القواعد الفقهيّة - ج ١

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي

القواعد الفقهيّة - ج ١

المؤلف:

آية الله السيّد محمّد حسن البجنوردي


المحقق: مهدي المهريزي
الموضوع : الفقه
الناشر: نشر الهادي
المطبعة: مؤسسة الهادي
الطبعة: ١
ISBN: 964-400-030-7
ISBN الدورة:
964-400-030-7

الصفحات: ٣٨٤

ولو كان من غير أهل المعرفة إذا لم يكن في البين ما يوهن صحّة إخباره ، ولا يعارضها ما في صدر الرواية من قوله عليه‌السلام « لا تشربه » لأنّ شربه على النصف كما ـ هو مفروض السؤال ـ أسقط إخباره عن الحجيّة والاعتبار ، ولا يدلّ على أنّ إخباره من حيث أنّه إخبار ذي اليد ليس بحجّة حتّى يكون منافيا للذيل.

نعم صحيح معاوية بن وهب ـ عن البختج « إذا كان هو يخضب الإناء وقال صاحبه قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فاشربه » (١) ـ ظاهره أنّه يحتاج إلى ضمّ أمارة أخرى إلى الأخبار حتّى تكون حجّة وهي كونه بحيث يخضب الإناء.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ هذا التقييد أيضا يرجع إلى ما ذكرنا في صحيح معاوية بن عمّار من عدم كون موهن لإخباره ، ولا شكّ في أنّ عدم خضبه للإناء موهن لإخباره بذهاب الثلاثين ؛ لوجود ملازمة عاديّة بين ذهاب الثلاثين وبين خضبه للإناء.

نعم يدلّ موثّق عمّار فيمن يأتي بالشراب ويقول هو مطبوخ على الثلث ، فقال عليه‌السلام : « إن كان مسلما ورعا مؤمنا فلا بأس أن يشرب » (٢). وهكذا صحيح ابن جعفر : « لا يصدّق إلاّ أن يكون مسلما عارفا » (٣). على اختصاص الاعتبار بما إذا كان ذو اليد من أهل الإيمان ، بل الأوّل منهما زائدا على ذلك بما إذا كان ورعا.

ولكن الإنصاف أن الصحيحة صريحة ونص في اعتبار قول من ليس من أهل المعرفة فلا مناص إلاّ من حمل هاتين الروايتين على كراهة تصديقه والعمل على طبق إخباره فيما إذا لم يكن ذو اليد مؤمنا ورعا.

ولا يخفى أنّ دلالة هذه الأخبار على حجيّة إخبار ذي اليد في الطهارة والنجاسة‌

__________________

(١) « الكافي » ج ٦ ، ص ٤٢٠ ، باب الطلاء ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٢١ ، ح ٥٢٣ ، باب الذبائح والأطعمة ومار كلّ من ذلك. ، ح ٣٥٨ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٢٣٤ ، أبواب الأشربة المحرمة ، باب ٧ ، ح ٣.

(٢) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١١٦ ، ح ٥٠٢ ، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ من ذلك. ، ح ٢٣٧ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٢٣٥ ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب ٧ ، ح ٦.

(٣) « تهذيب الأحكام » ج ٩ ، ص ١٢٢ ، ح ٥٢٨ ، باب الذبائح والأطعمة وما يحلّ من ذلك. ، ح ٢٦٣ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٧ ، ص ٢٣٥ ، أبواب الأشربة المحرّمة ، باب ٧ ، ح ٧.

١٦١

مبني على نجاسة العصير بعد الغليان وقبل ذهاب الثلاثين ، وإلاّ فلا يدلّ إلاّ على حجيّة إخباره بالنسبة إلى الحليّة ، لا بالنسبة إلى الطهارة التي هي محلّ الكلام.

هذا الذي ذكرنا من الأخبار في حجيّة قول ذي اليد بالنسبة إلى طهارة ما في يده ، مضافا إلى ما ذكرناه في خبر إسماعيل بن موسى عن أبيه ، سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل من سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ فقال : « عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك » (١). من أنّه ربما يدلّ حجيّة إخبار ذي اليد ولو كان كافرا ، فضلا عن أن يكون مسلما.

وأمّا الاستدلال على اعتبار إخبار ذي اليد بالسيرة العمليّة من المسلمين المتديّنين الملتزمين بالشريعة ـ لا من العوام الذين لا يبالون بمخالفة الشريعة والدين ويتّبعون كلّ ناعق ـ فإنّه في محلّه.

ولا شكّ في أنّ المتديّنين إذا أخبر ذو اليد بطهارة طعام يأكلونه ولو كان مستصحب النجاسة ، وكذلك يجتنبون عن أكله بعد إخباره بالنجاسة ولو كان مستصحب الطهارة ، أو مجرى قاعدة الطهارة.

ومعلوم أنّ مثل هذه السيرة والبناء العملي من المتديّنين بما هم متديّنون كاشفة عن الحكم الشرعي ورضاء صاحب الشريعة إذا علم استمرارها إلى زمان المعصوم عليه‌السلام ، ومن المستبعد جدّا استقرار سيرتهم بدون أخذ ذلك منهم عليهم‌السلام ، وعلى فرض وقوع ذلك يجب عليه الردع إظهارا للحقّ وإزاحة للباطل ، وحيث لا ردع في المقام فتدلّ على اعتباره.

الأمر التاسع : في قبول ذي اليد وإقراره لأحد المتنازعين بحيث يجعله المنكر كنفس ذي اليد ويجعل الطرف الآخر مدّعيا.

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٥٨.

١٦٢

وهذا الحكم مسلّم بين الفقهاء ، وإنّما الكلام في وجهه.

فقال بعض : من جهة القاعدة المعروفة ، وهي « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » فإذا أقرّ الغاصب أو غيره ممّن يكون المال بيده لشخص آخر فحيث أنّ هذا الإقرار عليه ، أنفذه الشارع عليه.

ولكن أنت خبير بأنّ مفاد هذه القاعدة ليس إلاّ نفوذ الإقرار على نفس المقرّ لا على غيره ، فإذا أقرّ ذو اليد لشخص بما في يده فهذا الإقرار له جهتان : جهة نفي كون المال لنفسه ـ وهي عليه ونافذ ، ويؤخذ المال منه ـ وجهة إثبات للمقرّ له ، وهذه ليست عليه ، بل على ذلك الطرف الآخر فلا يمكن إنفاذها بهذه القاعدة.

