معاني القرآن - المقدمة

معاني القرآن - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تصدير

كتاب معانى القرآن من أهم الكتب التي ألّفها أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء إمام الكوفة فى النحو واللغة ، المتوفى سنة ٢٠٧ ؛ وهو من الكتب التي تقوم الدار بطبعها ونشرها ، جريا على منهجها فى إحياء الآداب العربية ، ونشر الكتب القيّمة الأصيلة.

وقد عهدت الدار فى تحقيق هذا الكتاب إلى العالمين الجليلين الأستاذ أحمد يوسف نجاتى ، والأستاذ محمد على النجار. وللأستاذين مكانتهما العلميّة السامية من البصر بالفقه والتفسير ، والتمكن من اللغة والنحو والصرف ؛ مارسا كلّ ذلك بحثا وتدريسا واستيعابا ، مع الاطلاع الوافر الغزير فى علوم العربية وآدابها عامّة.

وقد قاما بهذه المهمّة فى صبر وأناة ، مع دقّة وأمانة ؛ فكان لعملهما التوفيق ؛ وللكتاب هذا المظهر الجليل. وقد رجعا فى تحقيق هذا الكتاب إلى النّسخ الآتية :

١ ـ نسخة مصوّرة عن الأصل المحفوظ بمكتبة بغداد لى بالمكتبة السليمانية بإستانبول رقم ٦٦ ؛ وهى مكتوبة بخط قديم قريب من الكوفىّ ، كتبت فى القرن الرابع الهجري ، وعلى بعض أجزائها تملّكات وسماعات ؛ وأقدم سماع منها مؤرّخ سنة ٣٨١ ه‍ ، لعلى بن الحسين بن محمد بن الحسن بن إبراهيم المعروف بابن الطهراني

٣

الورّاق ، عن أبى عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده ، عن الأصم النيسابورىّ محمد بن يعقوب ، عن محمد بن الجهم السّمرىّ ، عن الفرّاء.

والموجود من هذه النسخة عشرة أجزاء من تجزئة المؤلّف. ويبدو أنها صحيحة الكتابة والضبط والمقابلة ؛ غير أنها ناقصة من آخرها ، إذ تنتهى عند بدء الكلام على سورة الإنسان ؛ كما أن بها عدّة خروم فى مواضع متفرقة ، وبيانها :

(أ) خرم وقع ما بين ورقتى ٣٢ و ٣٣ ، عند تفسير قوله تعالى : (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) (سورة البقرة ٢٦٦) ، إلى قوله تعالى : (وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (سورة النساء ٣٦).

(ب) خرم آخر ما بين ورقتى ٣٨ و ٣٩ عند تفسير قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ) (النساء ١١٤) ، إلى قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) (سورة الأعراف ١٦٠).

(ج) خرم آخر وقع بين ورقتى ١٥٧ و ١٥٨ عند تفسير قوله تعالى : (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (سورة الذاريات ٣٩) ، إلى قوله تعالى : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (سورة النجم ٢٠).

وتقع هذه النسخة فى ٢٢٢ ورقة ؛ وسطور صفحاتها بين ٢٤ ـ ٢٨ سطرا ، ومتوسط كلمات السطر ١٦ كلمة ، وهى محفوظة فى الدار برقم ٢٤٩٨٦ ب. وقد رمز لهذه النسخة بالحرف (ا).

٢ ـ نسخة مصورة عن المخطوط المحفوظ بمكتبة نور عثمانية بإستانبول رقم ٣٢٠ ، والموجود منها مجلد واحد ، يبدأ من أوّل الكلام على سورة الزمر ،

٤

وينتهى إلى آخر القرآن الكريم ، كتبت فى القرن السادس تقريبا ، وهى بدون تاريخ ، ويبدو عليها الصحة وضبط الشكل ، وفى مواضع منها «بلاغات» بقراءة النسخة من جماعة من العلماء ذكرت أسماؤهم ، ويقع هذا المجلد فى ١٥١ ورقة ، وأسطر كل صفحة من ١٨ ـ ٢٤ سطرا ، ومتوسط الكلمات فى السطر الواحد ثمانى كلمات ، وهذه النسخة محفوظة بالدار برقم ٢٤٩٨٧ ب ، وقد رمز إليها بالحرف (ب).

