما لم يكن انصراف أو قرينة على إرادة أحد المصاديق أو المراتب بالخصوص.

نعم إذا جاء تحديد من قبل الشارع في عالم موضوعيّته لحكمه ، فلا بدّ من أن ينظر إلى مقدار دلالة ذلك الدليل.

وقد وقع الخلاف في ما يستفاد من أدلّة تحديد الركوع.

فقال بعضهم : إنّه عبارة عن الانحناء إلى حدّ تصل يداه إلى ركبتيه وصولا لو أراد وضع شي‌ء منهما عليهما لوضعه.

وفي المنتهى : ويجب فيه الانحناء بلا خلاف ، وقدره أن تكون بحيث تبلغ يداه إلى‌

٩٨

ركبتيه ، وهو قول أهل العلم كافّة إلاّ أبا حنيفة (١).

وقال في التذكرة : ويجب فيه الانحناء إلى أن تبلغ راحتاه إلى ركبتيه إجماعا ، إلاّ من أبي حنيفة ، انتهى (٢).

والظاهر من العبارة التي في المنتهى ـ كما هو الصريح فيما حكينا عن التذكرة ـ ادّعاء الإجماع على هذا التحديد من العامّة والخاصّة ما عدا أبي حنيفة ، والظاهر أنّ أبي حنيفة في قوله : « بأنّ الركوع عبارة عن مطلق الانحناء » ناظر إلى مفهومه العرفي.

وبعضهم اعتبر الوضع الفعلي للكفّين على الركبتين.

وبعضهم اكتفى بإمكان وصول أطراف الأصابع إلى الركبتين. ومنشأ اختلاف تفاسيرهم اختلاف تعابير الأخبار.

وعلى كلّ حال لسنا في مقام تحقيق هذه المسألة الفقهيّة ـ وإن كان الأقرب بنظري ممّا يستفاد من الأخبار بلوغ الانحناء إلى حدّ وصول أطراف الأصابع إلى الركبتين ؛ لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : « فإن وصلت أطراف أصابعك في ركوعك إلى ركبتيك أجزأك ذلك ، وأحبّ إليّ أن تمكّن كفّيك من ركبتيك فتجعل أصابعك في عين الركبة وتفرّج بينها » (٣) وأخبار أخر بهذا المضمون ـ بل المقصود ما هو المراد من الركوع في عقد المستثنى؟

فنقول : إنّ الظاهر المراد أنّه إذا وقع خلل في الصلاة من ناحية الركوع فتجب الإعادة سواء أكان بالنقيصة أو بالزيادة ، فلو فات منه الركوع وصلّى بلا ركوع في جميع الركعات ، أو في بعضها يجب عليه الإعادة ، لا كلام في ذلك.

__________________

(١) « منتهى المطلب » ج ١ ، ص ٢٨١.

(٢) « تذكرة الفقهاء » ج ١ ، ص ١١٨.

(٣) « الكافي » ج ٣ ، ص ٣٣٥ ، باب القيام والقعود في الصلاة ، ح ١ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٢ ، ص ٨٣ ، ح ٣٠٨ ، باب كيفية الصلاة وصفتها ، ح ٧٦ ؛ « وسائل الشيعة » ج ٤ ، ص ٦٧٥ ، أبواب أفعال الصلاة ، باب ١ ، ح ٣.

٩٩

وإنما الكلام في جهات أخر :

منها : أنّه هل وجوب الإعادة فيما إذا ترك الركوع بجميع مراتبها بحيث لم يأت به أصلا ، أو فيما إذا لم يأت بالمرتبة الكاملة وإن أتى بسائر المراتب؟

والصحيح هو أنّه وجوب الإعادة يكون فيما إذا لم يأت بما حدّده الشارع وإن أتى بما دون ذلك من المراتب ؛ لأنّ الحكم الشرعي إذا كان موضوعه الركوع فيكون ثبوت ذلك الحكم في ظرف وجود ما يراه الشارع ركوعا ، لا ما يراه العرف ركوعا.

نعم لو لم يكن تصرّف من قبل الشارع ، بمعنى أنّه لم يكن تحديد من قبل الشارع لكان حينئذ المرجع في تعيين الموضوع هو العرف ، لكن الأمر ليس كذلك ، فإنّ الشارع حدّد الركوع المعتبر في الصلاة ، فإذا ركع في صلاته ولم يصل إلى حدّ الذي حدّده الشارع به فيصدق أنّه فات منه الركوع وإن أتى به ببعض مراتب المعني العرفي ، ولكن ذلك لا يفيد ؛ لأنّه ليس موضوعا للحكم الشرعي ، فيدخل في المستثنى مع صدق الركوع العرفي على ما أتى به ، فتجب عليه الإعادة.

ثمَّ إنّه مقتضى هذا الحديث لزوم إعادة الصلاة عند عدم الإتيان وفوته وعدم إمكان تداركه في نفس الصلاة ، ومقتضى القاعدة الأوليّة صدق الفوت بعدم الإتيان به في محلّه الذي عيّن الشارع له ، فلو تجاوز عن ذلك المحلّ ولم يأت به يصدق أنّه فات منه ، إلاّ أنّ الشارع تصرّف في المستفاد عرفا عن مفهوم تجاوز المحلّ ، وفرّق في إمكان التدارك بين احتمال عدم الإتيان والقطع به في أجزاء الصلاة ، فجعل محلّ تدارك احتمال العدم عدم المضي عن الشي‌ء والتجاوز عنه أو عدم الدخول في غيره ، ومحلّ تدارك القطع بالعدم عدم الدخول في الركن الذي بعده.

وبعبارة أخرى : محلّ التجاوز في الجزء المنسي وعدم إمكان التدارك ـ بعد ما التفت إلى نسيانه وعدم الإتيان به قطعا سواء أكان ذلك الجزء المنسي ركنا أو لم يكن بركن ـ هو الدخول في الركن الذي بعده ؛ لأنّه ان لم يدخل فيه فيرجع ويعيد ولا يلزم‌

١٠٠