أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

قال علماؤنا : هذا لمن ثبت في اعتقاده ، وجاهد في الله حقّ جهاده وشاهد الرسول وآياته ، فكيف بنا؟ وإنما هو عندنا خبر من الأخبار لم يعرفه إلا الأخبار (١) ، ولا قدره حقّ قدره إلا الأخيار (٢). وهذا كلّه يعرفكم قدر مالك على سائر العلماء في النظر ، ويبصرّكم استداده على سواء الفكر.

المسألة الرابعة ـ إذا ثبت هذا فقد اختلف علماؤنا في راكب البحر (٣) ؛ هل حكمه حكم الصحيح أو الحامل؟

فقال ابن القاسم : حكمه حكم الصحيح. وقال أشهب : حكمه حكم الحامل إذا بلغت ستة أشهر. وابن القاسم لم يركب البحر ، ولا رأى أنهم دود على عود ، ومن أراد أن يوقن بأن الله هو الفاعل وحده لا فاعل معه ، وأن الأسباب ضعيفة لا تعلّق لموقن بها ، ويتحقق التوكّل والتفويض ـ فليركب البحر ، ولو عاين ذلك سبعين من الدهر ، وتطلع له الشمس في الماء وتغرب فيه ، ويتبعها القمر كذلك ، ولا يسمع للأرض خبرا ، ولا تصفو ساعة له من كدر ، ويعطب في آخر الحال ، كان رأيه كرأى أشهب ، والله يوفق المقال (٤) ويسدّد بعزته المذهب.

المسألة الخامسة ـ إذا ثبت أنها مريضة فقد تقدم القول في فطرها وفديتها في سورة البقرة ، فلينظر هنالك.

الآية الرابعة والعشرون ـ قوله تعالى (٥) : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ).

فيها عشر مسائل :

المسألة الأولى ـ في العفو :

قد تقدّم شرحه في سورة البقرة على الاستيفاء في الإطلاق والاشتقاق ، واختلف إيراد(٦) المفسرين في تفسير هذه الآية على أربعة أقوال :

__________________

(١) في ل : الآحاد.

(٢) في ل : الأحبار.

(٣) في القرطبي : في راكب لبحر وقت الهول.

(٤) في ا : الحال.

(٥) الآية التاسعة والتسعون بعد المائة.

(٦) في ا : أفراد.

٣٠١

الأول ـ أنه الفضل من أموال الناس ، نسخته الزكاة ، قال ذلك ابن عباس.

الثاني ـ أنه الزكاة ؛ قاله مجاهد. وسمّاها عفوا ؛ لأنه فضل المال وجزء يسير منه.

الثالث ـ أنه أمر بالاحتمال وترك الغلظة ، ثم نسخ ذلك بآية القتال.

الرابع ـ خذ العفو من أخلاق الناس ؛ قاله ابنا الزبير معا ، وروى ذلك في الصحيح عنهما.

المسألة الثانية ـ روى سفيان بن عيينة عن الشعبىّ أنه قال : إن جبريل نزل على النبىّ صلى الله عليه وسلم بهذه الآية ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذا يا جبريل؟ قال جبريل : لا أدرى حتى أسأل العالم ، فذهب فمكث ساعة ثم رجع ، فقال : إنّ الله يأمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطى من حرمك ، وتصل من قطعك.

المسألة الثالثة ـ قوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) :

فيه أربعة أقوال :

الأول ـ العرف : المعروف ؛ قاله عروة.

الثاني ـ قول لا إله إلا الله.

الثالث ـ ما يعرف أنه من الدين.

الرابع ـ ما لا ينكره الناس من المحاسن التي اتفقت عليها الشرائع.

المسألة الرابعة ـ (أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) :

فيه قولان : أحدهما أنه محكم ، أمر باللين.

الثاني أنه منسوخ بآية القتال ؛ قاله ابن زيد.

المسألة الخامسة ـ روى جابر بن سليم قال : ركبت قعودي ثم أتيت إلى مكة ، فطلبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنخت قعودي بباب المسجد ، فدلّونى على رسول الله ، فإذا هو جالس عليه برد من صوف فيه طرائق حمر ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ، فقال وعليك السلام. فقلت : إنّا معشر أهل البادية قوم فينا الجفاء فعلّمنى كلمات ينفعني الله بها.

قال : ادن منا (١). فدنوت ، فقال : أعد علىّ. فأعدت. فقال : اتق الله ،

__________________

(١) في ل : منى.

٣٠٢

ولا تحقرنّ من المعروف شيئا ، وأن تلقى أخاك بوجه منبسط ، وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك ، وإن أحد سبّك بما يعلم منك فلا تسبّه بما تعلم فيه ؛ فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ، ولا تسبّنّ شيئا مما خوّلك الله.

فو الذي نفسي بيده ما سببت بعده لا شاة ولا بعيرا.

المسألة السادسة ـ في صحيح البخاري ، عن ابن عباس قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة ، فنزل على ابن أخيه الجدّ بن قيس ، وكان من النفر الذي يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبّانا ، فقال عيينة لابن أخيه : يا بن أخى ؛ لك وجه عند هذا الأمير ؛ فاستأذن لي عليه : قال : سأستأذن لك.

قال ابن عباس : فاستأذن الجدّ لعيينة ، فأذن له عمر ، فلما دخل قال : هيه يا ابن الخطاب ، فو الله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به ، فقال له : العفو (١) يا أمير المؤمنين ، إن الله قال لنبيه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ، وإن هذا من الجاهلين ، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقّافا عند كتاب الله.