٣ ـ نسخة مصوّرة عن المخطوط رقم ٤٥٩ بمكتبة نور عثمانية بإستانبول ، مكتوبة بخطّ نسخ جميل ، من خطوط القرن الثاني عشر تقريبا ، ولكنها كثيرة التحريف والتصحيف ، على رغم جمال خطّها. وتقع فى ١٨٩ ورقة ، وأسطر كل صفحة ٣٠ سطرا ، ومتوسط الكلمات فى السطر الواحد ٢٠ كلمة ، وهذه النسخة محفوظة بالدار برقم ٢٤٧٧١ ب ، وقد رمز إليها بالحرف (ح).

٤ ـ نسخة كاملة فى مكتبة المرحوم العلامة محمود الشنقيطى ، مكتوبة بقلم معتاد بخط حديث فى أوّل القرن الرابع عشر للهجرة. ويبدو من مراجعتها أنها منسوخة من النسخة السابقة ، وتقع فى ٢٢٢ ورقة من القطع الكبير ، وتتراوح سطور كل صفحة بين ٣٢ ـ ٣٥ سطرا ، ومتوسط كلمات السطر الواحد ٢٠ كلمة. وبأوّلها تملّك ووقفيّة بخط الشنقيطى مؤرّخان سنة ١٣٠٩. ويوجد فى أوراقها اضطراب فى التجليد نشأ عنه تقديم بعضها على بعض ، وذلك فيما بين سورتى الروم والأحزاب. وهذه النسخة محفوظة بالدار برقم ١٠ تفسير ، وقد رمز إليها بالحرف (ش).

٥

٥ ـ قطعه بخط ناسخ النسخة السابقة ، وتحتوى على الجزء الأخير من سورة عبس ، وتنتهى بختم القرآن الكريم ـ وهى محفوظة بمكتبة العلّامة الشنقيطى ـ وبأوّلها تملّك مؤرّخ سنة ١٣١٠ وهو تاريخ نسخها أيضا ، وتقع فى ١٥ ورقة من قطع النسخة السابقة ، وهى محفوظة بالدار برقم ١١ تفسير «ش».

وقد رأت الدار أن تقدّم هذا الكتاب لقرّاء العربية فى ثلاثة أجزاء ، مذيلّة بالفهارس التفصيلية ، وستتابع نشر الجزأين التاليين إن شاء الله ، ومنه العون والحول والتوفيق.

ديسمبر سنة ١٩٥٥

محمد أبو الفضل إبراهيم

مدير القسم الأدبى

٦

مقدمة

الفرّاء

هو أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمىّ. وهذه النسبة إلى الدّيلم ، وهو إقليم فى البلاد الفارسية ، ويقال للجيل الذي يسكن هذا الإقليم أيضا ؛ ويذكر أن زيادا أباه حضر الحرب مع الحسين بن علىّ رضى الله عنهما ، وقطعت يده فى هذه الحرب. ومن ثمّ لقّب «الأقطع». ويقول ابن خلّكان : «وهذا فيه عندى نظر ، لأن الفرّاء عاش ثلاثا وستين سنة ، فتكون ولادته سنة أربع وأربعين ومائة ، وحرب الحسين كانت سنة إحدى وستين للهجرة ، فبين حرب الحسين وولادة الفرّاء أربع وثمانون سنة ، فكم قد عاش أبوه؟ فإن كان الأقطع جدّه فيمكن. والله أعلم».

ويظهر أن أسرته دخلت فى الإسلام لأوّل دخول الديلم والفرس فى الإسلام ، كما يدل عليه أسماء آبائه العربية. وهم موال لمنقر من تميم ، أو لأسلم من أسد ، على خلاف فى ذلك. ومما يذكر أنه ابن خالة محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة.

