أحكام القرآن - ج ٢

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٢

أحدها ـ من المسلمين ، والكاف والميم لضميرهما ؛ قاله ابن عباس ، ومجاهد.

الثاني ـ من قبيلتكم ؛ قاله الحسن ، وسعيد بن المسيّب.

الثاني ـ منكم : من أهل الميت.

المسألة الرابعة عشرة ـ قوله تعالى : (أَوْ) :

قيل : هي للتخيير. وقيل : للتفصيل.

معناه أو آخران من غيركم إن لم تجدوا منكم ـ قوله ابن المسيب ، ويحيى بن يعمر ، وأبو مجلز (١) ، وإبراهيم ، وابن جبير ، وشريح ؛ ويروى عن أبى موسى الأشعرى ، وابن عباس.

وتحقيق النظر في هذا الفصل أن قوله : (مِنْكُمْ) قد تقدّم فيه الخلاف ، وعليه يتركّب قوله : أو آخران ، وقوله : غيركم ؛ وهي مسألتان تتمّ بهما ست عشرة مسألة ، فإن كان منكم من أهل ملّتكم كان قوله : غيركم للكافرين ، وكان الآخران من ليس بمسلم وإن كان المراد به من غير قبيلتكم كان كما قال الزهري والحسن وغيرهما ؛ فقبيل الميت وعشيرته أعلم بحاله.

وتعلّق من قال بأنه من غير أهل ملّتكم بأنّ الله سبحانه خاطب المؤمنين ، ثم قال لهم: من غيركم ؛ وغير المؤمنين هم الكافرون.

وأما من قال : من أهل الميت فلأن الحجة لهم والكلام منهم ومعهم ؛ ويؤكده أيضا بأنه قال في أوّل الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، ثم قال : (مِنْ غَيْرِكُمْ) ـ يعنى أو آخران عدلان من غيركم. وبه يصحّ العطف ، وقال : (تحبسونهما من بعد الصلاة) ؛ فدلّ على أنهما من أهل الصلاة ، وإذا كانا مؤمنين احتمل أن يكون ذلك فيهما من القبيلة أو من الورثة ، ويترجّح ذلك بحسب ما تقدم.

المسألة السابعة عشرة ـ قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ، وقد تقدّم بيانه في سورة النساء.

المسألة الثامنة عشرة ـ إنّ ذلك يتضمّن الشهادة في الحضر والسفر ، وتقدّم أيضا ذكر

__________________

(١) في ا : وأبو مخلد. والمثبت من القرطبي.

٢٠١

ذلك في سورة البقرة ، ويتخصّص (١) به هاهنا أنّ الله تعالى لما قال : إذا ضربتم (٢) في الأرض ، كان ذلك شرطا فيه حيث لا يوجد مسلم في الغالب ، فيؤخذ الكافر عوضا منه للضرورة في الشهادة ؛ قاله جماعة من التابعين ، واختاره أحمد بن حنبل ، وأجاز شهادة أهل الذمة (٣) على المسلمين في السفر عند عدم المسلمين ، واحتجّ بالحديث والآية. ونبيّنه فيما بعد ، إن شاء الله تعالى.

المسألة التاسعة عشرة ـ قوله تعالى : (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) ، يعنى وقد أسندتم النظر إليهما ، واستشهدتموهما. أو ارتبتم بهما على ما تقدم بيانه في سرد القصص والروايات وذكر الآثار والمقالات.

المسألة الموفية عشرين ـ قوله تعالى : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) :

وفي ذلك دليل على حبس من وجب عليه الحقّ ، وهو أصل من أصول الحكمة ، وحكم من أحكام الدين ؛ فإن الحقوق المتوجهة على قسمين : منها ما يصحّ استيفاؤه معجّلا ، ومنها ما لا يمكن استيفاؤه إلّا مؤجّلا. فإن خلّى من عليه الحقّ وغاب واختفى بطل الحقّ وتوى (٤) ، فلم يكن بدّ من التوثّق منه ، فإما بعوض عن الحق ويكون بمالية موجودة فيه ؛ وهي المسمّى رهنا ، وهو الأولى والأوكد ؛ وإما شخص يتوب منا به في المطالبة والذمة ، وهو دون الأول ؛ لأنه يجوز أن يغيب كغيبته ، ويتعذّر وجوده كتعذره ، ولكن لا يمكن أكثر من هذا. فإن تعذّرا جميعا لم يبق إلا التوثّق بحبسه ، حتى تقع منه التوفية لما كان عليه من حقّ ؛ فإن كان الحقّ بدنيّا لا يقبل البدل كالحدود والقصاص ولم يتفق استيفاؤه معجّلا ، لم يبق إلا التوثّق بسجنه ؛ ولأجل هذه الحكمة شرع السجن.

وقد روى الترمذىّ وأبو داود أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة رجلا ثم خلّى عنه.

وفي مصنّف عبد الرزاق أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقال : احبسوه ؛ فإن مات صاحبه فاقتلوه.

__________________

(١) في ل : ويختص.

(٢) نص الآية : إن أنتم ضربتم في الأرض.

(٣) في ل : الكافر.

(٤) توى المال : ذهب فلم يرج.

٢٠٢

وهذا دليل على أنّ الشهادة يمين ، وأنه عنى بهم المتنازعين في الحق لا القائمين (١) بالشهادة فيه ؛ لأنّ القائم (٢) بالشهادة لا حبس عليه.

المسألة الحادية والعشرون ـ قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) :

وفيه أربعة أقوال :

أحدها ـ بعد العصر ؛ قاله شريح ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وقتادة.

الثاني ـ من بعد الظهر ؛ قاله الحسن.

الثالث ـ أى صلاة كانت.

الرابع ـ من بعد صلاتهما ، على أنهما كافران.

وقد روى في الصحيح أن النبىّ صلى الله عليه وسلم حلف المتلاعنين بعد العصر وروى بعد الظهر.

وفي الصحيح : من حلف على يمين بعد العصر لقى الله سبحانه وهو عليه غضبان. وهذا على طريق التغليظ بالزمان.