المسألة السابعة ـ في تنقيح الأقوال :

أما العفو فإنه عام في متنا ولاته ، ويصحّ أن يراد به خذ ما خفّ وسهل مما تعطى ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من الصدقة التمرة والقبضة والحبة والدرهم والسّمل (٢) ، ولا يلمز شيئا من ذلك ولا يعيبه : ولقد كان يسقط من الحقوق ما يقبل الإسقاط حتى قالت عائشة في الصحيح : ما انتقم رسول الله لنفسه قطّ.

وأما الاحتمال فقد كان يصبر على الأذى ، ويحتمل الجفاء ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : يرحم الله موسى ، لقد أوذى بأكثر من هذا فصبر.

وأما مخالفة الناس فهو كان أقدر الخلق عليها وأولاهم بها ، فإنه كان يلقى كلّ أحد بما يليق به من شيخ وعجوز ، وصغير وكبير ، وبدوىّ وحضرىّ ، وعالم وجاهل ، ولقد كانت

__________________

(١) في ل : فقال له الجد.

(٢) في ل : السبل. والسمل : الخلق من الثياب.

٣٠٣

المرأة توقفه في السكة من سكك المدينة ، ولقد كان يقول لأخ لأنس صغير : يا أبا عمير ، ما فعل النّغير (١).

ولقد كان يكلّم الناس بلغاتهم ، فيقول لمن سأله أمن امبر امصيام في امسفر (٢) فيقول له : ليس من امبر امصيام في امسفر (٣).

المسألة الثامنة ـ في تنقيح الأقوال بالعرف :

أما العرف فالمراد به هاهنا المعروف من الدين المعلوم من مكارم الأخلاق ، ومحاسن الأعمال ، المتفق عليه في كل شريعة التي أمهاتها وأصولها الثلاث التي يقال إنّ جبريل نزل بها : أن تصل من قطعك ، فلا شيء أفضل من صلة القاطع ؛ فإنه يدلّ على كرم النفس ، وشرف الحلم ، وخلق الصبر الذي هو مفتاح خيرى الدنيا والآخرة.

وفي الأثر : ليس الواصل بالكافئ ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها. وقال : أفضل الصدقة الصدقة على ذي الرحم الكاشح.

والذي يبين (٤) ذلك الحديث الصحيح الذي خرجه الأئمة واللفظ للبخاري : قال علىّ بن أبى طالب : بعث النبىّ صلى الله عليه وسلم سريّة استعمل عليها رجلا من الأنصار ، وأمرهم أن يطيعوه ، فغضب ، فقال : أليس أمركم النبىّ صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا : بلى. قال : فاجمعوا حطبا. فجمعوا. فقال : أوقدوا لي نارا. فأوقدوها. فقال : ادخلوها. فهمّوا ، وجعل بعضهم يمسك بعضا ويقولون : قررنا إلى النبىّ صلى الله عليه وسلم من النار. فما زالوا حتى خمدت النار ، وسكن غضبه ، فبلغ النبىّ صلى الله عليه وسلم فقال: لو دخلوها ما خرجوا منها ، إنما الطاعة في المعروف ، يريد الذي يجوز في الدين موقعه ويثبت فيه حكمه.

المسألة التاسعة ـ وأما الإعراض عن الجاهلين فإنه مخصوص في الكفار الذين أمر بقتالهم ، عام في كل الذي يبقى بعدهم. وقد قال سبحانه (٥) : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ).

وقالت أسماء : إنّ أمى قدمت علىّ راغبة وهي مشركة أفأصلها؟ قال : نعم ، صلى أمّك.

__________________

(١) هو تصغير النغر ، وهو طائر يثبه العصفور أحمر المنقار (النهاية).

(٢) أمن البر الصيام في السفر.

(٣) في ل : زاد في تبيين.

(٤) سورة الممتحنة ، آية ٨

٣٠٤

المسألة العاشرة ـ قال علماؤنا : هذه الآية من ثلاث كلمات ، قد تضمنت قواعد الشريعة المأمورات والمنهيّات ، حتى لم يبق فيه حسنة إلا أوضحتها ، ولا فضيلة إلا شرحتها ، ولا أكرومة إلّا افتتحتها ، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة ؛ فقوله : (خُذِ الْعَفْوَ) تولى بالبيان جانب اللين ، ونفى الحرج في الأخذ والإعطاء والتكليف.

وقوله : (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) تناول جميع (١) المأمورات والمنهيات ؛ وإنهما ما عرف حكمه ، واستقرّ في الشريعة موضعه ، واتّفقت القلوب على علمه.

وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) تناول جانب الصّفح بالصبر الذي به يتأتّى للعبد كلّ مراد في نفسه وغيره ، ولو شرحنا ذلك على التفصيل لكان أسفارا.

الآية الخامسة والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) :

روى أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه ، فقرأ أناس من خلفه ، فنزلت هذه الآية : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ...) الآية ؛ فسكت الناس خلفه ، وقرأ رسول الله.

المسألة الثانية ـ روى الأئمة : مالك ، وأبو داود ، والنسائي ، عن أبى هريرة ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة ، فقال : هل قرأ أحد منكم [معى] (٤) آنفا؟ فقال رجل : نعم ، يا رسول الله. فقال : إنى أقول : مالي أنازع القرآن؟ قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله من الصلوات بالقراءة ، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى مسلم عن عمران بن حصين ، قال (٥) : صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا صلاة الظّهر أو العصر ، فقال : وأيكم قرأ خلفي بسبّح اسم ربك الأعلى؟ فقال رجل : أنا فقال رسول الله : قد علمت أنّ بعضكم حالجنيها (٦).

__________________

(١) في ل : جانب.

(٢) الآية الرابعة بعد المائتين.

(٣) أسباب النزول : ١٣١

(٤) من ل.

(٥) صحيح مسلم : ٢٩٨.

