دروس في الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٧

١

٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

أما بعد : فهذا كتابنا «دروس في الكفاية» في شرح الجزء الثاني من «كفاية الاصول» في المباحث العقلية ، للاستاذ الاعظم المحقق الكبير الآخوند محمد كاظم الهروي المعروف بالخراساني «قدّس سرّه».

نسأل الله التوفيق لإتمامه ، فإنّه ولي ذلك وهو المستعان.

محمديّ البامياني

دمشق ـ السّيدة زينب ـ الحوزة العلمية الزينبيّة

في ١٥ ربيع الاول ـ سنة ١٤٢٢ هجرية

٥
٦

المقصد السادس

في بيان الأمارات المعتبرة عقلا أو شرعا

٧
٨

المقصد السادس (١)

في بيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا (٢)

وقبل الخوض في ذلك (٣) ، لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام (٤) ، وإن كان خارجا من مسائل الفن (٥) ، وكان ...

______________________________________________________

(١) لمّا كان المقصد السابع في الأصول العملية ، فلا بأس ببيان الفرق بين الأمارات والأصول العملية ، فيقال : إن ما له جهة كشف وحكاية عن الواقع هو أمارة سواء كانت معتبرة كخبر الثقة ، أم لم تكن معتبرة كخبر الفاسق مثلا.

وما ليس له جهة كشف وحكاية عن الواقع أصلا ؛ بل كان مجرد وظيفة للجاهل في ظرف الشك والحيرة كقاعدتي الطهارة والحل ، وأصالة البراءة ، أو كانت له جهة كشف وحكاية ؛ ولكن الشارع لم يعتبره من هذه الجهة ـ كما قيل ذلك في الاستصحاب والتجاوز والفراغ ـ فهو أصل عملي.

أو يقال : إن الفرق بينهما ـ بعد كون الجميع وظائف مقررة للجاهل في وعاء الجهل بالواقع ـ أن الأول لم يؤخذ الجهل والشك في لسان دليله. والثاني قد أخذ ذلك في لسان دليله ، كما في قوله : «كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر» ، أو «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام» ، أو «لا ينقض اليقين بالشك» إلى غير ذلك من الأصول العملية.

(٢) أي : مثل حجيّة الظن الانسدادي بناء على الحكومة.

ثم ما كان معتبرا شرعا على قسمين :

أحدهما : أن يكون تأسيسيّا ؛ كجعل الحجيّة لخبر العادل مثلا.

وثانيهما : أن يكون إمضائيّا مثل حجيّة خبر الثقة الذي يكون حجة عند العقلاء.

(٣) أي : في بيان الأمارات المعتبرة شرعا.

(٤) أي : كالبحث عن كون حجيّته ذاتية أو مجعولة ، وكونه حجة مطلقا ، أو فيما إذا كان مطابقا للواقع فقط.

(٥) أي : عن مسائل علم الأصول. وتوضيح خروج مبحث القطع عنها يتوقف ـ

٩

.................................................................................................

______________________________________________________

على مقدمة وهي : أن المسائل الأصولية ـ على ما هو مختار المصنف كما تقدم ـ في أوّل الكتاب ـ على قسمين :

الأول : أن المسألة الأصولية تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي الفرعي ، كبحث حجيّة خبر الواحد ، حيث أن نتيجة البحث هي الحجيّة ، فتقع في طريق الاستنباط ، فيقال : إن هذا ما دل خبر العادل على وجوبه ، وكل ما دل خبر العادل على وجوبه فهو واجب ، فهذا واجب.

وبعبارة أخرى : المسألة الأصولية يصحّ جعلها كبرى للصغريات الوجدانية حتى تنتج الحكم الفرعي مثل أن يقال : هذه مقدمة الواجب ، وكل مقدمة الواجب واجبة ، فهذه واجبة.

الثاني : ما ينتهي إليه الفقيه في مقام العمل ؛ كالاستصحاب والبراءة ونحوهما مما يعمل بها عند اليأس عن الدليل الاجتهادي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن أحكام القطع ليست كذلك ، أي : لا تقع في طريق الاستنباط ، ولا ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل.

وأما عدم كونها من القسم الأول : فلأنه لا يصح أن يقال : الخمر معلوم الحرمة ، وكل معلوم الحرمة حرام ، فالخمر حرام ؛ إذ يلزم منه كون الشيء سببا لنفسه لأنه صار العلم بحرمة الخمر سببا للعلم بحرمة الخمر.

