القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-400-030-7
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٨٤

صارفة مفقودة في المقام. والعجب ممّن يصرّ على ذلك المعنى وظاهر الحديث أجنبي عنه.

وأمّا القول الثاني : ـ أي نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ، الذي ذهب إليه صاحب الكفاية قدس‌سره فقد ظهر ـ فساده أيضا ممّا ذكرنا من توقفه على أن يكون المراد من الضرر هو الضرر الخارجي التكويني ، حتّى تخرج عن ظاهر الجملة ، « من جهة لزوم الكذب بأنّه ليس رفعا حقيقيا ، وإنّما هو رفع ادّعائي باعتبار رفع حكم الموضوع الضرري.

وقد عرفت أنّ الضرر الخارجي يرجع إلى ادّعاء الرفع باعتبار رفع حكمه ، وهذا خلاف ظاهر كلمة « لا » ولا يصار إليه إلاّ بعد عدم إمكان الرفع الحقيقي ، وفي المقام ممكن كما عرفت ؛ هذا أوّلا.

وثانيا : مرجع رفع الحكم برفع الموضوع في المقام إلى رفع حكم المجعول على نفس عنوان الضرر حتّى يصير من مصاديق رفع الحكم برفع الموضوع ، وحكم المجعول للضرر بمعناه المصدري ـ أي الإضرار ـ ليس إلاّ الحرمة التكليفيّة ؛ إذ بمعناه الاسم المصدري ـ أي الضرر الحاصل من الإضرار ـ لا حكم له ، لا تكليفا ولا وضعا. أمّا تكليفا فمعلوم ؛ لأنّه بهذا المعنى ليس من فعل المكلّف حتّى يكون مركزا ومحلّ تعلّق التكليف.

وأمّا وضعا فمن جهة أنّ نفس الضرر بالمعنى الاسم المصدري ليس من أسباب الضمان ، فلا بدّ وأن يكون حكمه المرفوع بناء على هذا القول حرمة الإضرار ، وهذا ينتج عكس ما أراده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الجملة تماما.

إن قلت : إنّ هذا يلزم لو كان المرفوع نفس عنوان الضرر ، وأمّا لو كان الفعل المعنون بهذا العنوان ـ وبعبارة أخرى : يكون المراد من الضرر ما هو المضرّ ـ فلا يرد هذا الإشكال ، بل يكون حاكما على العمومات والإطلاقات التي تثبت الأحكام للافعال بعناوينها الأوّليّة بتقييد تلك الإطلاقات ، وتخصيص تلك العمومات بصورة‌

٢٢١

عدم تعنون تلك الأفعال بعنوان الضرر. غاية الأمر ذلك التقييد والتخصيص اللبي بلسان الحكومة الواقعيّة تضييقا في جانب المحمول ، وهذا عين الغرض والمقصود من هذه الجملة ، فما أنتج هذا القول خلاف المقصود.

قلت : إنّ إرادة الفعل الذي صار سببا للضرر من الضرر مجاز لا يصار إليه إلاّ بالقرينة ؛ لأنّه من استعمال المسبّب وإرادة السبب. نعم هذا صحيح فيما إذا لا يمكن ارادة نفس المسبب ، فلا بدّ من أن يحمل على إرادة السبب ، أو محملا آخر صونا للكلام عن الكذبيّة أو محذور آخر.

وقد عرفت أنّه في المقام يمكن إرادة نفي نفس الضرر حقيقة بالبيان المتقدّم ، فلا يقاس ما نحن فيه بحديث الرفع بالنسبة إلى رفع الخطأ والنسيان ، حيث حملوها على رفع الفعل الذي صدر عن خطأ ونسيان ؛ لأنّ الرفع هناك لا يمكن أن يستند إلى نفس الخطأ والنسيان وإرادة نفيهما ، لا تكوينا لأنّه كذب ، ولا تشريعا لأنّه يلزم منه أن يكون الفعل الذي صدر خطأ بحكم العمد ؛ لأنّ حكم الخطأ مرفوع على الفرض ، وهذا عكس ما هو المقصود من حديث الرفع ، من كونه في مقام الامتنان على الأمّة ويكون ضد الامتنان ، ومن إيقاعهم في غاية الكلفة والمشقّة ، فلا بدّ من حملهما على الفعل الذي صدر نسيانا أو خطأ.

إن قلت : بناء على ما اخترت من كون مفاد الحديث نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر ، أيضا كذلك يلزم أن يكون استعمال الضرر مجازا ؛ لأنّه أريد منه أيضا سببه ، أي الحكم الذي يكون سببا للضرر ، فيكون أيضا من استعمال المسبّب وإرادة السبب.

قلت : بين المقامين فرق واضح ، فإنّه في الأوّل ـ أي فيما إذا كان المراد من الضرر الضرر الخارجي ـ لا يمكن أن يكون المراد نفي الضرر ؛ لأنّه كذب ، فلا بدّ أن يراد منه سببه ، وهذا هو المجاز.

٢٢٢

وأمّا في المقام فحيث إنّ المراد من الضرر الضرر الذي ينشأ من قبل الحكم ، يمكن رفعه حقيقة بالرفع التشريعي ، وبرفع منشأه ، أي الحكم الذي نشأ من قبله الضرر ، فيصح أن يكون المراد نفي الضرر الكذائي من دون تجوّز ولا تقدير ولا غير ذلك ، فبالدلالة الالتزاميّة يدلّ على نفي الحكم الذي يكون سببا للضرر ، لا أنّه أريد من لفظ الضرر وهذا المعنى كي يكون مجازا.

وأمّا القول الرابع : ففيه أولا : أنّ الضرر المتدارك منزّل منزلة العدم ـ على فرض صحّته وتماميّة ـ يكون ذلك فيما إذا تحقّق التدارك في الخارج ، لا بصرف حكم الشارع بوجوب التدارك ، خصوصا إذا كان حكمه تكليفا لا وضعا ، فإذا كان المراد من نفي الضرر نفي غير المتدارك منه ، بمعنى أنّه كلّ ضرر يجب تداركه ، فالضرر الذي لا يجب تداركه منفي في الإسلام.