وأمّا ما يقال : من أنّ الظرف لو كان متعلّقا بالإقرار يكون معنى القاعدة أنّ الإقرار الذي صدر من المقرّ وكان عليه فهو جائز ونافذ مطلقا ، سواء أكان بالنسبة إلى الغير له أو عليه. فلو أقرّ ذو اليد بأنّ ما في يده ملك لفلان الذي هو أحد المتنازعين ، فهذا الإقرار نافذ على ذلك الطرف الآخر ولو كان عليه ، لا له ؛ لأنّه إقرار على المقرّ فيكون نافذا وجائزا.

فجوابه أوّلا : أنّ الظاهر من هذا الكلام أنّ الظرف متعلّق بجائز لا بالإقرار ، ووجه تقديمه عليه إفادة الحصر ، لأنّ تقديم ما هو حقّه التأخير يفيد الحصر ، بمعنى أنّ نفوذ إقرار العقلاء وجوازه يكون على أنفسهم لا على غيرهم ، فتأمّل.

وثانيا : على فرض أن يكون متعلّقا بالإقرار لا شكّ في أنّه يضيق الموضوع ويخصّصه ، فيكون حكم الشارع بالنفوذ في إحدى الحصّتين من الإقرار لا على الطبيعة المطلقة ، فتكون النتيجة أنّ الإقرار الذي على المقرّ بما أنّه عليه نافذ وجائز ، فحينئذ إذا كان في الإقرار جهتان : جهة على المقرّ وجهة أخرى ليس عليه ، فالذي يكون نافذا هي الجهة الأولى.

وبعبارة أخرى : حيث أنّ العاقل لا يقرّ على ضرر نفسه بلا جهة وكذبا ، فإذا أقرّ‌

١٦٣

كذلك لا بدّ وأن يكون بداعي بيان الواقع وإظهار الحقّ هذا بالنسبة إلى الجهة التي عليه واضح ، وأمّا بالنسبة إلى الجهة التي ليست عليه ربما يكون الإقرار لدواعي عقلائيّة غير بيان الواقع والإخبار عنه ، فليس في الإقرار أماريّة من هذه الجهة.

وثالثا : قيل إنّ الإقرار لا يطلق عرفا إلاّ على ما يكون على المقرّ ، وأمّا الإخبار الذي ليس على المقرّ سواء أكان له أو لم يكن له ولا عليه لا يسمّى إقرارا ، فبناء على هذا لا يبقى مجال لإرجاع الظرف إلى الإقرار ؛ لأنّه مأخوذ في ماهيّته فيكون التقييد به من قبيل تقييد الشي‌ء بما هو ذاتي له ، كتقييد الإنسان مثلا بكونه ناطقا فلا مناص إلاّ عن تعلّقه بجائز لا بالإقرار.

وقال بعض آخر : من جهة قاعدة « من ملك شيئا ملك الإقرار به ».

بيان ذلك أنّ ذا اليد مالك لأن يملك هذا المال الذي في يده للمقرّ له ، ببيع أو صلح أو هبة أو نحو ذلك ، فيملك الإقرار بأنّه له بهذه القاعدة.

قلت : هذه مغالطة واضحة لأنّه فرق واضح بين أن يقرّ بتمليكه إيّاه ، وبين أن يعترف أنّه له ، والذي هو ـ أي ذو اليد ـ مالك هو تمليكه إيّاه ويكون مستوليا عليه ، لا على أنّ هذا المال له.

وهنا وجه ثالث : وهو أنّ اليد أمارة على أنّ هذا الذي في يده له بالدلالة المطابقيّة ، وأيضا أمارة على نفي كونه لغيره بالدلالة الالتزاميّة ، وأماريّتها تسقط بالنسبة إلى المدلول المطابقي إذا أقرّ لشخص آخر ، وكذا تسقط أماريّتها على نفي الملكية للمقرّ له بسبب إقراره له. وأمّا بالنسبة إلى ما عدا هذين فأماريّتها باقية على حالها ، فإذا أقرّ ذو اليد لأحد المتنازعين المدّعيين لما في يده يسقط اعتبار اليد بالنسبة إلى نفسه والمقرّ له بواسطة إقراره ؛ لأنّ بناء العقلاء على أماريّة اليد فيما إذا لم يكن إقرار من ذي اليد على خلاف أماريّة يده. وأمّا بالنسبة إلى غيرهما تبقى أماريّته على النفي ، فالنتيجة قيام الحجّة على نفي الملكيّة عن ذي اليد وعن غيره ما عدا المقرّ له ، ومعلوم أنّ المال لا يبقى‌

١٦٤

بلا مالك.

وبعبارة أخرى : إنّ هذا المال إمّا للمقرّ له أو لغيره يقينا ، فإذا ثبت بواسطة إقرار ذي اليد أنّه ليس لغير المقرّ له فلا بدّ وأن يكون له ، فيكون هو المنكر وطرفه المدّعي وهو المدّعى في المقام ، وكون المقرّ له هو المنكر وطرفه المدعي يكون هكذا بناء على ما هو التحقيق من أنّ المدّعي من يكون قوله مخالفا للحجّة الفعليّة ، والمنكر من يكون قوله موافقا للحجّة الفعلية.

هذا ما أفاده أستاذنا المحقق العراقي قدس‌سره وهو وإن كان في غاية اللطافة والدقة والمتانة ، لكن يرد عليه : أنّ دلالة اليد على نفي الملكيّة عمّن عدا ذي اليد كان من باب دلالة الالتزام ؛ لأنّ مدلولها ابتداء وبالمطابقة ملكيّة ما في اليد لذيها ، ولازم كونه ملكا لذي اليد نفيه عن غيره أيّ شخص كان ، فإذا بطل أماريّتها بالنسبة إلى الملزوم والمعنى المطابقي لا يبقى مجال لدلالتها على المعنى الالتزامي.

وقياسه بالخبرين المتعارضين في غير محلّه لأنّه هناك في الحقيقة أخبار متعدّدة ، فكما أخبر بالمعنى المطابقي كذلك أخبر بالمعنى الالتزامي. فدليل « صدّق العادل » يشملها جميعا في عرض واحد. ولو كان طوليّة في البين فبين الموضوعات لدليل حجيّة الأخبار ، فبعد تحقق الموضوع ـ ولو كان في طول إخبار الملزوم وبعد تحقّقه ـ يكون مشمولا لدليل الحجيّة في عرض مشموليّة الإخبار بالملزوم.