وإن عكست وقلت : هذا معلوم الخمرية ، وكل معلوم الخمرية حرام ، فهذا حرام يلزم أن يكون العلم جزء الموضوع ، ويكون التحريم عارضا على معلوم الخمرية لا على نفس الخمر ، وهو خلف ؛ لأن التحريم يعرض نفس الخمر حيث قال الشارع : الخمر حرام كما في قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ)(١) ، يعني : يجب الاجتناب عن الخمر لا عن الخمر المعلوم.

فالمتحصل : أنه يلزم من جعل مسائل القطع كبرى أحد المحذورين ، إما اتحاد السبب والمسبب ، وإمّا الخلف ، وكلاهما محال وباطل.

وأما عدم كونها من القسم الثاني : فلأن هذه المباحث ليست مما ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل بعد الفحص والبحث عن الأدلة الاجتهادية ؛ لأن حجيّة القطع ليست منوطة بالفحص والبحث عن الدليل الاجتهادي ، بخلاف ما ينتهي إليه الفقيه كالاستصحاب

__________________

(١) المائدة : ٩٠.

١٠

أشبه (١) بمسائل الكلام ؛ لشدّة مناسبته مع المقام.

فاعلم : أن البالغ الذي وضع عليه القلم (٢) : إذا التفت إلى حكم فعلي (٣) واقعي (٤) أو ظاهري ، متعلق به أو بمقلديه ، فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا ، وعلى

______________________________________________________

والبراءة والتخيير والاحتياط ، حيث إنها كلها تتوقف على الفحص واليأس عن الدليل الاجتهادي. فالنتيجة : أن بحث القطع خارج عن المسائل الأصولية.

(١) توضيح كون بحث القطع أشبه بمسائل الكلام : يتوقف على مقدمة وهي : أن المسائل الكلامية مرتبطة بأحوال المبدأ والمعاد ، ومن أحوال المبدأ والمعاد : أن الله تعالى ـ وهو المبدأ والمولى الحقيقي ـ يثيب عباده على الإطاعة والانقياد ، ويعاقبهم على العصيان والمخالفة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه يبحث في القطع عما يترتب على فعل المقطوع به أو تركه من استحقاق الثواب والعقاب.

ومن الواضح : أنّ البحث عن ذلك من المسائل الكلامية ، فحينئذ تعبير المصنف بالأشبه لا يخلو من المسامحة ، بعد وضوح كون بحث القطع من المسائل الكلامية.

إلّا أن يقال : إن مسائل الكلام ليست عبارة عن مطلق المسائل العقلية ؛ بل ما يرتبط بالعقائد ، ومن الواضح : أن مسائل القطع ليست مما يرتبط بالعقائد ، فكان بحث القطع أشبه بمسائل الكلام لا نفسها.

وإنما ذكر بحث القطع في الأصول ـ مع أنّه ليس منه ـ «لشدة مناسبته مع المقام» ، فقوله : «لشدة ...» الخ تعليل لقوله : «لا بأس».

أمّا وجه المناسبة : فلاشتراك الأمارات مع القطع في الطريقيّة ، وفي جواز إحراز الوظيفة من الفعل أو الترك.

وأما شدّة المناسبة : فلأن المقصود بالأصالة في المقصد السادس هو : البحث عن الأمارات المعتبرة ، كما أن المقصود في المقصد السابع هو البحث عن الأصول العملية ، وهما حجتان لمن لا قطع له ، فناسب أن يبحث أولا عن أحكام القطع ، ثم عن أحكام ما ليس فيه القطع ، وأضربنا عن تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

(٢) أي : قلم التكليف.

(٣) أي : لا ما إذا التفت إلى الحكم الاقتضائي أو الإنشائي ، فإنه لا يوجب الالتفات إليهما شيئا.

(٤) وهو الحكم الثابت للعناوين من حيث هي هي ، والحكم الظاهري هو الحكم الثابت للعناوين بوصف كونها مشكوكة ؛ كالحليّة الثابتة على الشيء المشكوك حكمه

١١

الثاني : لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل من اتّباع الظن لو حصل له ، وقد تمت مقدمات الانسداد ـ على تقدير الحكومة ـ وإلا فالرجوع إلى الأصول العقلية من البراءة والاشتغال والتخيير ، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

الواقعي من الحرمة والحلية.

