إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٩

٥ ـ (قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ ...) أي قال له أبوه : لا تحك هذا الذي رأيته في منامك لإخوتك (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) يعني مخافة أن يدبّروا لك مكيدة بالتأكيد لأنهم حاسدون لك (إِنَّ الشَّيْطانَ) الوسواس (لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) واضح العداوة.

٦ ـ (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ...) أي يختارك ربّك ويستخلصك (وَيُعَلِّمُكَ) يفهّمك (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) التعبير عن الرؤيا بشكل صادق (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ) يكمل فضله (عَلَيْكَ) أنت بالنبوّة والسّلطة على خزائن مصر (وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) أي أهل بيته الأقربين بأن يجعل منهم أنبياء وملوكا (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أي جدّيك إذ يقال للجدّ أبا وهما (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) فعلى إبراهيم أنعم الله سبحانه بالخلّة والرسالة والنجاة من نار النمرود ، وعلى إسحاق منّ بالنبوّة وبإخراج الأسباط من صلبه (إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ) بكل شيء (حَكِيمٌ) بفعله وتقديره وفعله طبق المصلحة والحكمة البالغة.

٧ ـ (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) : أي كان في قصة يوسف مع إخوته دلائل على قدرة الله وجميل صنعه وعبر عجيبة لمن يستفسر من الناس عن خبرهم.

٨ ـ (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ...) فقد قال إخوة يوسف فيما بينهم : إن يوسف وأخاه لأبويه ـ وهو بنيامين مقرّبان من أبينا يعقوب أكثر منّا ، فهو يؤثرهما علينا (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي ، والحال : نحن جماعة متكاتفون أقوياء. (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي أنه غاب عنه كوننا أنفع له وأحرى بالتفضيل. أو أنه بعيد عن طريق الصواب.

٩ ـ (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً ...) أي اقتلوه أو ألقوه في أرض مجهولة بعيدة عن العمران ليضيع (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي يخلص لكم رضاه وحبّه (وَتَكُونُوا) تصيروا (مِنْ بَعْدِهِ) بعد القضاء على يوسف قتلا أو تضييعا (قَوْماً صالِحِينَ) تائبين من فعلتكم.

١٠ ـ (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ...) قيل إنه يهودا وقيل هو لاوى. وقيل : بل هو روبين فقد قال هذا لا تقتلوا يوسف أي نهاهم عن قتله (وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ) أي ارموه في قعر البئر الذي يغيّبه عن الأنظار (يَلْتَقِطْهُ) أي يأخذه (بَعْضُ السَّيَّارَةِ) يعني يجده بعض المسافرين ويأخذونه (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي إذا كنتم عازمين على التفرقة بينه وبين أبيه.

١١ ـ (قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ ...) أي أن أبناء يعقوب (ع) جاؤوا أباهم وقالوا : لماذا لا تثق بنا ولا تعتمد علينا في أمر من أمور أخينا يوسف. (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) ونحن لا نغشّه ونحب له الخير.

١٢ ـ (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ...) أي ابعثه معنا من الغد إلى الصحراء يذهب ويجيء ويلهو وينشط (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي نحن ليوسف حارسون ، نحوطه بالعناية لئلا يصله مكروه.

١٣ ـ (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ ...) أي أن أباه قال لإخوته إنه ليغمّني إذا أخذتموه معكم (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) أي أخشى أن يفترسه ذئب ضار (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) أي حال كونكم ساهين عنه ، منشغلين ببعض شؤونكم.

١٤ ـ (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) : فردّوا على أبيهم بأنه لا يتأتّى للذّئب أن يأكله من بينهم وهم جماعة كثيرون متعاضدون وإن فعلها الذّئب فهم إذن ضعفاء عاجزون.

٢٤١

١٥ ـ (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ...) أي فلمّا أخذوا يوسف معهم واتّفقوا جميعا على إلقائه في قعر البئر (وَ) حينئذ (أَوْحَيْنا إِلَيْهِ) أي ألهمناه وأفهمناه وحيا أعطاه الله النبوة ، (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) تخبرنّهم يقينا (بِأَمْرِهِمْ هذا) أي بقبيح فعلهم بك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) دون أن يحسّوا إنك يوسف.

١٦ ـ (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) : أي رجع إخوة يوسف آخر النهار أو ليلا إلى أبيهم يعقوب متظاهرين بالحزن ليلتبس الأمر عليه ويظنّهم صادقين.

١٧ ـ (قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ ...) أي قال اخوة يوسف لأبيهم : رحنا نتسابق ونعدو لننظر أيّنا أسبق لغيره. (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) أي أبقيناه عند أغراضنا (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) أي لست بمصدّق قولنا لسوء ظنّك بنا. (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) جواب لو محذوف أي ولو كنا صادقين ما صدّقتنا.

١٨ ـ (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ...) أي أنهم افتضحوا أمام أبيهم الذي عرف كذب روايتهم وأن الدم الذي على القميص ليس دم يوسف بل هو مزوّر ، ف (قالَ) لبنيه ساعتئذ وهم وقوف بين يديه : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) أي زيّنت وهوّنت عندكم أنفسكم أمرا فصنعتموه وهو ـ يقينا ـ غير ما قلتم (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي أن صبري ، هو صبر لا شكوى فيه إلّا إلى ربّي ، (وَاللهُ) هو وحده (الْمُسْتَعانُ) الذي يعينني (عَلى) تحمّل (ما تَصِفُونَ) من التزوير وتضييع الأثر. وفي بعض التفاسير ذكر أنه (ع) قال : والله ما عهدت كاليوم ذئبا أحلم من هذا!! أكل ابني ولم يمزّق قميصه!!.

١٩ ـ (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ ...) أي : بعد حصول ما كان من أمر إلقاء يوسف في البئر ، جاء رفقة سائرون في سفر فنزلوا قريبا من البئر (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) يعني بعثوا واحدا يطلب الماء ويستقي لهم. والوارد في القافلة هو من يتقدم الرفقة إلى الماء يستقي (فَأَدْلى دَلْوَهُ) أي أنزل الدّلو ـ الذي يغترف به الماء من البئر ، فتعلّق به يوسف (ع) (قالَ يا بُشْرى) أي قال الوارد يا قوم البشارة البشارة (هذا غُلامٌ) يعني ولد دون العاشرة. وانتشل يوسف من قعر البئر. (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) أي أن هؤلاء الذين التقطوا يوسف أخفوا أمره عن رفاقهم من التجار مخافة أن يطلبوا منهم الشركة معهم فيه فقالوا هذا بضاعة استؤمنا عليها لنبيعها لأصحابها (وَاللهُ عَلِيمٌ) عارف خبير (بِما يَعْمَلُونَ) من العثور عليه ، إلى إنقاذه ، إلى إخفائه عن الآخرين ، فإلى الاتفاق على بيعه في مصر. وقيل : بما يعمل إخوة يوسف.

٢٠ ـ (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ، دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ ...) أي باعوه بثمن قليل بدليل قوله تعالى : (دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) ، وقيل البخس هو ناقص البركة ، وقيل : الحرام لأن ثمن الحرّ حرام. (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي أن البائعين زهدوا به واستخفّوا بقدره ، وقيل بأن الذين زهدوا فيه هم الذين اشتروه لأنهم وجدوا فيه علامة الأحرار وسيماء العظمة والسيادة وأخلاق أهل البرّ ، وقيل غير ذلك.

٢١ ـ (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ ...) قصة يوسف (ع) لا تقتضي أزيد من وقوع بيع وشراء واحد ، وهو بيع السيارة له من عزيز مصر الذي كان على خزائنها وكان اسمه قطفير. وعلى كل حال ، فإن عزيز مصر الذي اشتراه من السيارة قال لزوجه : اجعليه عندك كريم المقام محفوظ المنزلة وأحسني تربيته وتعهّده ، (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) أي يقوم بمهماتنا وإصلاح أمورنا ، فيفيدنا في أملاكنا وضياعنا وعقارنا ، (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) يعني نتبنّاه. لأن عزيز مصر المذكور كان عقيما ولم يرزق ولدا. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي أنعمنا عليه بأن أنجيناه من المهالك ، ومنحناه عنايتنا وتأييدنا فجعلناه سلطانا وأعطيناه سطوة في مصر ليقيم العدل فيها ، (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي نلقّنه تعبير المنامات وتفسير الأحلام ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) أي لا يمنع من مشيئته شيء ، وقيل غالب على أمر يوسف يحفظه ويرزقه ويملّكه وينعم عليه بالنبوة. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي يجهلون تقديره وتدبيره.

٢٢ ـ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ...) أي حين بلغ يوسف (ع) السن التي يكون معها في منتهى القوة والإدراك وقيل بأنه سن الأربعين (آتَيْناهُ) أعطيناه (حُكْماً) يقضي به بين الناس ، أو حكمة يتمتع بها (وَعِلْماً) بوجوه المصالح وبفقه الدّين وتعبير الرؤيا وغيرها وقد كان عزيز مصر يرجع الناس إليه للفصل في نزاعاتهم. (وَكَذلِكَ) أي على هذا الشكل من الإنعام (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) نكافئهم.

٢٤٢

٢٣ ـ (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ ...) المراودة طلب أمر باللين ليعمل به والمعنى : طالبت المرأة يوسف الذي كان في بيتها وهي زليخا عن نفسه أي أن يواقعها. وهذا يعني أن المرأة التي هو في بيتها ، حاولت معه. (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) أي أقفلتها. وروي أنها كانت سبع حجر ـ غرف ـ بين كل منها أبواب تفتحها على بعضها ، (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) هيت : اسم فعل معناه هلمّ أو أقبل. وقرئت : هيئت لك. ومعناه : قد أعددت نفسي لك (قالَ مَعاذَ اللهِ) أي أنه يعوذ بالله ليعصمه من أن يجيبها إلى رغبتها ، (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) والضمير في : إنه ، يحتمل فيه وجهان : إرجاعه إلى الله لأنه جاء بعد قوله : معاذ الله فهو أقرب ما يصلح الإرجاع إليه ، أو إرجاعه إلى عزيز مصر. والإحسان في المثوى أي الإقامة وحسن المعاملة. (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) أي لا ينجح ولا يصيب الرّشد والخير من تعدّى على الحرمات وظلم نفسه وغيره.