وقد اختلف العلماء فيه اختلافا كثيرا بيّناه في مسائل الخلاف ، وشرحنا أنّ حكم التغليظ يتعلّق بثلاثة أوجه :

أحدها ـ تغليظ بالألفاظ.

الثاني ـ تغليظ بالمكان ، كالمسجد والمنبر ؛ لأنه مجتمع الناس ، فيكون له أخزى ، ولفضيحته أشهر.

الثالث ـ التغليظ بالزمان ، كما بعد العصر ، وسيأتى ذكر ذلك في سورة «النور» إن شاء الله.

ومن علمائنا من قال : إنّ التغليظ يكون بستة أوجه :

الأول باللفظ. الثاني بالتكرار. الثالث بالمصحف. الرابع بالحال. الخامس بالمكان.

السادس بالزمان.

أما التغليظ بالألفاظ ففيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ الاكتفاء بقوله بالله. وقال أشهب : لا تجزئه.

__________________

(١) في ل : لا العالمين.

(٢) في ل : العالم.

٢٠٣

الثاني ـ الاكتفاء بقوله : بالله الذي لا إله إلّا هو. وقال ابن كنانة عن مالك : أمّا ربع دينار ، والقسامة ، واللعان ، فلا بدّ من أن يقول فيه : بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. وهو القول الثالث ، وبه قال الشافعى.

ولقد شاهدت القضاة من أهل مذهبه يحلفون بالله الذي لا إله إلا هو ، الطالب الغالب ، الضارّ النافع ، المدرك المهلك ، عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم.

وهذا ما لا آخر له إلا التسعة والتسعون اسما ، وغير هذه الأسماء التي حلفوا بها أرهب وأعظم معنى من غيرها.

وقد ثبت عن النبىّ صلى الله عليه وسلم في الصحيح : الحلف بالله وبالذي لا إله إلا هو ، وهو التغليظ ، وبالمصحف ، وهو مذهب الشافعى ، وهو بدعة ما ذكرها أحد قطّ من الصحابة ، وكلّ فصل يستوفى بموضعه إن شاء الله تعالى.

المسألة الثانية والعشرون ـ قوله تعالى : (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) :

قيل : هما الوصيّان إذا ارتيب بقولهما. وقيل : هما الشاهدان إذا لم يكونا عدلين وارتاب بهما الحاكم حلّفهما.

والذي سمعت ـ وهو بدعة ـ عن ابن أبى ليلى أنه يحلف الطالب مع شاهديه أن الذي شهدا به حقّ ، وحينئذ يقضى للمدعى بالحق.

وتأويل هذا عندي إذا ارتاب الحاكم بالقبض للحقّ فيحلف إنه لباق. وأما غير ذلك فلا يلتفت إليه. هذا في المدعى فكيف يحبس الشاهد أو يحلّف؟ هذا مما لا يلتفت إليه (١) المسألة الثالثة والعشرون ـ قوله : (بِاللهِ) :

وهذا نصّ من كتاب الله في ترك التغليظ بالألفاظ.

والذي أقول : إنه إن كان الحالف كافرا كما تقدّم في سرد الأقوال والروايات ، وقلنا بالتغليظ فلا يقال له في التغليظ قل : بالله الذي لا إله إلا هو ؛ لأنهم لا يقرّون (٢) بها ،

__________________

(١) قال القرطبي ـ معلقا : وقد تقدم في قول الطبري في أنه لا يعلم لله حكم يجب فيه على الشهادة يمين. وقد قيل : إنما استحلف الشاهدان لأنهما صارا مدعى عليهما حيث ادعى الورثة أنهما خانا في المال (٦ ـ ٣٥٥).

(٢) في ل : لا يقولون بها.

٢٠٤

وعلى إقرارهم على هذا الإنكار بذلوا الجزية ، ولكنهم يحلفون ، كما روى أبو داود وغيره أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال لليهود : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، وتغلّظ عليهم بالمكان في كنائسهم ، وبالزمان بعد صلاتهم ، كما تقدم ذكره في قصة دقوقاء (١) ؛ فإنّ الغرض من هذا التغليظ كلّه زجر الحالف عن الباطل ، والرجوع إلى الحق ، ورهبته بما يجلّ من ذلك ، حتى يكون ذلك داعية للانكفاف عن الباطل والرجوع إلى الحق ، وهو معنى(٢) : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها).

وقد حققنا هذا الغرض ، فقلنا : إن الله سبحانه ما غلظ في كتابه يمينا ، إنما قال : فيقسمان بالله. وقال تعالى (٣) : (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ). وقال مخبرا عن خليله (٤) : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ). وقال النبىّ صلى الله عليه وسلم : من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت.

ولكن قد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اتّقوا الله ، فو الله الذي لا إله إلّا هو لتعلمنّ أنّى رسول الله حقا.

وروى النسائي وأبو داود أنّ خصمين أتيا النبىّ صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمدّعى : البينة. قال : يا رسول الله ، ليس لي بيّنة. فقال للآخر : احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عليك شيء ، أو ما له عندك شيء.

وتغليظ العدد في اللعان ، وهو التكرار ، وفي القسامة (٥) مثله.

وزعم الشافعى أنه رأى ابن مازن قاضى صنعاء يحلف بالمصحف ويؤثر أصحابه (٦) ذلك عن ابن عباس ، ولم يصحّ.

وأما التغليظ بالحال فروى عن مطرّف وابن الماجشون وبعض أصحاب الشافعى أنه يحلف قائما مستقبل القبلة.

وروى ابن كنانة عن مالك : يحلف جالسا.

__________________

(١) دقوقاء : مدينة بين إربل وبغداد لها ذكر في الأخبار والفتوح ، كان بها وقعة للخوارج (ياقوت).

(٢) سورة المائدة ، آية ١٠٨.

(٣) سورة يونس ، آية ٥٣.

(٤) سورة الأنبياء ، آية ٥٧.

(٥) القسامة : الأيمان تقسم على الأولياء في الدم (المختار).

(٦) ويؤثر أصحابه : ينقلون.