تلقيبه الفرّاء :

والفرّاء قد علمت أنه لقبه لا اسمه. والمعروف فى الفرّاء من يخيط الفراء أو يبيعها ؛ كما يتبادر من صيغة النسب ؛ كبزّاز وعطّار ، ولم يكن صاحبنا ولا أحد آبائه فى شىء من هذا. فقيل : إنه أطلق عليه لأنه كان يفرى الكلام ، أي يحسن

٧

تقطيعه وتفصيله ؛ فهو فعّال من الفري صيغة مبالغة ، وهمزته بدل من الياء لا من الواو ؛ كما هو فى مذهبه الأوّل.

وفى أنساب السمعاني : «قال أبو الفضل الفلكىّ : لقّب بالفرّاء لأنه كان يفرى الكلام. هكذا قال فى كتاب الألقاب».

ويقول ابن الأنبارى فى الأضداد ١٣ : «وبعض أصحابنا يقول : إنما سمى الفرّاء فرّاء لأنه كان يحسن نظم المسائل ، فشبّه بالخارز الذي يخرز الأديم ، وما عرف ببيع الفراء ولا شرائها قطّ. وقال بعضهم : سمى فرّاء لقطعه الخصوم بالمسائل التي يعنت بها ، من قولهم : قد فرى إذا قطع ؛ قال زهير :

ولأنت تفرى ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفرى

معناه : تخرز ما قدّرت. والخلق : التقدير».

ولا يعرف متى أطلق عليه هذا اللقب ، ولا بدّ أنه حين اكتمل وبدا نضجه وغلبته للخصوم.

مولده ونشأته :

وكانت ولادة الفرّاء بالكوفة سنة ١٤٤ ه‍ فى عهد أبى جعفر المنصور. ونشأ بها وتربّى على شيوخها. وكانت الكوفة أحد المصرين اللذين كانا مقرّ العلم ومربى العلماء ، والمصر الآخر البصرة. وكانت الكوفة حافلة بالشيوخ فى فروع العلم المعروفة فى ذلك العصر. ومن شيوخه فيها قيس بن الربيع ، ومندل بن علىّ ، وأبو بكر بن عيّاش والكسائىّ ، وسفيان بن عيينة. ويقال إنه أخذ عن يونس بن حبيب البصرىّ ، وإنه كان يلازم كتاب سيبويه.

٨

وكان الفرّاء قوىّ الحفظ ، لا يكتب ما يتلقاه عن الشيوخ استغناء بحفظه. ويقول هنّاد بن السرىّ (١) : «كان الفرّاء يطوّف معنا على الشيوخ ، فما رأيناه أثبت سوداء فى بيضاء قط ، لكنه إذا مرّ له حديث فيه شىء من التفسير أو متعلّق بشىء من اللغة قال للشيخ : أعده علىّ. وظننّا أنه كان يحفظ ما يحتاج إليه».

وبقيت له قوّة الحفظ طوال حياته ، وكان يملى كتبه من غير نسخة ، ولم يقتن كتبا كثيرة. ويقول ثعلب : «لما مات الفرّاء لم يوجد له إلا رءوس أسفاط فيها مسائل تذكرة وأبيات شعر». والأسفاط جمع السّفط وهو ما يوضع فيه الطّيب وغيره ، وهو المعروف بالسّبت.

وقد بلغ الفرّاء فى العلم المكانة السامية والغاية التي لا بعدها ، وكان زعيم الكوفيين بعد الكسائي. ويقول ثعلب : «لو لا الفرّاء لما كانت عربيّة ؛ لأنه خلّصها وضبطها. ولو لا الفرّاء لسقطت العربيّة ؛ لأنها كانت تتنازع ويدّعيها كلّ من أراد ، ويتكلم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب».