(٦) حالجنيها : نازعنيها.

٣٠٥

وروى الترمذي وأبو داود ، عن عبادة بن الصامت ، قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ، فثقلت عليه القراءة ، فلما انصرف قال : إنى لا أراكم تقرءون وراء إمامكم. قال : قلنا : يا رسول الله ؛ إى والله. قال : فلا تفعلوا إلّا بأمّ القرآن ؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها (١).

وقد روى الناس في قراءة المأموم خلف الإمام بفاتحة الكتاب أحاديث كثيرة ، أعظمهم في ذلك اهتبالا الدّارقطنى.

وقد جمع البخاري في ذلك جزءا ، وكان رأيه قراءة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية ، وهي إحدى روايات مالك ، وهو اختيار الشافعى.

وقد روى مالك وغيره عن أبى هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج (٢) ، فهي خداج ، فهي خداج ، غير تمام.

فقلت : يا أبا هريرة ؛ إنى أحيانا أكون وراء الإمام ، فغمز ذراعي ، وقل : اقرأ بها يا فارسي في نفسك ، فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (٣) : قال الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدى نصفين ، فنصفها لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل. قال رسول الله : اقرءوا ، يقول العبد : الحمد لله رب العالمين يقول الله : حمدنى عبدى. يقول العبد : الرحمن الرحيم. يقول الله : أثنى علىّ عبدى. يقول العبد : مالك يوم الدين. يقول الله: مجّدنى عبدى. يقول العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، فهذه الآية بيني وبين عبدى ، ولعبدي ما سأل. يقول العبد : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فهؤلاء لعبدي ، ولعبدي ما سأل.

وقد اختلفت في ذلك الآثار عن الصحابة والتابعين اختلافا متباينا ؛ فروى عن زيد ابن أسلم أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينهون عن القراءة خلف الإمام.

وقد روى عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فقرأ قوم خلفه ، فقال : مالكم لا تعقلون؟ (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

__________________

(١) في ا : لمن لم يقرأ فيها بأم القرآن ، وانظر صحيح مسلم : ٢٩٧.

(٢) الخداج : النقصان.

(٣) صحيح مسلم : ٢٩٦

٣٠٦

وقد قال أبو هريرة : نزلت الآية في الصلاة. وقيل : كانوا يتكلمون في الصلاة ، فنزلت الآية في النهى عن ذلك.

وروى أنّ فتى كان يقرأ خلف النبىّ صلى الله عليه وسلم فيما قرأ فيه النبي ، فأنزل الله الآية فيه.

وقال مجاهد : نزلت في خطبة الجمعة ؛ وهو قول ضعيف ؛ لأنّ القرآن فيها قليل ، والإنصات واجب في جميعها.

وقد روى أنّ عبادة بن الصامت قرأ بها ، وسئل عن ذلك ، فقال : لا صلاة إلا بها.

وأصحّ منه قول جابر : لا يقرأ بها خلف الإمام ـ خرّجه مالك في الموطأ.

وروى مسلم في صحيحه أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قال : إنما جعل الإمام ليؤتمّ به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا قرأ فأنصتوا ؛ وهذا نصّ لا مطعن فيه ، يعضده القرآن والسنة ، وقد غمزه الدارقطني بما لا يقدح فيه.

المسألة الثالثة ـ الأحاديث في ذلك كثيرة قد أشرنا إلى بعضها ، وذكرنا نبذا منها ، والترجيح أولى ما اتبع فيها.

والذي نرجّحه وجوب القراءة في الإسرار لعموم الأخبار.

وأما الجهر فلا سبيل إلى القراءة فيه لثلاثة أوجه : أحدها ـ أنه عمل أهل المدينة.

الثاني ـ أنه حكم القرآن ، قال الله سبحانه : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا).

وقد عضدته السنة بحديثين :

أحدهما ـ حديث عمران بن حصين : قد علمت أنّ بعضكم خالجنيها.

الثاني ـ قوله : وإذا قرأ فأنصتوا.

الوجه الثالث ـ في الترجيح : إنّ القراءة مع جهر الإمام لا سبيل إليها فمتى يقرأ؟

فإن قيل : قرأ في سكتة الإمام.

قلنا : السكوت لا يلزم الإمام فكيف يركّب فرض على ما ليس بفرض ، لا سيما وقد وجدنا وجها للقراءة مع الجهر ، وهي قراءة القلب بالتدبر والتفكر ، وهذا نظام القرآن والحديث ، وحفظ العبادة ، ومراعاة السنة ، وعمل بالترجيح والله أعلم ؛ وهو المراد بقوله تعالى (١) :

__________________

(١) الآية الخامسة بعد المائتين من هذه السورة.

٣٠٧

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ، وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ). وهي الآية السادسة والعشرون.

فقوله : (فِي نَفْسِكَ) يعنى صلاة الجهر. وقوله : (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ) يعنى صلاة السرّ ؛ فإنه يسمع فيه نفسه ومن يليه قليلا بحركة اللسان.

فإن قيل : فقد قال بعض الشافعية : إنما خرجت الآية على سبب ؛ وهو أنّ قوما كانوا يكثرون اللّغط في قراءة رسول الله ، ويمنعون من استماع الأحداث لهم ، كما قال تعالى(١) : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) ، فأمر المسلمين بالإنصات حالة أداء الوحى ، ليكون على خلاف حال الكفار.

قلنا : عنه جوابان :

أحدهما ـ أن هذا لم يصح سنده ؛ فلا ينفع معتمده.