وأمّا في ما نحن فيه فلا يجري هذا الكلام أصلا ؛ لأنّه ليس هنا أمارات متعدّدة طوليّة حتّى تكون مشمولة لدليل الحجيّة في عرض واحد ، ويكون سقوط حجيّة بعضها غير مضرّ بحجيّة البعض الآخر ، بل ليس هاهنا إلاّ أمارة واحدة ، وهي اليد التي تكون أمارة على ملكية ما فيها لذيها. غاية الأمر حيث أنّ مثبتات الأمارات حجّية فكما أنّ اليد تدلّ على ملكيّة ما فيها لذيها ، كذلك تدلّ بالالتزام على نفيها عن غير ذي اليد ، فإذا بطلت هذه الدلالة المطابقيّة بإقراره لغيره لا يبقى مجال للدلالة التابعة‌

١٦٥

لها. وأين هذا من باب تعارض الخبرين ، وحجيّتهما في نفي الثالث بعد سقوط كليهما عن الحجيّة في مدلولهما المطابقي بواسطة المعارضة؟

وحاصل الفرق بين المقامين أنّ العامّ المشمول لحكم من الأحكام الانحلاليّة لو كان بعض أفراده علّة لوجود فرد آخر من ذلك العامّ ؛ فشمول الحكم لذلك الفرد المعلول في عرض شموله لعلّته ، ولذلك لو خصّص العامّ بالنسبة إلى العلّة لا ينتفي الحكم عن المعلول. نعم لو انتفى ذات العلّة ينتفي ذات المعلول ، فإذا قال : أكرم العلماء ، وفرضنا أنّ وجود زيد العالم علّة لوجود عمرو العالم ، وأخرج زيد العالم عن تحت عموم « أكرم العلماء » بالتخصيص ، فخروجه غير مضرّ بشمول عموم الحكم لعمرو العالم الذي هو المعلول. وباب الخبرين المتعارضين من هذا القبيل ؛ لأنّ الخبرين علّة لوجود خبر آخر الذي هو لازم لهما ، وهو الاخبار بنفي الثالث ؛ فسقوطهما عن الحجيّة بواسطة المعارضة لا يوجب سقوط الخبر المعلول لهما عن الحجيّة.

لكن كلّ ذلك تبعيد للمسافة ، مضافا إلى أنّها دعا وبلا بيّنة ولا برهان ؛ لأنّ أماريّة اليد من باب بناء العقلاء ، فإن كان بناء العقلاء في مورد إقرار ذي اليد لأحد المتنازعين على إثبات الملكيّة له ، فلا يحتاج إلى هذه الدعاوي من سقوط اليد عن الحجيّة في مدلولها المطابقي بواسطة ذلك الإقرار ، وبقاء حجيّتها بالنسبة إلى مدلولها الالتزامي ، أي نفي الملكيّة عن غير المقر له. وإن لم يكن مثل هذا البناء من طرفهم فلا يفيد هذه الدعاوي ، بل تكون دعاوي بلا دليل على إثباتها.

فالأحسن أن يقال : إنّ الدليل على هذا الفتوى المسلّمة بين الأصحاب هو بناء العقلاء على أنّه لو أقرّ ذو اليد على أنّ هذا المال لزيد مثلا يكون له ، سواء أكان منازع ومن يدّعيه في مقابله أم لم يكن.

الأمر العاشر : فيما إذا اعترف ذو اليد لشخص بتمام ما في يده ، ثمَّ اعترف لشخص آخر أيضا كذلك ، والمفروض أنّ ما في يده عين شخصي وقع الإقرار عليها من ذي‌

١٦٦

اليد مرّتين لشخصين ، فنقول :

تارة : يكون الإقرار الثاني بعد الإقرار الأوّل وفي كلام منفصل عن الإقرار الأوّل بمعنى أنّ الإقرار الأوّل تمَّ وخلص ، ثمَّ بعد زمان وفي كلام آخر بل وفي مجلس آخر أقر لشخص آخر بعين ذلك المال.

وأخرى : يعقب الإقرار الأوّل بالإقرار الثاني في كلام واحد وبصورة الإضراب ، كما أنّه لو قال : هذه العين الشخصي لزيد بل لعمرو.

أمّا في الصورة الأولى فالظاهر عدم نفوذ الإقرار الثاني ؛ لأنه وقع على مال الغير ، ولا تجري فيه قاعدة « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » لأنّها ـ أي تلك العين ـ بواسطة الإقرار الأوّل صار ملكا للغير ـ أي المقرّ له فالإقرار الثاني إقرار من الأجنبي بالنسبة إلى مال ، فلا أثر لهذا الإقرار.

ولكن يمكن أن يقال : فرق بين المقامين ؛ لأنّ الأجنبي إذا أقرّ بما هو تحت يد شخص لشخص آخر لا يشمله قاعدة الإقرار ؛ لأنّه ليس عليه بل على غيره الذي هو ذو اليد ، بخلاف ما نحن فيه ؛ لأنّ إقراره الثاني أيضا يكون على ضرره ، من جهة دلالته بالالتزام على أنّه أتلف على المقرّ له الثاني هذا المال بإقراره الأوّل ، فتشمله قاعدة الإقرار. غاية الأمر لا يمكن أخذه بإقراره بالنسبة إلى نفس العين ، لأنّه من هذه الجهة ليس عليه بل على المقرّ له الأوّل ، فليس بنافذ. وأمّا من جهة ماليّته ـ أي مثله إن كان مثليّا ، وقيمته إن كان قيميا ـ فيكون إقراره عليه ويؤخذ به. ومعنى هذا أنّه يغرم للثاني بمثله أو بقيمته لأجل وقوع يده على مال الغير ثمَّ إتلافه عليه بإقراره الأوّل.

وممّا ذكرنا ظهر أنّه في الصورة الثانية أيضا يعطي العين للمقرّ له الأوّل ، ويغرم للثاني بالمثل القيمة بطريق أولى كما هو المشهور ، بل ادّعى جماعة أنّه لا خلاف فيه.

وذلك لأنّه بالإضراب عدل عن إقراره الأوّل ولا يسمع منه ؛ لأنّه إنكار بعد‌

١٦٧

الإقرار ، فلا بدّ من ترتيب آثار الإقرار الأوّل بحكم قاعدة الإقرار ، ويعطي العين للمقرّ له الأوّل ، والغرامة بالمثل أو القيمة للثاني ؛ لما ذكرنا في الصورة الأولى عينا.