٢٤ ـ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ...) التفسير اللفظي يعني أنها مالت إليه وقصدته باهتمام ، ومال إليها وقصدها بمثل ذلك ولكن ميله معلّق على قوله سبحانه : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) أي أنه كان يمكن أن يكون منه ذلك لولا رؤية برهان ربّه جلّ وعلا. وحيث لم يحصل المعلّق عليه ، لم يحصل المعلّق أيضا. فالنتيجة أنه ما حصل له (ع) ميل ولا قصد سوء معها ، وقيل : ولقد همّت بالفاحشة وهمّ يوسف بضربها ودفعها عن نفسه. وبرهان ربه الذي رآه على ما في رواية الإمام علي بن الحسين (ع) هو أن زليخا ـ في حالة الجذب والاجتذاب ـ قامت إلى صنمها فألقت عليه ثوبا يغطيه. فقال لها يوسف : ما هذا؟ فقالت : أستحي من الصّنم أن يرانا. فقال لها يوسف : أتستحين ممّن لا يبصر ولا يفقه ولا أستحي ممّن خلق الإنسان ، وعلّمه البيان ، ويبصر الغيب والعيان؟ (كَذلِكَ) أي مثل هذا كان الحال وكانت النتيجة (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) أي أريناه البرهان لنذهب عنه الخيانة وركوب الفاحشة (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي الّذين أخلصوا أنفسهم لله وطاعته.

٢٥ ـ (وَاسْتَبَقَا الْبابَ ، وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ...) أي تسابقا نحو الباب ، يوسف بقصد الفرار منها وزليخا بقصد منعه والإمساك به فتعلقت بقميصه فشقته طولا من الخلف. فالقدّ هو الشق طولا. (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) أي وجدا زوجها يبدو فجأة عند الباب الذي كان يوسف قد قصده ليهرب من خلاله. والتعبير عن زوجها بلفظ سيّدها إشارة إلى أنه مالك لأمرها. (قالَتْ : ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً؟) ما هو عقاب من أراد بأهلك خيانة ـ وأهل الرجل زوجه وعياله ـ ثم عيّنت نوع الجزاء هذا فقالت : (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي أن يحبس أو أن ينال الإيذاء والتعذيب الشديد أي الضرب الموجع بالسّياط محاولة بذلك تبرئة ساحتها واتهام يوسف.

٢٦ ـ (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ...) أي : قال يوسف (ع) تنزيها لنفسه ودفعا لاتهامها إياه : هي حاولت هذا الأمر وطلبت مني السوء ورغبت فيّ فامتنعت. (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) أي أدّى أحد أقربائها ـ قيل أنه ابن عمها وقيل غير ذلك ـ شهادة هي أنه : (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي إذا كان ثوبه قد شقّ من الامام فإن الدلالة تقوم على أنه قصدها فدفعته عن نفسها.

٢٧ ـ (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ...) أي إذا كان ثوبه مشقوقا من الخلف (فَكَذَبَتْ) في ادّعائها عليه (وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله. إذ من الواضح أنّ شقّه من الخلف يعني أنه فرّ منها فجذبته بثوبه فانشقّ لمّا تعلّقت به.

٢٨ ـ (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ ...) أي فلمّا نظر الشاهد ورأى أن القميص مشقوق من جهة القفا (قالَ : إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) أي من عملكنّ وحيلتكنّ قاصدا نوع النساء ، (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فإن كيدهنّ يعلق بالنّفس ويؤثّر على القلب. وربما كان القائل عزيز مصر ، أو الرجل الذي كان معه.

٢٩ ـ (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا ...) أي أن العزيز قال : يا يوسف : انصرف بكلّيتك عن هذا الحادث واكتمه (وَ) أنت يا زليخا : (اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أي توبي منه وأقلعي تماما (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) أي مرتكبي الأخطاء والذنوب. وعبّر بلفظ : الخاطئين باعتبار الغلبة أي من القوم الخاطئين.

٣٠ ـ (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ...) أي تحدّثت النساء في مصر في مجالسهنّ قائلات : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) أي أنها تحاول بمملوكها أن يفجر بها وأنّه (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) يعني أحبته حيا تملّكها وأصاب شغاف قلبها

٢٤٣

(إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي منحرفة عن طريق الحق ، تائهة عن الرّشد.

٣١ ـ (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ...) أي حين نقل لها ما تقوله نساء المدينة عنها وعرفت ما يخفينه من قصد وهو تمكينها لهن من رؤية يوسف لما سمعنه عن حسنه (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ) أي دعتهنّ إلى بيتها (وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) أي هيأت لهنّ ما يتّكئن عليه للراحلة التامة (وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) أي أعطت كل امرأة سكّينا لتقشر الفاكهة التي أعّدتها لهنّ. (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) يعني أمرت يوسف بالظهور أمامهنّ. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) أي عظّمنه وبهتن من جماله ففقدن الوعي (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) جرحن أيديهن بدل قطع الفاكهة وهنّ ذاهلات مشدوهات من حسن يوسف (وَقُلْنَ : حاشَ لِلَّهِ) أي حاشاه سبحانه ، يعني أنه تعالى منزّه عن العجز أن يخلق مثل يوسف وعلى هذه الصورة من الحسن والجمال ... (ما هذا بَشَراً) أي ليس يوسف من سنخ النّاس المعروفين في الخلق ولم يعهد في البشر هذا الحسن (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) أي ملك يزيد على الملائكة بأنه كريم الطبع فكأنهنّ بالغن في وصفه بالحسن كالملك وزدن على ذلك بأنه كريم لأنه لم يلتفت إليهنّ مع أنهنّ كنّ من أجمل نساء عصرهنّ.

٣٢ ـ (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ...) قالت لهنّ امرأة العزيز : هذا هو الفتى الذي تعذلنني على مراودته عن نفسه والتصدّي له. (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وطلبت منه مجامعتي (فَاسْتَعْصَمَ) أي امتنع وعاذ بالله ليعصمه عن هذه الزلة. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ) يعمل (ما آمُرُهُ) به من مضاجعتي ، مقسمة (لَيُسْجَنَنَ) أي يحبس مؤكّدا (وَلَيَكُوناً) يعني : ليصيرنّ (مِنَ الصَّاغِرِينَ) الأذلاء.

٣٣ ـ (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ...) يروى بأن جميع النسوة اللائي دعتهن امرأة العزيز إلى مجلسها وبعد أن دهشن بحسن يوسف وافتتنّ به راودنه عن نفسه كل واحدة على انفراد وبشتى الأساليب والحيل ومع ذلك فإن يوسف (ع) بقي على تمنّعه معها ومعهن واستعصامه بالله منهن ، وتوجه إلى الله بهذا الدعاء : يا رب إن السجن أحبّ إليّ من دعوة هؤلاء النسوة لي إلى الفحشاء ، فأنا أفضّل الحبس على أن أمارس الفجور إذ أخلو وأتفرّغ لعبادتك (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) أي : وإن لم تصرف عنّي وتحوّل احتيالهن بلطفك (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أميل إليهن بهواي (وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أي غير العارفين بأوامرك ونواهيك أو المستحقين للذم بالجهل.

٣٤ ـ (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ...) أي أن يوسف (ع) دعا ربّه فاستجاب له دعاءه وحوّل عنه مكرهنّ وحيلهنّ (إِنَّهُ) سبحانه (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مر معناه.

٣٥ ـ (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ ...) أي : ظهر لهم ـ أي للنسوة مع زليخا وزوجها وأعوانها بعد الشواهد الدالة على براءته ، وهي الآيات المعجزات التي ظهرت لتبرئته. (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي ظهر لهم أنه لا بد من حبسه إلى أمد معدود وظرف مناسب بحيث ينسى حديث المرأة معه وينقطع الخوض فيه والتعليق عليه ، وبحيث يبدو لأعين الناس أنه هو المأخوذ بالذنب ...

٣٦ ـ (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ ...) انتقل سبحانه إلى بيان أحوال يوسف في السجن فأخبر بأنه قد سجن مع يوسف (ع) اثنان في ريعان الشباب أحدهما ساقي الملك وثانيهما طبّاخه ، وقد اتّهما أنهما كانا بصدد دسّ السمّ للملك فأمر بحبسهما (قالَ أَحَدُهُما) أي واحد من الفتيين (إِنِّي أَرانِي) أي رأيت نفسي في المنام (أَعْصِرُ خَمْراً) يعني يعصر عنبا وقد سمّاه خمرا بعلاقة الأول (وَقالَ الْآخَرُ) أي الفتى الثاني (إِنِّي أَرانِي) رأيت نفسي في المنام (أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) يعني كأنّ فوق رأسه طبقا فيه خبز تأكل منه الطيور. ثم قالا له : (نَبِّئْنا) أخبرنا (بِتَأْوِيلِهِ) أي عبّر لنا عما قصصناه عليك وما يؤول إليه أمره. (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي تؤثر الإحسان إلى الناس قالا له ذلك لأنه كان جميل المعاملة مع المساجين حسن المعاشرة لهم.

٣٧ ـ (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ ...) أي قال لرفيقي السجن : لا يجيئكما طعام يقرّر لكما إلّا أخبرتكما عنه كيفا وكما (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) أي قبل رؤيته ووصوله إليكما. وقد أراد بذلك (ع) تهيئة ذهنيهما لتقبّل دعوته لهما إلى الله إذا كانا مشركين. (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي أن هذه الموهبة على الإخبار بالغيب هي من الإلهام والوحي الذي منحني إيّاه خالقي (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا

٢٤٤

يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي تخلّيت عن مذهب الكافرين الذين لا يصدّقون بوجود الله ولذلك خصّني الله بلطفه (وَ) الذين (هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي عبدة الأصنام والأوثان.

٣٨ ـ (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ...) أي : لحقت بشريعة آبائي الذين هم أنبياء الله ورسله للناس ، وأنا على نهجهم القويم نعبد الله وحده و (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) فنعبد معه غيره من الأصنام أو غيرها (ذلِكَ) أي ما أشرت إليه من التوحيد والتوفيق لنا معاشر الأنبياء (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) ونعمه التي أنعمها علينا (وَعَلَى النَّاسِ) أي بإرسالنا لهدايتهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) من الكافرين بنعم ربهم والمشركين معه غيره (لا يَشْكُرُونَ) ربهم أي لا يحمدونه ولا يعترفون بفضله ونعمته.

٣٩ ـ (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ ...) أي نادى يوسف السائلين قائلا يا ملازمي السجن ونزيليه (أَأَرْبابٌ) أي آلهة (مُتَفَرِّقُونَ) مختلفون من حجر وخشب وغيرهما لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تبصر ولا تسمع (خَيْرٌ) لعبّادها (أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي الرب الفرد الصّمد الذي يسمع ويرى ومالك لكل شيء في الوجود وبيده النفع والضر والموت والحياة.

٤٠ ـ (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ ...) أي أن الآلهة التي تحصرون عبادتكم بها وأطلقتم عليها أسماء تعني الأرباب والآلهة ما هي إلا أسماء فارغة بلا مسميّات دعوتموها كذلك أنتم وآباؤكم لم ينزل الله من حجة تسوّغ عبادتها ولا هي تستحق العبادة. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وقد (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أمر بعبادته وحده ونهى عن الشّرك به. (ذلِكَ) أي ما أشار إليه ، هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ) أي طريقة العبادة ذات القيمة العظيمة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) بل يجهلون هذه الحقيقة ويضلّون عنها.