وقد عدل المصنف عما في رسائل الشيخ الأنصاري إلى ما هو الموجود في المتن.

فلا بد من الكلام في وجه عدول المصنف حيث عدل من «المكلف» إلى «البالغ» ، ومن «حكم شرعي» إلى «حكم فعليّ واقعي أو ظاهري» ، ومن التقسيم الثلاثي إلى التقسيم الثنائي ، أو ثلاثي آخر.

فنقول : إن توضيح وجه العدول يتوقف على مقدمة وهي : بيان الفرق بين ما في كلام الشيخ «قدس‌سره» وما في كلام المصنف «قدس‌سره» والفرق بينهما بوجهين :

أحدهما : أن المراد من المكلف في ظاهر كلام الشيخ «قدس‌سره» هو المكلف الفعلي ، فلا يصح تقسيمه إلى جميع الأقسام التي منها الشاك في الحكم الواقعي ، غير المنجز الذي تجري فيه البراءة ؛ لأن الشّاك في الحكم ليس مكلّفا فعليا ، مع أن مقتضى التقسيم الثلاثي هو : وجود المقسم في جميع الأقسام ؛ بأن يكون كل قسم عين المقسم مع زيادة قيد. هذا بخلاف البالغ لشموله جميع الأقسام.

وثانيهما : أن متعلّق القطع في كلام المصنف أعم من الحكم الواقعي والظاهري ، وفي كلام الشيخ «قدس‌سره» مختص بالحكم الواقعي بعد اشتراكهما في كون الحكم فعليا ؛ لعدم ترتب شيء من أحكام القطع ولا الظن ولا الشك على الحكم الإنشائي الذي لم يبلغ مرتبة الفعلية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه قد عدل المصنف عما في كلام الشيخ «قدس‌سره» بوجوه : أولها وثانيها : راجعان على بيان وجه العدول عن التقسيم الثلاثي إلى الثنائي ، وثالثها : راجع على وجه العدول عن تثليث الشيخ إلى تثليث آخر.

وأما الوجه الأوّل : فلما عرفت في المقدمة من عدم صحة تقسيم المكلف الفعلي إلى جميع الأقسام التي منها الشاك في الحكم الواقعي ، فلا بد من جعل التقسيم ثنائيا وهو أنه إما قاطع بالحكم أو لا ، «وعلى الثاني : لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل ...» الخ.

وأما ثانيها : فما أشار إليه بقوله : «وإنما عمّمنا متعلق القطع» إلى قوله : «وخصصنا بالفعلي» وحاصله : أنه لا وجه لتخصيص متعلق القطع بالحكم الواقعي ؛ بل لا بد من تعميمه للواقعي والظاهري ؛ لأن الحكم الظاهري الثابت في موارد الأمارات والأصول

١٢

وإنما عمّمنا متعلق القطع ؛ لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلقا بالأحكام الواقعية ، وخصصنا بالفعلي ؛ لاختصاصها بما إذا كان متعلقا به ـ على ما ستطلع عليه ـ ولذلك عدلنا عما في رسالة شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» من تثليث الأقسام.

______________________________________________________

العملية يندرج في الحكم المقطوع به.

هذا مع اختصاص الحكم بالفعلي ؛ لأن القطع بغيره ـ سواء كان اقتضائيا أم إنشائيا ـ لا يترتب عليه أثر فضلا عن الظّن به أو الشك فيه. ولذا يقول المصنف : «ولذلك عدلنا ...» الخ أي : لأجل ما ذكر من تعميم متعلق القطع للحكم الواقعي والظاهري وتخصيصه بالفعلي ـ «عدلنا عما في رسالة شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه»» ـ من تثليث الأقسام.

وحاصل الكلام : أن وجه العدول عن تثليث الشيخ «قدس‌سره» للأقسام إلى تثنيتها هو : عموم أحكام القطع من جهة ، واختصاصها بالحكم الفعلي من جهة أخرى.

وأما ثالثها : فما أشار إليه بقوله : «وإن أبيت إلا عن ذلك» أي : وإن أبيت التقسيم إلا عن كونه ثلاثيا بدعوى : أنه أقرب إلى الاعتبار العرفي المأخوذ من الحالة الوجدانية ، فيكون المراد بالحكم خصوص الحكم الواقعي الذي هو مورد للحالات الثلاث : ١ ـ القطع ، ٢ ـ الظن ، ٣ ـ الشك ، فيتم تثليث الأقسام ، «فالأولى أن يقال : إن المكلف ...» الخ.