ووجه الأولويّة ها هنا : أنّه هناك كان يمكن أن يقال : إنّه بعد إخراج المال عن تحت يده بإقراره للمقرّ له الأوّل في كلام منفصل عن هذا الإقرار الثاني ، يكون الإقرار الثاني من قبيل إقرار الأجنبي ولغوا ، أمّا ها هنا فلا يمكن أن يقال مثل هذه المقالة ؛ لأنّ المفروض أنّ المال بعد في يده ، والكلام متّصل وله أن يلحق بكلامه ما شاء من إضراب أو غير ذلك.

وأمّا ما في الدروس (١) من العلم بانحصار الحقّ فيهما ـ أي المقرّ له الأوّل والثاني ، وحيث أنّ ذا اليد أقرّ لكلّ واحد منهما فأسقط يده عن الاعتبار ـ فيدخل في مسألة التداعي والتحالف.

فقد أورد عليه صاحب الجواهر قدس‌سره بأنّ احتمال السهو وغيره لا ينافي التعبّد بظاهر قوله ؛ لقوله عليه‌السلام : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (٢) فيكون كلا الإقرارين نافذين ، غاية الأمر يعطي العين لأحدهما أي الأوّل لما ذكرنا ، والمثل أو القيمة للثاني (٣).

هذا ، ولكن أنت خبير بأنّه لو لم يكن إجماع في البين يمكن أن يقال : إن حال هذين الإقرارين حال سائر الأمارتين المتعارضتين ، فيتساقطان للعلم بكذب أحدهما ، اللهمّ إلاّ أن يقال في خصوص الإقرار بالسببيّة والموضوعية ، وهو بعيد غاية البعد. فالنتيجة كما قال في الدروس هو العلم بانحصار الحقّ فيهما بعد تساقط الإقرارين ، للعلم بكذب أحدهما وسقوط اليد عن الاعتبار ، فيكون من باب التداعي والنتيجة التحالف والتنصيف ، إلاّ أن نقول بالموضوعيّة في باب الإقرار ما لم يكن العلم التفصيلي‌

__________________

(١) « الدروس » ج ٣ ، ص ١٣٢ ، كتاب الإقرار ، درس (٢٢٣).

(٢) « وسائل الشيعة » ج ١٦ ، ص ١١١ ، أبواب كتاب الإقرار ، باب ٣ ، ح ٢ ؛ « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٢٢٣ ، ح ١٠٤ ؛ وج ٢ ، ص ٢٥٧ ، ح ٥ ؛ وج ٣ ، ص ٤٤٢ ، ح ٥.

(٣) « جواهر الكلام » ج ٣٥ ، ص ١٣١.

١٦٨

على خلاف شخص الإقرار. وأمّا العلم الإجمالي بكذب أحد الإقرارين لا ينافي مع الأخذ بكلّ واحد منهما. وهذا القول لا يخلو من الغرابة.

ثمَّ إنّه من فروع هذه المسألة أنّه لو قال : إنّ هذا المال لزيد بل لعمرو بل لخالد ، يعطي العين لزيد والقيمة أو المثل لعمرو واخرى كذلك لخالد.

ولو قال : لزيد بل لعمرو وخالد ، يعطي العين لزيد والقيمة أو المثل لهما أي لعمرو وخالد بحيث يشتركان في تلك القيمة أو المثل.

ولو قال : لزيد وعمرو بل لخالد ، يعطي العين لزيد وعمرو ويشتركان فيها ، والقيمة أو المثل لخالد وحده.

ولو قال : لزيد وعمرو وبل لخالد ، قال صاحب الجواهر قدس‌سره يعطي لخالد الثلث ويحتمل النصف ؛ لأنّ « بل » للإضراب ، والعطف يقتضي التشريك مع أحدهما ، والأوّل ، أظهر (١).

وفي ما أفاده كلام يطول ذكره.

ثمَّ إنّه لو أقرّ أوّلا بأنّي غصبته من زيد ، ثمَّ عقّبه بقوله : بل من عمرو في كلام متّصل ، كان بصورة الإضراب أم لا ، فالمشهور لم يفرّقوا بين هذه الصورة وبين الصورة السابقة ، أي فيما لم تكن بصورة الغصبيّة ، بل كان الإقرار أنّه له ، وحكموا في كلّ واحدة من الصورتين بإعطاء العين للمقرّ له الأوّل وقيمتها أو مثلها للثاني.

نعم استشكل العلاّمة قدس‌سره في القواعد على هذا الحكم بأنّه فرق بينهما بأنّ الغصب لازم أعمّ بالنسبة إلى الملكيّة ؛ لأنّه يمكن أن يكون من المالك ويمكن أن يكون ممّن عنده أمانة من قبل المالك ، كالمستأجر والمستعير والودعي وأمثالهم. والإقرار باللازم الأعمّ لا يثبت الملزوم الخاصّ ، فليس إقرارا بالملكيّة حتّى يترتّب عليه آثارها ، من إعطاء العين للأوّل والغرامة للثاني ، نعم في الإقرار الأوّل حيث أنّه لا معارض ولا‌

__________________

(١) « جواهر الكلام » ج ٣٥ ، ص ١٣٢.

١٦٩

منافي له فيلزم بإقراره ويعطي العين للمقرّ له وأمّا الإقرار الثاني حيث أنّه بعد إتلاف العين بالإقرار الأوّل لو كان إقرارا بالملكيّة فحينئذ حيث أنّ مرجعه إلى الإقرار بإتلاف مال الغير فيضمن ، أمّا لو لم يكن إقرارا بالملكيّة فلما ذا يضمن؟ (١).

واستشكل عليه صاحب الجواهر قدس‌سره بأنّ مثل هذا الإقرار لو يثبت الملكيّة فلا بدّ من إعطاء الغرامة للثاني ، وإلاّ لا وجه لإعطاء العين للأوّل (٢).

ولكن أنت خبير بأنّ الفرق بينهما في غاية الوضوح ؛ لأنّه في الإقرار الأوّل كما بيّنّا لا يخلو الأمر إمّا يكون من المالك أو من المأذون من قبل المالك ، وعلى كلّ واحد من التقديرين يجب ردّ العين ـ ما دامت باقية ـ إلى المقرّ له. وأمّا في الإقرار الثاني فلا أثر له إلى إعطاء الغرامة والضمان ـ أي البدل الواقعي في التلف الواقعي ـ والحيلولة والغرامة والضمان لا معنى لهما لغير المالك ، والمفروض أنّه في الإقرار الثاني ما أقرّ بمالكيّة المقرّ له ، بل اللازم الأعمّ الذي هو الغصب ، فلا يثبت به الملزوم الخاصّ الذي هي الملكيّة ، فما ذكره العلاّمة قدس‌سره في القواعد في غاية الجودة والمتانة.