٢٠٥

والذي عندي أنه يحلف كما يحكم عليه بها إن قائما فقائما ، وإن جالسا فجالسا ؛ إذ لم يثبت في أثر ولا نظر اعتبار قيام أو جلوس.

وتغليظ المكان كما قلنا في مسائل الخلاف ، وقد قال النبىّ صلى الله عليه وسلم : من حلف على منبري بيمين كاذبة فليتبوّأ (١) مقعده من النار.

فقيل : أراد أن يبيّن الحال ؛ لأنه مقطع الحقوق. وقيل : أراد أن يخبر عن قوم عاهدوا وحلفوا على المنبر للناس ثم غدروا.

وروى أنّ عبد الرحمن بن عوف رأى رجلا يحلف بين الركن والمقام فقال : أعلى دم أو على مال عظيم؟ فدلّ ذلك على أنه عندهم من المستقرّ في الشرع ألّا يحلف هنالك إلا على ما وصف ، فكلّ مال تقطع فيه اليد ، وتسقط فيه حرمة العضو فهو عظيم.

المسألة الرابعة ، والعشرون ـ قوله تعالى : (إِنِ ارْتَبْتُمْ) :

والريبة هي التهمة ؛ يعنى من ادّعى عليهما بخيانة. واختلف في المرتاب ، فقيل : هو الحاكم. وقيل : هم الورثة ؛ وهو الصحيح.

ويمين التهمة والريبة على قسمين :

أحدهما ـ ما تقع الرّيبة فيه بعد ثبوت الحق أو توجّه الدعوى ؛ فهذا لا خلاف في وجوب اليمين.

الثاني ـ التهمة المطلقة في الحقوق والحدود ؛ وهو تفصيل طويل ، بيانه في أصول المسائل وصورها من المذهب ، وقد تحقّقت هاهنا الدعوى ، وثبتت على ما سطر في الروايات.

المسألة الخامسة والعشرون ـ قوله : (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً) :

قال علماؤنا : معناه لا نشتري به ذا ثمن ، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

وهذا ما لا يحتاج إليه ؛ فإنّ الثمن عندنا مشترى ، كما أن المثمون مشترى ، فكلّ واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا ، كان البيع دائرا على عرض أو نقد ، أو على عرضين أو نقدين ، وعلى هذا الأصل تنبنى مسألة ما إذا أفلس المشترى ووجد متاعه عند البائع ، هل يكون أولى به؟ قال أبو حنيفة : لا يكون أولى به ، وبناه على هذا الأصل ، وقد بيناه في مسائل الخلاف.

__________________

(١) فليتبوأ مقعده من النار : فلينزل منزله من النار.

٢٠٦

المسألة السادسة والعشرون ـ قوله تعالى : (بِهِ) :

فيه ثلاثة أقوال :

الأول ـ يعنى القول الذي قلناه.

الثاني ـ أن الهاء تعود على الله تعالى. المعنى : لا نبيع حظّنا من الله تعالى بهذا العرض.

الثالث ـ هو ضمير الجماعة ، وهم الورثة ، وهم المتهمون الذين لهم الطلب ولهم التحليف ، والحاكم يقتضى (١) لهم وينوب عنهم في إيفاء الحق.

والصحيح عندي أنه يعود على القول ، فبه يتمكّن المعنى ولا يحتاج إلى سواه.

المسألة السابعة والعشرون ـ قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) :

معناه : لا نشهد الزّور ، ولا نأخذ رشوة لنكذب ، ولو كان المشهود له ذا قربى ؛ قاله ابن زيد ؛ وهذا بناء على أنها شهادة. ومن قال : إنها يمين قال : التقدير : لا نأخذ بيميننا بدلا منفعة ، ولو كان ذلك لذي القربى ، فكيف لأجنبىّ.

المسألة الثامنة والعشرون ـ قوله تعالى : (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) :

يحتمل أن يريد ما علم الله ، ويحتمل أن يريد به لا نكتم ما أعلمنا الله من الشهادة ؛ أضافها إليه لعلمه بها ، وأمره بأدائها ، ونهيه عن كتمانها ، قال علماؤنا : ويقولان في يمينهما : بالله إن صاحبكم بهذا أوصى أنّ هذه تركته.

المسألة التاسعة والعشرون ـ قوله تعالى : (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) :

يحتمل أنّ هذه الألفاظ لا تتعيّن لليمين ، ولا للشهادة ، وإنما تكون اليمين على نفى الدعوى كيفما كانت ، وتكون الشهادة بصفة الحال كما جرت ، فأما أن يقول الشاهد : إنى لا أشترى بشهادتى شيئا ، ولو كان قرابتي. أو يقولها الحالف في يمينه ، فلا يلزم ذلك عندي ولا عند أحد ، ولكن يحلف أو يشهد كما وصفنا ويعتقد ما قال الله تعالى ، فهذا الذي أخبر الله تعالى به يكون في اعتقاده لا في لفظه في شهادة أو يمين.

المسألة الموفية ثلاثين ـ قوله تعالى (٢) : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً) :

يريد ظهر ، وأظهر شيء في الطريق ما عثر عليه فيها ، ويستعمل فيما كان غائبا عنك

__________________

(١) في ل : يقضى.

(٢) سورة المائدة ، آية ١٠٧

٢٠٧

وكنت جاهلا به ، ثم حضر لديك واطّلعت عليه ، ومنه قوله تعالى (١) : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) لأنهم كانوا يطلبونهم ، وقد خفى عليهم موضعهم. التقدير : إذا نفذ الحكم عليهم في الظاهر باليمين ، ثم ظهر وتبيّن بعد ذلك كذبهم.

المسألة الحادية والثلاثون ـ قوله : (أَنَّهُمَا) :

قيل : هما الشاهدان ؛ قاله ابن عباس. وقيل : هما الوصيّان ؛ قاله ابن جبير. وهو مبنيّ على ما تقدم ، ويتركب عليه ، ويختلف التقدير بحسب اختلافه كما تقدّم.