الثاني ـ أنّ سبب الآية والحديث إذا كان خاصا لا يمنع من التعلّق بظاهره إذا كان عاما مستقلا بنفسه ، وبالجملة فليس للبخاري ولا للشافعية كلام ينفع بعد ما رجّحنا به واحتججنا بمنصوصه ، وقد مهّدنا القول في مسائل الخلاف تمهيدا يسكّن كل جأش نافر.

الآية السابعة والعشرون ـ قوله تعالى (٢) : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ).

فيها أربع عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ هذه الآية مرتبطة بما قبلها ومنتظمة مع ما سبقها ؛ وهي إخبار من الله تعالى عن الملائكة بأنهم في عبادتهم التي أمروا بها دائمون ، وعليها قائمون ، وبها عاملون ؛ فلا تكن من الغافلين فيما أمرت به وكلفته.

وهذا خطابه ، والمراد بذلك جميع الأمة.

المسألة الثانية ـ هذه أول سجود القرآن ، وفيه خمس عشرة سجدة :

الأولى هذه ، خاتمة الأعراف.

الثانية في الرعد (٣) : (وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ).

__________________

(١) سورة فصلت ، آية ٢٦.

(٢) الآية السادسة بعد المائتين.

(٣) الآية ١٥

٣٠٨

الثالثة في النحل (١) : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

الرابعة في بنى إسرائيل (٢) : (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً).

الخامسة ـ في مريم : ([خَرُّوا]) (٣) (سُجَّداً وَبُكِيًّا).

السادسة ـ في أول الحج (٤) : ([يَفْعَلُ] ما يَشاءُ).

السابعة ـ في آخر الحج (٥) : (تُفْلِحُونَ).

الثامنة ـ في الفرقان (٦) : (نُفُوراً).

التاسعة ـ في النمل (٧) : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

العاشرة ـ في تنزيل (٨) : (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

الحادية عشرة ـ في ص (٩) : ([وَخَرَّ راكِعاً] وَأَنابَ).

الثانية عشرة ـ في حم (١٠) : ([إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ] تَعْبُدُونَ).

الثالثة عشرة ـ آخر (١١) النجم : [واعبدوا].

الرابعة عشرة ـ في الانشقاق (١٢) قوله : (لا يَسْجُدُونَ).

الخامسة عشرة ـ خاتمة القلم.

المسألة الثالثة ـ

روى مسلم في صحيحه عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (١٣) : إذا قرأ ابن آدم السجدة وسجد اعتزل الشيطان يبكى ، فيقول : يا ويله (١٤) أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار.

وروى البخارىّ ومسلم عن ابن عمر أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن فيقرأ سورة فيها سجدة ، فيسجد. ونسجد معه ، حتى ما يجد أحدنا مكانا لجبهته ليسجد فيه.

وروى أبو داود عن ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ عام الحج (١٥) سجدة ،

__________________

(١) آية ٥٠. (٢) آية ١٠٩.

(٣) آية : ٥٨. (٤) آية : ١٨.

(٥) آية : ٧٧.

(٦) آية ٦٠.

(٧) هذه الآية في «المؤمنون» : ١١٧ : هو رب العرش العظيم وفي التوبة ١٣٠ : رب العرش العظيم.

(٨) آية ١٥.

(٩) آية : ٢٤.

(١٠) فصلت ، آية ٣٧

(١١) آية : ٦٢.

(١٢) آية : ٢١.

(١٣) صحيح مسلم : ٨٧.

(١٤) في القرطبي ، ومسلم : وفي رواية أبى كريب : يا ويلي!

(١٥) في ل : عام الفتح.

٣٠٩

فسجد الناس كلّهم ، منهم الراكب والساجد في الأرض ، حتى إنّ الراكب يسجد على ثوبه.

المسألة الرابعة ـ اختلف الناس في سجود التلاوة ؛ فقال مالك والشافعى : ليس بواجب.

وقال أبو حنيفة : هو واجب ، وهي مسألة مشكلة عوّل فيها أبو حنيفة على أنّ مطلق الأمر بالسجود على الوجوب. ولقوله صلى الله عليه وسلم : أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة.

والأمر على الوجوب ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليها إذا قرأها. وعوّل علماؤنا على حديث عمر الثابت أنّ عمر قرأ سجدة وهو على المنبر ، فنزل فسجد فسجد الناس معه. ثم قرأ بها في الجمعة الأخرى ، فتهيأ الناس للسجود ، فقال : على رسلكم ، إن الله لم يكتبها علينا ، إلا أن نشاء. وذلك بحضرة الصحابة أجمعين من المهاجرين والأنصار ، فلم ينكر ذلك عليه أحد ، فثبت الإجماع (١) به في ذلك ؛ ولهذا حملنا جميع (٢) قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله على النّدب والترغيب.

وقوله صلى الله عليه وسلم : أمر ابن آدم بالسجود ، فسجد فله الجنة ـ إخبار عن السجود الواجب ؛ ومواظبة النبىّ صلى الله عليه وسلم تدلّ على الاستحباب.

وقد استوعبنا القول فيها في مسائل الخلاف.

المسألة الخامسة ـ لا بدّ فيها من الطهارة ؛ لأنها صلاة ، فوجبت فيها الطهارة ، كسجود الصلاة. وكذلك التكبير مثله ؛ فقد روى في الأثر عن ابن عمر أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد كبّر ، وكذلك إذا رفع كبّر.

واختلف علماؤنا هل فيها تحليل بالسلام أم لا؟ والصحيح أنّ فيها تحليلا [بالسلام] (٣) ؛ لأنه عبادة لها تكبير ، فكان فيها سلام ، كصلاة الجنازة ، بل أولى ؛ لأنّ هذا فعل وصلاة الجنازة قول.