فهذه الدعوى مركبة من أمرين :

أحدهما : أن الضرر الذي يجب تداركه نازل منزلة العدم.

وهذا هو الذي أشكلنا عليه بأنّه بصرف الحكم الشرعي بوجوب تداركه لا يراه العرف والعقلاء منزلة العدم ، خصوصا إذا كان حكمه هذا حكما تكليفيا.

والثاني : أن يكون نفي الضرر غير المتدارك كناية عن وجوب تدارك كلّ ضرر بجعل الجملة الخبرية بمعنى الإنشائية ، أي النهي عن الضرر غير المتدارك ، كي يكون هذا النهي كناية عن وجوب تدارك كلّ ضرر تكليفا بل وضعا.

وفي هذه الدعوى الثانية أنّه إذا كان المراد من وجوب تداركه الحكم الوضعي بضمانه ، فهذا غير ثابت في الشريعة ، وليس الضرر من أسباب الضمان ، وقد عدها الفقهاء من الإتلاف واليد والعقود المعاوضية الفاسدة والتغرير وغير ذلك ، ولم يذكروا في جملتها الضرر ، وإذا كان المراد صرف الوجوب التكليفي ، فهذا أيضا غير معلوم في جملة من الموارد ، مضافا إلى أنّه لا يوجب كونه نازل منزلة العدم ، كما ذكرنا ؛ هذا أوّلا.

٢٢٣

وأمّا ثانيا ، فيرد عليه كلّ ما أوردنا عليه في القول الأوّل من كون النفي بمعنى النهي ، بناء على أن يكون مبنى هذا القول أيضا كون النفي بمعنى النهي ، كما شرحناه مفصلا.

وخلاصة الكلام : أنّه لا يجوز الخروج عمّا هو ظاهر الجملة إلاّ من جهة ملزمة لذلك ، وقد عرفت ما هو الظاهر منها وعدم جهة ملزمة للخروج عن ذلك الظاهر ، فلا مناص إلاّ عن اختيار ما اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره من أنّ ظاهر الحديث هو الاحتمال الثالث الذي ذكرناه من نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر. (١)

والحاصل : أنّ هذه الاحتمالات الأربع كلّها ممكنة في عالم الثبوت ، ولكن في مقام الإثبات بينها طوليّة وترتيب.

فالمراتب كعدد الاحتمالات أربع مراتب ، لا تصل النوبة إلى الثاني إلاّ بعد تعذّر الأوّل ، وهكذا على حسب الترتيب.

الأوّل : هو رفع الضرر الذي ينشأ من قبل الحكم الشرعي حقيقة وواقعا برفع سببه أي الحكم ، وهذا هو المعنى الظاهر من هذه الجملة ، والظاهر من معنى كلمة « لا » الموضوعة لنفي الجنس بالنفي البسيط مقابل الجعل البسيط ، والمراد من البسيط ـ في كليهما ـ أن يكون المنفي والمجعول نفس وجود الشي‌ء. ويشهد لما ذكرنا ـ من ظهور كلمة « لا » لذلك ـ أنّهم اتّفقوا على أنّ خبر « لا » النافية للجنس هو مفهوم « موجود ». ودائما محذوف لمعلوميّته.

فإذا تعذّر هذا المعنى ـ أي النفي الحقيقي لا ادّعاء ـ فتصل النوبة إلى الثاني ، أي نفى الحكم بلسان نفي الموضوع ، وهذا النفي نفي تركيبي ، مقابل الجعل التركيبي ، أي نفي الحكم عن هذا الموضوع. فقول الفقهاء « لا شكّ لكثير الشكّ » في الحقيقة عبارة عن نفي حكم الشكّ ـ وهو البناء على الأكثر ـ عن شكّ كثير الشكّ. وإن شئت قلت :

__________________

(١) « المكاسب » ص ٣٧٢.

٢٢٤

إنّه نفي بسيط أمّا ادّعاء.

وإذا تعذّر هذا المعنى تصل النوبة إلى احتمال الثالث الذي هو عبارة عن كون النفي بمعنى النهي الذي هو خروج عن الظاهر ، أى المعنيين الحقيقيّين التحقيقي والادّعائي وان كان بينهما أيضا طوليّة ، كما ذكرنا.

ولكن مع أنّه خروج عن ظاهر مقدّم على احتمال الرابع ، وهو أن يكون كناية عن لزوم تدارك الضرر باشتغال ذمّة الذي أوقع الضرر ، لا بصرف وجوبه تكليفا كما شرحنا ؛ لأنّه خلاف الظاهر من جهتين :

الأولى : كون النفي بمعنى النهي ، وقلنا إنّه خروج عن الظاهر ، وإن أصرّ عليه النراقي (١). وشيخ الشريعة الأصفهاني قدس‌سرهما (٢).

الثانية : تنزيل الضرر المتدارك منزلة المعدوم ، وإرادة خصوص الضرر غير المتدارك منه.

وينبغي التنبيه على أمور‌

الأوّل : في الإشكالات على تطبيق هذه الجملة على مواردها التي طبق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها.

فمنها : في قضية سمرة بن جندب التي تقدّم ذكرها مفصّلا ، وأشكل عليه أوّلا : بأنّها لا تنطبق على أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلع العذق والرمي بها وجهه ؛ لأنّ‌

__________________

(١) ليس هذا مختار النراقي ، فراجع : « عوائد الأيام » ص ١٨ ـ ١٩.

(٢) « قاعدة لا ضرر ولا ضرار » ص ٢٤ ـ ٢٧.

٢٢٥

حقّ سمرة في ذلك البستان من حيث بقاء عذقه فيه ليس ضرريّا ، بل الضرر في جواز دخوله فيه بلا استيذان ، فيلزم تخصيص المورد وهو مستهجن ، فيلزم إجمال العام.