الأمر الحادي عشر : هل يجوز الشهادة والحلف مستندا إلى اليد أم لا؟

فنقول : تارة نتكلّم في هذا الأمر باعتبار القواعد الأوّليّة ، وأخرى باعتبار الأخبار الواردة في هذا الباب.

أمّا الأوّل فحيث تقدّم منا في مبحث حجيّة القطع قيام الأمارات والأصول التنزيليّة مقام القطع الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة ، وفي موضوع جواز الحلف ووجوب أداء الشهادة القطع مأخوذ على نحو الطريقيّة ، والكاشفيّة لا الصفتيّة ، بل قلنا إنّنا لم نجد في الشرعيّات موردا يكون القطع مأخوذا في موضوعه على نحو الصفتية ، وقد بيّنا أنّ اليد أمارة فيجوز الحلف والشهادة بالملكيّة مستندا إلى اليد التي هي من الأمارات ، هذا بحسب القواعد الأوّليّة.

__________________

(١) « قواعد الأحكام » ج ١ ، ص ٢٨٦.

(٢) « جواهر الكلام » ج ٣٥ ، ص ١٣٣.

١٧٠

وأمّا بحسب الأخبار الواردة في هذا المقام ، فمن جملة ما يدلّ على الجواز رواية حفص بن غياث ، وفيها : أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن اشهد له؟ قال : « نعم ». فقال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « أفيحلّ الشراء منه؟ » قال : نعم ، فقال عليه‌السلام : « لعله لغيره ، فمن أين جائز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ثمَّ تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه؟ ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك ـ ثمَّ قال عليه‌السلام : ـ ولو لم يجز هذا لما قام للمسلمين سوق » (١). حيث أنّ هذه الرواية صريحة في جواز الشهادة مستندا إلى اليد ، بل وتدلّ على جواز الحلف أيضا مستندا إليها ، بل يستنكر عدم جواز الشهادة مستندا الى اليد ، وأنّه يلزم منه عدم قيام سوق للمسلمين واختلال النظام.

وأمّا الإشكال على الرواية من ناحية ضعف السند.

ففيه أوّلا : أنّ بعض المشايخ ذكر أنّ كتاب حفص بن غياث القاضي الكوفي معتمد ولو هو عامي.

وثانيا : ضعفها منجبر بالشهرة العظيمة ، حتّى ادّعى بعضهم الإجماع في المسألة ، وإن كان الاستدلال في مثل هذه المسألة التي لها مدارك من الروايات وغيرها بالإجماع لا وجه.

وقد ذكرنا هذا الإشكال على الإجماعات المنقولة في موارد متعدّدة ، وسائر في أغلب الإجماعات.

ثمَّ إنّه ذكر بعض السادة قدس‌سره وجه آخر لجواز الشهادة مستندا إلى اليد ، حاصله : أنّ الملكيّة أمر ينتزعها العقلاء من الاستيلاء الخارجي لشخص على مال والشارع امضى هذه الطريقة ، ولا شكّ في أنّ الأمر الانتزاعي معلوميّة بمعلوميّة منشأ انتزاعه ،

__________________

(١) « الكافي » ج ٧ ، ص ٣٨٧ ، باب ( من كتاب الشهادات ) ح ١ ؛ « الفقيه » ج ٣ ، ص ٥١ ، باب فيمن يجب ردّ شهادته. ، ح ٣٣٠٧ ؛ « تهذيب الأحكام » ج ٦ ، ص ٢٦١ ، ح ٦٩٥ ، باب البيّنات ، ح ١٠٠ ؛ « وسائل الشيعة » ج ١٨ ، ص ٢١٥ ، أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ، باب ٢٥ ، ح ٢.

١٧١

فإذا كان منشأ انتزاعه من الأمور المحسوسة كما فيما نحن فيه ، فإنّ الاستيلاء الخارجي الذي هو سبب لانتزاع الملكيّة التي هي إضافة خاصّة بين المالك والمملوك أمر محسوس ، فإذا أدرك السبب حسّا يجوز أن يشهد بالمسبّب.

كما أنّه في سائر الموارد إذا أدرك بالحسّ آثار العدالة أو الاجتهاد ـ وهما من الحالات والملكات النفسانيّة ـ يجوز أن يشهد بهما بواسطة العلم بهذا الأثر المحسوس ، فليكن الأمر في الملكيّة ومنشأ انتزاعها ـ أي الاستيلاء الخارجي ـ أيضا كذلك.

وبعبارة أخرى : الملكيّة تنتزع عن إحاطة ذي اليد بالشي‌ء خارجا ، لأنّها عبارة عن إضافة اعتباريّة بين المالك والمملوك ، حاصلة عن استيلاء الشخص وإحاطته خارجا على شي‌ء قابل لأن يتملّك ، فإذا كان منشأ انتزاعه محسوسا ومشاهدا فقهرا يترتّب المنتزع على منشأ انتزاعه ، فيجوز الشهادة بمقتضى إحساسه ومشاهدته سبب ذلك الأمر الانتزاعي ، أي تلك الإضافة الاعتباريّة ، ضرورة معلوميّة الأمر الانتزاعي بمعلوميّة منشأ انتزاعه.

ولذلك يجوز الشهادة بالملك المطلق ، بمشاهدة أسبابه الشرعيّة كالبيع ونحوه ، مع أنّه من الممكن أن لا يكون ملكا للبائع ، فلا يكون ملكا للمشتري.

والسرّ في ذلك كلّه : هو أنّ السبب في الجميع محسوس ومعلوم بالمشاهدة ، وترتّب المسبّب على السبب علمي.

إن قلت : إحاطة ذي اليد موجب لاختصاص المحاط به فيما إذا لم تكن تلك الإحاطة واقعة على مال الغير ، وإلاّ إذا وقعت على مال الغير فلا يكون سببا لانتزاع الملكيّة ، وذلك الاختصاص الخاصّ ، بل تكون الإحاطة لأحد أمرين : إمّا كونه غاصبا أو كونه أمينا من قبل الله أو من قبل المالك.

قلنا : هذا الاحتمال مدفوع بالأصل. هذا حاصل ما أفاده قدس‌سره.

ولكن أنت خبير بأنّ اليد ليست سببا للملكية ، لا عند العرف ، ولا عند الشرع.

١٧٢

نعم هو سبب إثباتي إذا قلنا بحجيّتها وأماريّتها ، وهذا المعنى موجود في كلّ أمارة عند العقلاء أو الشرع ، ولا اختصاص له باليد أصلا.