٤١ ـ (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ ...) أي يا رفيقي الحبس (أَمَّا أَحَدُكُما) وهو ساقي الملك وصاحب شرابه (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) أي يقدّمه لسيّده يشربه وهذه بشارة له بنجاته (وَأَمَّا الْآخَرُ) أي صاحب رؤيا الخبز (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) أي يحكم بالإعدام صلبا فتتغذّى الطيور الجارحة من لحمه ورأسه أثناء بقائه مصلوبا (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي انتهى تعبير رؤياكما وما سألتما عنه.

٤٢ ـ (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا ...) ظنّ هنا بمعنى : علم فقد قال للذي تأكد نجاته : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) أي ائت على ذكري عند سيدك وأنني حبست ظلما (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) أي أنسى الشيطان يوسف ذكر الله في تلك الحال حتى استغاث بمخلوق فالتمس من الساقي أن يذكره عند سيّده فلذلك لبث في السجن بضع سنين روي أنه بقي سبع سنين بعد خمس سنين سبقتها لأن العرب تطلق لفظ البضع على السبع. وقالوا : بل الضمير في أنساه ، يرجع إلى الساقي الذي سها عن ذكر يوسف ونسيه سبع سنين.

٤٣ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ ...) أي قال (الرّيان) ملك مصر : إني رأيت فيما يرى النائم أن سبع بقرات سمان. (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) أي سبع بقرات (عِجافٌ) أي هزيلات ضعيفات. وقد رأى أن الضعيفات ابتلعت السمان (وَ) رأيت أيضا (سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي هذه كانت جافّة ، وتلك كانت خضراء يانعة. (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي يا أيها العلية من الناس (أَفْتُونِي) يعني أعطوني الفتيا والحكم (فِي) تعبير (رُءْيايَ) ما رأيته في منامي (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي إن كنتم عالمين بتفسيرها وتأويلها.

٢٤٥

٤٤ ـ (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ...) أي مجموعة منامات مختلطة لا يتميّز بعضها من بعض. وقد شبّهوا أحلام الملك بالأضغاث لاختلاطها وتعسّر تمييزها ، وقيل المعنى : أباطيل أحلام. (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) التي هي على هذا الشكل المختلط (بِعالِمِينَ) ولسنا بمعبّرين للأباطيل أيها الملك.

٤٥ ـ (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ...) أي قال للناس ، ذلك الساقي الذي نجا من السجن وخلص من الموت ، من ذينك السّجينين ، وتذكر بعد مدة طويلة ما أوصاه به يوسف من قوله اذكرني عند ربك (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ) أخبركم (بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي ابعثوني إلى من يعلم تأويل الرؤيا ...

٤٦ ـ (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ...) أي أرسل الساقي إلى السجن وخاطب يوسف (ع) قائلا : يا يوسف أيها الكثير الصدق فيما تخبر به (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) أي دلّني على تفسير ذلك (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) يعني : عسى أن أعود إلى الملك وحاشيته ومن في مجلسه (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) يعرفون تأويله الحقيقي ، ويعرفون فضلك ومكانتك ومكانك في السجن فيطلقوك.

٤٧ ـ (قالَ : تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً ...) أي أجابه يوسف : إنكم تزرعون كدأبكم وعادتكم سبع سنين متوالية يصادفها الخصب والنّماء (فَما حَصَدْتُمْ) أي جنيتم من تلك الزّروع (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) اتركوه في قشّه كما تحصدونه من دون ذري ولا دوس. (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ) أي ما يلزمكم للأكل في كل سنة فدوسوه واستخرجوا حبّه من قشه ...

٤٨ ـ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ ...) أي أنه يجيئكم بعد السنوات السبع المخصبة ، سبع سنوات مجدبة لا زرع فيها ولا ضرع ، وهذه السنوات القواحط (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي تأكلون فيهن ما ادّخرتم لهن وخبأتموه من المواسم الماضية. (إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي تحفظونه للبذر والزراعة.

٤٩ ـ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ ...) أي بعد ذلك الجدب الذي يستمرّ سبع سنين ، يجيء عام بركة وخصب يمطر فيه الناس لأن الغيث هو المطر وقيل من الغوث أي ينقذون من الجدب. (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي يستخرجون الخير مما يعصر كالزيتون والعنب والتمر وغيرها.

٥٠ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ...) أي جيئوني به حتى أسمع منه وذلك بعد رجوع الساقي وإخباره بتأويل يوسف لرؤياه. (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) أي لما أتى رسول الملك إلى يوسف يستدعيه إليه. ف (قالَ) يوسف للرسول : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) أي إلى سيّدك (فَسْئَلْهُ) واستفهم منه (ما بالُ النِّسْوَةِ) أي ما حال تلك النساء (اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) وجرحنها بالسكاكين حين خرج عليهن يوسف بأمر من امرأة العزيز. (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) أي ٥١ ـ (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ...) هذا يعني أن الرسول أبلغ الملك قول يوسف ، فجمع الملك النساء وسألهنّ : ما شأنكنّ حين دعوتنّ يوسف إلى أنفسكن (قُلْنَ) للملك : (حاشَ لِلَّهِ) هذه كلمة تنزيه أي نزّهن يوسف مما اتهم به فقلن معاذ الله ممّا نسب إليه و (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) أي ما عرفنا له ذنبا ولا خيانة. (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) زليخا نفسها (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) أي ظهر وثبت (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ) وأعترف بذلك (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) في قوله السابق للعزيز هي راودتني عن نفسي ...

٥٢ ـ (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ...) هذا من كلام يوسف أي ذلك الذي فعلته من رد رسول الملك إليه بشأن النسوة كان ليعرف الملك أو العزيز أنني أحفظ غيبته ، وأني أمين في الغيب والحضور (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) أي لا يهديهم بكيدهم ولا يجعله نافذا ولا يسدّدهم فيه. وقيل إن هذا من كلام امرأة العزيز.

٢٤٦

٥٣ ـ (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ...) هذا من كلام يوسف (ع) أي لا أنزّهها ولا أزكّيها على سبيل العجب بالنفس (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) أي كثيرة الميل إلى الشهوات (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أي إلا النفس التي تنالها رحمة الله تعالى وعنايته فلا تأمر بالسوء (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) يتجاوز عن الذنوب بعد التوبة ويرحم العباد. وقيل إن هذا الكلام هو لزليخا.

٥٤ ـ (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ...) أي احضروا يوسف إليّ أجعله خالصا لنفسي يعاونني في تدبير مملكتي ويشير علي في أموري. (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) أي كلّم يوسف الملك ـ أو العكس ـ (قالَ) له الملك : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) أي أنك منذ اليوم صرت عندنا ذا مكانة وشأن وقد مكّنتك في حكمي نافذ الكلمة (أَمِينٌ) ثقة مؤتمن على كل شيء.

٥٥ ـ (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ...) أي قال يوسف للملك : اجعلني حفيظا وواليا على خزائن أرضك لأقوم بتدبيرها (إِنِّي حَفِيظٌ) شديد المحافظة عليها ، فلا تقع فيها خيانة (عَلِيمٌ) بكيفية التصرّف فيها ، وبوجوه المصالح كلّها وقيل في معنى عليم غير ذلك.

٥٦ ـ (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ...) أي وبهذا الشكل الجليل أقدرنا يوسف وأرسينا منزلته في أرض مصر (يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) أي يتّخذ منها منزلا يقيم فيه أينما يريد ، ويتصرّف فيها على ما يهوى (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) أي نشمل من نريد بنعمتنا (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) لأننا نحفظ لهم إحسانهم ونثيبهم عليه في الدنيا والآخرة.

٥٧ ـ (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ...) يعني وثواب الآخرة خير من ثواب الدنيا لخلوصه عن الأكدار والأقذار (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) أي الذين صدّقوا به وعملوا صالحا وتجنّبوا ما نهى عنه وما يغضبه.

٥٨ ـ (وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ ...) حين أصاب الجدب الناس وآل يعقوب فيهم ـ وكانوا بأرض فلسطين ـ توجهوا بمن فيهم إخوة يوسف بأمر من أبيهم إلى مصر ليمتاروا منها كغيرهم ، أي ليجلبوا الطعام منها إلى أرضهم سكان فلسطين ـ وحين صار الجدب ، ودخلوا على يوسف (ع) (فَعَرَفَهُمْ) مع طول العهد (وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أي لم يعرفوه.

٥٩ ـ (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ ...) أي حينما أعد لهم الميرة المطلوبة وأكرمهم وهيأ لهم ما يحتاجون إليه في سفرهم قال لهم جيئوني بأخ لكم (مِنْ أَبِيكُمْ) أي ليس من أمّكم بل من أم ثانية وكان يقصد أخاه لأمه وأبيه واسمه بنيامين (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أعطيه كاملا بلا نقص (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) يعني خير المضيفين.

٦٠ ـ (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ ...) أي إذا لم تحضروه لي معكم (فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) فلا أعطيكم طعاما أكيله لكم (وَلا تَقْرَبُونِ) ولا تقربوا دياري.

٦١ ـ (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) : أي أجابوه : بأنا سنطلبه من أبيه ليرسله معنا وإنّا لفاعلون أيها العزيز ما أمرتنا به.

٦٢ ـ (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ ...) يعني أنه قال لغلمانه : ضعوا بضاعة إخوتي التي جاؤوا بها داخل أسباب سفرهم لتبقى لهم إمّا تفضلا عليهم ورحمة بهم ولئلا يأخذ الثمن منهم وهم في ضيق وعسر ، وإمّا خوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به ، وإما لغير ذلك. (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) أي عسى أن يعرفوها حين يعودون إلى أهلهم ووطنهم. وفي هذا إشارة إلى أن يوسف لم يرد لإخوته أن يطّلعوا على أنه ردّ عليهم بضاعتهم التي كانوا قد حملوها معهم إلى مصر للمقايضة لئلا يقعوا في الخجل والحرج. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي ليكون في رد البضاعة تشجيعا لهم على الرجوع إليه مصطحبين أخاه بنيامين.

٦٣ ـ (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا ...) أي حين عادوا إلى وطنهم واجتمعوا بأبيهم قالوا له : (يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أخبروه أن الامتيار الآتي ممنوع عليهم بعد هذه المرة ، وأبلغوه قول يوسف أن لا كيل لهم إلّا إذا أحضروا أخاهم الصغير معهم وقالوا : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) لنفي بالوعد ، وحينئذ (نَكْتَلْ) أي نحصل على كيل ما نريده من الطعام ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) نحرس أخانا من المكاره.