وأجيب على هذا الإشكال بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يطبق الجملة على هذه القضيّة من هذه الجهة ، وإنّما كان حكمه بقلع عذقه من جهة ولايته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على النفوس والأموال تأديبا وحسما لمادّة الفساد بعد أن تمرّد من قبول الحكم الشرعي ، أي وجوب الاستيذان ، أو عدم إباحة دخوله بغير الإذن الذي هو مفاد « لا ضرر ولا ضرار » ، فتطبيقه كبرى لا ضرر بلحاظ هذا المعنى لا بلحاظ أمره بقلع العذق ، فليس من باب تخصيص المورد ـ كي يكون مستهجنا ويكون موجبا لسقوط حجيّة العام وإجماله.

وقد أجاب شيخنا الأستاذ قدس‌سره عن هذا الإشكال بأنّ ضرر الأنصاري ولو كان مستندا إلى جواز الدخول بغير إذنه وهو الجزء الأخير لعلّة الضرر ، ولكن جواز الدخول من غير استيذان بالأخرة ينتهي إلى حقّه لإبقاء عذقه في ذلك البستان ، فذلك الحقّ الذي هو حكم شرعي وضعي نشأ من قبله الضرر ، فيكون الضرر عنوانا ثانويّا لذلك الحقّ ، فيرتفع بارتفاع الضرر بالمطابقة أو بالالتزام ، فلا يرد إشكال حتّى بناء على تطبيقه على مسألة العذق (١).

وفيه أوّلا : أنّ صرف كون منشأ الضرر ـ أي جواز الدخول بغير الاستيذان من آثار الحقّ ـ لا يوجب تعنون الحقّ بعنوان الضرر وأن يكون الضرر عنوانا ثانويّا له ، فإذا كان الضرر عنوانا ثانويّا للدخول بغير الإذن يرتفع نفس جواز الدخول بغير الإذن من دون تأثير في ارتفاع الحق.

هذا مضافا إلى ما بيّنّا سابقا أنّ سوق لا ضرر في مقام الامتنان فلا يجري فيما إذا كان موجبا لضرر الغير ؛ لأنّه كما أنّ بقاء حقّ السمرة في إبقاء عذقه في بستان الأنصاري لو سلّمنا أنّه منشأ للضرر كذلك منعه عن حقّه وقلع عذقه ضرر عليه ،

__________________

(١) « منية الطالب » ج ٢ ، ص ٢٠٩ ـ ٢١٠.

٢٢٦

فيدخل في باب تعارض الضررين بل تزاحم الحقّين.

فالصواب في الجواب أن يقال ؛ إنّ تقديم حقّ الأنصاري لحفظ عرضه من جهة أهميّته في نظر الشارع ، كما هو الشأن في باب التزاحم من تقديم الأهمّ على المهمّ ، وهو أحد المرجّحات الخمسة في باب التزاحم بل أهمّها.

ومنها : تطبيقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الجملة على عدم جواز منع فضل الماء لمنع الكلاء لأهل البادية.

وأشكل على ذلك أيضا بأنّ هذا التطبيق خلاف الامتنان بالنسبة إلى مالك الماء ، بل يكون ضررا عليه لسلب سلطنته ومنعه عن حقّه ، وهكذا الأمر في تطبيقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكين ، فيشكل على هذا التطبيق بعين الإشكال المتقدّم.

وكذلك في مسألة جدار حائط الجار إذا سقط من عند نفسه فلا يجب عليه أن يبنيه ، وأمّا إذا هدمه هو أي الجار صاحب الجدار فلا يترك ويجب عليه أن يبنيه ، فذلك الإشكال ـ أي منع المالك عن التصرّف في ماله ـ موجود.

والجواب عن الجميع أمّا في مسألة عدم جواز منع الماء فلعلّه من جهة أنّ عدم جواز منعهم ليس من جهة حرمة المنع ، بل نهي تنزيهي ومثل هذا النهي ليس منافيا لحقّ المالك أو الحقّ الأولويّة التي للمانع.

ولكن هذا التوجيه بعيد ؛ لعدم ملائمته مع كونه من قضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نقع الشي‌ء ، وبين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل الماء ليمنع فضل الكلاء.

فالأولى أن يقال : قدم رفع ضرر أهل البادية ومشارب النخل لأهل المدينة لأهميّته ، فإنّ عدم تلف حيوانات أهل البادية وعدم تلف نخيل أهل المدينة كان أهمّ من حفظ حقّ الأولويّة الذي كان لصاحب الماء ومالكه أو من كان أولى به ، وهذا‌

٢٢٧

واضح جدا.

وأمّا مسألة الشفعة فليس جعل حقّ الشفعة ضررا لا على البائع ولا على المشتري ، أمّا على البائع فمعلوم ؛ لعدم الفرق له بين أن يكون المبيع بعد انتقاله عنه ملكا للشفيع بواسطة أخذه بحقّ الشفعة ، أو يكون ملكا للمشتري.

وأمّا المشتري فلأنّه من أوّل الأمر أقدم على اشتراء مال يصير متعلّقا لحقّ الغير بمحض اشترائه.

وأمّا مسألة الجدار فعدم جواز هدمه ووجوب بنائه عليه لو هدمه وأنّه لا يترك ، فمن جهة أهميّة حقّ المهدوم عليه من حقّ الهادم ، خصوصا إذا كان مستلزما لهتك عرضه وتلف أمواله.

التنبيه الثاني : أشكل شيخنا الأعظم الأنصاري قدس‌سره على تماميّة هذه القاعدة المستفادة من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا ضرر ولا ضرار » بلزوم تخصيص الأكثر (١).

بيان ذلك : أنّه بعد ما كان المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما استفدناه ـ نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر وأنّه لم يجعل في الدين مثل هذا الحكم نرى أنّه في كثير من أبواب الفقه مثل هذا الحكم مجعول ، كأبواب الحج ، والزكاة ، والخمس ، وأبواب الجهاد ، والضمانات بواسطة اليد أو الإتلاف ، إلى غير ذلك.

ثمَّ أجاب عنه : بأنّه من الممكن أن يكون بين الأفراد الخارجة عن تحت هذا العموم جامع ، والتخصيص يكون بعنوان إخراج ذلك الجامع الواحد ، وقال : إذا كان كذلك فإخراج عنوان واحد عن تحت عموم العام من العناوين التي يتعنون العام بها ليس بمستهجن ، وإن كان أفراد العنوان الخارج أكثر من الأفراد الباقي تحت العام.