المسألة السادسة ـ اختلف قول مالك في صلاتها في الأوقات المنهىّ عنها ؛ فإحدى الروايتين أنها تصلّى فيها ؛ وبه قال الشافعى.

الثانية : لا تصلّى ؛ وبه قال أبو حنيفة.

__________________

(١) في ل : فثبت له الإجماع.

(٢) في ل : جميعنا.

(٣) من ل.

٣١٠

متعلّق القول الأول عموم الأمر بالسجود ، ومتعلّق القول الثاني عموم النهى عن الصلوات.

والقول الثاني أقوى ؛ لأنّ الأمر بالسجود عام في الأوقات ، والنهى خاص في الأوقات ، والخاصّ يقضى على العام.

وقد روى عن مالك في المدوّنة أنه يصلّيها ما لم تصفرّ الشمس ؛ وهذا لا وجه له عندي ، والله أعلم.

المسألة السابعة ـ سجدة الحج الثانية :

قال الشافعى وابن وهب عنه وغيرهما : هي عزيمة. وقال في المدوّنة وغيرها : إنها ليست سجود عزيمة ؛ لأنه خبر عن ركوع الصلاة وسجودها ؛ ودليلنا أنّ عمر سجد فيها وهو يفهم الأمر أقعد ، وبين قوم كانوا أفهم وأسدّ ؛ فبهم فاقتد.

المسألة الثامنة ـ قال الشافعى : يسجد في النمل عند [قوله] (١) : (وَما يُعْلِنُونَ) عند تمام الآية التي فيها الأمر. وقال مالك وأبو حنيفة : يسجد عند قوله : «العليم» (٢). الذي فيه تمام الكلام ، وهو أقوى.

المسألة التاسعة ـ سجدة «ص» عند الشافعى سجدة شكر ، وليست بعزيمة. وقد روى أبو داود والترمذي ، وخرّجه البخاري عن ابن عباس ، قال : سجدة «ص» ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدها.

وقال مالك : هذا قول ابن عباس ، وهي عزيمة ؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال الله له : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) ، وقد روى أبو داود عن أبى سعيد الخدري أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ وهو على المنبر : ص ، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه ، فلما كان يوم آخر قرأها ، فلما بلغ السجدة تشزّن (٣) الناس للسجود ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي توبة نبىّ ولكني رأيتكم تشزّنتم (٤) للسجود ، ونزل فسجد وسجدوا.

__________________

(١) من ل ، آية : ٧٤.

(٢) آية ٧٨.

(٣) تشزن : تأهب وتهيأ ، واستعد. وفي ل : تشوف.

(٤) في ل : تشوفتم.

٣١١

المسألة العاشرة ـ السجود فيها عند تمام قوله (١) : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) ؛ لأنه تمام الكلام ، وموضع الخضوع والإنابة.

وقال الشافعى عند قوله (٢) : (وَحُسْنَ مَآبٍ) ؛ لأنه خبر عن التوبة وحسن المآبة.

والأول أصوب ؛ رجاء الاهتداء في الاقتداء والمغفرة عند الامتثال ، كما غفر لمن سبق من الأنبياء.

المسألة الحادية عشرة ـ السجود في فصّلت عند قوله (٣) : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) ؛ لأنه انتهاء الأمر.

وعند الشافعى (٤) : (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) ؛ لأنه خبر عن امتثال من أمر عند ذكر من استكبر ، فيكون هذا منهم. والأول الأولى ؛ لأنه يمتثل الأمر ويخرج عمن استكبر.

المسألة الثانية عشرة ـ أما سجدة «النجم» فقد روى الترمذي أن النبىّ صلى الله عليه وسلم قرأ «والنجم» فلم يسجد فيها.

والصحيح ما روى العلماء الأئمة عن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ والنّجم ، فسجد فيها وسجد من كان معه ، فأخذ رجل من القوم كفّا من حصى أو تراب ، فرفعه إلى وجهه ، وقال : يكفيني هذا. وقال عبد الله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا.

وروى ابن عباس أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون ، والجنّ والإنس ، فكيف يتأخّر أحد عنها.

المسألة الثالثة عشرة ـ روى الأئمة عن أبى هريرة أنه قرأ لهم : «إذا السماء انشقّت» ، فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها وفي : «اقرأ باسم ربّك».

فإن قيل : فقد روى أبو داود أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل مذ تحوّل إلى المدينة.

قلنا : هذا خبر لم يصحّ إسناده ، ولو صحّ فليس فيه أنه قرأه ولم يسجد فيه ، فلعله لم يقرأ به في صلاة جماعة.

المسألة الرابعة عشرة ـ في الصحيح عن أبى هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الفجر : «آلم تنزيل» ، السجدة ، وهل أتى على الإنسان [حين من الدّهر] (٥).

__________________

(١) آية ٢٤ من سورة ص.

(٢) آية ٢٥ من السورة.

(٣) آية ٣٧.

(٤) آية ٣٨.

(٥) من ل.

٣١٢

سورة الأنفال

[فيها خمس وعشرون آية]

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

فيها عشر (٢) مسائل :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها (٣) :

روى أنّ سعد بن أبى وقّاص قال : نزلت فىّ ثلاث آيات : النّفل ، وبرّ الوالدين ، والثلث.

وروى مصعب بن سعد ، عن أبيه ، قال : إذا كان يوم بدر جئت بسيف ، فقلت يا رسول الله ؛ إنّ الله قد شفى صدري من المشركين ، أو نحو هذا ، هب لي هذا السيف. فقال : هذا ليس لك ولا لي.

فقلت : عسى أن يعطى هذا من لا يبلى بلائي ، فجاءني الرسول فقال : إنك سألتنى وليس لي ، ولقد صار لي وهو لك ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) الآية.

قال الترمذي : هو صحيح.