٢٤٧

٦٤ ـ (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ؟ ...) الاستفهام للإنكار ، أي لا آمنكم عليه ولا أثق بقولكم. وهل أثق بكم وأستأمنكم على بنيامين (إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ) يوسف (مِنْ قَبْلُ) حين ضمنتم سلامته ووددتم راحته ثم لم تفوا بعهدكم وأضعتموه أو أهلكتموه. (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) أي فحفظ الله خير من حفظكم وهو يرحم ضعفي وشيبتي ويردّه علي.

٦٥ ـ (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ...) أي حين فتحوا أكياسهم وجواليقهم التي حملوها من مصر ، رأوا أن بضاعتهم التي حملوها معهم إلى مصر ثمنا للحبوب التي اشتروها قد أعيدت إليهم ، (قالُوا : يا أَبانا ما نَبْغِي) أي ماذا نريد؟ (هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) فهل نطلب أكثر من هذا الإحسان من الملك الذي أوفى لنا الكيل وردّ الثمن فإذا أذنت لنا في الرجوع مع أخينا نربح (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) أي نجلب الطعام لعيالنا وأولادنا (وَنَحْفَظُ أَخانا) نحرسه حتى نردّه إليك (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أي نربح زيادة حمل جمل آخر هو جمل أخينا ، و (ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) أي سهل إعطاؤه على الملك ،

٦٦ ـ (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ ...) أي أنني لما رأيت منكم من الغدر بيوسف ، فأنا لن أرسل أخاه معكم إلّا بعد أن تعطوني عهدا وثيقا بإشهاد الله سبحانه وبالحلف عليه (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) أي لترجعنّه سالما (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي إلّا في حال هلاككم أو : إلا أن يحال بينكم وبينه بحيث لا تقدرون على إرجاعه (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) يعني أبرموا له عهدهم وحلفهم. (قالَ) يعقوب (اللهِ) تعالى شاهد على ذلك ، وهو (عَلى ما نَقُولُ) فيما بيننا (وَكِيلٌ) أي مفوّض ومعتمد وكاف.

٦٧ ـ (وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ...) أي قال يعقوب (ع) لبنيه : لا تدخلوا مصر مجتمعين بل توزعوا على أبواب متعددة وادخلوا متفرقين وقيل : كان لمصر أربعة أبواب ، وقيل في وجه أمر يعقوب لأولاده بذلك هو أنه خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة مع كثرة عددهم وقوة أجسامهم ، وقيل غير ذلك. (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) منبّها إياهم أن تحذيره لهم من باب الحيطة عليهم ولكن الحذر لا يرد قضاء الله لو قضى بإصابتكم بالعين. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) فهو القاضي المقدّر الفعّال لما يشاء والحاكم بما يريد ، (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي فوّضت أمري إليه سبحانه فيكم (وَعَلَيْهِ) سبحانه (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي فليفوضوا أمورهم إليه.

٦٨ ـ (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ...) أي حين دخولهم إلى مصر من عدة أبواب طبق ما وصّاهم به يعقوب (ما كانَ) أي يعقوب (يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي لم يكن ليدفع عنهم من شيء قدّره الله تعالى لهم بوصيته بل لم يكن ذلك منه (إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) يعني أن في نفسه شيئا أخفاه عنهم وقد كان يقصد من وراء ذلك الإشفاق عليهم والرحمة بهم لما أصابه من اضطراب حين مغادرتهم البلد فبإظهارها قضى حاجة له في نفسه وسكن هيجان عاطفته (وَإِنَّهُ) أي يعقوب (لَذُو عِلْمٍ) يقين (لِما عَلَّمْناهُ) وفهّمناه بتعليمنا إياه بطريق الوحي (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) لا يعرفون مثل هذه الأسرار والحكم التي نعلّمها رسلنا.

٦٩ ـ (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ...) أي حين دخل إخوة يوسف عليه ضم إليه بنيامين أخاه لأبويه وأنزله عنده (قالَ) يوسف لأخيه : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) يوسف الذي يذكره أبوك كثيرا وتتحدّثون عنه مليّا (فَلا تَبْتَئِسْ) أي : لا تحزن ولا تغتم (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي ما كان يفعله إخوتك سالفا معنا.

٢٤٨

٧٠ ـ (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ ...) أي لمّا هيّأ لهم ميرتهم ومتاعهم ، (جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) أي وضع الوعاء الذي يكال به في حمل بعير أخيه بنيامين. وكان المكيال من ذهب مرصعا بالجواهر الثمينة ، وقيل إنه قبل استعماله للكيل كان يشرب به ولذا أطلق عليه اسم : السّقاية بهذا الاعتبار. (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) أي نادى مناد من خدم الملك (أَيَّتُهَا الْعِيرُ) أي يا أصحاب الإبل : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) وهذا التأكيد لكونهم سارقين بإنّ وباللّام علّله الإمام الصادق (ع) بقوله : ما سرقوا ، وما كذب يوسف. فإنما عنى سرقة يوسف من أبيه (ع) ...

٧١ ـ (قالُوا ، وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ، ما ذا تَفْقِدُونَ؟ ...) عند سماع النداء ، وقف إخوة يوسف وقالوا للمنادي ولمن تبعه عند سماع ندائه : أي شيء ضاع منكم حتى اتّهمتمونا بالسّرقة؟.

٧٢ ـ (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ...) أي أجاب غلمان الملك : قد افتقدنا صاع الملك الذي نكتال به. وقال المنادي من باب الإغراء (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) مكافأة له على إرجاعه (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي كفيل ضامن.

٧٣ ـ (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ ...) أي قال إخوة يوسف للمؤذّن ومن معه من عمّال الملك : نحلف لكم بالله أننا ما جئنا لنرتكب مثل هذا الجرم الشائن ولا لنرتكب فسادا في هذه البقعة من الأرض وأنتم تعلمون حسن سيرتنا وأمانتنا معكم في سفرتنا السابقة وفي هذه السفرة. (وَما كُنَّا سارِقِينَ) أي ولسنا بسارقين لما افتقدتم.

٧٤ ـ (قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ؟) أي أن جماعة الملك قالوا لإخوة يوسف : فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم ما كنا سارقين وانكشفت السرقة؟

٧٥ ـ (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ ...) أجاب إخوة يوسف أن جزاء السارق في شرعة يعقوب النبيّ (ع) هو نفس السارق الذي يوجد الصاع المسروق في متاعه بحيث يحلّ استرقاقه. (كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) نعاقب السارقين باسترقاقهم.

٧٦ ـ (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ...) أي أن يوسف (ع) بدأ بتفتيش متاع وأحمال إخوته قبل أن يفتش عن الصواع في متاع أخيه بنيامين لإبعاد التهمة (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) أي أخرج السقاية من متاع بنيامين وقيل إنه لمّا وجدها مع بنيامين أقبل عليه إخوته يقولون : فضحتنا وسوّدت وجوهنا! متى أخذت هذا الصاع؟ (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) أي على هذا الشكل دبّرنا مكيدة لطيفة ليوسف ، فإن هذا العمل منه كان بإذن الله وبوحي منه لتبدأ مرحلة التفريج عن يعقوب (ع). (ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) أي أنه لم يكن ليحقّ ليوسف أن يستبقي أخاه عنده في شرع ملك مصر لأن السارق في شرعه كانت عقوبته الجلد وتغريمه ضعف المسروق (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) إلّا في حال أنّ الله تعالى يريد القضاء في هذه الواقعة بشكل يخوّل يوسف أخذ أخيه لمصلحة اقتضت ذلك في المقام. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) نرفع من نريد بالعلم والحكمة والتأييد والنبوة وغيرها كما فعلنا بيوسف نسبة إلى إخوته (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) أي أن فوق كل ذي علم أعلم منه إلى أن يصل الأمر إلى الله العالم الذي ليس فوقه عالم.

٧٧ ـ (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ...) أي قال إخوة يوسف له بعد استخراجه للصواع من رحل بنيامين : إن يسرق بنيامين فقد سبق أن سرق أخ له يعنون يوسف نفسه في صغره عند ما كانت تحتضنه عمته وتحبه حبا شديدا بحيث لا تقوى على فراقه ، وعند ما أراد أبوه يعقوب أن يسترده منها احتالت بأن شدّت على وسط يوسف منطقة إسحاق (ع) التي كان أولاده يتوارثونها بالكبر وكانت عمته الأكبر في ذلك الوقت بينهم ، وادّعت بأنه سرقها لتستطيع بتلك الحيلة أن تستبقيه عندها وكان الحكم أن يسترق السارق سنة وهكذا كان. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) أي سمع مقالتهم واحتفظ بتأثيرها في نفسه ولم يظهر لهم شيئا و (قالَ) في نفسه : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) أي أسوأ منزلة فيما فعلتم بأخيكم في سرقتكم له من أبيه ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) أي أنه تعالى أعلم منكم بأن يوسف لم يسرق وكذا أخوه.

٧٨ ـ (قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً ...) إنهم رقّوا في قولهم فخاطبوا الملك باستعطاف وقالوا : إن أبا بنيامين شيخ طاعن في السن أو كبير في القدر (فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ) أي خذ من شئت منّا عوضا عنه (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) إن فعلت وأخذت البديل عنه من بيننا.

٢٤٩

٧٩ ـ (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ ...) أجاب يوسف (ع) : أعوذ بالله أن آخذ البريء بالمذنب ولن نأخذ إلّا الذي وجدنا الصاع عنده ، وإن فعلنا غير ذلك (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) حتى في شرعكم.

٨٠ ـ (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ...) أي حينما يئس إخوة يوسف من إجابة يوسف لطلبهم وأخذ البديل عن بنيامين ، تسلّلوا وانفردوا جانبا يتهامسون ويتشاورون فيما بينهم. (قالَ كَبِيرُهُمْ) سنا أو علما وهو كما عن الإمام الصادق (ع): يهودا. وقيل : غيره (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) هل نسيتم عهد الله الذي قطعتموه لأبيكم؟ (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) ثم ألم تذكروا أنكم. قد تهاونتم قبل ذلك بأمر يوسف وأضعتموه هدرا؟ (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) أي لن أفارق أرض مصر (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) إلّا بعد أن يسمح لي أبي بالرجوع (أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) أو يقضي الله سبحانه لي بما يكون لنا عذرا عند أبينا. (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) وقضاؤه خير قضاء.

٨١ ـ (ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ ...) أمرهم قائلا : عودوا إلى أبيكم وقولوا له أن ابنك سرق في الظاهر (وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا) أي لم نقل إلّا ما قد رأينا ، ولم نشهد إلّا بحسب ما ظهر من واقع الأمر (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي ما كنّا مطّلعين على ما خفي عنّا من ملابسات قبل سؤالنا لك بخروج بنيامين معنا ولا بعده.

٨٢ ـ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها ..) وقولوا لوالدنا : يا أبانا اسأل أهل البلدة الّتي كنّا فيها في مصر أو المراد أن يسأل بعض أهل مصر من الذين صاروا إلى الناحية التي فيها أبوهم (وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) أي واسأل أصحاب القافلة التي كنّا معها من أهالي كنعان الذين هم من جيرانه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما نخبرك به.