والحاصل : أنّ الملكيّة مجعولة في عالم الاعتبار بجعل إمضائي أو إحداثي من قبل الشارع حسب اختلاف الموارد ، فالسبب الموجد لها هو الشارع ، أو العرف والعقلاء وهذا المعنى سار في كلّ أمر اعتباري.

نعم قد يطلق السبب والشرط عند الفقهاء مسامحة على بعض قيود الموضوع ، أو على تمام ما هو الموضوع ، كقولهم : إنّ الاستطاعة سبب أو شرط لوجوب الحجّ ، والعقد الكذائي سبب للملكيّة أو الزوجية ، والإفطار أو الظهار سبب لوجوب الكفّارة ، وهكذا.

ولكن هذا مع أنّه أيضا ليس صحيحا في حدّ نفسه ـ لأنّ هذه الأمور إمّا من قيود موضوع ذلك الحكم الذي يسمّى بالمسبّب ، أو تمام موضوعه ، وليست من باب الأسباب والمسبّبات ـ لا ربط له أيضا بمقامنا ؛ لأنّ اليد ليست من قيود موضوع الملكيّة ولا تمام موضوعها ، بل هي سبب إثباتي لها بواسطة الغلبة عند العرف والعقلاء ، والشارع أمضى طريقيّته ، وأين هذا المعنى من كونها موجبة لانتزاع الملكيّة في موردها؟!

فقد ظهر ممّا ذكرنا جواز الشهادة والحلف مستندا إلى اليد ، لقيامها مقام العلم الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقيّة ولا فرق بين اليد وسائر الأمارات من هذه الجهة ، لا لما ذكره من أنّ اليد منشأ انتزاع الملكيّة فاحساسها كأنّه إحساس الملكيّة.

الجهة السادسة

في تعارضها مع الأمارات والأصول‌

وحيث تقدّم أنّها أمارة ، وأيضا تقدّم أنّ كلّ أمارة مقدّم على كلّ أصل من‌

١٧٣

الأصول بالحكومة ، وإن كانت الأمارة من أضعف الأمارات ، والأصل من أقوى الأصول وكان تنزيليّا كالاستصحاب.

وذكرنا ما هو السرّ في ذلك وأنّه حيث أخذ الشكّ في موضوع كلّ أصل ولو كان محرزا وتنزيليّا مثل الاستصحاب ، وحجيّة الأمارات ـ بناء على ما هو التحقيق ـ من باب تتميم الكشف ، فلا محالة يرفع موضوع الأصل تعبّدا ، وهذا معنى الحكومة كما شرحناها في محلّها مفصلا ، (١) فتقديم اليد على الأصول من جهة كونها أمارة ، وهذا واضح.

وأمّا بالنسبة إلى سائر الأمارات غير البيّنة والإقرار فلا بدّ وأن يلاحظ أوّلا أنّ أماريّتها عند العقلاء هل هي في ظرف عدم كون تلك الأمارات على خلافها أم لا؟

فان كانت مقيّدة بعدمها على خلافها فتسقط عن الأماريّة عند وجود تلك الأمارة الأخرى ، مثلا لو كان الشياع على وقفيّة دار أو دكّان أو محلّ آخر ، ولكن ذو اليد يدّعي الملكيّة ، فبناء على أماريّة الشياع فإن كانت أماريّة اليد على الملكيّة عند العقلاء مقيّدة بعدم الشياع على خلافه ، فقهرا تسقط عن الحجيّة.

وأمّا إذا لم يكن كذلك ، فقهرا يتعارضان ويؤخذ بأقواهما كشفا ، وإلاّ فيتساقطان.

وأمّا بالنسبة إلى إقراره على خلاف مقتضى يده ، كما إذا أقرّ بأنّ هذا المال في يدي ليس لي ، أو أقرّ بأنّه لفلان ، فلا شكّ في أنّ إقراره على نفسه نافذ وتسقط يده عن الاعتبار بالنسبة إلى ملكيّة نفسه ، وقد تقدّم شطر من الكلام في هذا الباب.

وأمّا بالنسبة إلى البيّنة فمن المقطوع تقدّم البيّنة على اليد ، بل حجيّة البيّنة في قبال ذي اليد خصوصا في باب الدعاوي من المسلّمات عند جميع المسلمين ؛ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » (٢) ، وعمله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعمل أصحابه ، وعمل‌

__________________

(١) « منتهى الأصول » ج ٢ ، ص ٥٣٧.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ١٣٨ ، رقم (١).

١٧٤

جميع المسلمين على هذا من أقدم العصور.

الجهة السابعة‌

في أنّه إذا تعدّدت الأيدي على مال واحد فهل أنّها أيضا أمارة على الملكيّة أم لا ، بل أماريّتها مخصوصة بما إذا كانت واحدة ، وإلاّ إذا تعدّدت فكلّ واحدة منها تنفي اعتبار الآخر ؛ لأنّ كلّ واحدة منها تكشف عن ملكيّة تمام ما فيها لذيها ، فيتعارضان ويتساقطان؟

والمشهور بين الفقهاء أنّه إذا تعددت الأيدي على مال واحد فتكون أمارة على ملكيّة كسر من ذلك المال الذي تحت أيديهم بنسبة تلك الأيدي على ذلك المال ، مثلا لو كان ذو اليد اثنين فكلّ يد أمارة على النصف ، ولو كانوا ثلاثة تكون كلّ واحدة من تلك الأيدي أمارة على الثلث ، وهكذا.

وقد استشكل على هذا بأنّ مقتضى حجيّة اليد وأماريّتها إثبات ملكيّة تمام ما في يده ، فالنتيجة كما ذكرنا هي التعارض والتساقط والرجوع إلى الأصول العمليّة إن لم تكن أمارة أخرى في البين ، فلا وجه لإثباتها كسرا ممّا في يده على الترتيب المذكور.

وإن لم تكن حجّة في الفرض المذكور ، أي في صورة تعدّد الأيدي فأيضا لا معنى لإثباتها الكسر المذكور ، فعلى كلّ حال الذي تقتضيه القواعد الأوّليّة خلاف فتوى المشهور.

وقد تخلص بعض عن هذا الإشكال بأنّه : إذا تعدّدت الأيدي على مال واحد فلا يمكن أن يكون كلّ واحدة منها يدا تامّة مستقلّة على جميع ذلك المال ؛ لأنّ اليد كما ذكرنا عبارة عن الاستيلاء الخارجي ، والاستيلاء الخارجي التامّ لا يمكن مع التعدّد ؛ لأنّ الاستيلاء التامّ المستقلّ هي السلطنة على جميع التصرّفات ومنع الغير أيضا عن جميع التصرّفات ، ومعلوم أنّ مثل هذا المعنى لا يمكن تحقّقه بالنسبة إلى المتعدّد ، لأنّه‌

١٧٥

لازم ثبوته لكلّ واحد منهما رفعه عن الآخر.