وحاصل الأولوّية : أنه بناء على تثليث الشيخ الأعظم «قدس‌سره» يلزم تداخل موارد الأمارات والأصول العملية ؛ وذلك لأن الشيخ «قدس‌سره» قد جعل ملاك الرجوع إلى الأمارات هو الظن ، وملاك الرجوع إلى الأصول العملية هو الشّك ، مع أن الأمر ليس كذلك ؛ بل المعيار في الرجوع إلى الأصول العملية هو : عدم الدليل المعتبر وإن حصل الظن بالحكم الواقعي من أمارة غير معتبرة لا خصوص الشك المتساوي طرفاه.

هذا بخلاف تثليث المصنف ، فإنّه لا يلزم منه تداخل أصلا ؛ لأن المعيار في الرجوع إلى الأمارة ـ كخبر العادل ـ هو الدليل المعتبر لا الشك ، فلا يتداخل شيء من موارد الأمارات في شيء من موارد الأصول العملية.

فالمتحصل : أن المصنف إنما نهج هذا النهج في التقسيم الثلاثي فرارا عن محذور التداخل الثابت في تثليث الشيخ «قدس‌سره» هذا خلاصة الكلام في المقام ، وتركنا ما في المقام من تطويل الكلام رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» و «الوصول إلى كفاية الأصول» :

١٣

وإن أبيت إلا عن ذلك ، فالأولى (١) أن يقال : إن المكلف إما أن يحصل له القطع أو لا ، وعلى الثاني : إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا ؛ لئلا يتداخل (٢) الأقسام فيما

______________________________________________________

قوله «لا بد من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتباع الظن لو حصل له ، وقد تمت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة» إشارة إلى انتهاء البالغ إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن وهو مشروط بثلاثة أمور :

أحدها : حصول الظن له.

ثانيها : تمامية مقدمات انسداد بالعلم والعلمي.

ثالثها : كون تماميتها على نحو يحكم العقل باعتبار الظن ؛ لا أن يكشف عن حكم الشارع باعتباره ، فإذا انتفى أحد هذه الأمور لم ينته إلى الظن ؛ بل يرجع إلى الأصول العقلية كما أشار إليه بقوله : «وإلا فالرجوع إلى الأصول العقلية» يعني : وإن لم تتم مقدمات الانسداد أو تمت ولم يحصل الظن ، وأما لو حصل الظن بعد تماميتها ـ على تقدير الكشف لا الحكومة ـ كان الظن بمنزلة القطع ؛ إذ هو قطع بالحكم الظاهري وكيف كان ؛ فهنا احتمالات :

الأول : أن تتم مقدمات الانسداد ويحصل الظّن على الحكومة ، وعليه : فاللازم اتباع هذا الظن لحكومة العقل بحجيّته عند التعذر عن القطع.

الثاني : أن تتم مقدمات الانسداد ويحصل الظن على الكشف وهذا داخل في القسم الأول المذكور في كلام المصنف أعني : القطع بالحكم ؛ لأنه قطع بالحكم الظاهري.

الثالث : أن تتم مقدمات الانسداد ولم يحصل الظن ، وهذا داخل في الشك بالحكم الذي يكون المرجع فيه الأصول العملية.

وقيد الأصول بالعقلية حيث قال : «وإلا فالرجوع إلى الأصول العقلية» ؛ لأن الأصول الشرعية داخلة في القسم الأول ؛ لأن بها يحصل العلم بالحكم الشرعي الظاهري ، بخلاف الأصول العقلية إذ ليس في موردها إلا الحكم العقلي من الاشتغال والتخيير والبراءة.

(١) وقد عرفت أولوية تثليث المصنف على تثليث الشيخ ، فلا حاجة إلى التكرار.

(٢) إذ على تقسيم الشيخ «قدس‌سره» يتداخل حكم الظن والشك ؛ إذ جعل الشيخ «قدس‌سره» مجرى الأصول مختصا بصورة الشك ، ومحل الأمارات في صورة الظن ، مع العلم بأن الظن الذي لا يعتبر شرعا كان حكمه حكم الشك ، فيجب الرجوع فيه إلى الأصول. فقد حصل التداخل في حكم الشك والظن الغير المعتبر.