واعترض عليه صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ خروج عنوان واحد عن العام ليس بمستهجن ، ولو كان أفراده أكثر من الأفراد الباقي تحت العام إذا كان عموم العام‌

__________________

(١) « فرائد الأصول » ج ٢ ، ص ٥٣٧.

٢٢٨

أنواعيا وكان محطّ العموم الأصناف التي للعام. وأمّا لو كان محطّ العموم والنظر إلى الأشخاص ومصاديقه ، فلا فرق في استهجان تخصيص أكثر الأفراد بين أن يكون بعنوان واحد وتحت جامع واحد. (١)

فلو كان عنوانا واحدا ولكن محطّ العموم هو المصاديق والأفراد مثل « أكرم كلّ عالم » فلو كان المخصّص عنوانا واحدا مثل « إلاّ أن يكون فاسقا » وكان أفراد الخاصّ أكثر من الباقي بعد الإخراج ، يكون هذا التخصيص مستهجنا وإن كان بعنوان واحد.

وأمّا إن كان محطّ العموم أنواع العالم ، من الصرفي والنحوي والأصولي والمنطقي والفقهاء إلى غير ذلك من الأنواع ، وكان المخصّص عنوان النحويين مثلا ، وفرضنا أفراده كان أكثر من مجموع الأنواع الآخر ، فهذا التخصيص ليس بمستهجن.

والسرّ في ذلك هو أنّ إلقاء ما ليس بعام عند العرف بحسب مراده بصورة العموم خروج عن طريقة الإفادة والاستفادة عندهم ، فيكون ركيكا مستهجنا عندهم ، فلا بدّ وأن يلاحظ مصبّ العموم ، فإن كان الأنواع فخروج المتكلّم عن طريقة العرف وأهل المحاورة بإخراج أكثر الأنواع ، وإن كان مصبّه الأفراد فخروجه عن طريقتهم هو إخراج أكثر الأفراد ، سواء أكان بعنوان واحد جامع لتلك الأفراد المختلفة ، أم كان بعناوين متعدّدة.

والشاهد على ذلك الوجدان ، ومراجعة أرباب المحاورة. ولا فرق في ما ذكرنا بين أن يكون العام من قبيل القضيّة الخارجيّة أو القضية الحقيقية.

نعم تصوير العموم الأنواعي في القضية الخارجيّة لا يخلو عن إشكال ، بخلاف القضيّة الحقيقيّة فإنّه قد يكون الحكم فيها على العام بلحاظ جميع وجوداته ومصاديقه وأفراده ـ كما هو الحال في أغلب المسائل التي لجميع العلوم والفنون ، والقضايا التي تجعل كبرى في الشكل الأوّل ـ وقد يكون الحكم فيها بلحاظ جميع أنواعه وأصنافه ،

__________________

(١) « درر الفوائد في حاشية على الفرائد » ص ٢٨٤.

٢٢٩

ولا نظر للحاكم إلى قلّة الأفراد وكثرتها.

ففي القسم الأوّل من القضيّة الحقيقيّة تخصيص أكثر الأفراد مستهجن ولو كان بعنوان واحد ، وفي القسم الثاني تخصيص أكثر الأنواع مستهجن ولو كان أفراد أكثر الأنواع الخارج بالتخصيص أقلّ بكثير من أفراد ذلك النوع الواحد الباقي تحت العام.

فالمناط كلّ المناط في الاستهجان هو تخصيص الأكثر ممّا هو مصبّ العموم ، سواء أكان هو الأنواع أو كان هو الأفراد ، وسواء أكان الخارج هو بعنوان واحد أو بعناوين.

فإشكال صاحب الكفاية ( قده ) وارد على ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره.

وما ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره من الفرق بين القضيّة الحقيقيّة والخارجيّة ، وجعله تحقيقا في المقام (١) لا يخلو عن الخلل كما عرفت وجهه.

هذا كلّه بحسب الكبرى ، وأمّا بحسب الصغرى فلا شكّ أنّ مصبّ العموم في القاعدة هي الأفراد ، إذا مفادها كما استظهرنا من أدلّتها هو نفي كلّ حكم ضرري ، أي ينشأ من قبله الضرر. وليس مفادها نفي كلّ نوع من أنواع الأحكام الضرريّة حتّى لا يكون خروج نوع واحد موجبا للاستهجان ، ولو كان أفراده أكثر ممّا بقي تحت العام.

هذا ، مضافا إلى أنّ الخارج من هذا العموم ـ على فرض تسليم التخصيص ـ ليس عنوان واحد ، وإنّما هو صرف فرض شيخنا الأعظم الأنصاري قدس‌سره ، لأنّ الأحكام الضرريّة مجعولة بعناوين موضوعاتها ، كعنوان الحجّ والجهاد والخمس والزكاة ، وعنوان من أتلف واليد والمقبوض بالعقد الفاسد ، إلى غير ذلك من العناوين التي يجدها الفقيه المتتبع ، بل موضوع الأحكام الضرريّة موضوعات مسائل هذه الأبواب.

فالصواب في الجواب عن أصل إشكال تخصيص الأكثر : أنّ خروج هذه المذكورات عن تحت القاعدة بالتخصّص ، وليس تخصيص في البين أصلا.

__________________

(١) « منية الطالب » ج ٢ ، ص ٢١٠ ـ ٢١١.

٢٣٠

بيان ذلك : أنّ قاعدة نفي الضرر ، وكذلك قاعدة نفى الحرج بناء ـ على ما استظهرناه من أنّ مفادهما نفي الأحكام الضرريّة والحرجيّة ـ يكون حاكمة على أدلّة الأحكام الأوّليّة ، بمعنى أنّ الأدلّة الأوّليّة لها إطلاق أو عموم يشمل كلتا حالتي الحكم ، من كونه ضرريّا وغير ضرري ، فالقاعدة تخرج حالة كونه ضرريّا عن مفاد الإطلاق أو العموم ، فنتيجة هذه الحكومة لبّا تقييد ذلك الإطلاق ، أو تخصيص ذلك العموم بغير حالة كون ذلك الحكم ضرريا.