ففي صورة تعدّد الأيدي لا بدّ وأن نقول بأحد أمرين :

أحدهما : أنّ كلّ يد من تلك الأيدي يد تامّة مستقلّة ولكن على الكسر المشاع بنسبة تعدّد الأيدي ، فإن كانا اثنين فالكسر المشاع لكلّ واحد منهما النصف ، وإن كانوا ثلاثة فالثلث ، وهكذا.

ثانيهما : أنّ اليد لكلّ واحد من الأيدي وإن كانت على المجموع ولكن ليست يدا تامة مستقلّة ، بل يد ناقصة على المجموع ، ولكن عند العقلاء يحسب كاليد التامّة المستقلّة على الكسر المشاع ، ولكن الذي يظهر من بناء العقلاء في مثل هذه الموارد أنّهم يرونهم شركاء شركة قهريّة أو اختياريّة ، ويحكمون لكلّ واحد منهم بالكسر المشاع ، فكأنّه يرون أنّ كل واحد من تلك الأيدي يد تامّة مستقلّة على الكسر المشاع.

وأمّا حديث أنّ اليد عبارة عن الاستيلاء الخارجي ـ وهو إمّا يكون على مجموع هذا المال الخارجي ، أو على جزء معيّن من أجزائه ، وأمّا الجزء المشاع الذي عبّرنا عنه بالكسر المشاع فلا معنى لوقوعه تحتها إلاّ في ضمن وقوع الكل ـ فلا أساس له ؛ لما ذكرنا من أنّ العقلاء يرون أنّ الشركاء ذوي الأيدي على مال معين كدار ، أو دكّان ، أو خان ، أو حمام ، أو غير ذلك كلّ واحد منهم زائد وسلطان على الكسر المشاع على ذلك المال ، فتكون يده أمارة على ملكيّة ذاك الكسر المشاع ، ولذلك إذا كانا اثنين وتصرّف أحدهما في النصف المشاع بالبيع أو الهبة أو غير ذلك لا يرونه متعدّيا ، ويقولون بأنّه تصرّف في ماله.

وأمّا لو باع أو وهب أكثر من النصف يرونه متعدّيا ، إلاّ أن يثبت أنّ ملكه أكثر بإقرار من الشريك أو ببيّنة أو بنحو ذلك من الأدلّة ، وكذلك يرونه متعدّيا لو باع أو وهب نصفه المعيّن ، وكلّ ذلك آية أنّ اليد والاستيلاء على الكسر المشاع ، لا على‌

١٧٦

الجزء المعيّن ، ولا على المجموع ؛ فإذن كانت الأيدي متعدّدة.

وأمّا الفرق بين الكسر المشاع والكلّي في المعيّن ، والآثار المترتّبة على كلّ واحد منهما ، وأنّه هل يتوقّف على إنكار الجزء الذي لا يتجزى أم لا؟ فليس هاهنا ، محلّ بحثه ، وله مقام آخر.

الجهة الثامنة

في أنّ اليد أحد موجبات الضمان إذا كانت على مال الغير بدون

أن يكون مأذونا من قبله ، أو من قبل الله ، أو يكون وليّا على صاحب المال‌

والأصل في ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وعلى اليد ما أخذت حتّى تؤدي » (١). وشهرته بين الفريقين نقلا وعملا يغني عن التكلّم في سنده.

وأمّا دلالتها على الضمان : فمن جهة أنّ الظاهر من هذا الكلام الشريف أنّ الظرف ظرف مستقرّ أعني عامله من أفعال العموم ، لا أنّه ظرف لغو حتّى يكون متعلّقا بأفعال الخصوص ، مثل « يجب » و « يلزم » في المقام ؛ وذلك لجهات :

أمّا أوّلا : فمن جهة أنّه لو كان متعلّقا بأحد هذين الفعلين فلا بدّ من التقدير بمثل الرد والأداء ؛ لأنّه لا معنى لوجوب نفس ما أخذت ولزومها ، لأنّ الحكم التكليفي لا بدّ وأن يتعلّق بأحد أفعال المكلّفين ولا معنى لتعلّقه بالذوات ، ومعلوم أنّ التقدير خلاف الأصل.

وثانيا : لو كان الظرف ظرف لغو وكان متعلّقا بـ « يجب » كان يلزم أن يكون‌

__________________

(١) « عوالي اللئالي » ج ١ ، ص ٢٢٤ ، ح ١٠٦ وص ٣٨٩ ، ح ٢٢ ؛ وج ٢ ، ص ٣٤٥ ، ح ١٠ ؛ وج ٣ ، ص ٢٤٦ ، ح ٢ وص ٢٥١ ، ح ٣ ؛ « مستدرك الوسائل » ج ١٧ ، ص ٨٨ ، أبواب كتاب الغصب ، باب ١ ، ح ٤ ؛ « تفسير أبو الفتوح الرازي » ج ١ ، ص ٧٨٤ ؛ « سنن البيهقي » ج ٦ ، ص ٩٥ ، باب ردّ المغضوب إذا كان باقيا ؛ « سنن ابن ماجه » ج ٢ ، ص ٨٠٢ ، كتاب الصدقات ، باب العارية ، ح ٢٤٠٠.

١٧٧

الحكم مغيى في لسان دليله بإتيان متعلّقه وأمثاله ، وهذا ركيك إلى الغاية.

أنظر هل ترضى من نفسك بأن تقول : يجب عليك إكرامي حتّى تكرمني؟ فكيف ترضى أن تقول : بأنّ معنى الحديث الشريف أنّه يجب على اليد ردّ ما أخذته وأدائه حتّى تؤدّى؟!

هذا كلّه ، مضافا إلى أنّ ظاهر الحديث أنّ نفس ما أخذت على عهدة اليد ، أي المال المأخوذ الذي صار تحت اليد والاستيلاء على عهدة اليد والذي أخذه ، وهذا هو عين الضمان.

وفي معنى الضمان أقوال ، ولكن التحقيق هو أن يقال : إنّ الضمان عبارة : عن كون ما له الماليّة في عهدة الضامن وذمّته ، وحيث أنّ وجود الشي‌ء في العهدة يكون وجودا اعتباريا ؛ لأنّ معنى كونه في العهدة اعتبار العقلاء ذلك فيها ، فكما أنّ الموجود الخارجي لا يمكن أن ينتقل إلى الذهن وإلاّ يلزم الانقلاب المحال ، كذلك لا يمكن أن ينتقل إلى عالم الاعتبار لعين ذلك المحذور ، بل بطريق أولى.