١٤

يذكر لها من الأحكام ، ومرجعه على الأخير (١) إلى القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير القاطع ، ومن يقوم عنده الطريق على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى حسبما يقتضي دليلها (٢).

وكيف كان (٣) ؛ فبيان أحكام القطع وأقسامه يستدعي رسم أمور :

______________________________________________________

(١) أي : المكلف الذي لم يحصل له القطع ، ولا الطريق المعتبر. أي : مرجع المكلف على هذا الفرض إلى القواعد الثابتة عقلا ؛ كالبراءة بمناط قبح العقاب بلا بيان. «أو نقلا» كالبراءة بمناط عدم العلم بالحكم الواقعي.

(٢) أي دليل تلك القواعد ، حيث إن دليل أصالة البراءة يقتضي الرجوع إليها في مورد الشك في نفس التكليف ، ودليل أصالة الاشتغال يقتضي الرجوع إليها في مورد الشك في المكلف به أو في الفراغ وهكذا.

(٣) أي : سواء كان التقسيم ثنائيا أو ثلاثيا ، فبيان أحكام القطع يستدعي رسم أمور سبعة.

في حجيّة القطع وطريقيّته إلى الواقع

فيقال : القطع طريق ـ القطع حجة ، وقد تعرّض الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» لكلا الأمرين حيث قال : «لا إشكال في وجوب متابعة القطع» ، هذا إشارة إلى حجية القطع. إلى أن قال : «لأنه بنفسه طريق إلى الواقع ، وليست طريقيته قابلة لجعل الشارع إثباتا ونفيا». هذا بيان لطريقيته.

إلا إن المصنف اكتفى بذكر حجية القطع بقوله : «لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا» ، ولعل ذلك لوضوح : أن طريقيّة القطع ذاتية إما بذاتي باب الإيساغوجي أو البرهان ؛ لأن الانكشاف عن الواقع إما نفس ماهية القطع ؛ بحيث لا يرى القاطع إلا الواقع المنكشف وإما لازم لماهيته.

وعلى الأول : كانت طريقيته ذاتية بذاتي باب إيساغوجي ، وعلى الثاني : كانت ذاتية بذاتي باب البرهان ؛ كالزوجية بالنسبة إلى الأربعة. وعلى التقديرين : لا تكون طريقيته قابلة للجعل لا إثباتا ولا نفيا. أما الأول : فلأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري. وأما الثاني : فلأن سلب الشيء عن نفسه مستحيل ، هذا على تقدير كون الطريقية ذاتية بذاتي باب الإيساغوجي.

وأما على تقدير كونها ذاتية بذاتي باب البرهان : فلأن ثبوت لازم الشيء له ضروري ، وسلبه عنه مستحيل.

١٥

الأمر الأول :

لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع ولزوم الحركة على طبقه جزما ،

______________________________________________________

هذا خلاصة الكلام في طريقية القطع حيث تكون ذاتية غير قابلة للجعل أصلا.

فيقع البحث في حجّية القطع ويقال : إن الحجية على أقسام : الحجية بالمعنى المنطقي ، والحجية بالمعنى الأصولي ، والحجية بالمعنى اللغوي.

إذا عرفت هذه الأقسام فاعلم : أن ما يصح إطلاقه هو الحجة بالمعنى اللغوي لا بالمعنى المنطقي ولا بالمعنى الأصولي ؛ لأن الحجة بالمعنى اللغوي : عبارة عن كل ما يصلح أن يحتج به من دون فرق بين احتجاج المولى على العبد أو العبد على المولى ، أو احتجاج شخص على شخص آخر. ومن الواضح : أن القطع من أوضح ما يصح أن يحتج به عقلا بعد حصول القطع بالتكليف.

فالحجية بالمعنى اللغوي من الأحكام العقلية الصادرة من العقل في مورد القطع بحكم المولى وهو وجوب متابعة القطع ولزوم العمل على وفقه ، كما أشار إليه المصنف بقوله : «لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا» ، ومثل ذلك لا يكون مجعولا شرعيا لاستغنائها عن الجعل بعد استقلاله بصحة الاحتجاج.

وكيف كان ؛ فحجية القطع وإن لم تكن ذات القطع ولا ذاتياته إلّا إنها تكون من لوازمه الذاتية ، فهي غير مجعولة شرعا ؛ لضرورة ثبوت لوازم الذات كالذاتيات من الأمور الضرورية غير قابلة للجعل أصلا.