وأمّا إذا كان الحكم المجعول على موضوع ضرري دائما كوجوب الجهاد وإعطاء الخمس والزكاة مثلا ، أو كان نفس الحكم دائما ضرريّا كحكمه بضمان اليد في مورد التلف ، فخارج عن مصبّ هذه القاعدة. وليس من باب التخصيص حتّى يكون مستهجنا لكونه تخصيص الأكثر ، نعم لو اتّفق لهذه الأحكام الضرريّة ومن قبلها ترتّب ضرر آخر غير ما يقتضي طبع نفس هذه الأحكام أو موضوعاتها ، فحينئذ يكون مشمولا لهذه القاعدة ، ولا محذور فيه أصلا. وذلك من جهة شمول الحكومة لمثل هذا المورد ؛ لأنّه بالنسبة إلى مثل هذا الضرر الذي اتّفاقي وليس من مقتضيات طبع نفس الحكم أو موضوعه ، يكون من مداليل الإطلاق أو العموم للأدلّة الأوّلية ، فالقاعدة تقيد ذلك الإطلاق ، أو يخصّص ذلك العموم بغير مورد ترتّب هذا الضرر على ذلك الحكم ، فيكون تقييدا أو تخصيصا لدليل ذلك الحكم لبّا بلسان الحكومة.

وبعبارة أخرى : هذه القاعدة ناظرة إلى تضييق المجعول الأوّلي وتخصيصه بإحدى حالتيه ، أي حالة عدم كونه ضرريّا فلا بدّ وأن يكون لذلك المجعول الأوّلي حالتان ، حتّى يكون داخلا في موضوع القاعدة ، وإلاّ لو لم يكن له إلاّ حالة واحدة يكون خارجا عن موضوع القاعدة ، وليس من باب التخصيص. وحيث أنّ في الموارد المذكورة للتخصيص إمّا يكون الموضوع موضوعا ضرريّا دائما ، أو نفس الحكم كذلك ، فيكون خروجها بالتخصّص لا بالتخصيص.

التنبيه الثالث : في بيان وجه تقديم هذه القاعدة على الأدلّة الأوليّة القائمة على‌

٢٣١

ثبوت الأحكام الواقعيّة لموضوعاتها بعناوينها الأوّلية.

أقول : لا شكّ في أنّ النسبة بين دليل هذه القاعدة وبين تلك الأدلّة عموم من وجه ، مثلا دليل وجوب الغسل عام من حيث كونه ضرريّا أو غير ضرري ، ولا ضرر أعمّ منه ؛ لشموله لغير وجوب الغسل من الأحكام الضرريّة ، فيتعارضان في مورد الاجتماع وتصادم العنوانين ، فبأيّ وجه أخذوا بدليل لا ضرر وقدّموه على تلك الأدلّة ، مع أنّ مقتضى القاعدة تساقط الدليلين المتعارضين في مورد الاجتماع إذا كان بينهما عموم من وجه.

وقد ذكروا لذلك وجوها نذكر منها ما هو المختار في وجه الجمع ونترك الباقي ؛ إذ لا فائدة في ذكرها والإشكال عليها مع وضوح بطلانها.

فنقول : وجه تقديم دليل لا ضرر على تلك الأدلّة حكومته عليها بالحكومة الواقعيّة بالتضييق في جانب المحمول ، فدليل لا ضرر يضيق المحمول في تلك الأدلّة برفعه رفعا تشريعيّا في إحدى الحالتين ، أي حالة كونه ضرريّا سواء أكان المحمول حكما تكليفيّا أو وضعيّا ، بلا تصرّف وتضييق في النسبة التي بين الموضوع والمحمول حتّى يكون تخصيصا.

نعم ينتج نتيجة التخصيص ، فإذا قسنا دليل لا ضرر مع دليل وجوب الغسل أو الوضوء على المحدث بالحدث الأكبر أو الأصغر ، يكون مفاد لا ضرر أنّ هذا الوجوب المحمول على المحدث بالحدث الأكبر أو الأصغر ، ويقال بأنّ المحدث بحدث كذا يجب عليه ليس مجعولا إذا كان ضرريّا ، فلا يمكن التعارض بين مثل هذين الدليلين ؛ لأنّ التعارض بين الدليلين عبارة عن التناقض بينهما ، وفي التناقض لا بدّ وأن تكون القضيتين الموجبة والسالبة متّحدتين من حيث الموضوع والمحمول ، وإنّما الاختلاف من حيث السلب والإيجاب ، فلو كانت إحدى القضيتين المختلفتين بالسلب والإيجاب مفادها التصرّف في موضوع القضيّة الأخرى ، كقولهم « لا شكّ لكثير الشك » أو‌

٢٣٢

التصرّف في محمولها كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « لا ضرر ولا ضرار » بناء على ما استظهرنا منه من أنّ مفاده رفع الحكم الضرري عن عالم الجعل والتشريع ، فلا يتحقّق تناقض وتعارض.

وهذا هو السرّ في عدم ملاحظة النسبة بين الحاكم والمحكوم ، بل يقدّم الحاكم على كلّ حال ، لأنّ ملاحظة النسبة فرع التعارض ، ولا تعارض بين الحاكم والمحكوم ؛ إذ المعارضة فرع وحدة القضيّتين بحسب الموضوع والمحمول.

وأمّا إذا كان لسان إحدى القضيتين التصرّف في موضوع القضية الأخرى أو محمولها فلا تعارض حتّى تلاحظ النسبة أو قوّة الظهور.

وأمّا الجمع العرفي الذي ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره (١) وإن كان صحيحا ومطابقا للواقع ، إلاّ أنّه ليس بلا سبب وجزافا. ووجه الجمع العرفي هو ما ذكرناه من الحكومة في هذا المورد ، وربما يكون وجهه في الموارد الآخر غير الحكومة ، من قوّة الظهور في أحدهما لكونه أظهر ، أو كون أحدهما خاصّا ، أو غير ذلك.