وفى تاريخ بغداد : «وكان يقال : النحو الفرّاء ، والفرّاء أمير المؤمنين فى النحو».

ويبين عن مبلغه فى العلم قصة ثمامة بن الأشرس المعتزلي ، فقد كان الفرّاء يتردّد على باب المأمون حتى لقيه ثمامة ، وهنا يقول هذا الرجل عن الفرّاء (٢) : «فرأيت أبّهة أديب ، فجلست إليه ففاتشته عن اللغة فوجدته بحرا ، وفاتشته عن النحو فشاهدته نسيج وحده ، وعن الفقه فوجدته رجلا فقيها عارفا باختلاف القوم ، وبالنحو ماهرا ، وبالطب خبيرا ، وبأيام العرب وأشعارها حاذقا. فقلت :

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٤ / ١٥٢.

(٢) ابن خلكان ٥ : ٢٢٥ (طبعة مكتبة النهضة ١٩٤٩).

٩

من تكون؟ وما أظنك إلا الفرّاء ، فقال : أنا هو. فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين المأمون ، فأمر بإحضاره ، وكان سبب اتصاله به».

وقد استقرّ به المقام فى بغداد ، ونرى له مع الرشيد قصّة إذ لحن أمامه ، واعتذر بأنه يجرى على أساليب العامة وهجة الحديث ، ولا يتكلف الإعراب. ولا نرى له ذكرا فى أيام الأمين. حتى إذا جاء المأمون كان اتصاله به ـ على ما سبق فى قصّة ثمامة ـ وقد وكل إليه المأمون تعليم ابنيه ، وكلّفه تأليف الحدود فى العربية ، وأفرد له بيتا فى القصر ، وكفاه كلّ مؤنة فيه.

وفى ابن النديم (١) «كان أكثر مقامه ببغداد. كان يجمع طوال دهره ، فإذا كان آخر السنة خرج إلى الكوفة وأقام بها أربعين يوما فى أهله يفرّق فيهم ما جمعه ويبرّهم».

وفاته :

وكانت وفاة الفرّاء فى طريقه فى عودته من مكّة سنة ٢٠٧ ه‍ ، وفى أنساب السمعاني سنة ٢٠٩ ه‍.

تآليفه :

أورد له ابن النديم :

(١) آلة الكتاب.

(٢) الأيام والليالى. ومنه نسخة فى دار الكتب فى المجموعة رقم ١٣ أدب ش. وأخرى فى مكتبة لاله لى برقم ١٩٠٣ وثالثة فى مكتبة سليم آغا باستانبول. برقم ٨٩٤

__________________

(١) الفهرست ٦٦ ـ ٧٧ (طبع أوربا).

١٠

(٣) البهاء ، أو البهي. (ويذكر ابن خلكان أنه أصل الفصيح لثعلب).

(٤) الجمع والتثنية فى القرآن.

(٥) الحدود ، وهو فى قواعد العربية ، فيذكر حدّ التثنية وطريقة العرب فيها ، والإعراب ، وهكذا ، ويذكر أنها ستون حدّا.

(٦) حروف المعجم ، نقل عنه ابن رشيق فى العمدة ١ / ١٠٠ فى مبحث القافية.

(٧) الفاخر فى الأمثال. من نسخة فى مكتبة الفاتح باستانبول رقم ٤٠٠٩ (٨) فعل وأفعل.

(٩) اللغات.

(١٠) المذكر والمؤنث. من نسخة ضمن مجموعة لغوية فى مكتبة مصطفى الزرعى فى بيروت وأخرى فى مكتبة حلب برقم ١٣٤٥ (١١) المشكل الصغير.

(١٢) المشكل الكبير. ويبدو أنه فى مشكل القرآن كمشكل ابن قتيبة.

(١٣) المصادر فى القرآن.

(١٤) معانى القرآن (وهو هذا الكتاب).

(١٥) المقصور والممدود. منه نسخة فى مكتبة بروسّه بتركيا.