وأما عدم إطلاق الحجة بالمعنى المنطقي على القطع : فلأن الحجة المنطقية عبارة عن الوسط الذي يوجب العلم بثبوت الأكبر للأصغر ، ولا بد أن تكون بين الأوسط والأكبر علاقة العلية والمعلولية ، ويكون الأوسط واسطة في الإثبات دائما ، ومع ذلك قد يكون واسطة في الثبوت أيضا ، فالبرهان لميّ إن كان الأوسط علّة للأكبر ، وإنّي أن كان الأمر على عكس ذلك.

ومن المعلوم : إن القطع الطريقي لا يتصف بالحجية ، بهذا المعنى ؛ لأن المفروض : أن الحكم مترتب على الموضوع بما هو هو لا بما أنه مقطوع ، فلا يصح أن يقال : هذا مقطوع الخمرية وكل مقطوع الخمرية حرام فهذا حرام ؛ لأن الكبرى كاذبة لأن الحرام هو الخمر لا مقطوع الخمرية.

وأما عدم إطلاق الحجة بالمعنى الأصولي على القطع : فلأن الحجة الأصولية عبارة عن الأدلة الشرعية التي اعتبرها الشارع حجة لإثبات متعلقاتها ، من دون أن تكون هناك

١٦

وكونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذّم والعقاب على مخالفته ، وعذرا فيما أخطأ قصورا ، وتأثيره في ذلك (١) لازم ، وصريح الوجدان به شاهد وحاكم ، فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان.

______________________________________________________

ملازمة بينها وبين متعلقاتها ؛ كالظن والبينة ونحوهما. والحجة بهذا المعنى من خصائص الأمارات الظنيّة المعتبرة شرعا. ولا تطلق على القطع لعدم حاجة إلى جعل الشارع في العمل بالقطع ؛ إذ عرفت أن طريقيته ذاتية تامة عند القاطع ، وحجّيته عقلية فليس من الأدلة الشرعية التي اعتبرها الشارع حجة لإثبات متعلقاتها.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» و «الوصول إلى كفاية الأصول» :

قوله : «عقلا» قيد لقوله : «وجوب العمل». وقوله : «ولزوم الحركة» عطف تفسير على قوله : «وجوب العمل على وفق القطع عقلا» ، فمعنى وجوب العمل على وفق القطع هو : لزوم الحركة على طبقه جزما بمعنى : لزوم ترتيب آثار المقطوع بمجرد القطع ، مثلا : إذا قطع بوجود الأسد حكم العقل بلزوم الفرار منه.

وقوله : «وكونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي» ـ لا الشأني والاقتضائي ـ عطف على وجوب العمل «وعذرا» عطف على «موجبا» بمعنى : معذرا.

(١) أي : وتأثير القطع في وجوب العمل على طبقه لازم لا ينفك عنه ، «وصريح الوجدان» بلزوم العمل على وفقه شاهد وحاكم.

وحاصل الكلام : أن صريح الوجدان شاهد على أن القطع بالوجوب أو الحرمة مثلا يحرك القاطع نحو الفعل في الأول أو الترك في الثاني ؛ بحيث يرى نفسه مذموما على مخالفة قطعه ومأمونا من الذم والعقوبة عند موافقته ، من غير فرق في ذلك بين أقسام القطع وأسبابه ، خلافا لجمع من المحدثين. على ما نسب إليهم. من عدم اعتبار القطع الحاصل من المقدمات العقلية ؛ لكن هذا الخلاف على تقدير صحة النسبة إليهم في غاية الضعف.

وكيف كان ؛ فظاهر كلام المصنف : أن للقطع أثرين عقليين أحدهما : وجوب متابعته وثانيهما : منجّزيته بمعنى : استحقاق العقاب على مخالفته ، والنسبة بين الأثرين هي عموم مطلق ؛ إذ لزوم العمل والحركة على وفق القطع أعم من منجزيته بحجيته ؛ لأن الحجية التي تترتب عليها المنجزية والمعذريّة ثابتة لبعض أفراد القطع أعني : القطع المطابق للواقع أو المخطئ عن قصور دون المخطئ عن تقصير ، بخلاف لزوم العمل على طبقه حيث إنه ثابت لكل فرد من أفراده.

١٧

ولا يخفى : أن ذلك (١) لا يكون بجعل جاعل ؛ لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشيء ولوازمه ؛ بل عرضا يتبع جعله بسيطا.