وروى سعيد بن جبير أنّ سعد بن أبى وقّاص ورجلا من الأنصار خرجا يتنفّلان نفلا ، فوجد سيفا ملقى يقال كان لأبى سعيد بن العاصي ، فخرّا عليه جميعا ، فقال سعد : هو لي. وقال الأنصارى : هو لي ، فتنازعا في ذلك ، فقال الأنصارى : يكون بيني وبينك رأيناه جميعا وخررنا عليه جميعا ، فقال : لا أسلمه إليك حتى نأتى رسول الله ، فلما عرضا عليه القصة قال : ليس لك يا سعد ولا للأنصارى ، ولكنه لي ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) الآية.

فاتّق الله يا سعد والأنصارى ، وأصلحا ذات بينكما ، وأطيعا الله ورسوله. يقول أسلم السيف إليه ، ثم نسخت بقوله (٤) : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ...) الآية.

__________________

(١) الآية الأولى.

(٢) في ل : ثمان مسائل.

(٣) أسباب النزول : ١٣٢.

(٤) الأنفال ، آية ٤١.

٣١٣

المسألة الثانية (١) ـ النّفل في اللغة هو الزيادة ، ومنها نفل الصلاة ، وهو الزيادة على فرضها ، وولد الولد نافلة ؛ لأنه زيادة على الولد ، والغنيمة نافلة ؛ لأنها زيادة فيما أحل لهذه الأمة مما كان محرّما على غيرها ، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أحلّت لي الغنائم.

وروى أبو هريرة قال : فضّلت على الأنبياء بستّ : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرّعب ، وأحلّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون.

وروى البخاري عن همام بن منبّه ، عن أبى هريرة ، قال : [قال] (٢) رسول الله صلى الله عليه وسلم : (٣) غزا نبىّ من الأنبياء ، فقال لقومه : لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبنى (٤) بها ولما يبن بها ، ولا أحد بنى بيوتا (٥) ولم يرفع سقوفها ، ولا أحد اشترى غنما أو خلفات (٦) وهو ينتظر ولادها ، فغزا فدنا من القرية أو قريبا من ذلك ، فقال للشمس : إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم أحدسها علينا ، فحبست حتى فتح الله (٧) بجمع الغنائم ، فجاءت النار لتأكلها ، فلم تطعمها. فقال : إن فيكم غلولا قبليّا فليبايعني من كل قبيلة رجل ، فلزقت يد رجل بيده ، فقال : فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك ، فلزقت يد رجلين أو ثلاثة بيده ، فقال : فيكم الغلول ، فجاءوا برأس مثل رأس بقرة من الذهب ، فوضعوها فجاءت النار فأكلتها ، ثم أحل الله لنا الغنائم ، ورأى ضعفنا وعجزنا فأحلّها لنا.

المسألة الرابعة (٨) ـ قال ابن القاسم وابن وهب عن مالك : كانت بدر في سبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.

وروى ابن وهب أنها كانت بعد عام ونصف من الهجرة ، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين.

وقد سئل مالك في رواية ابن وهب عن عدة المسلمين يوم بدر ؛ فقال : كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدّة أصحاب طالوت.

__________________

(١) ليست هذه المسألة في ل.

(٢) من ل.

(٣) انظر صحيح مسلم : ١٣٦٦.

(٤) في ل : يبتنى.

(٥) في ل : بيتا.

(٦) الخلفة : الحامل من النوق.

(٧) في ل : حتى فتح الله عليه فجمع الغنائم.

(٨) هذا في ا. وقد جعلها في ل المسألة الثانية ، ثم رتب المسائل بعد ذلك على هذا ترتيب هذه المسألة.

٣١٤

وروى أيضا ابن وهب عن مالك قال : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عدّة المشركين يوم بدر : كم يطعمون كلّ يوم؟ فقيل له : يوما عشرا ويوما تسع جزائر (١). فقال : القوم ما بين الألف إلى التسعمائة.

وروى ابن القاسم عن مالك قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا علىّ. فقام أبو بكر فتكلم ، ثم قعد. ثم قال : أشيروا علىّ ، فقام عمر فتكلم ، ثم قعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا علىّ ، فقام سعد بن معاذ فقال : كأنك إيانا تريد يا رسول الله ، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنا معكم متّبعون. لو أتيت اليمن لسللنا سيوفنا واتبعناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا مصافّكم.

المسألة الخامسة ـ قال علماؤنا رحمهم الله ، هاهنا ثلاثة أسماء : الأنفال ، الغنائم ، الفيء.

فالنّفل : الزيادة كما بيّنا ، وتدخل فيه الغنيمة ؛ فإنها زيادة الحلال لهذه الأمة.

والغنيمة : ما أخذ من أموال الكفار بقتال.

والفيء : ما أخذ بغير قتال ؛ لأنه رجع إلى موضعه الذي يستحقّه ، وهو انتفاع المؤمن به.

المسألة السادسة ـ في محل الأنفال :

اختلف الناس فيها على ثلاثة أقوال :

الأول ـ محلها الخمس.

الثاني ـ محلها ما عاد من المشركين أو أخذ بغير حرب.

الثالث ـ رأس الغنيمة حسبما يراه الإمام.

قال القاسم بن محمد : قال ابن عباس : كان ابن عمر إذا سئل عن شيء قال : لا آمرك ولا أنهاك. فكان ابن عباس يقول : والله ما بعث الله محمدا إلا محلّلا ومحرّما قال القاسم: فسلط على ابن عباس رجل فسأله عن النّفل ؛ فقال ابن عباس : الفرس من النفل ، والسلاح من النفل. وأعاد عليه الرجل ، فقال له مثل ذلك حتى أغضبه. فقال ابن عباس : أتدرون

__________________

(١) جمع الجزور جزر وجزائر.