٨٣ ـ (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً ...) أي أن يعقوب (ع) قال : ليس الأمر كما تقولون ، بل زيّنت لكم أنفسكم أمرا أردتموه وسهّلته لكم فقرّرتموه واجتمعتم عليه لتنفّذوه في ابني بنيامين كما صنعتم بأخيه يوسف من قبل. (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي أن صبري صبر جميل. (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) أي بيوسف وأخيه وأخيهما الذي تخلّف في مصر (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) مر معناه.

٨٤ ـ (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ ...) أي وانصرف يعقوب بوجهه عن أولاده حزينا وقال : أي وا حزني على يوسف. (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) أي ذهب سوادهما من كثرة البكاء حزنا (فَهُوَ كَظِيمٌ) أي ممتلئ بالغيظ ولكنه لا يظهره.

٨٥ ـ (قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ ...) الّذين قالوا ليعقوب ذلك هم أولاده أو الناس إشفاقا : لا زلت تذكره ولا تنفكّ عن التحدّث به مع طول المدة (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً ، أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) أي حتى تمرض بفساد جسمك وعقلك أو تموت.

٨٦ ـ (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ ...) أي قال يعقوب جوابا لهؤلاء : إني أشكو همي ـ وقيل البث هو الحاجة ـ إلى الله لا إليكم (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي واعلم من رحمة الله وقدرته على كشف همي وسد حاجتي ما تجهلونه. وقيل : أي أعلم من أمر يوسف وأخيه بوحي الله ما لا تعلمونه.

٢٥٠

٨٧ ـ (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ...) يستشعر من قول يعقوب السابق وأعلم من الله ما لا تعلمون ومن قوله هنا فتحسّسوا ويستفاد من بعض الروايات أنه قد ألهم أن ابنيه حيان ولذا أمر أبناءه بالرجوع إلى مصر ليتفحّصوا عن يوسف وأخيه قائلا لهم : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) أي لا تقنطوا من رحمته تعالى وقيل : إنه لما أخبره أولاده بسيرة الملك قال لعله يوسف لأن شمائله شمائل الأنبياء ، وبناء على ذلك قال اطلبوه وأخاه ، واستقصوا الأمر فإنه قد ألقي في روعي أن الذي احتبس بنيامين بمكيدة إخفاء الصاع في رحله لا بد أن يكون يوسف أو ذا علاقة به لأنه افتعل هذه القصة مع أخي يوسف من أمه دون سائر إخوته. (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) أي أن المؤمن دائما من الله على خير يرجوه في البلاء والضرّاء ويشكره في الرخاء والكافر ليس كذلك.

٨٨ ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ...) أي فلما وصل إخوة يوسف إلى مصر ودخلوا عليه قالوا له : يا أيّها العزيز ـ وهو لقب لحاكم مصر ـ أي المنيع الجانب : قد أصابنا وأصاب أهلنا سوء الحال والشّدة (وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ) سلع للبيع (مُزْجاةٍ) أي قليلة الاعتبار لا تقبل إلا مع النقيصة (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) بأن تعطينا حاجة عيالنا الكثيرة كما عوّدتنا فيما مضى (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا) أي سامحنا بما بين الثمن والمثمن من الفرق وقيل تصدّق علينا بإطلاق سراح أخينا رحمة بأبيه وبنا (إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) أي يثيبهم على إحسانهم.

٨٩ ـ (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ؟ ...) يعني هل عرفتم أهمية فعلكم مع يوسف وكيدكم له وما فعلتم بأخيه بنيامين لأمه وأبيه عند ما فرقتم بينه وبينه لتذلّوه وتستفردوه وتقسوا عليه (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ!) حيث كنتم جاهلين مرتبته وقيمته وقيل : إذ أنتم صبيان أو شبان يتملككم طيش الصبا أو الشباب.

٩٠ ـ (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ؟ ...) وهذا استفهام تقريري. وقرئ بغير استفهام على الإيجاب مع التأكيد الذي يدل على أنهم عرفوه بلا شبهة ـ إنّك لأنت يوسف ـ وبناء على استفهامهم أو تأكيدهم قال (ع) مقرّرا قولهم (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) كما ترون (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أنعم وتفضّل وزادنا فضلا بالاجتماع مع السلامة والكرامة (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ) الله (وَيَصْبِرْ) على البلايا وعن المعاصي (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وفي ختام هذه الآية الكريمة تنبيه لنكتة دقيقة حيث وضع الاسم الظاهر مقام الضمير ليدل أن المحسن من جمع بين التقوى والصبر ...

٩١ ـ (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ...) أي أقسم إخوة يوسف بالله أنه فضّله عليهم واختاره منهم بحسن الخلق والخلق والمداراة والعدل معهم رغم أنهم عاملوه بقساوة فبادلهم باللطف وكريم الضيافة وإيفاء الكيل ، فاعترفوا بذنبهم كما اعترفوا له بالتفضيل عليهم قائلين : (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي آثمين بما صنعنا بك وبما فعلناه معك من القبائح بجهلنا وبسوء سريرتنا.

٩٢ ـ (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ...) أي لا توبيخ ولا تعيير ولا خوف عليكم في هذا الوقت من جرّاء ما فعلتم (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فأنا استغفر الله لكم (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) في تجاوزه عن ذنوبكم أو بما فعله بي من حسن صنيعه وتكرمته.

٩٣ ـ (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي ...) أي قال يوسف لإخوته بعد أن تم التعارف بينهم وبينه وعاتبهم وسامحهم واستغفر لهم ذنبهم اذهبوا بقميصي هذا فألقوه أي ضعوه على وجه أبي (يَأْتِ بَصِيراً) أي يعود حديد النظر سليم العينين وهذا القميص ـ على ما في بعض الروايات ـ هو الذي ألبسه الله إبراهيم بواسطة جبرائيل يوم ألقاه نمرود في النار فجعلها بردا وسلاما ثم ألبسته جبرائيل يوسف يوم ألقاه إخوته في البئر فصار عليه البئر سلاما. (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) أي أحضروهم جميعا. وقال يوسف (ع) إنما يذهب بقميصي هذا إلى أبي من ذهب بقميصي الملطّخ بالدم يوم فارقت أبي. فقال يهودا : أنا ذهبت به يومئذ وأخبرته بقصة الذئب. قال يوسف (ع) : اذهب بهذا وأخبره أني حيّ فأخرحه كما أحزنته أول مرة.

٩٤ ـ (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ ...) فصلت أي عند ما انفصلت قافلة أبناء يعقوب عن مصر وفارقتها من عند يوسف متجهة نحو أرض كنعان. (قالَ أَبُوهُمْ) أي يعقوب (ع) قال للحاضرين في مجلسه (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) قال أبو عبد الله (ع): وجد يعقوب ريح قميص يوسف وهو بفلسطين من مسيرة عشر ليال. قائلا لهم : (لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) أي لو لا أن

٢٥١

تسفّهوني أو تكذبوني.

٩٥ ـ (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) : أي أن الحاضرين أجابوه : نقسم بالله إنك كما كنت قبل فراق يوسف مفرطا في حبه وإيثاره ، مبتعدا عن الصواب في أمره ، وكانوا يعتقدون موت يوسف منذ سنين بعيدة.

٩٦ ـ (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ ...) أي لما وصل يهودا حامل البشارة بحياة يوسف إلى يعقوب (أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ) أي طرح القميص على وجه أبيه يعقوب (فَارْتَدَّ) أي عاد (بَصِيراً) سليم النظر صحيح العينين وعادت إليه جميع قواه (قالَ) يعقوب للحاضرين (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) أما أخبرتكم (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف وعدم اليأس من روح الله عزّ اسمه وإنه سيجمع بيننا وبينه تصديقا لرؤياه وكنتم تجهلون ذلك.

٩٧ ـ (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) أي : آثمين فيما فعلناه والذين قالوا ذلك هم أخوة يوسف.

٩٨ ـ (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ...) قد وعدهم بالاستغفار ولم يظهر من الآية الشريفة أنه عفا عنهم واستغفر لهم حالا ، إذ روي أنه أخّر الاستغفار إلى السّحر من ليلة الجمعة ، كما روي أنه أجّله لسحر ليلته تلك. (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) واضح المعنى وقد مر. وقد روي أن يعقوب (ع) بقي نيفا وعشرين سنة يستغفر الله لذنب أولاده حتى غفر لهم.

٩٩ ـ (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ...) أي لما وصل يعقوب ومن معه إلى مصر ودخلوا على يوسف في دار ملكه ضم يوسف إليه أبويه وأنزلهما عنده. وقد ذكر أكثر المفسرين أن أم يوسف كانت قد ماتت وأن من كانت مع يعقوب هي زوجة أبيه أي خالته فسمى الخالة أما كما سمّى في القرآن العم أبا. (وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) أي في حال كونكم في أمن من خوف القحط والمشقة وجميع أصناف المكاره. وعن ابن عباس أن تعليق دخولهم مصر على المشيئة لأن الناس كانوا يخافون من دخول مصر بغير إجازة الفراعنة. وقيل إنهم لمّا دخلوا مصر كانوا ثلاثا وسبعين نسمة. وأن بني : إسرائيل ـ وهم أبناء يعقوب وذراريهم ـ قد خرجوا مع موسى (ع) وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا ، ومائتا ألف امرأة وطفل. وكان فرعون في عهد موسى من أولاد الريان فرعون مصر في أيام يوسف.

١٠٠ ـ (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ...) أي فرفع يوسف أباه وخالته على سرير الملك. وذلك بعد أن دخل الجناح الخاصّ به وادّهن وتطيّب واكتحل ولبس ثياب العز بعد أن كان لا يتطيّب ولا يكتحل مدة فراق أبيه ، ثم دخل على هذه الهيئة الفتانة وقرّب إليه أبويه (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) أي سجدوا شكرا لله من أجل ما أعطاه من نعم (وَقالَ) يوسف (ع) : (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) أي هذا تفسير الحلم الذي رأيته في منامي (مِنْ قَبْلُ) أي منذ زمن بعيد حيث قصصت ذلك عليكم (قَدْ جَعَلَها) أي الرؤيا (رَبِّي حَقًّا) يعني صدقا. وقيل إنه كان بين رؤياه وبين تأويلها أربعون سنة ، وقيل ثمانون. (وَقَدْ أَحْسَنَ) الله تعالى (رَبِّي) أي لطف بي (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) بعد تلك الفرية ، (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) لأنهم كانوا من أصحاب المواشي يرتحلون في طلب الكلأ والمراعي لمواشيهم ـ جاء بكم إلى هذا الملك بعد البداوة (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي بعد أن أفسد الشيطان بينهم وتحرّش بهم فأوقعهم في الحسد فارتكبوا ما ارتكبوه. (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ) أي يدبر أمورهم على ما يريد وقد شاء بلطفه أن جمع شملنا وألّف بيننا بعد تلك الوحشة (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) مر معناه.