المسألة الثانية والثلاثون ـ قوله : (إِثْماً) :

يحتمل أن يريد به عقوبة ، ويحتمل أن يريد به غرما ، وظاهر الإثم العقوبة ، لكن صرف عن هذا الظاهر قوله : استحقّا ، والعقوبة لا تستحقّ بالمعاصي ، ولا يستحقّ على الله شيء حسبما تقرّر في الأصول ، فيكون معناه استوجبا غرما بطريقة.

ويدلّ على صحة هذا الاحتمال قوله تعالى (٢) : (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) ؛ فإنما يستحقّ على هؤلاء ما كانا استحقّاه ، ويدلّ عليه أيضا أنّ القوم ادّعوا أنه كان للميت دعوى من انتقال ملك (٣) عنه إليهما ببعض ما تزول به الأملاك مما يكون فيه اليمين على ورثة الميت دون المدعى ، وتكون البينة فيه على المدّعى.

المسألة الثالثة والثلاثون ـ قوله تعالى : (فَآخَرانِ) :

إنما هو بحسب الاتفاق أنّ الوارثين كانا اثنين ، ولو كان واحدا لأجزأه.

المسألة الرابعة والثلاثون ـ قوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) :

معناه ممن كان نفذ عليهم القضاء قبل ذلك بوصية أو دين أو غير ذلك مما كان الميت ذكره ، وهم الورثة.

ومن يعجب فعجب قول علمائنا : إنّ في قوله «عليهم» ثلاثة أقوال ، لا نطوّل بذكرها ، ولا نحفل بها ؛ لأنّ قوله : «استحقّ» مع قوله «على» متلائم فلا يحتاج إليها.

__________________

(١) سورة الكهف ، آية ٢١.

(٢) سورة المائدة ، آية ١٠٧.

(٣) في ل : ملكه.

٢٠٨

المسألة الخامسة والثلاثون ـ قوله تعالى : (الْأَوْلَيانِ) :

وهذا فصل مشكل المعنى مشكل الإعراب ، كثر فيه الاختلاط :

أما إعرابه ففيه أربعة أقوال :

الأول ـ أنه بدل من الضمير في «يقومان» ، ويكون التقدير : فالأوليان يقومان مقام الأولين.

وهذا حسن ؛ لكن فيه ردّ البعيد إلى القريب في البدلية بعد ما حال بينهما من طويل الكلام ، ويكون فاعل «استحق» ـ بضم التاء ـ مضمرا تقديره الحقّ أو الوصية أو الإيصاء أو المال.

وقيل : فاعل استحق عائد على الإثم (١) المتقدم ذكره ، وهو الغرم للمال ، كما قدمناه.

الثاني ـ أن «الأوليان» فاعل باستحق ، يريد الأوليان باليمين بأن يحلفا من يشهد بعدهما ، فإن جازت شهادة النصرانيين كان الأوليان النصرانيين ، والآخران من غير بيت [أهل] (٢) الميت.

هذا قول بعضهم. ولا أقول به ؛ وإنما يكون تقدير الآية على هذا : من الذين استحق عليهم الأول وبالحق.

الثالث ـ أن يكون بدلا من قوله : آخران.

الرابع ـ أن يكون على الابتداء ، والخبر مقدم ، تقديره فالأوليان آخران.

والصحيح من هذا هو الأول ، وقد بينّاه في الملجئة ، وأكملنا تقدير الآية فيه.

وأما من قرأ الأولين ـ وهو حمزة ، وأبو بكر ـ فيرجع إلى الأولين ، وهو حسن. وقرأ حفص استحق بمعنى حقّ عليهم.

ومن الغريب أنهم اختلفوا في قوله : (عَلَيْهِمُ) ؛ فقيل فيهم ، كما قال تعالى (٣) : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) ؛ أى في ملك سليمان. وهذا كثير.

وقال قوم : معناه منهم ، كما قال تعالى (٤) : (إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ). وهذه دعاوى وضرورات لا يحتاج إليها ، ولا يصحّ مرادهم في بعض ما استشهد به منها.

__________________

(١) في ل : المثل.

(٢) من ل.

(٣) سورة البقرة ، آية ١٠٢.

(٤) سورة المطففين ، آية ٢

٢٠٩

المسألة السادسة والثلاثون ـ في معنى الأوليان :

فيه ثلاثة أقوال : الأول ـ قال ابن عباس : الأولى بالشهادة.

الثاني ـ قال ابن جبير : الأولى بالميت من الورثة.

الثالث ـ الأولى بتحليف غيره ؛ قاله ابن فورك ؛ وهو يرجع إلى الثاني ، وهو أصح من الأول.

المسألة السابعة والثلاثون ـ قوله : (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا) :

المعنى : لقولنا أحقّ من قولهما.

وهذا القول كما قدمناه محمول على المعنى ، وأنّ يمين الحالف لا تكون إلا بلفظ الدعوى. والحكمة في ذلك أنّ اليمين إذا كانت بإنّ قولي أصدق من قولك ربما ورد في يمينه ، بأن يكون مدّعيه قد كذب من كل وجه ، وكذب هو من وجه واحد ، فيلزم (١) التصريح حتى يتحقق الكذب ، وتحصل المهاجرة إن خالف ، ليأتى بالصدق على وجهه ؛ فإذا صرّح بالقول في اليمين لم ينفعه ما نوى إذا أضمر من معنى اليمين خلاف الظاهر منها ، لقول النبىّ صلى الله عليه وسلم (٢) : يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك. وهو حديث صحيح ، ومعنى قويم متفق عليه قررناه في مسائل الفقه (٣).

المسألة الثامنة والثلاثون ـ في بقاء معنى هذه الآية أو ارتفاعه :

قال ابن عباس : حكمها منسوخ. وقال الحسن : حكمها ثابت ، فمن قال : إنها منسوخة قال : إنّ اليمين الآن لا تجب على الشاهد ؛ لأنه إن ارتيب به لم تجز شهادته ، وإن لم تكن هناك ريبة ولا في حاله خلّة لم يحتج إلى اليمين ، وعلى هذا عوّل جمهور العلماء ونخبتهم. وقد قرر (٤) الله تعالى ذلك وحقّقه بأمره في قوله تعالى (٥) : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ). و (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) (٦). فوقعت الشهادة على العدالة ، واقتضيت اليمين منها إن كانت فيها.