٣١٥

ما مثل هذا؟ مثل صنيع (١) الذي ضربه عمر بالدّرة حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه. فقال الرجل : أما أنت فقد انتقم الله منك لابن عمر (٢).

وقال السدّى وعطاء : هي ما شذّ من المشركين.

وعن مجاهد : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس ، فقال المهاجرون : لمن يدفع هذا الخمس؟ لم يخرج منّا. فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ). والصحيح أنه من الخمس ، كما روى في صحيح مسلم أنّ الإمام يعطى منه ما شاء من سلب أو غيره ؛ خلافا للشافعي ، ومن قال بقوله من فقهاء الأمصار. فأما هذا السؤال هاهنا فإنما هو عن أصل الغنيمة التي نفل على ما أنزل الله لنا من الحلال على الأمم.

المعنى : يسألك أصحابك يا محمد عن هذه الغنيمة التي نفّلتكها. قل لهم : هي لله وللرسول ، فاتقوا الله ولا تختلفوا ، وأصلحوا ذات بينكم ، لئلا يرفع تحليلها عنكم باختلافكم.

وقد روى عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا. فتسارع إلى ذلك الشبان ، وثبت الشيوخ تحت الرايات ، فلما فتح (٣) عليهم جاءوا يطلبون شرطهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا به علينا ، كنا ردءا (٤) لكم ، لو انهزمتم (٥) لانحزتم إلينا ، فأبى الشبان وقالوا : جعله رسول الله لنا ، فتنازعوا فأنزل الله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ).

وروى أنهم اختلفوا فيها على ثلاث فرق ؛ فقال قوم : هو لنا ، حرسنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون : هو لنا ، اتبعنا أعداء رسول الله. وقالت أخرى : نحن أولى بها ، أخذناها ، فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) الآية.

وروى أبو أمامة الباهلىّ ، قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ، فقال : فينا ـ أصحاب بدر ـ نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسوله ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على بواء ؛ أى على السواء.

__________________

(١) في ل : هذا مثل صنيع.

(٢) في ابن كثير : أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك.

(٣) في ل : فلما فتح الله عليهم.

(٤) الردء : العون.

(٥) في ل : لو انحزتم إلينا.

٣١٦

المسألة السابعة ـ قال علماؤنا : فسلّموا لرسول الله الأمر فيها ؛ فأنزل الله (١) : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ ...) الآية. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم. فلم يمكن بعد هذا أن يكون النفل من حقّ أحد ؛ وإنما يكون من حق رسول الله. وهو الخمس.

والدليل عليه الحديث الصحيح عن ابن عمر : خرجنا في سريّة قبل نجد ، فأصبنا إبلا ، فقسمناها ، فبلغت سهماننا أحد عشر بعيرا ، ونفّلنا بعيرا بعيرا ، فأما :

المسألة الثامنة ـ وهي سلب القتيل فإنه من الخمس عندنا ، وبه قال أبو حنيفة إذا رأى ذلك الإمام لغناء في المعطى ، أو منفعة تجلب ، أو ائتلاف يرغب.

وقال الشافعى : هو من رأس المال ؛ وظاهر القرآن يمنع من ذلك ؛ لأنه حق المالكين.

فأما الأخبار في ذلك فمتعارضة ، روى في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بسلب أبى جهل لمعاذ بن عمرو بن الجموح. وقال يوم حنين (٢) : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه ، فأعطى السلب لأبى قتادة بما أقام من الشهادة ، وقضى بالسلب أجمع لسلمة ابن الأكوع يوم ذي قرد (٣).

قلنا : هذه الأخبار ليس فيها أكثر من إعطاء السلب للقاتل. وهل إعطاء ذلك له من رأس مال (٤) الغنيمة أو من حق النبي ـ وهو الخمس؟ ذلك إنما يؤخذ من دليل آخر.

وقد قسّم الله الغنيمة قسمة حق على الأخماس ، فجعل خمسها لرسوله ، وأربعة أخماسها لسائر المسلمين ، وهم الذين قاتلوا وقتلوا ، فهم فيها شرع سواء ، لاشتراكهم في السبب الذي استحقّوها به ؛ والاشتراك في السبب يوجب الاشتراك في المسبب ، ويمنع من التفاضل في المسبب (٥) مع الاستواء في السبب ؛ هذه حكمة الشرع وحكمه ، وقضاء الله في خلقه ، وعلمه الذي أنزله عليهم.

والذي يدلّ على صحة ما ذهبنا إليه ما روى مسلم أن عوف بن مالك قال : قتل رحل من

__________________

(١) سورة الأنفال ، آية ٤١.

(٢) في ل : خيبر.

(٣) ماء على ليلتين من المدينة.

(٤) في ل : قال علماؤنا : وهل أعطى ذلك له من رأس مال.

(٥) في ل : في السلب.

٣١٧

حمير رجلا من العدو ، فأراد سلبه ، فمنعه خالد ، وكان واليا عليهم ؛ فأخبر عوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لخالد : ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال : استكثرته يا رسول الله. قال : ادفعه إليه. فلقى عوف خالدا فجرّه بردائه ، وقال : هل أنجزت (١) ما ذكرت لك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستغضب ، فقال : لا تعطه (٢) يا خالد. هل أنتم تاركو لي إمرتى. ولو كان السلب حقّا له من رأس الغنيمة لما ردّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها عقوبة في الأموال ، وذلك أمر لا يجوز بحال.

وقد ثبت أن ابن المسيّب قال : ما كان الناس ينفّلون إلّا من الخمس.