١٠١ ـ (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ...) أي أن يوسف في مناجاته مع الله ، قال ربّ قد اعطيتني ملك مصر بعد أن اعطيتني النبوة وقد قيل : بأن من هنا هي للتبعيض لأنه لم يكن له الملك كلّه بل كان له شيء منه فعن الإمام الباقر (ع): إن الله تعالى لم يبعث أنبياء ملوكا إلا أربعة ... إلى أن قال : وأما يوسف فقد ملك مصر وبراريها ولم يتجاوزها إلى غيرها ... (وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) فأفهمتني ما يؤدي بي إلى معرفة ما لا يعرفه غيري ، وقيل تأويل الأحاديث أي تأويل الرؤيا. (فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي مبدعهما وخالقهما من العدم (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي متولّي أمري وناصري في معاشي ومعادي (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) أي اقبضني إليك على الإيمان بك والتسليم إليك (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) واجعلني مع صالحي عبادك الذين ارتضيتهم.

١٠٢ ـ (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ...) أي أن بيان قصة يوسف التي قصصناها من جملة الأخبار الغيبية التي ننزلها إليك يا محمد بواسطة الملائكة (وَما

٢٥٢

كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ) أي ولم تكن عند أولاد يعقوب إذ اتفقوا على إلقاء يوسف في البئر (وَهُمْ يَمْكُرُونَ) أي يحتالون في أمر يوسف. وقيل بأن قوله تعالى : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) إلى آخر الآية تنديد بعلماء اليهود الذين كانوا قد سألوا النبي (ص) عن قصة يوسف وطمع في إيمانهم بعد سماعها ولكنهم أصروا على الكفر.

١٠٣ ـ (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ...) أي وليس أكثر الناس بمصدقين ولو اجتهدت في دعوتهم إلى الإيمان.

١٠٤ ـ (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ...) لست تطلب منهم يا محمد أجرة دنيوية مادية (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي هذا الذي ننزله عليك ، ما هو إلا موعظة وتذكير. (لِلْعالَمِينَ) لسائر الناس.

١٠٥ ـ (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي كم من حجة وبرهان فيهما تدل على وجود الله ووحدانيته (يَمُرُّونَ عَلَيْها) تعترضهم وتقع تحت أبصارهم (وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) منصرفون عن التفكر والتدبر فيها.

١٠٦ ـ (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ ...) فالأكثر منهم لا يصدّق بالدعوة إليه سبحانه (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) والشّرك هنا شرك طاعة وليس شرك عبادة ، إذ إنهم يعملون بالمعاصي إطاعة للشيطان فهم يعبدون الله ويطيعون سواه.

١٠٧ ـ (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ ...) يعني هل أمنوا جانب النقمة وأن تجيئهم عقوبة تعمّ الجميع فلا تخلّي أحدا ، وتكون نوعا من عذاب الله كالخسف والرّمي بالحجارة من السماء وكالريح الصرصر وعذاب يوم الظّلة وغيرها. (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) أم أمنوا أن تقوم القيامة فجأة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي وهم غافلون عن قيامها بين يدي ربّ الأرباب. فعن ابن عباس : تهجم الصيحة بهم وهم في الأسواق.

١٠٨ ـ (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي ، أَدْعُوا إِلَى اللهِ ...) قل يا محمد لهؤلاء الكفرة ولغيرهم : هذه طريقي الواضحة ، وأنا أدعو الناس إلى الإيمان بالله وعدله وتوحيده (عَلى بَصِيرَةٍ) أي بمعرفة تامة وحجة قاطعة لا تقليدا. (أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) أي ادعوهم أنا ويدعوهم إليه سبحانه كذلك من صدق بي (وَسُبْحانَ اللهِ) تنزيها له وتقديسا (وَما أَنَا) لست (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يعبدون غيره معه.

١٠٩ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً ...) أي إن كنت رجلا مرسلا من قبلنا ولم تكن ملكا كما طلب المعاندون ، فإننا لم نرسل قبلك إلّا رجالا وقد كنا (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ننزل عليهم الوحي على يد رسولنا الأمين جبرائيل (ع) وهم (مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أهل المدن لا من سكان البوادي. وقد قيل بأنه سبحانه لم يرسل نبيا قط من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي أما جال وتنقل هؤلاء المشركون المعاندون في الأرض (فَيَنْظُرُوا) ويروا بعين عقلهم (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي كيف كانت نهاية من سبقهم من معاندي الرّسل ومكايديهم وكيف أن الله أهلكهم فيعتبروا بمصيرهم ويتعظوا؟ (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) من دار الدنيا (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) ما يغضب الله وتجنّبوه ، وعملوا بأوامره (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تفهمون أيها الناس ما يقال لكم فتستبصروا.

١١٠ ـ (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ...) يعنى لا تهتمّ يا محمد بمن لا يؤمن ، فليس عليك من حسابهم من شيء حتى إذا بلغوا حالة يأس الرسل عن إيمانهم وتيقن أولئك الرسل أن أقوامهم كذبوهم على نحو العموم بحيث لم يعودوا يرجون إيمان ولو واحد منهم (جاءَهُمْ نَصْرُنا) أي ورد عليهم خبر صدق ما بعثناهم به حين أنذروا الناس وخوّفوهم النقمة ، فحلّت النقمة بالمكذّبين (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) أي خلص من الهلاك ونجا من العذاب من نريد من المؤمنين (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا) أي لا يقف في وجه بلائنا والبؤس الذي ننزله مع نقمتنا (عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) أي المشركين.

١١١ ـ (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ...) أي لقد كان في قصص يوسف واخوته موعظة وبصيرة من الجهل لذوي العقول الكاملة (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) أي أن القرآن ما كان خبرا مكذوبا (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) بل كان تصديقا وتأييدا لما سبقه من الكتب السّماويّة كالتوراة والإنجيل وغيرهما. (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) أي بيانا لكل ما يحتاج الإنسان إليه في أمور دينه ودنياه (وَهُدىً) دليلا (وَرَحْمَةً) لطفا ونعمة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لجماعة يصدّقون بما جاء فيه.

٢٥٣

سورة الرعد

مدنية ، عدد آياتها ٤٣ آية

١ ـ (المر ...) قد سبق الكلام في تفسير : الم ونظائره في أول سورة البقرة. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) أي هذه السورة هي آيات القرآن ليست بمفتريات (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي وهذا القرآن الذي أنزل إليك من الله وحيا قدسيّا ، هو (الْحَقُ) الثابت من ربّك (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) جلّهم يكونون معاندين فلا يصدّقون لا بكونه من عند الله ولا بحقانيته مع وضوح آياته وبيناته.

٢ ـ (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ...) في الآية احتمالان : الأول : نفي وجود عمد للسماوات المرفوعة أصلا وعليه يكون المعنى انه سبحانه رفع السماوات من غير عمد وأنتم ترونها كذلك. والثاني : إثبات العمد للسماوات المرفوعة ولكنها غير مرئية وعليه يكون المعنى انه رفع السماوات بعمد غير مرئية لكم وهذه العمد هي قدرة الله تعالى. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) أي استولى عليه بقدرته وسلطانه (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذلّلهما لمنافع خلقه ، (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي كل واحد منهما يجري إلى وقت معيّن يتمّ فيه أدواره ، والله تعالى (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي أمور ملكه وملكوته في الأرض والسماوات (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي ينزلها ويبيّنها تفصيلا ، أو المراد إتيانها آية بعد آية فصلا فصلا ، (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) أي لكي تصدّقوا بالبعث والحساب.

٣ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ...) والمراد بمدّ الأرض دحوها وبسطها طولا وعرضا لمنافع خلقه (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً) أي جبالا ثوابت وشق فيها أنهارا تجري فيها المياه. (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي صنفين مختلفين : أسود وأبيض ، وحلوا وحامضا ، وصيفيّا وشتويّا .. (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي تغطّي ظلمة الليل ضوء النهار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي فيما ذكر دلائل واضحة على وحدانية الله وقدرته لقوم يتدبرونها.

٤ ـ (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ ...) أي أقسام متلاصقة متقاربة وهي مع ذلك مختلفة من حيث السهولة والحزونة ، ومنها السبخة والصالحة للزرع وغير الصالحة. (وَجَنَّاتٌ) أي بساتين (مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) جمع صنو أو النّخلات من أصل واحد ، (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) أي النخلات من أصول شتى. (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) من الأنهار أو من السماء (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) في الأثر والثمر والقدر والشكل واللون والطعم وغيرها. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي فيما ذكرناه دلالات واضحة على وحدانية الله وقدرته لقوم يتدبرونها ويفهمونها.

٥ ـ (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ...) يعني يا محمد ، إن تعجب وتستغرب إنكار الكفرة البعث مع إقرارهم بإبداع الخلق أول مرة فاستغرابك في محله لأن قولهم عجيب فعلا (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) مقول قولهم العجيب أي أنعاد كما كنا من جديد بعد أن صرنا إلى تراب ، ووجه العجب في إنكارهم عدم تعقلهم ان خلقهم الأول الذي أقروا به هو أصعب وأكمل من الثاني لأنّه إنشاء وهذا ترميم (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) أي الذين أنكروا البعث هم الذين جحدوا بقدرة الله (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) ستوضع قيود النار في رقابهم يوم القيامة (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) باقون إلى أبد الأبد.

٢٥٤

٦ ـ (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ...) وذلك بأنهم سألوا رسول الله (ص) أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بقوله. والمعنى : يستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون بالعذاب قبل الرحمة (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي مضت قبلهم عقوبات أمثالهم من المكذّبين للرّسل كالخسف والمسخ والرجفة وغيرها (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي هو متجاوز عنهم بالرغم من الحالة التي هم عليها من المعاصي والآثام (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) للمستحق وهذه الآية تضمنت مبدأ الترغيب والترهيب والخوف والرجاء.

٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ...) أي اقترحوا على النبيّ (ص) معجزة كعصا موسى وإحياء الموتى ونحوهما من المعاجز التي صدرت عن الأنبياء قبله (ص). فالله تعالى لم يعتن بما سألوه لاستلزامه العبث ويؤدي إلى ما لا نهاية بل قال (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي إنما أنت مخوّف من العقاب ومرشد لكل قوم إلى الحق والخير وليس بيدك إنزال الآيات والمعجزات.

٨ ـ (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ...) أي أنه سبحانه يعلم حمل المرأة ذكرا كان أو أنثى أو سقطا لأنه يعلم ماذا خلق ، (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) أي ويعلم ما تنقص فتضع المولود أو تسقطه قبل تمام مدته (وَما تَزْدادُ) من حيث المدّة والخلقة وغيرهما (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي بقدر محدد على وفق الحكمة.