__________________

(١) في ل : فلا يلزم.

(٢) صحيح مسلم : ١٢٧٤.

(٣) في ل : الخلاف.

(٤) في ل : قدر.

(٥) سورة الطلاق ، آية ٢.

(٦) سورة البقرة ، آية ٢٨٢

٢١٠

وأما من قال : إنها ثابتة فاختلفوا فيه ؛ فمنهم من قال : إنّ شهادة أهل الذمة جائزة في السفر ؛ منهم أحمد كما تقدم يجوّزها في السفر عند عدم المسلمين بغير يمين ، وصار بعض أشياخنا إلى أنّ ذلك باق باليمين ، وهو خرق للإجماع ، وجهل بالتأويل ، وقصور عن النظر ، وإذا أسقط أحمد اليمين ، فلا حجة له في الآية ولا في الحديث ؛ لأن اليمين تثبت فيهما جميعاً.

والصحيح أن الشهادة اليمين ، وهي هاهنا يمين الوصيّين ، كما سمّيت اليمين في اللّعان شهادة.

وقال الطبري : إنما حكم الله سبحانه باليمين على الشاهدين في هذا الموضع من أجل دعوى ورثة الميت على المسند إليهما الوصية بالخيانة ، أو غير ذلك ، ما لا يبرأ فيه المدّعى ذلك قبله إلا بيمين ؛ فإنّ نقل اليمين إلى ورثة الميت إنما أوجبه الله تعالى بعد أن عثر على الشاهدين في أيمانهما بإثم ، وظهر على كذبهما في ذلك بما ادّعوا من مال الميت أنه باعه منهما ، وهذا بناء على أن الخيانة ظهرت في أداء المال ، ولذلك حلفا مع الشهادة.

قال القاضي ابن العربي : وهذا يصحّ على إحدى الروايات التي ذكر فيها أنهما ادّعيا بيع الجام منهما.

وأما على الرواية الأخرى فلا يستقيم هذا التأويل ؛ لأنّ الشاهدين أدّيا التركة فيما ذكر فيها ، وانقلبا على ستر وسلامة ، ثم بعد ذلك ظهرت الخيانة في الجام ؛ إما بأنه وجد يباع ، وإما بتحرج تميم الداري وتأثّمه وأدائه ما كان أخذه منه.

وتحقيق الكلام فيه أنّ كلّ رواية من تلك الروايات عضدتها صيغة القصة (١) في كتاب الله وسردوها (٢) فإنها صحيحة ، وكل ما لم يعضده منها فهو مردود.

أما إنه إذا فسرت الكلام في كتاب الله فاحتجت إلى تجويز أو تقديم أو تأخير فكلما كان أقل في ذلك من التأويلات فهو أرجح ، وكلما كان من خلاف الأصول فيه أقل فهو أرجح ، كتأويل فيه إجازة شهادة (٣) الكافر وإحلاف الشاهد على شهادته ؛ فإنّ

__________________

(١) قصة الجام كاملة سبقت صفحة ٧١٣ ، وهي في القرطبي : ٦ ـ ٣٤٦.

(٢) في ل : وسردناها.

(٣) في ا : وشهادة.

٢١١

التأويل الذي يخرج عنه هذا هو أرجح ، ولا يسلم تأويل من اعتراض ؛ فإن البيان من الله تعالى في هذه الآية للأحكام جاء على صفة غريبة (١) وهو سياقه على الإشارة إلى القصة ؛ ولذلك جاء بانتقالات كثيرة ، منها أنه قال : (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما). وربما كان المدعى واحدا ، فليس قوله تعالى : (فآخران) خارجا مخرج الشرط ، وإنما هو كناية عمّا جرى من العدد في القصة ، والواحد كالاثنين فيها ؛ فيطلب الناظر مخرجا أو تأويلا للفظ لا يحتاج إليه ، فيدخل الإشكال على نفسه من حيث لا يشعر به ، فلا يساحل (٢) عن هذا البحر أبدا ؛ وكذلك ما جرى من التعديد لا يمنع من كون الشهادة بمعنى اليمين ، كما في اللعان. وإن كان لم يذكر في اللّعان عددا ، وجرى ذكره هاهنا لاتّفاقه في القصة ؛ لا لأنه شرط في الحكم.

وكذلك ذكر العدالة تنبيها على ما يجب ؛ لأنه إن أشهده وجب أن يكون عدلا لتحمل الشهادة ، فإن ائتمنه وجب أن يكون عدلا لأداء الأمانة.

المسألة التاسعة والثلاثون ـ في تقدير الآية :

وهو : يا أيّها الذين آمنوا إذا ضربتم في الأرض ، وحضركم المرض الذي هو سبب الموت ، وأردتم الوصية فأشهدوا ذوى عدل منكم من قرابتكم أو آخران من غيركم فإن خافا فاحبسوهما على اليمين إن عدمتم البينة. فإن تبينت بعد ذلك خيانتهم حلف ممن حلفوا له ، وهو أولى باستحقاق ما يجب باليمين.

وعلى مذهب أحمد يكون تقدير الآية : فاشهدوا ذوى عدل من المسلمين ، فإن لم تجدوا فأشهدوا الكفّار ؛ فإن أدّيا ما أحضرا له أو ائتمنا عليه فبها ونعمت ، وإن أدركتهم تهمة أو تبينت عليهم خيانة ، حلفوا. وليس في الآية ما يدلّ على قبول شهادتهم في الوصية على مذهب أحمد.

وإنما قبلنا نحن شهادة العدل في الوصية بدليل آخر غير هذه الآية ، وكذلك قوله : إنما يكون ذلك من قبول شهادة الكفار إذا عدم المسلمون ، وليس في هذه الآية إلا التسوية بينهما ، فكلّ شيء يعترضكم من الإشكال على دليلنا وتقديرنا الذي قدّرناه آنفا ، فانظروه في موضعه هاهنا تجدوه مبيّنا إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في ل : عربية.