وروى عنه أنه قال : لا نفل بعد رسول الله. ولم يصح.

المسألة التاسعة ـ قال علماؤنا : النّفل على قسمين : جائز ومكروه ، فالجائز بعد القتال ، كما قال النبىّ صلى الله عليه وسلم يوم حنين : من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه.

والمكروه أن يقال قبل القتل : من فعل كذا وكذا فله كذا. وإنما كره هذا ؛ لأنه يكون القتال فيه للغنيمة.

وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : الرجل يقاتل للمغنم ، ويقاتل ليرى مكانه من في (٣) سبيل الله ؛ قال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ، ويحق للرجل أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا وإن نوى في ذلك الغنيمة ؛ وإنما المكروه في الحديث أن يكون مقصده المغنم خاصة.

المسألة العاشرة ـ قال علماؤنا : قوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) :

قوله : (لِلَّهِ) استفتاح كلام ، وابتداء بالحق الذي ليس وراءه مرمى ، الكل لله ، وقوله بعد ذلك : (وَالرَّسُولِ) قيل : أراد به ملكا. وقيل : أراد به ولاية قسم وبيان حكم.

والأول أصحّ لقوله صلى الله عليه وسلم : مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم. وليس يستحيل أن يملكه الله لنبيه تشريفا وتقديما بالحقيقة ، ويرده رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصلا على الخليقة.

__________________

(١) في ل : هل جحدت.

(٢) في ل : ألا تعطيه يا خالد.

(٣) في ل : أفي.

٣١٨

الآية الثانية ـ قوله (١) : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ، وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ روى ابن عباس : لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبى سفيان أنه مقبل من الشام ندب (٢) المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش فيها الأموال ، فأخرجوا إليها لعل الله أن ينفّلكموها ؛ فانتدب الناس ، فخفّ بعضهم ، وثقل بعضهم ؛ لأنهم لم يظنوا أن رسول الله يلقى حربا ، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسّس الأخبار ، ويسأل من لقى من الرّكبان ؛ تخوّفا على أموال الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أنّ محمدا قد استنفر لك ، فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، وبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتى قريشا يستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أنّ محمدا قد عرض لها في أصحابه. فمضى ضمضم ، وخرج النبىّ صلى الله عليه وسلم في أصحابه وأتاه الخبر عن قريش بخروجهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار النبىّ صلى الله عليه وسلم الناس ، وأخبرهم عن قريش ؛ فقام أبو بكر فقال فأحسن ، وقام عمر فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ؛ امض لما أمرك الله فنحن معك ، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل : اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون ، والذي بعثك (٣) بالحق لو سرت إلى برك الغماد ـ يعنى مدينة الحبشة ـ لجالدنا معك من دونه.

ثم قال الأنصار بعد (٤) : أن أمض يا رسول الله لما أمرت (٥) ، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.

فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى التقى بالمشركين ببدر ، فمنعوا الماء ، والتقوا ، ونصر الله النبىّ وأصحابه ، فقتل من المشركين سبعين وأسر منهم سبعين ، وغنم المسلمون ما كان معهم.

__________________

(١) الآية السابعة.

(٢) ندب المسلمين : دعاهم.

(٣) في ا : بعثنا ـ تحريف.

(٤) في ل : بعده ، امض.

(٥) في ل : لما أمرك الله.

٣١٩

المسألة الثانية ـ روى عكرمة عن ابن عباس قال : قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ـ حين فرغ من بدر : عليك بالعير (١) ليس دونها شيء. فناداه العباس وهو في الأسرى : لا يصلح هذا. فقال [له] (٢) النبىّ صلى الله عليه وسلم : لم؟ قال : لأنّ الله وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك. قال النبي صلى الله عليه وسلم : صدقت. وعلم ذلك العباس من تحدّث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بما كان من شأن بدر ، فسمع ذلك في أثناء الحديث.

المسألة الثالثة ـ خروج النبىّ صلى الله عليه وسلم ليتلقّى العير بالأموال دليل على جواز النّفر للغنيمة ؛ لأنه كسب حلال ، وما جاء في الحديث : إن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله دون من يقاتل للغنيمة ـ يراد به إذا كان ذلك قصده وحده ، ليس للدين فيه حظّ.

المسألة الرابعة ـ قال ابن القاسم وابن وهب ـ عن مالك في قول الله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) ، فقال مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قليب (٣) بدر من المشركين : قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ قالوا : يا رسول الله ؛ إنهم أموات ، أفيسمعون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنهم ليسمعون ما أقول قال قتادة : أحياهم الله له. وهذه مسألة بديعة بيناها في كتاب المشكلين ، وحقّقنا أن الموت ليس بعدم محض ، ولا فناء صرف ، وإنما هو تبدّل حال ، وانتقال من دار إلى دار ، والروح إن كان جسما فينفصل بذاته عن الجسد ، وإن كان عرضا فلا بد من جزء من الجسد يقوم به يفارق الجسد معه ، ولعله عجب (٤) الذّنب الذي ورد في الحديث الصحيح : إن كل ابن آدم تأكل الأرض إلّا عجب الذّنب ، منه خلق ، وفيه يركّب. والروح هي السامعة الواعية العالمة القابلة ، إلا أن الباري لا يخلق الإدراك إلا كما يشاء ، فلا يخلق إدراك الآخرة لأهل الدنيا ، ولا يخلق إدراك الدنيا لأهل الآخرة ، فإذا أراد سبحانه أسمع أهل الآخرة حال أهل الدنيا.

__________________

(١) في ا : عليك العير.

(٢) من القرطبي.

(٣) القليب : البئر التي لم تطو (النهاية)

(٤) عجب الذنب : أصله.

٣٢٠