٩ ـ (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ...) أي عارف بما غاب عن حس العباد وبما يشاهدونه وعالم السر والعلانية والموجود والمعدوم. (الْكَبِيرُ) في قدرته وعلمه (الْمُتَعالِ) في شأنه وعظمته والمنزه عما يقوله المشركون في ذاته وصفاته وأفعاله.

١٠ ـ (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ...) أي يستوي في علمه من أخفى شيئا في نفسه ومن أعلنه ، (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي طالب للخفاء فيه (وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) أي ذاهب في سربه متّبع طريقه علنا.

١١ ـ (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ ...) أي أنه سبحانه جعل للإنسان ملائكة يتعاقبون في حفظه ليلا ونهارا أمامه ووراءه ومن جميع جهاته بأمر الله سبحانه (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من عافية أو نعمة (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الطاعة بالمعصية أو العكس. (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً) أي عذابا وبلاء (فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي لا مدفع له (وَما لَهُمْ) للناس جميعا (مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) مالك يقدر أن يلي أمورهم ويستطيع أن يرد السوء عنهم ويتولّى مصالحهم.

١٢ ـ (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً ...) أي أنه سبحانه يرسل البرق نذيرا لمن كان يخاف ضرر المطر والغيث ولذلك قال تعالى : (وَطَمَعاً) في نزول المطر لمن كان ينتظره أو يرغب فيه لزرعه وماشيته ونفسه. (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) أي ويخترع ويخلق الغيوم المثقلة بالماء ويرفعها من الأرض إلى طبقات الجو العليا.

١٣ ـ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ...) تسبيح الرعد دلالته على تنزيه الله ووجوب حمده فكأنه هو المسبح وروي أنّ النبيّ (ص) سئل عن الرعد فقال : ملك موكّل بالسحاب معه ، وعليه فالمعنى : أن الملك الموكل بالسحاب ينزه الله ويحمده وهو يزجر السحاب (وَ) هو الذي (يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) والصواعق : جمع صاعقة ، وهي النّار التي تسقط من السماء أثناء الرعد الشديد والبرق الخاطف ، وكلّ عذاب مهلك يقال له الصاعقة. (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أي هؤلاء الجهلة يحاجّون ويخاصمون في قدرة الله مع ما يشاهدونه من الآيات (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) قويّ الكيد ، شديد القدرة والعذاب للمجادلين بالباطل.

٢٥٥

١٤ ـ (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ...) اختلفوا في معنى دعوة الحق ، وأنسب ما يقال في المقام أن المراد بالحق كلمة الإخلاص التي هي قول : لا إله إلّا الله ، أو أن يقال : الحقّ هنا نقيض الباطل ، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ) أي والذين يدعونهم المشركون من الأوثان لحاجاتهم (مِنْ دُونِهِ) سواه (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) لا تستجيب أصنامهم لهم أدعيتهم ولا توصل إليهم شيئا يطلبونه. (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) أي كالعطشان الذي يبسط كفيه إلى الماء عن بعد ليتناوله ويروي به عطشه ولكن ذلك الماء لا يبلغ فاه لبعد المسافة فكذلك ما كان يعبده المشركون من الأوثان لا يصل نفعها إليهم ولا يستجيبون لدعائهم لأنّهم لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) لا يصادف محل إجابة ليكون في طريقه المستقيم للإجابة.

١٥ ـ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي أن كل من في السماوات والأرض شأنه السجود لعظمته سبحانه ويجب عليه السجود. ويسمّى لهذا بالسجود الشأني ، وهو بهذا المعنى عامّ والمراد به عام. أو أن المراد بالسجود الخضوع والاعتراف بالعبودية ، وهو بهذا المعنى أيضا عامّ لأن كلّ من في السماوات والأرض معترفون ومقرّون بالعبودية ، (طَوْعاً وَكَرْهاً) أي باختياره ، وقهرا ، وكذلك يكون شأن المخلوق لخالقه ، (وَ) كذلك تسجد (ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) والغدوة هي البكرة أو بين طلوع الفجر وشروق الشمس ، والآصال : جمع أصيل ، وهو هنا الوقت الواقع بين العصر والمغرب. وقيل إن كل ظلّ يسجد لله تعالى ولو كان ذو الظلّ لا يسجد ، أو إذا سجد ، سجد لغيره تعالى. وقيل : أريد بالظلّ الجسد لأنه ظلّ الروح.

١٦ ـ (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) أي يا محمد اسأل هؤلاء الكفرة : من ربّ السماوات والأرض وخالقهما ومتولّي أمرهما؟. (قُلِ اللهُ) أي أجيبهم بذلك إذ لا جواب غيره (قُلْ : أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟) الهمزة للإنكار ، أي : فكيف اتّخذتم غيره يتولّى شؤونكم مع أن الأصنام التي اتخذتموها لا تملك نفعا ولا ضرّا .. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي الكافر والمؤمن (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) أي الكفر والإيمان؟. والحاصل أنه لا يستوي من يعيش في ظلمة الكفر والشّرك ولا يبصر شيئا ، مع من هو في نور الإيمان وحقيقة اليقين (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) إلى آخرها. الهمزة فيها للإنكار. وحاصل الآية الكريمة أنهم ما اتّخذوا لله شركاء مثله تعالى في القدرة والخلق حتى يشتبه الأمر على النّاس ، ولا بين مخلوقين له ولشركائه ، حتى يتشابه ما خلقه وما خلقته أصنامهم ، بل أمر الخلق وفعله هو من مختصات الله سبحانه ولا يقدر عليه أحد غيره (وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) المتوحّد في الرّبوبيّة ، الغالب على كل شيء القاهر لكل جبّار عنيد.

١٧ ـ (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ...) أي مطرا (فَسالَتْ) منه (أَوْدِيَةٌ) جمع واد وهو المنخفض بين الجبلين الذي تجري فيه المياه (بِقَدَرِها) أي بقدر اتّساع المجاري وضيقها ، أو على حسب المصلحة (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً) أي أن السيل جرف معه ما استعلى على وجهه من ذلك الأبيض المنتفخ فقاقيع وأوساخا. (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي مثلما يعلو الزبد على وجه الماء حين جريانه الشديد ، يعلو على صفحته ما يوقد عليه النّار عند تذويبه كأنواع الفلزّات من حديد وذهب وفضّة ، لطلب زينة أو لأي انتفاع آخر كالأواني وغيرها. فإنّ الحاصل من تلك المعادن عند تذويبها يكون على سطحه زبد كزبد السيل وهو خبث المعادن وغشّها (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) إلى آخر الآية أي كذلك يشبّه الإيمان والكفر بالبصير والأعمى ، وبالنور والظّلمة ، فالحقّ والإيمان شبّههما بالماء الصافي النافع للخلق المستقر في الأودية للانتفاع ، وشبّه الباطل والكفر بالزبد الذاهب الذي لا ينتفع به أبدا.

١٨ ـ (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى ...) أي للّذين سمعوا دعوة ربّهم وآمنوا بها وأجابوا داعيه ، لهم الحسنى وهي الجنة (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) ما أطاعوه ولا أجابوا دعوته (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ثم يضاعف لهم أيضا معه (وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) ثم جعلوا ذلك كلّه فدية عن أنفسهم من العذاب يوم القيامة لا يقبل منهم ، (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) أي أسوأه وأتعسه. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي مصيرهم إلى جهنم وبئس ما مهدوا لأنفسهم نار جهنم فراشا موطأ لنومهم.

٢٥٦

١٩ ـ (أَفَمَنْ يَعْلَمُ ... كَمَنْ هُوَ أَعْمى ...) أي ليس من يعرف أنّ ما أنزل إليك من القرآن حقّ ، كالذي هو أعمى القلب والبصيرة. إنما يتفكر فيه ويستدل أولو العقول. وهذه الآية الكريمة تحث على طلب العلم للوصول إلى المعرفة الحقّة ، لأنه إذا كان حال الجاهل كحال الأعمى وحال العالم كحال البصير ، وأمكن لهذا الأعمى أن يصير بصيرا فما الذي يقعده عن طلب العلم الذي يخرجه من حال العمى إلى حال الإبصار.

٢٠ ـ (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ ...) أي بما عقدوه على أنفسهم لله سبحانه (وَلا يَنْقُضُونَ) أي لا ينكثون (الْمِيثاقَ) وهو ما أوثقوا نفوسهم به فيما بينهم وبينه تعالى أو بينهم وبين العباد. وهذا تعميم بعد تخصيص ، لأن الميثاق أعم ، والعهد هو العقد بين العبد والخالق أو بين المخلوق والمخلوق ، وينبغي القيام بشروطه غير منقوصة.

٢١ ـ (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ...) هم أيضا ـ عطفا على من سبق ـ يقومون بأوامر الله تعالى ونواهيه. وعن الصادق عليه‌السلام : نزلت في رحم آل محمد ، وقد تكون في قرابتك. (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) أي هو له وقيل : هو أن يحسب عليهم السيئات ولا يحسب لهم الحسنات.

٢٢ ـ (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ...) أي صبروا على طاعته وعن معصيته وعلى بلائه طلبا لرضاه (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون بالطاعة المعصية ، وبالعمل الصالح العمل القبيح ، و (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) عاقبتها الحسنة وهي الجنة.

٢٣ ـ (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ...) وهذه الآية إلى آخر الآية التالية وقوله : بما صبرتم ، بيان لعقبى الدار. وقد روي أنها نزلت في الأئمة (ع) وشيعتهم الّذين صبروا.

٢٤ ـ (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ ...) أي يسلّمون عليهم ويحيّونهم بسبب صبرهم في الدنيا. (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) من أبواب الجنة يقولون (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) إلخ ...

٢٥ ـ (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ...) أي يدعون ما أوثقوا به أنفسهم من الإقرار والقبول. وقد روي أنها في ولاية أمير المؤمنين (ع). وهذه الآية المباركة على طرف نقيض مع الآية السابقة. فالّذين ينقضون ذلك العهد (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) بتهييج الفتن والحروب والظلم أولئك (لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي عذاب يوم القيامة ومصيره السيّئ.

٢٦ ـ (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ ...) أي : يوسّع الرّزق : (وَيَقْدِرُ) ه : يضيّقه بحسب المصلحة (وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) أي أن الدنيا في جنب الآخرة متاع زائل.

٢٧ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ...) أي يطلبون معجزة كعصا موسى وناقة صالح ، فقل لهم يا محمد : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أي يخذله بسوء فعله ويحرمه عنايته لعدم اعتداده بالآيات المنزلة. (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) أي رجع عن الفساد إلى الطاعة والحق.

٢٨ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ...) أي الذين صدّقوا بالله ورسوله وتأنس قلوبهم بذكر الله وتسكن إليه وقيل : الذكر هو محمد (ص) (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) تسكن وتأنس.