(٢) ساحل : أتى ساحل البحر وشاطئه.

٢١٢

سورة الأنعام

فيها ثمان عشرة آية

الآية الأولى ـ قوله تعالى (١) : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

فيها سبع مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ) :

اعلموا أنّا قد بيّنا هذه الآية في ملجئة المتفقهين إلى معرفة غوامض النحويين بما المقصود منه هاهنا أنّ «عنده» كلمة يعبّر بها عما قرب منك. وتحقيقه أن دنوّ الشيء من الشيء يقال فيه قريب (٢) ، ونأيه عنه يقال فيه بعيد ، وأصله المكان في المساحة (٣) ، تقول: زيد منك ، وعمر وبعيد عنك.

ويوضع الفعل موضع الاسم ؛ فتقول : زيد قربك ، ثم ينقل إلى المكانة المعقولة غير المحسوسة ، فيقال : العلم منك قريب ، وعليه يتأوّل ما يخبر به عن الباري سبحانه من ذلك ، وبه يفسّر قوله سبحانه (٤) : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) بعشرين معنى جائزة (٥) على الله سبحانه ، مما يصحّ أن يوصف بها ويخبر عنه بمعناها على ما بيّنا في كتاب المشكلين.

وتقول : زيد قدّامك ، وعمر وراءك. فإذا قلت زيد قدّامك احتمل المسافة من لدن جسمه إلى ما لا ينحصر منتهاه قدما ، وكذلك وراءك ، فصغّروه إذا أرادوا قرب المسافة من المخبر عنه ، فقالوا : قديديمة (٦). وإذا أرادوا تخليص القرب بغاية الدنو قالوا : زيد عندك ، عبّروا به عن نهاية القرب ، ولذلك لم يصغّروه ، فيقولوا فيه عنيد.

وقد يعبّر بها أيضا عما في ملك الإنسان ، فيقال : عنده كذا وكذا ؛ أى في ملكه لأنّ

__________________

(١) الآية التاسعة والخمسون.

(٢) في ل : قريب منه.

(٣) في ل : المسافة.

(٤) سورة البقرة ، آية ١٨٦.

(٥) في ل : معتبرين معنى جائز.

(٦) تصغير قدام (القاموس).

٢١٣

الملك يختصّ بالمرء اختصاص الصفة بالموصوف ؛ فعبّروا بأقرب الوجوه إليه بقوله : عنده ، وهو المراد بقوله في الحديث : نهى النبىّ صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك ـ يعنى في ملكك.

إذا ثبت هذا ـ وهي :

المسألة الثانية ـ فقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) يحتمل أن يريد به قربها منه قرب مكانة وتيسير ، لا قرب مكان. ويحتمل أن يريد أنها في ملكه يظهر منها ما يشاء ويخفى ما يشاء.

المسألة الثالثة ـ هذه الآية أصل من أصول عقائد المسلمين ، وركن من قواعد الدين ، معظمها يتفسّر بها ، وفيها من الأحكام نكتة واحدة ؛ فأما منزعها في الأصول فقد أوضحناه في كتاب المشكلين ؛ وأما نكتها الأحكامية فنشير إليها في هذا المجموع ، لأنها من جنس مضمونه ، ومع هذا فلا بدّ من الإشارة إلى ما تضمّنه كتاب المشكلين لينفتح بذلك غلق (١) الحكم المطلوب في هذا المجموع.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (مَفاتِحُ الْغَيْبِ) : واحدها مفتح ومفتاح ، وجمعه مفاتح ومفاتيح ، وهو في اللغة عبارة عن كلّ معنى يحلّ غلقا ، محسوسا كان كالقفل على البيت ، أو معقولا كالنظر ، والخبر يفتح قفل الجهل عن العلم والغيب ، وهي :

المسألة الخامسة ـ عبارة عن (٢) متعلق لا يدرك حسّا أو عقلا ، وكما لا يدرك البصر ما وراء الجدار أو ما في البيت المقفل ، كذلك لا تدرك البصيرة ما وراء المحسوسات الخمس ، والمحسوسات منحصرة الطرق بانحصار الحواسّ ، والمعقولات لا تنحصر طرقها إلا من جهة قسمين :

أحدهما ـ ما يدرك ببديهة النظر.

الثاني ـ ما يتحصّل من سبيل النظر.

أما إنه لها أمهات خمس وقعت الإشارة إليها وجاءت العبارة عنها بقوله تعالى (٣) :

__________________

(١) الإغلاق : ضد الفتح ، والاسم : الغلق.

(٢) في ل : عبارة عن كل متعلق.

(٣) سورة لقمان ، آية ٣٤.

٢١٤

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

فالأمّ الكبرى ـ الساعة ؛ وما تضمّنت من الحشر والنّشر والموقف ، وما فيه من الأهوال ، وحال الخلق في الحساب ، ومنقلبهم بعد تفضيل وحطّ وتفصيل الثواب والعقاب.

الأم الثانية ـ تنزيل الغيث وما يترتّب عليه من الإحياء والإنبات ، وقد جاء في الأثر أن الله عز وجل وضع ذلك على يدي ميكائيل وتحت نظره ملائكة لا يحصيها إلا الله سبحانه تصدر عن أمره في تنفيذ المقادير المتعلقة بذلك من إنشاء الرّياح ، وتأليف السحاب ، وإلقاحها بالماء ، وفتقها بالقطر ، وعلى يدي كلّ ملك قطرة ينزلها إلى بقعة معلومة لينمّى بها شجرة مخصوصة ؛ ليكون رزقا لحيوان معيّن حتى ينتهى إليه.

الأم الثالثة ـ ما تحويه الأرحام ، وقد وكل الله سبحانه بذلك في مورد الأمر ملكا يقال له إسرافيل ، وفي زمامه من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وقرن بكل رحم ملكا يجرى على يديه تدبير النّطفة في أطوار الخلقة.