(١٦) النوادر.

(١٧) الوقف والابتداء.

معانى القرآن

كان هذا التركيب يعنى به ما يشكل فى القرآن ويحتاج إلى بعض العناء فى فهمه. وكان هذا بإزاء معانى الآثار ، ومعانى الشعر ، أو أبيات المعاني. ويقول

١١

الطحاوىّ فى مقدمة كتاب (معانى الآثار) ـ على ما فى كشف الظنون ـ. «إنه سأله بعض أصحابه تأليفا فى الآثار المأثورة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الأحكام التي يتوهّم فيها أهل الإلحاد والزّندقة أن بعضها ينقض بعضا لقلّة علمهم بناسخها ومنسوخها».

وقد كتب فى معانى الشعر ثعلب ، وأبو الحسن الأخفش سعيد بن مسعده ، والأشناندانى ، وكذا ابن قتيبة فى كتاب المعاني الكبير. وكتب فيها أيضا أبو عبيد القاسم بن سلّام. ومن قبيل معانى القرآن مجاز القرآن لأبى عبيدة.

وقد كتب فى معانى القرآن كثير من الفحول. يقول الخطيب فى تاريخ بغداد فى صدد الحديث عن معانى القرآن لأبى عبيد ، وأنه احتذى فيه من سبقه : «وكذلك كتابه فى معانى القرآن. وذلك أن أوّل من صنّف فى ذلك ـ أي فى معانى القرآن ـ من أهل اللغة أبو عبيدة معمر بن المثنّى ، ثم قطرب بن المستنير ، ثم الأخفش. وصنف من الكوفيين الكسائىّ ، ثم الفرّاء. فجمع أبو عبيد من كتبهم ، وجاء فيه بالآثار وأسانيدها ، وتفاسير الصحابة والتابعين والفقهاء».

سبب تأليفه :

ومعانى القرآن للفرّاء له قصة. ففى فهرست ابن النديم : «قال أبو العباس ثعلب : كان السبب فى إملاء كتاب الفرّاء فى المعاني أن عمر بن بكير كان من أصحابه ، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل ، فكتب إلى الفرّاء : إن الأمير الحسن بن سهل ربما سألنى عن الشيء بعد الشيء من القرآن ، فلا يحضرنى فيه جواب ، فإن رأيت أن تجمع لى أصولا أو تجعل فى ذلك كتابا أرجع إليه فعلت.

١٢

فقال الفرّاء لأصحابه : اجتمعوا حتى أملّ عليكم كتابا فى القرآن. وجعل لهم يوما. فلما حضروا خرج إليهم ، وكان فى المسجد رجل يؤذّن ويقرأ بالناس فى الصلاة ، فالتفت إليه الفرّاء فقال له : اقرأ بفاتحة الكتاب ، ففسّرها ، ثم توفّى (١) الكتاب كلّه : يقرأ الرجل ويفسّر الفرّاء. فقال أبو العباس : لم يعمل أحد قبله ، ولا أحسب أن أحدا يزيد عليه».

وفى تاريخ بغداد عن أبى بديل الوضّاحى : «فأردنا أن نعدّ الناس الذين اجتمعوا لإملاء كتاب المعاني فلم يضبط. قال : فعددنا القضاة فكانوا ثمانين قاضيا».

ولم نقف على أمر عمر بن بكير الذي صنع الكتاب لأجله.