وأمّا بيان أقسام الحكومة الثمانية ، من كونها ظاهريّة أو واقعيّة ، أو كونها في جانب الموضوع أو في جانب المحمول ، كلّ واحد منهما بالتوسعة أو بالتضييق فقد ذكرنا وشرحناها في باب حكومة الأمارات على الأصول في كتابنا « منتهى الأصول ». (٢)

التنبيه الرابع : في أنّ مفاد لا ضرر نفي الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر واقعا‌ ، سواء علم المكلّف بذلك أم لا ؛ وذلك من جهة أنّ الألفاظ موضوعة لمعانيها الواقعيّة لا بقيد أنّها معلومة ، فالمراد من الحديث الشريف نفي الضرر الواقعي سواء فيه العلم والجهل.

__________________

(١) « كفاية الأصول » ص ٣٨٢.

(٢) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٥٣٧.

٢٣٣

فمن هذا يتولّد الإشكال في موارد :

منها : قولهم بصحّة الوضوء أو الغسل مع الجهل بكون استعمال الماء ضرريّا.

ومنها : تقييدهم لخيار الغبن ، وكذلك خيار العيب بجهل المغبون بالغبن وجهل المشتري بعيب المبيع.

ولكن الجواب عن هذه الإشكالات : أمّا في مسألة الطهارة المائيّة فلأنّ حكم الشارع ببطلان الطهارة المائيّة في ظرف الجهل بضرر استعمال الماء خلاف الامتنان ؛ لأنّه يوجب إعادة الوضوء والغسل ، بل الأعمال المتوقّفة عليهما وقد سبق أنّ سوق الحديث في مقام الامتنان ، فلا يجرى فيما هو خلاف الامتنان.

لا يقال : حكمه بالبطلان في صورة العلم أيضا خلاف الامتنان ؛ لأنّ العاقل لا يقدم على ضرر نفسه ، خصوصا إذا علم أنّ هذا العمل لغو لا أثر له ، وهذا المعنى لا يتطرّق في حقّ الجاهل بالضرر ، هذا أوّلا ، وثانيا ما تقدّم من أنّ مفاد لا ضرر نفى الحكم الذي يكون الضرر عنوانا ثانويا له.

وبعبارة أخرى يكون علّة تامّة للضرر أو يكون هو الجزء الأخير من العلّة التامّة للضرر ، حتّى يصحّ أن يقال إنّ هذا الحكم ضرري ، بحيث لو لم يكن هذا الحكم لما كان المكلّف واقعا في الضرر.

وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك ؛ لأنّه كان يقع في الضرر من جهة جهله ، ولو لم يكن هذا الحكم مجعولا في ذلك الحال أي في حال جهله بالضرر ، فليس الضرر ناشئا من الحكم المجعول في حال الجهل ، وإلاّ لما كان واقعا في الضرر في فرض عدم ذلك الحكم في حال الجهل ، مع أنّه يقع قطعا لاعتقاده عدم الضرر ، فهو يرى نفسه موضوعا وداخلا في الذي يجب عليه الوضوء أو الغسل وإن لم يكن الوجوب مجعولا في ذلك الحال ، فتضرّره مستند إلى فعله الناشئ عن اعتقاد عدم الضرر ، ولعمري هذا واضح جدّا.

٢٣٤

وأمّا بطلان الوضوء والغسل بالماء الذي استعماله مضرّ لحرمة الإضرار بالنفس ـ وأنّ الإضرار بالنفس إلى أيّ حدّ جائز وإلي أيّ حدّ لا يجوز وما الدليل عليه ـ فهذا شي‌ء خارج عن محلّ كلامنا ، وهي مسألة فقهيّة يبحث عنها في محلّها.

وأمّا مسألة خيار الغبن فليس مستند إلى هذه القاعدة ، بل ثبوتها بواسطة تخلّف الشرط الضمني ، وهو تساوي المالين في خيار الغبن وسلامة العوضين في خيار العيب ، مضافا إلى وجود أدلّة خاصّة في خيار العيب دالّة على ثبوت الخيار حال الجهل بالعيب دون حال العلم به ، وتفصيل المسألة في محلّه.

التنبيه الخامس : قد عرفت أنّ مفاد لا ضرر ـ بناء على ما استظهرناه ـ رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر ، سواء كان ذلك الحكم حكما تكليفيّا أو كان وضعيّا ، بل الحكم الوضعي أولى بشمول لا ضرر له ؛ لأنّ الحكم التكليفي بمحض جعله وتشريعه لا يكون موجبا لوقوع الضرر في الخارج ، بل الضرر يقع في مرحلة الامتثال ، فيتوسّط بينه وبين وقوع الضرر إرادة المكلّف واختياره.

وأمّا الحكم الوضعي كاللزوم في المعاملة الضرريّة ، فهو بنفسه موجب لوقوع الضرر من دون توسّط إرادة المكلّف واختياره في البين ، فيكون دليل هذه القاعدة ـ كما تقدّم ـ حاكما على إطلاقات الأدلّة الأوّلية في جانب المحمول ، بمعنى تضييق القاعدة لمحمول تلك الأدلّة وتقييدها بحال عدم كونها ضرريّا.

وهذا معنى كون مفادها رفع الحكم الضرري ، فلا بدّ وأن يكون حسب مفاد تلك الإطلاقات حكم ثابت مجعول لو لا هذه القاعدة ، فشأن هذه القاعدة رفع الحكم الضرري الذي لو لا هذه القاعدة كان ثابتا وموجودا.

وأمّا وضع الحكم الذي يكون في عدمه ضرر على شخص ، فهذا خارج عن المفاد ومدلول هذه القاعدة.

فبناء على هذا لا يمكن إثبات الضمان بهذه القاعدة فيما إذا كان عدم الضمان ضررا‌

٢٣٥

على شخص ، بل لا بدّ في إثباته من التمسّك بأخذ أسباب الضمان ، كاليد والإتلاف وسائر أسباب الضمان.