الأم الرابعة ـ قوله تعالى (١) : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً) :

وهو معنى خبأه الله سبحانه عن الخلق تحت أستار الأقدار ، بحكمته القائمة ، وحجّته البالغة ، وقدرته القاهرة ، ومشيئته النافذة ، فكائنات غد تحت حجاب الله ، ونبّه بالكسب عن تعميتها ؛ لأنه أوكد ما عند المرء للمعرفة ، وأولاه للتحصيل ، وعليه يتركّب العمر والرزق ، والأجل ، والنّجاة ، والهلكة ، والسرور ، والغم ، والغرائز المزدوجة في جبلّة الآدمي من مفروح به أو مكروه له.

الأم الخامسة ـ قوله تعالى (٢) : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) :

نبّأ به عن العاقبة التي انفرد بالاطلاع عليها ربّ العزة.

وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد هذه الجملة عن جماعة من الصحابة ؛ منهم أبو ذر ، وأبو هريرة ؛ قالا : كان النبىّ صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهراني أصحابه ،

__________________

(١ ـ ٢) سورة لقمان ، آية ٣٤

٢١٥

فيجيء الغريب فلا يدرى أيّهم هو حتى يسأل عنه ، فطلبنا إلى رسول الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه ، فبنينا له دكّانا من طين ، كان يجلس عليه ، وكنا نجلس جانبيه ، فإنا لجلوس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه إذ أقبل رجل من أحسن الناس وجها ، وأطيب الناس ريحا ، وأنقى الناس ثوبا ، كأن ثيابه لم يمسها دنس ، إذ وقف في طرف السّماط (١) ، فقال : السلام عليك يا رسول الله. فردّ عليه السّلام ، ثم قال: يا محمد ، أدنو؟ قال : ادنه. فما زال به يقول : أدنو؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بقول له : ادنه ، حتى وضع يديه على ركبتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ؛ أخبرنى ما الإسلام؟ قال : الإسلام أن تعبد الله ، ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة ، وتحجّ البيت وتصوم رمضان. قال : فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال : نعم. قال : صدقت.

قال : فلما أن سمعنا قوله يسأله ويصدقه أنكرنا ذلك.

ثم قال : يا محمد ، أخبرنى ما الإيمان؟ قال : أن تؤمن بالله والملائكة والكتاب والنبيين ، وتؤمن بالقدر كلّه.

قال : فإذا فعلت ذلك فقد آمنت؟ قال : نعم. قال : صدقت.

قال : فما الإحسان؟ قال : الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال : صدقت.

قال : فمتى الساعة؟ قال : فنكّس فلم يجبه ، ثم دعاه فلم يجبه ، ثم رفع رأسه ، فحلف بالله ، وقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل ، ولكن لها علامات يجئن (٢) ، إذا رأيت رعاء (٣) الغنم يتطاولون في البنيان ، ورأيت الحفاة المرأة ملوك الأرض ، ورأيت المرأة تلد ربّها ، هن خمس لا يعلمهن إلّا الله (٤) : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). وذكر كلمة معناها ، ثم صعد إلى السماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي

__________________

(١) السماط : الجانب (المختار).

(٢) في ل : يحس.

(٣) رعاء : جمع راع (المصباح).

(٤) سورة لقمان ، آية ٣٤ ، وانظر الحديث في صحيح مسلم : ٣٨ ، ٣٩

٢١٦

بعث محمدا بالهدى ودين الحق ما كنت بأعلم به من رجل منكم ، وإنه لجبريل نزل عليكم في صورة دحية الكلبي ، يعلّمكم أمر دينكم.

المسألة السادسة ـ قال السدّى : المراد بهذا خزائن الغيب.

وقال ابن عباس : مفاتيح الغيب خمس ، وقرأ الآيات الخمس المتقدمة.

وقال بعضهم : هو ما يتوصّل به إلى علم الغيب من قول الناس : افتح علىّ كذا ؛ أى أعطنى ، أو علّمنى ما أتوصّل [به] (١) إليه.

فأما قول السدى : إن المراد بالمفاتح الخزائن فمجاز بعيد.

وأما قول ابن عباس فعلم سديد من فكّ شديد.

وأما قول الثالث فأنكره شيخنا النحوي نزيل مكة ، وقال : أجمعت ـ أى الفرقة السالفة الصالحة من الأمّة ـ على غيره ؛ وذلك من قولهم أصحّ وأولى.

وأظنه لم يفهم المقصود من هذا القول ، ولا اغتزى فيه المغزى (٢) ، ولقد ألحم فيه الصواب وسدّى ، وإذا منحته نقدا لم تعدم فيه هدى ؛ عند الله تعالى علم الغيب ، وبيده الطرق الموصلة إليه ، لا يملكها إلّا هو ؛ فمن شاء اطلاعه عليها أطلعه ، ومن شاء حجبه عنها حجبه ، فلا يكون ذلك من إفاضته إلّا على رسله ، بدليل قوله سبحانه (٣) : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ، وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ).

المسألة السابعة ـ مقامات الغيب الخمسة التي لا يعلمها إلا الله لا أمارة عليها ، ولا علامة عليها ، إلا ما أخبر به الصادق المجتبى لاطلاع الغيب من أمارات الساعة ، والأربعة سواها لا أمارة عليها ؛ فكلّ من قال : إنه ينزل الغيث غدا فهو كافر ، أخبر عنه بأمارات ادّعاها ، أو بقول مطلق. ومن قال : إنه يعلم ما في الرّحم فهو كافر ؛ فأما الأمارة على هذا فتختلف ؛ فمنها كفر ، ومنها تجربة ، والتجربة منها أن يقول الطبيب : إذا كان الثدي الأيمن مسودّ الحلمة فهو ذكر ، وإن كان ذلك في الثدي الأيسر فهو أنثى ؛ وإن كانت المرأة تجد الجنب

__________________

(١) من ل.

(٢) في ل : ولا اعتزى فيه المعزى.

(٣) سورة آل عمران ، آية ١٧٩

٢١٧

الأيمن أثقل فهو ذكر ، وإن وجدت الجنب الأشأم (١) أثقل فالولد أنثى ، وادّعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم نكفّره ، ولم نفسّقه.