روايته :

اتفق الكتّاب على أن راوى الكتاب محمد بن الجهم السّمّرى. وكان الفرّاء بملي فى المجلس ويكتب الحاضرون ، ويبدو أن السمّرىّ كان له مزيد عناية بالكتابة ، وكان ملازما للمجلس ، فكان يدوّن ، ونسبت رواية الكتاب لذلك إليه ، وعسى أن يكون الفرّاء يطلع على ما يدوّن ويقرّه. وكان الكتاب ينسخ فى حياة الفرّاء ، فهى نسخة السمري فيما يظهر. على أن هناك نسخة أخرى لم تشتهر. ففى تاريخ بغداد عن محمد بن الجهم : «كان الفرّاء يخرج إلينا وقد لبس ثيابه فى المسجد الذي فى خندق عبويه ، وعلى رأسه قلنسوة كبيرة. فيجلس فيقرأ أبو طلحة الناقط عشرا من القرآن ، ثم يقول له : أمسك. فيملى من حفظه المجلس ، ثم يجىء سلمة ـ يريد سلمة بن عاصم من جلّة تلامذة الفرّاء ـ بعد

__________________

(١) أي استوفاه. وفى ابن خلكان : «مرّ فى».

١٣

أن ننصرف نحن ، فيأخذ كتاب بعضنا فيقرأ عليه ، ويغير ويزيد وينقص. فمن هنا وقع الاختلاف بين النسختين».

يقول السمّرىّ فى صدر الكتاب : «هذا كتاب فيه معانى القرآن ، أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء ـ يرحمه‌الله ـ عن حفظه من غير نسخة ، فى مجالسه أوّل النهار من أيام الثلاثاوات والجمع فى شهر رمضان وما بعده من سنة اثنتين ، وفى شهور سنة ثلاث وشهور من سنة أربع ومائتين». فقد أملاه إذن قبل أن يرد المأمون بغداد من خراسان ، إذ كان دخوله بغداد سنة ٢٠٤. وإذا كان الفرّاء ألّف (الحدود) والمأمون فى بغداد فإن (المعاني) يكون تأليفه قبل تأليف (الحدود). وفى تاريخ بغداد ما يقضى بخلاف هذا ؛ ففيه فى الكلام على الحدود : «فبعد أن فرغ من ذلك ـ أي الحدود ـ خرج إلى الناس وابتدأ يملى كتاب المعاني». ويبدو أن هذا كلام غير دقيق.

السّمرىّ راوية الكتاب

وهنا يحسن أن نعرض لحياة السّمرى. فهو أبو عبد الله محمد بن الجهم ابن هارون الكاتب. والسمري نسبة إلى سمّر : بلد بين البصرة وواسط. وقد ولد السمّرىّ فى حدود سنة ١٨٨ ، فقد كانت وفاته سنة ٢٧٧ وله تسع وثمانون سنة.

وفى غاية النهاية فى طبقات القرّاء لابن الجزرىّ أن وفاته كانت سنة ثمان ومائتين. ويبدو أن هذا سهو من الكاتب ، أو أن فى الكلام سقطا ؛ والأصل : سنة ثمان وسبعين ومائتين.

١٤

وقد أخذ السّمرىّ عن الفرّاء وهو لا يزال حدثا ، فقد مات الفرّاء وله تسع عشرة سنة ، إذ كانت وفاة الفرّاء سنة ٢٠٧ ه‍.

ونرى فى صدر الكتاب السند الآتي : «حدّثنا أبو منصور نصر مولى أحمد ابن رسته ، قال : حدّثنا أبو الفضل يعقوب بن يوسف بن معقل النيسابورىّ سنة إحدى وسبعين ومائتين ، قال : سمعت أبا عبد الله محمد بن الجهم السّمرىّ سنة ثمان وستين ومائتين».

ولا يعرف راوى هذا الإسناد القائل : حدّثنا ، وهو من تلاميذ أبى منصور. فأما أبو منصور فلم نقف له على ترجمة ، وفى (تاج العروس) تحدّث عن مولاه فقال : «أبو حامد أحمد بن محمد بن رسته الصوفي الأصبهانى ، يعرف بالحمال. روى عنه أبو بكر بن مردويه». وأبو الفضل يعقوب بن يوسف بن معقل ذكره الخطيب فى تاريخ بغداد ١٤ / ٢٨٦ وقال فيه : «ورد بغداد ، وحدّث بها عن إسحاق بن راهويه».

محمد على النجّار

أحمد يوسف نجاتى

١٥