فالظاهر من معنى الحديث أنّ المال الذي وقع تحت اليد العادية على احتمال ، أو يد غير المأذونة على احتمال آخر ، مع أنّه موجود خارجي يعتبر في عهدة الآخذ ومستقرّ وثابت في ذمّته بوجوده الاعتباري ، إلى أن يؤدّي. وغاية الأمر أنّ أداءه ما دام العين موجودة يكون بأداء نفسها ، وبعد التلف إن كان لها مثل فأداؤها بأداء مثلها ، وإن لم يكن لها مثل أو كان ولكنّه متعذّر الأداء ، أو كان لقلّته وغلاء قيمته عند العرف والعقلاء بمنزلة المعدوم ، فأداءه بأداء قيمته.

وممّا ذكرنا يظهر المناط والضابط في المثليّة والقيميّة.

وبعد ما عرفت أنّ ما يقع تحت اليد من الأموال بوجوده الخارجي يعتبر على العهدة بوجوده الاعتباري ؛ لأنّ هذا المعنى هو الظاهر من الحديث الشريف ، فنقول : إنّ ما هو تحت اليد يعتبر فوق اليد بما له من الشؤون والأوصاف والعوارض والألوان ،

١٧٨

كانت تلك الشؤون والأوصاف من الأمور التكوينيّة الخارجيّة أو من الأمور الاعتباريّة ، فكلّ صفة أو لو كان فيما تحت اليد يثبت ويستقرّ على العهدة وما فوق اليد. ولا فرق في ذلك بين أن تكون خصوصيّات العين المغصوبة مثلا من الأمور التكوينيّة الواقعيّة المحمولة بالضميمة. أو من الأمور الاعتباريّة التي لا وجود لها في غير عالم الاعتبار.

وبعبارة أخرى : كما أنّ الأوصاف الخارجيّة للعين تقع تحت اليد يتبع اليد على العين ، ويضمن الغاصب تلك الأوصاف كضمانه لنفس العين ، كذلك الأوصاف الاعتباريّة التي للعين أيضا تقع تحت اليد ، ويضمن ذو اليد تلك الأوصاف كضمانه لنفس العين.

إذا عرفت ذلك فنقول : في باب تعاقب الأيدي الذي يقع تحت اليد الأولى ليس إلاّ نفس العين بصفاتها الخارجية التكوينيّة ، ولذلك لا يضمن الآخذ الغاصب مثلا إلاّ نفس العين بتلك الصفات الخارجيّة للمالك ، ولا يضمن لشخص آخر ، ولذلك لا يرجع إليه إلاّ المالك.

وأمّا اليد الثانية فالذي يقع تحت يده ليس هو العين بصفاتها التكوينيّة الخارجيّة فقط ، بل بزيادة صفة اعتبارية ، وهي أنّها مضمونة على اليد الأولى ؛ ولذلك يضمن ذو اليد الثانية لشخصين : أحدهما المالك ، والثاني ذو اليد الأولى ، بمعنى أنّ المالك لو رجع إلى ذي اليد الأولى فله أن يرجع إلى اليد الثانية ، وهكذا يكون الأمر في اليد الثالثة والرابعة ولو إلى الألف.

إن قلت : كيف يمكن أن يكون الشخص بالنسبة إلى مال واحد ضامنا لشخصين؟ وأن يكون لذلك الواحد بدلان؟

ولعله لذلك التجأ بعض المحقّقين إلى إنكار تعدّد الضمان في مورد تعاقب الأيدي ، وقال : إنّ الضمان يكون على من بيده التلف ، وأمّا في سائر الأيدي فليس إلاّ حكم‌

١٧٩

تكليفي فقط ، ولا ضمان في البين.

وبعض آخر التزم بأنّ للأيدي المتعدّدة لجميعها ضمان واحد ، وأنّ البدل الواحد له إضافة إلى الكلّ كما يقولون : بأنّ الكلّي الطبيعي وجوده بالنسبة إلى وجود الأفراد ، نسبة أب واحد إلى أبناء متعدّدة ، وإن كان هذا القول مردود هناك وهاهنا.

قلت : إنّ ضمانه لشخصين أو أكثر ليس ضمانا عرضيّا حتّى ترد هذه الإشكالات ، بل هو طولي في كلّ واحد منها.

بيان ذلك : بعد ما عرفت أنّ العين تقع تحت اليد بجميع خصوصيّاتها وأوصافها الواقعيّة التكوينيّة والاعتباريّة ، فاليد الأولى ـ كما ذكرنا ـ لا يقع تحتها إلاّ العين بصفاتها وخصوصيّاتها التكوينيّة ، وأمّا اليد الثانية فالواقع تحتها هي العين بتلك الصفات الخارجيّة والخصوصيّات التكوينيّة ، بإضافة أنّها مضمونة على اليد الأولى ، فهي ضامنة للمالك بالنسبة إلى العين وصفاتها الخارجيّة ، ولليد الأولى بالنسبة إلى ضمانها وخسارتها للمالك ، بمعنى أنّ المالك لو رجع إلى اليد الأولى وأخذ منها البدل ، فاليد الثانية عليها تلك الخسارة.

ولكن أنت خبير بأنّ هذا الضمان ليس في عرض ذلك الضمان الأوّل ؛ لأنّ ضمان ضمان الشي‌ء ليس في عرض ضمان الشي‌ء ، بل هو متأخّر عنه فلا يبقى مجال لذلك الإشكال ، أي إشكال الضمان لشخصين بالنسبة إلى مال واحد ؛ لأنّه ليس ضمانان لمال واحد مرّتين : مرّة لهذا الشخص ، ومرّة أخرى لشخص آخر ، بل أحدهما ضمان نفس المال ، والآخر ضمان ذلك الضمان الأوّل ؛ فاليد الأولى ضامنة لنفس العين المأخوذة فقط ، واليد الثانية ضامنة للعين المأخوذة.

ومن هذه الجهة للمالك أن يرجع إليه وضامنة لضمان اليد الأولى ، ومن هذه الجهة لليد الأولى أن يرجع إليه إذا رجع المالك إليها وخسرت للمالك.

فليس لنفس العين إلا ضمان واحد على البدل ، بمعنى أنّ المالك له أن يرجع إلى‌

١٨٠