والحاصل أنّه لا يجوز أن يقاس عدم الحكم إذا كان ضرريّا فيقال برفعه حتّى يكون نفي النفي إثباتا بوجود الحكم الضرري ؛ لما ذكرنا من أنّ مفادها الرفع لا الوضع ، لا من جهة أنّ العدم ليس قابلا للرفع حتّى يقال إنّ العدم في مرحلة البقاء قابل للوضع والرفع ، بل من جهة كونه ناظرا إلى الأحكام المجعولة حسب إطلاق أدلّتها أو عمومها لكلتا حالتي كونها ضرريّة أو غير ضرريّة ، وتقييدها بصورة عدم كونها ضررية ، فإذا لم يكن حكم مجعول من قبل الشارع فلا موضوع لهذا القاعدة.

وأمّا كون عدم جعل الحكم في موضوع قابل للجعل بمنزلة جعل العدم ـ كما توهّم ـ فعجيب.

فما توهّم في موارد كثيرة من التمسّك بهذه القاعدة لإثبات الحكم بواسطة كون عدمه ضرريّا ليس كما ينبغي.

كما أنّ بعضهم توهّم جواز طلاق المرأة للحاكم إذا كان الزوج لا يقدر على نفقته ، أو لا يعطي عصيانا أو لعذر ، وكان غائبا زمنا طويلا ولا يعرف مكانه وليس له مال ينفق عليها منه ، ففي هذه الموارد وأمثالها مما تتضرّر المرأة من عدم جواز الطلاق توهّموا رفع عدم جواز الطلاق إلاّ لمن أخذ بالساق ، مستندا إلى هذه القاعدة.

وأنت عرفت عدم صحّة هذا التوهّم.

وأمّا البحث عن هذه المسألة وأنّه هل يجوز طلاق مثل هذه المرأة ولو كان لأدلة أخر غير هذه القاعدة؟ فهو أجنبي عن مقامنا وإن ذكره شيخنا الأستاذ قدس‌سره استطرادا. (١)

وهنا فروع كثيرة قالوا بالضمان فيها مستندا إلى هذه القاعدة ، كفكّ الباب على دابّة فشردت وتلفت ، أو على طير فطار ، وكحبس الحرّ فشردت دابّته ، أو طار طيره ،

__________________

(١) « منية الطالب » ج ٢ ، ص ٢٢١.

٢٣٦

أو أبق عبده وأمثال ذلك ممّا يكون الحكم بعدم الضمان موجبا لضرر المالك ، فكلّ هذه المذكورات وأمثالها إن كان للضمان وجه آخر غير هذه القاعدة فهو ، وإلاّ فالقول بالضمان فيها مستندا إلى هذه القاعدة لا وجه له كما عرفت.

التنبيه السادس : في أنّ المراد من الضرر المنفي في هذه القاعدة هل هو الضرر الشخصي أو النوعي؟

والمراد من الضرر الشخصي هو أنّ المناط في رفع الحكم ترتّب الضرر الشخصي الخارجي عليه ، ففي كلّ مورد نشأ من قبل الحكم الشرعي ضررا خارجيّا على شخص فذلك الحكم مرتفع في حقّه دون من لا يتضرّر من قبله. ومن الممكن أن يكون الحكم ضرريّا في حقّ شخص دون شخص آخر ، بل لشخص واحد في مورد دون مورد آخر.

وأمّا الضرر النوعي فالمراد منه كون الحكم ضرريّا نوعا ، وإن لم ينشأ منه ضرر في بعض الأحيان أو لبعض الأشخاص.

والظاهر من الحديث الشريف ـ بناء على ما استظهرنا منه ـ هو الضرر الشخصي لا النوعي ؛ لأنّ معنى الحكومة على ما بيّنّاه رفع الحكم في كلّ مورد نشأ منه الضرر ، وأمّا في المورد الذي لم ينشأ من قبله ضرر فلا معنى لرفعه بل الإطلاق يشمله.

وبعبارة أخرى : كون الحديث في مقام الامتنان يقتضي أن يكون الرفع بلحاظ حال كلّ شخص بحسب نفسه ، وإلاّ رفع الحكم عن شخص بلحاظ شخص آخر أي امتنان فيه؟

وكذلك الأمر في قاعدة لا حرج فالحكم مرفوع فيها بلحاظ الحرج الشخصي دون النوعي ، ومساق هاتين القاعدتين من هذه الجهة واحد.

وأمّا كون الضرر أو الحرج النوعيين حكمة لجعل حكم في بعض الأحيان ـ كما ربما يكون كذلك في باب جعل الطهارة الترابيّة بدلا عن المائيّة عند عدم التمكّن منها ،

٢٣٧

أو التقصير والإفطار في السفر ـ فلا ربط له بما نحن فيه ، وهو وإن كان ممكنا بل واقعا كما ذكرنا ، ولكن يحتاج إلى ورود دليل خاصّ على ذلك.

ويظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يجب تدارك الضرر الوارد على الغير ، بأن يتحمل خسارة ما وقع التلف عليه إلاّ بأحد أسباب الضمان ، من اليد ، أو الإتلاف ، أو غيرهما كما هو مذكور في أبواب الضمانات ، ولا بأن يتحمّل الضرر ليدفعه عن الغير ؛ كلّ ذلك من جهة أنّ الحديث وارد في مقام الامتنان ، نعم ليس له أن يدفع الضرر عن نفسه بتوجيهه إلى الغير.

التنبيه السابع : في تعارض الضررين‌ بمعنى أنّه دار الأمر بين حكمين ضرريين ، بحيث يلزم من نفي أحد الحكمين ثبوت الحكم الآخر ، وذلك كما إذا أدخل الدابّة رأسها في قدر يملكه شخص آخر غير صاحب الدابّة ، فالقدر لشخص والدابة ملك لشخص آخر ، فهاهنا يقع التعارض بين جواز كسر القدر لخلاص الدابّة وجواز ذبح الدابّة لبقاء سلامة القدر ، فكلا الحكمين ضرريّان ويلزم من نفي جواز كلّ واحد منهما بواسطة « لا ضرر » ثبوت الضرر للمالك الآخر ، فمنع مالك القدر عن كسره ضرر على صاحب الدابّة ، كما أنّ منع صاحب الدابّة عن ذبحه ضرر على صاحب القدر ، فلا يجري « لا ضرر » في الطرفين لمعارضتهما لو كان أحد الأمرين واجبا.