______________________________________________________

في امتناع جعل حجيّة القطع

(١) أي : وجوب العمل على وفق القطع : لا يكون بجعل جاعل ...» الخ. والمقصود من هذه العبارة : إثبات امتناع جعل حجية القطع إثباتا ونفيا.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : إن الجعل على قسمين :

أحدهما : هو الجعل البسيط.

وثانيهما : هو الجعل المركب والتأليفي.

والفرق بينهما : أن الأول : هو الإيجاد بمفاد «كان» التامة ، فمعنى جعل شيء : هو إيجاده والثاني : هو الإيجاد بمفاد «كان» الناقصة بمعنى جعل شيء لشيء.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن القطع وإن كان مجعولا بالجعل البسيط ضرورة : كونه حادثا لا قديما إلا إن الجعل البسيط ليس موردا للبحث ، وإنما الكلام في الجعل التأليفي أعني : جعل الحجية للقطع ، ولا يتحقق ذلك إلا في الأعراض المفارقة والمحمولات غير الضرورية ؛ كجعل زيد عالما ، وجعل جسم أبيض ، ولا يتصور في اللوازم الذاتية والمحمولات الضرورية ؛ إذ لا يعقل الجعل التركيبي بين الشيء ولوازمه الذاتية كالنار والإحراق والأربعة والزوجية ، وقد عرفت : أن حجية القطع كانت من لوازمه الذاتية ، فلا تكون بجعل جاعل لا إثباتا ولا نفيا ؛ لما عرفت من : أن ثبوت لازم الشيء له ضروري ، وسلبه عنه مستحيل.

ومن هنا يظهر امتناع المنع عن حجيّة القطع ؛ وذلك لاستحالة المنع عن الأثر الذاتي وهو معنى قولهم : القطع حجة بنفسه لا تناله يد الجعل لا نفيا ولا إثباتا.

ثم إن تأثير القطع في تنجّز التكليف به عند الإصابة وعذريته عند الخطأ عن قصور حيث كان لازما ذاتيا له صحّ أن يقال : إن القطع حجة ذاتا.

وحيث إن الأثر مما يدركه بنفسه أو يحكم بنفسه بلزوم ترتبه على المقطوع ، من غير حاجة تصريح الشرع به صح أن يقال : إن القطع حجة عقلا ، في قبال الأمارات الظنية المنصوبة من قبل الشارع كخبر الثقة ونحوه مما لا يدرك العقل حجيّته بنفسه وإنما هو صار حجة بجعل الشارع الحجيّة له جعلا تأليفيا.

نعم ؛ يكون جعل اللازم بالعرض والمجاز وبتبع جعل ملزومه ؛ كما أشار إليه بقوله : «بل عرضا بتبع جعله بسيطا».

١٨

وبذلك (١) انقدح : امتناع المنع عن تأثيره أيضا ، مع أنه يلزم منه اجتماع الضدّين اعتقادا وحقيقة في صورة الإصابة ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

والمتحصل : أن المحمولات ـ التي هي من لوازم موضوعاتها ـ غير قابلة للجعل أصلا ؛ كالزوجيّة للأربعة ، حيث إنها مجعولة بجعل نفس الأربعة ، ولا يعقل جعلها لها لا تكوينا ولا تشريعا لا إثباتا ولا نفيا.

(١) أي : وبامتناع الجعل التأليفي بين الشيء ولوازمه ظهر امتناع سلب الحجية عن القطع كامتناع إثباتها له ؛ لأنه بعد فرض كون المحمول ـ أعني : الحجية ـ من لوازم الموضوع ـ وهو القطع ـ فكما لا يمكن إثبات الحجيّة له بالجعل كذلك لا يمكن نفيها عنه ، وإلا لزم أن لا تكون من لوازم ذات القطع وهذا خلاف الفرض. هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الوجهين اللذين استدل به على امتناع جعل الحجية للقطع إثباتا ونفيا.

وأما الوجه الثاني : فهو ما أشار إليه بقوله : «مع أنه يلزم منه اجتماع الضدين ...» الخ.

وحاصل هذا الوجه : أن نفي الحجية عن القطع مستلزم لاجتماع الضدين اعتقادا مطلقا أي : في صورتي إصابة القطع وخطئه.