وأما من ادّعى علم الكسب في مستقبل العمر فهو كافر ، أو أخبر عن الكوائن الجملية أو المفصّلة فيما يكون قبل أن يكون ، فلا ريبة في كفره أيضا.

فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا : يؤدّب ويسجن ولا يكفر ، أما عدم تكفيره فلأنّ جماعة قالوا : إنه أمر يدرك بالحساب ، وتقدير المنازل ، حسبما أخبر الله سبحانه في قوله جلّ وعلا (٢) : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) ؛ فلحسابهم له ، وإخبارهم عنه ، وصدقهم فيه ، توقفت علماؤنا عن الحكم بتكفيرهم.

وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشكّ على العامّة في تعليق العلم بالغيب المستأنف ولا يدرون قدر الفرق بين هذا وغيره ، فتشوّش عقائدهم في الدين ، وتتزلزل قواعدهم في اليقين ، فأدّبوا حتى يسرّوا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به.

الآية الثانية ـ قوله تعالى (٣) : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ، وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ قال علماؤنا : أمر الله سبحانه نبيّه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن المشركين الذين يخوضون في آيات الله ، وفي ذلك نزلت.

والخوض هو المشي فيما لا يتحصّل حقيقة ، من الخائض في الماء الذي لا يدرى باطنه ، استعير من المحسوس للمعقول على ما نبّهنا عليه في الأصول ، وحرّم الله سبحانه المشاركة لهم في ذلك على رسوله بالمجالسة ، سواء تكلّم معهم في ذلك أو كرهه.

وهذا دليل على أنّ مجالسة أهل المنكر لا تحل (٤).

__________________

(١) في القاموس : اليد الشؤمى ضد اليمنى.

(٢) سورة يس : ٣٩.

(٣) الآية الثامنة والستون.

(٤) في ل : لا تجوز.

٢١٨

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

قال قوم : هذا خطاب من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم ، والمراد بذلك الأمّة ، وكأنّ القائلين بذلك ذهبوا إلى تنزيه النبىّ صلى الله عليه وسلم عن النسيان ، وهم كبار الرافضة ، قبّحهم الله ، وإن عذرنا أصحابنا في قولهم : إن قوله تعالى : (١) (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) ، خطاب للأمّة باسم النبىّ صلى الله عليه وسلم ، لاستحالة الإشراك عليه ، فلا عذر لهم في هذا الجواز النسيان على النبىّ صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى (٢) : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى). وقال صلى الله عليه وسلم ـ مخبرا عن نفسه : إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، وقال ـ وقد سمع قراءة رجل [يقرأ] (٣) : لقد أذكرنى كذا وكذا آية كنت أنسيتها.

وقال في ليلة القدر : تلاحى رجلان فنسيتها.

وقال : لا يقولنّ أحد كم نسيت آية كذا ، بل نسيتها ، كراهية إضافة اللفظ إلى القرآن ، لقوله تعالى (٤) : (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى).

وفائدته أنّ لفظ «نسيت» ينطلق على تركت انطلاقا طبقيا ، ثم نقول في تقسيم وجهى متعلقه سهوت إذا كان تركه عن غير قصد ، وعمدت إذا كان تركه عن قصد ، ولذلك قال علماؤنا : إن قوله : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها ـ عامّ في وجهى النسيان العمد والسهو.

وقوله إذا ذكرها : يعنى أن الساهي يطرأ عليه الذكر فيتوجّه الخطاب ، وأن العامد ذاكر أبدا فلا يزال الخطاب يتوجّه عليه أبدا ، والله أعلم.

الآية الثالثة ـ قوله تعالى (٥) : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).

__________________

(١) سورة الزمر ، آية ٦٥.

(٢) سورة الأعلى ، آية ٦.

(٣) من ل.

(٤) سورة طه ، آية ١٢٦.

(٥) الآية الثالثة والثمانون.

٢١٩

روى ابن وهب ، وابن القاسم ، وابن عبد الحكم ، والوليد بن مسلم ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه (١) : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) ـ قال : بالعلم قال ابن وهب ، عن مالك : ليس العلم بكثرة الرواية ، وإنما هو نور يضعه الله في قلب من يشاء.

وقال ابن مسعود : ليس العلم بكثرة الرواية ؛ وإنما هو خشية الله تعالى.

وروى المنصور ، عن أبيه ، عن جده ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : همة السفهاء الرواية ، وهمّة العلماء الدّراية.

وقال مالك ، لابني أخته أبى بكر وإسماعيل : إن أحببتما أن ينفعكما الله بهذا الشأن فأقلّا منه ، وتفقّها فيه.

وروى ابن القاسم ، عن مالك : نرفع درجات من نشاء في الدنيا.

قال القاضي (٢) : وصدق ؛ علم الدنيا عنوان الآخرة وسبيلها.

والذي أوتيه إبراهيم من العلم بالحجّة ، وهي التي تذكر للخصم على طريق المقابلة كان في الدنيا بظهور دلالة التوحيد وبيان عصمة إبراهيم عن الجهل بالله تعالى ، والشكّ فيه ، والإخبار ـ أنّ ما جرى بينه وبين قومه إنما كان احتجاجا ، ولم يكن اعتقادا ، وقد مهدنا ذلك في المشكلين.

الآية الرابعة ـ قوله تعالى (٣) : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ).

قال القاضي أبو بكر بن العربي (٤) : هذه الآية أصولية ؛ فإنها تفيد مسألة من الأصول ، وهي أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم وأمّته هل تعبّدوا بشريعة من قبلهم أم لا؟ وقد حققناها في الأصول ، فلتنظر هناك.

وفيها من الأحكام العمل بما ظهر من أفعالهم ، وأخبرنا عنهم النبىّ صلى الله عليه وسلم ، وثبت في الصحيح عن النبىّ ، واللفظ للبخاري ، عن العوام ، قال : سألت مجاهدا عن سجدة

__________________

(١) سورة يوسف ، آية ٧٦.

(٢) في ل : قال الإمام الحافظ أبو بكر بن العربي ، وهو المؤلف.

(٣) الآية التسعون.

(٤) هو المؤلف.

٢٢٠