وهذا فيما إذا لم يكن بتفريط من أحدهما ، وإلاّ يجب على المفرط تخليص مال الغير ولو بتلف ماله ولا ضمان على الآخر. نعم لو قلنا بأنّه يجب مراعاة أكثر الضررين وأعظمهما وينفي الحكم الذي ينشأ ذلك الضرر الكثير منه ، فحينئذ يجب ارتكاب ما هو أقلّ ضررا منهما ـ أي من الكسر ومن الذبح ـ في المفروض.

ولكن لا دليل على هذا إلاّ ما يتوهّم من أنّ مقتضى الامتنان على الأمة هو ذلك. ولكن عرفت أنّ مقتضى الامتنان رفع الحكم الذي ينشأ من قبله الضرر فيما إذا لم يكن الرفع موجبا لوقوع الضرر على شخص آخر ، ففي هذا المورد وأمثاله لا مجال لجريان‌

٢٣٨

لا ضرر ، لا من جهة المعارضة فقط لو كان هناك معارضة ، بل من جهة أنّ جريانها خلاف الامتنان فلا يجرى لا ضرر في الطرفين. ونتيجة ذلك بقاء سلطنة كلّ واحد منهما على ماله ، ومنع الآخر عن التصرّف فيه بكسر أو ذبح أو غير ذلك من التصرّفات التي للمالك حقّ المنع عنها.

ويمكن أن يقال : إنّه ليس لكلّ واحد من المالكين منع الآخر عن تخليص ماله ولو كان التخليص مستلزما لتلف ماله ، غاية الأمر يجبر التلف أو النقص كما إذا حفر الأرض لتلخيص غرسه فيما إذا كان بحقّ ، فيجبر نقص الحاصل من الحفر بلزوم طم الحفر من طرف الحافر القالع لغرسه ؛ وذلك من جهة عدم سلطنته على ماله ومنعه الغير عن مثل هذا التصرّف الذي مقدّمة لتخليص ماله.

والحاصل أنّ المثال المذكور ، أي إدخال الدابّة رأسها في قدر الغير بغير تفريط من أحد المالكين ، ليس من تعارض لا ضرر في الطرفين ؛ إذ الضابط فيه كما بيّنّا أن يكون نفي أحد الحكمين الضرريين مستلزما لثبوت الحكم الضرري الآخر ، لا أن يكون مستلزما لثبوت الضرر على الآخر ، وما نحن فيه من الأمثلة من قبيل الثاني لا الأوّل.

وخلاصة الكلام في المقام : أنّ تعارض مفاد لا ضررين ـ أي تعارض نفي الحكمين الضرريين ـ هو عبارة عن عدم إمكان رفعهما في عالم التشريع ، إمّا بأن يكون رفع أحدهما مستلزما لثبوت الآخر ، فمعنى رفعهما إثباتهما أيضا لما ذكرنا من الملازمة ، وهذا اجتماع النقيضين في كلّ واحد من الحكمين. وإمّا بالعلم بوجود أحد الحكمين وعدم رفعه لجهة من الجهات ، كما لو أنّ جواز حفر البئر في داره إذا كان ضررا على جاره لو رفع بلا ضرر بواسطة كون هذا الحكم ضرريّا على جاره ، وحرمة حفر البئر أيضا لو رفع بواسطة كونه ضرريّا على نفسه ، فيقع التعارض بين لا ضررين باعتبار مؤدّاهما ، أعني نفي جواز حفر البئر ونفي حرمة حفره.

٢٣٩

وذلك من جهة أنّ نفي أحد الحكمين مستلزم لثبوت الآخر ، فنفي جواز حفر البئر مستلزم لحرمة الحفر ، كما أنّ نفي حرمته مستلزم لجوازه. وكما أنّ في مثال القدر والدابة التي أدخلت رأسها فيها لو علمنا بوجوب أحد الأمرين ، أي كسر القدر أو ذبح الدابّة ، فيقع التعارض بين نفي جواز الكسر بلا ضرر ونفي جواز الذبح به ؛ لعدم إمكان الجمع بينهما في عالم التشريع مع العلم بوجود أحدهما.

ولا ينافي ثبوت التعارض بينهما مع كونهما ـ أي النفيين ـ مدلول دليل واحد ، كما أنّه لا تنافي بين تعارض الاستصحابين مع أنّهما مفاد دليل واحد ، أي قوله عليه‌السلام « لا تنقض اليقين بالشكّ ».

والسرّ في ذلك : هو انحلال قضيّة « لا ضرر » وقضية « لا تنقض » وأمثالها ممّا كانت القضيّة بنحو الطبيعة السارية ، أو العامّ الاستغراقي إلى قضايا متعدّدة بعدد مصاديق ذلك العامّ الذي جعل موضوعا للحكم.

وعلى كلّ حال إذا تحقّق التعارض بالمعنى المذكور فيتساقطان ؛ لعدم وجود مرجّح من مرجّحات باب التعارض لوحدة الدليل وعدم جواز الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا مرجّحات باب التزاحم فأجنبي عن هذا المقام.

وممّا ذكرنا ظهر لك أنّ كثيرا من المباحث التي ذكروه في المقام خارج عن محلّ البحث ، مثلا قالوا : إذا دار الأمر بين ضررين لا بدّ من وقوع أحدهما ، فإمّا أن يكون الضرران على شخص واحد أو على شخصين ، وإذا كانا على شخص واحد فإمّا يكونان مباحين أو محرّمين أو مختلفين. فإذا كانا مباحين فله الخيار في ارتكاب أيّهما أراد ، وإن كانا مختلفين يتعيّن عليه ارتكاب ما ليس بحرام ، وإن كانا محرّمين ، عليه أن يختار للارتكاب ما هو أضعف ملاكا ويترك ما هو أقوى بحسب الملاك ، عملا بقواعد باب التزاحم ومرجّحاته.

وأنت تدري أنّ كلّ ذلك خارج عن محلّ البحث ، أعني وقوع التعارض بين‌

٢٤٠