غاية الأمر : يلزم اجتماع الضدين بحسب اعتقاد القاطع لا واقعا عند الخطأ ؛ كما إذا تعلق قطعه بحرمة شرب ماء الشعير مع فرض حليته واقعا ، حيث إن مقتضى هذا القطع حرمة شربه ، وإذا ردع عن حجيته الشارع كان مقتضى ردعه جواز شربه ، ومن المعلوم : أن الحرمة والجواز متضادان ، فلا يمكن صدورهما من الشارع. ويلزم اجتماع الضدين واقعا وحقيقة في صورة إصابة القطع ؛ كما إذا قطع بحرمة شرب الخمر مع أن المفروض حرمته واقعا ، فإذا نهى الشارع عن متابعة قطعه هذا يلزم اجتماع الضدين واقعا واعتقادا ؛ كما أشار إليه بقوله : «وحقيقة في صورة الإصابة».

وخلاصة الكلام : أن امتناع سلب الحجيّة عن القطع مستند إلى وجهين :

الأول : امتناع انفكاك اللازم عن ملزومه.

الثاني : لزوم اجتماع الضدين من نفي الحجية عن القطع اعتقادا مطلقا ، وحقيقة في صورة الإصابة.

وقد ظهر من كلام المصنف : أن القطع علة تامة للحجية ، ولذا يستحيل ردع الشارع عن حجيته ، فلا يكون اعتباره موقوفا على عدم المانع أعني : الردع.

١٩

ثم لا يخفى عليك (١) : أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا ، وما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز ، واستحقاق العقوبة على المخالفة وإن كان

______________________________________________________

(١) إشارة إلى تفصيل ما أفاده إجمالا من أن أحكام القطع مترتبة على القطع بمرتبة فعلية الحكم.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن للحكم مراتب أربع : الأولى : الاقتضاء ، الثانية : الإنشاء ، الثالثة : الفعلية ، الرابعة : التنجز. وهذه المراتب طولية لا عرضية بمعنى : أنه ما لم تتحقق المرتبة السابقة لا يعقل تحقيق المرتبة اللاحقة.

فما لم تتحقق مرتبة الاقتضاء ـ وهي شأنية الحكم للوجود لأجل ملاك الحكم في متعلقه وهي عبارة عن مصلحة أو مفسدة ـ لا يعقل وصوله إلى المرتبة الثانية ـ وهي مرتبة الإنشاء ـ وهي جعل الحكم مجردا عن البعث والزجر ، بمعنى : أن المولى بعد ملاحظة المصلحة ينشئ الوجوب وبعد ملاحظة المفسدة ينشئ الحرمة قانونا ، فالحكم حينئذ موجود إنشاء وقانونا من دون بعث للمولى أو زجر فعلا كأكثر أحكام الشرع مما لم يؤمر الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بتبليغه ؛ لعدم استعداد المكلفين لها. فهذه المرتبة كالمرتبة السابقة لا تلازم الإرادة والكراهة.

المرتبة الثالثة : والمراد بهذه المرتبة : بعث المولى وزجره نحو الحكم بأن يقول : «افعل» أو «لا تفعل» مع عدم وصوله إلى المكلف بحجة معتبرة من علم أو علمي ، فلا تكون مخالفته حينئذ موجبة للعقاب والذّم.

المرتبة الرابعة : ـ وهي مرتبة التنجز ـ المراد بها : وصول الحكم الفعلي إلى المكلف بالحجة الذاتية أو المجعولة ، وعلمه بالمرتبة الثالثة ، ويكون في موافقته ثواب وفي مخالفته عقاب.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن ما تقدم آنفا من كون القطع منجّزا للتكليف في صورة الإصابة إنما فيما إذا كان التكليف الذي تعلق به القطع فعليا لا إنشائيا محضا.

وحاصل الكلام في المقام : أن وجوب العمل بالقطع عقلا ، وقضاء الضرورة والوجدان باستحقاق العقوبة على مخالفته والمثوبة على موافقته إنما هو فيما إذا تعلق القطع بالمرتبة الثالثة وهي البعث والزجر ؛ ليكون الحكم منجّزا بسبب وصوله إلى العبد بالقطع به ، فلو لم يتعلق القطع بهذه المرتبة ، بل تعلق بما قبلها من الاقتضاء والإنشاء لم يكن هذا القطع موضوعا للحجيّة في نظر العقل ؛ لعدم صدق الإطاعة والعصيان على موافقته ومخالفته.

٢٠