٢٥٧

٢٩ ـ (الَّذِينَ آمَنُوا ... طُوبى لَهُمْ ...) أي الذين صدّقوا بالله ورسوله وعملوا ما وجب عليهم من الطاعات. لهم طوبى : قيل هي شجرة في الجنة أصلها في داره (ص) وقد روي عن الصادق (ع) قوله : وليس من مؤمن إلّا وفي داره غصن منها لا يخطر على قلبه شهوة شيء إلّا أتاه به ذلك الغصن ، ولو أن راكبا مجدّا سار في ظلها مائة عام ما خرج منه ، ولو طار من أسفلها غراب ما بلغ أعلاها حتى يسقط هرما ، ألا ففي ذلك فارغبوا. وقيل طوبى : مصدر من الطيب وقيل هي مؤنث أطيب. (وَحُسْنُ مَآبٍ) أي المآل الحسن.

٣٠ ـ (كَذلِكَ ...) أي : كما أرسلنا الرّسل قبلك (أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ) مضت (مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) كثيرة. (لِتَتْلُوَا) أي لتقرأ (عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وهو القرآن. (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) يعني : إليه توبتي ومآبي ورجوعي.

٣١ ـ (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) أي زعزعت عن مقارّها وأزيلت عن مواضعها بقراءة القرآن عليها (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) أي تشقّقت وتصدّعت (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) بعد إحيائهم بقراءته عليهم ، فيسمعون ويجيبون. وجواب لو : محذوف ، والتقدير : لكان هذا القرآن. أو : لما آمنوا لفرط عنادهم (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أي له تعالى القدرة الكاملة على كلّ شيء بما في ذلك إنزال الكتاب الذي تترتب عليه تلك الآثار. ولكن المصلحة اقتضت عدم الإنزال لأنه أعلم بما يفعل (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) : أفلم يعلموا أن هؤلاء المطالبين بالآية قد تصيبهم (بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) من الكفر وسوء الأفعال؟. والقارعة هي المصيبة العظيمة التي تقرعهم (أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي القارعة. فيفزعون من أن يصل إليهم شررها ،

٣٢ ـ (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ ... فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : الإملاء أن يترك الإنسان ويمهل ملأة من الزمان في أمن ودعة حتى يطول الأمل ثم يؤخذ بغتة ، وهكذا فعلت مع الّذين كفروا (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بالعذاب وأهلكتهم. (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) للمعاندين للرّسل. وهذه الآية تسلية للرسول (ص) ووعيد للمستهزئين به والمقترحين عليه الآيات.

٣٣ ـ (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ ...) أي رقيب وحفيظ يسمع قولها ويراقب فعالها. (قُلْ سَمُّوهُمْ) : لا اسم من يستحقّون به الإلهية لأن الأصنام أحجار لا تعقل (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ) تعرّفونه بشيء لا يعرفه ممّا (فِي الْأَرْضِ) من مخلوقاته (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) إذ تسمّون معبوداتكم من الأوثان شركاء له من غير حقيقة واعتبار كأنّ الله تعالى لا يعلم حقيقة المسمّى الذي تدّعونه. وقد (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) لهم (مَكْرُهُمْ) كيدهم (وَصُدُّوا) ضاعوا (عَنِ السَّبِيلِ) الطريق الحق ، ومن كان هذا شأنه (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) يدلّه على الصواب.

٣٤ ـ (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) بالقتل والسبي وأخذ الأموال ، و (لَعَذابُ الْآخِرَةِ) سيكون عليهم (أَشَقُ) أي : أشدّ لدوامه وخلودهم فيه. ويؤمئذ ليس لهم (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي دافع يدفع عنهم ويقيهم سخطه وغضبه.

٢٥٨

٣٥ ـ (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ...) أي صفتها ، وهي مقرّ المؤمنين ، أنها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) من تحت قصورها (الْأَنْهارُ) بين بساتينها (أُكُلُها) ثمرها (دائِمٌ) باق لا ينفد (وَظِلُّها) كذلك لا تنسخه شمس ف (تِلْكَ) الجنّة (عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) المتّقين أي مآلهم الأخير (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) التي لا يقضى عليهم فيها فيموتوا ، ولا يخفّف عنهم عذابها.

٣٦ ـ (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ ...) وهم المؤمنون بك يا محمد ، والكتاب هو القرآن ، (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) من القرآن وقيل المراد بهؤلاء أيضا من آمن من اليهود والنصارى وذلك لموافقته لكتابهم. (وَمِنَ الْأَحْزابِ) أي الذين تحزّبوا عليك بالعداوة من المشركين وكفرة أهل الكتاب (مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) وهو ما خالف أحكامهم وشريعتهم. فقل لهؤلاء (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) ولا أستطيع أن أغيّر شيئا من عندي (إِلَيْهِ أَدْعُوا) لا إلى غيره (وَإِلَيْهِ مَآبِ) رجوعي ورجوع الخلق أجمعين.

٣٧ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ ...) أي كما أنزلنا على الأنبياء السابقين كتبا بلسان قومهم ، أنزلنا القرآن (حُكْماً عَرَبِيًّا) أي شريعة وأحكاما بلغة العرب من قومك ، (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) أي سلكت طريقتهم وسرت بحسب رغباتهم (بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) ناصر (وَلا واقٍ) دافع يردّ عنك غضبه ويحفظك من عقوبته.

٣٨ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً ...) عيّر بعض المشركين نبيّنا (ص) بأنه كثير الأزواج مهتمّ بالنساء ، فنزلت هذه الكريمة تبيّن أن الرسل من قبله قد كانت لهم نسوة وأزواج كسليمان وداود وغيرهما (وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) أي معجزة (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) برخصته وبمشيئته (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي أن العذاب وغيره من الأمور التي ستنزل بهم ، كلّها لها مواقيت مقدّرة معيّنة في اللوح المحفوظ ، بل كلّ عذاب ، وكلّ أمر ينزل في وقته وعلى حسب المصالح التي قدّرها الله تعالى ، وهي كآجال الموت والحياة وكقوله : «ما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن الله».

٣٩ ـ (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) : فهو ينسخ ما يشاء ويبقي ما يريد في كلّ عصر وكلّ زمان بحسب ما تقضي مصالح العباد. وهذا رد على طعن الكفار عليه (ص) بأنه لو كان صادقا لما نسخ الأحكام التي ادعى تشريعها قبلا وأم الكتاب : اللوح المحفوظ.

٤٠ ـ (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ...) وقد نريك يا محمد بعينك وأنت على قيد الحياة بعض ما هدّدناهم به من القتل والإذلال (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أو نقبضك إلينا ونوقع بهم ما وعدناهم ، (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) وظيفتك تبليغ الأحكام إليهم من قبلنا (وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) أي السؤال والمحاسبة والمجازاة.

٤١ ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها ...) أي : أفلا ينظر هؤلاء الكفّار أنّا نعمد إلى الأرض فيأتيها أمرنا بنقصها (مِنْ أَطْرافِها) أي جوانبها وما حولها بالفتح على المسلمين وبأخذ أقسام منها من أيدي الكافرين والمشركين وقيل إن معناه : أو لم يروا إلى ما يحدث في الدنيا من الخراب بعد العمار ، والموت بعد الحياة ، والنقصان بعد الزيادة؟. (وَاللهُ يَحْكُمُ) بنقصان الأرض وازديادها بما ذكر (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا رادّ لحكمه ولا حكم بعد حكمه (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) للعباد.

٤٢ ـ (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...) أي قد كاد الذين من قبل قومك لأنبيائهم كيدا كثيرا (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) وعليه مجازاة الماكرين ، وهو يأخذهم بسوء تصرّفهم (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ) ولا يفوته علم شيء ولا يشغله شيء عن شيء (وَسَيَعْلَمُ) سيعرف هؤلاء (الْكُفَّارُ) المعاندون لك (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) العاقبة الحسنة يوم القيامة.

٢٥٩

٤٣ ـ (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ...) أي أنهم ينكرون رسالتك من عند الله ونبوّتك ، ف (قُلْ) لهم : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) شاهدا عالما (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يفصل في هذا الأمر وفي غيره (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ومن يملك الأحكام ويفصل في الأمور. وقد سأل رجل عليا (ع) عن أفضل منقبة له فقرأ هذه الآية ، وذلك أنه سئل النبي (ص) عن هذه الآية فقال : ذاك أخي علي بن أبي طالب كما سئل الإمام (ع) عن الذي عنده علم الكتاب أعلم أم الذي عنده علم من الكتاب؟ فقال : ما كان الذي عنده علم من الكتاب عند الذي عنده علم الكتاب إلّا بقدر ما تأخذ البعوضة بجناحها من ماء البحر.

سورة إبراهيم

مكية ، عدد آياتها ٥٢ آية

١ ـ (الر ، ...) قد مرّ التعليق على الحروف التي تقع في مفتتح السور في أول سورة البقرة ، (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) وحيا من عندنا (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) لتخرجهم من ظلمات الكفر والضلال الذي هم فيه إلى نور الإيمان (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه وتسهيله (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي طريق الله المنيع الجانب اللائق بالحمد.

٢ ـ (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) الله الذي يملك ما في السماوات وما في الأرض ويتصرّف به كيف يشاء (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) تهديد لهم بالعذاب العظيم يوم القيامة ، ووعيد بالويل الذي يقال إنه واد في قعر جهنم.

٣ ـ (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ ...) فالكافرون هم الذين يختارون المقام في هذه الدّنيا والانغماس في مغرياتها ، ويفضّلون ذلك على العمل للآخرة ، (وَيَصُدُّونَ) يمنعون غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الطريق الموصلة إلى مرضاة الله (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي ويريدون طريق الحق معوجّة ذات لفّ وزيغ فينحرفون بالناس إليها عن الحق (أُولئِكَ) المنحرفون (فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) في ضياع عظيم عن الحق.

٤ ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ...) أي أن كل رسول نزل بكتاب بلغة قومه الذين تولّد منهم ونشأ بينهم وبعث إليهم (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) أي ليوضح لهم ما أرسل به فيفهموا قوله بلغتهم الدارجة بينهم لتتمّ الحجة عليهم. (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي فيضل من يشاء الضلال بسوء سريرته ويهدي من يريد بتيسير الهداية له كيلا يكون الإيمان إلجاء. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مر تفسيره.

٥ ـ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ...) أي بعثناه بدلائلنا ومعجزاتنا وأمرناه (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فاهدهم إلى الإيمان وأنقذهم من الجهل والكفر (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي أنذرهم بوقائعه وآياته التي حلّت بالأمم التي سبقتهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) التذكير (لَآياتٍ) دلائل وبراهين (لِكُلِّ صَبَّارٍ) صبور على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه عزوجل.

٢٦٠