نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

المظاهرات تعرقل مساعيه ، وإن الدول المحالفة ترغب بمعاونة العرب وتحب أن يكونوا لهن أصدقاء.

تزلّف عظماء المسلمين والنصارى واليهود إلى بعضهم :

بعد الإفراج عن معتقلي حادثة ٢٨ شباط خطر لبعض عظماء الملل الثلاث أن يسعى بتأكيد ما بين هؤلاء الملل من المحبة والولاء القديمين ؛ تفاديا من أن تكون تلك الحادثة قد شوهت محاسنهما أو أبقت لها أثر حقد أو ضغينة في القلوب. فأخذ عظماء الملل من السادة العلماء والكهنة يجتمعون عند أحدهم مرة في الأسبوع ، يتبادلون في أثناء اجتماعهم عبارات التوادد والتحابب. وفي ختام الاجتماع يأدب (١) صاحب المنزل مأدبة حافلة تشتمل على الشاي وأنواع الحلوى وأطاييب الفواكه وقد حصل هذا الاجتماع في منزل كل من السادة : قاضي حلب ، ومطارنة الطوائف المسيحية ، والحاخام باشي ، وبعض الوجهاء من الملل الثلاث.

عقوبة المعتدين على الأرمن :

ثم إن السلطة العسكرية الإنكليزية ألقت القبض على المتهمين بالجناية على الأرمن في الحادثة السالفة الذكر ، وألّفت محكمة عسكرية حاكمتهم فيها ، وقد جمعتهم في خان الشّربجي بحلب (٢) ، فكانت المحكمة متى أصدرت حكمها على واحد منهم بالقتل قصاصا قتلته في هذا الخان تعليقا. فقتلت نحو خمسة وثلاثين شخصا ، ونفت آخرين إلى جهات في مصر مددا مختلفة ، فمنهم من مات في منفاه ومنهم من رجع إلى حلب بعد انتهاء مدته.

تسليم السلاح :

وفي ثامن جمادى الثانية أعلن الحاكم العسكري العدلي بأن كل من كان عنده سلاح يجب عليه أن يسلمه إلى مخفر محلّته ويأخذ به وصلا.

__________________

(١) رسمت في الأصل «يؤدب» مسايرة للّفظ الشائع الذي بضم الياء. والصواب رسم الهمزة على ألف «يأدب» كما صحّحناه وفعله ثلاثي من باب ضرب : «أدب يأدب» أي أولم وأقام مأدبة (لازم) ويقال أيضا : «أدب الناس : دعاهم إلى طعامه» (متعدّ).

(٢) هذا الخان دون الخانات الأخرى في حلب قدما وأهمية ، ولعل هذا ما جعل سوفاجيه والأسدي يغفلان ذكره ، في كتاب الأول وموسوعة الثاني. وهو يقع في الشارع الذي يصل بين باب الجنان وباب أنطاكية.

٥٦١

منع إخراج الذهب :

وفي ١٥ منه أعلن القائد العام على جيوش الحملة المصرية ، المارشال إدمون هنري اللنبي ، منع إخراج الذهب من ولايات تركيا المحتلة ، وأن من خالف هذا المنع يصادر ذهبه ويجري عليه حكم القانون.

قدوم الحاكم العسكري على حلب :

يوم الأربعاء ١٧ منه قدم على حلب جعفر باشا حاكما عسكريا على ولاية حلب ، فاستقبل على المحطة بحفاوة واحترام ، وتعيّن سلفه شكري باشا حاكما عسكريا لمنطقة المدينة المنورة.

وصول الأمير فيصل إلى بيروت :

يوم الأربعاء ٢٩ رجب سنة (١٣٣٧) ، وفي ١٩ نيسان سنة (١٩١٩) م ؛ وصل سمو الأمير الكبير فيصل إلى بيروت عائدا من أوربا ، فاستقبله في بيروت وفود البلاد السورية استقبالا حافلا.

قدوم سمو الأمير فيصل إلى حلب :

وفي يوم الأربعاء ١٢ رمضان منها وصل الأمير فيصل إلى حلب قادما عليها من دمشق بعد عوده من أوربا ، وكان خفّ لاستقباله عظماء الحلبيين والموظفين إلى أماكن بعيدة ، وزينت له جادات حلب وشوارعها ونصبت له أقواس الظفر ، ومشى في موكب استقباله من محطة الشام ألوف من الناس قد انقسموا إلى زمر متعددة ، يسير أمام كل زمرة راية نقابة ، وتعلو أصوات الجميع لسموّه بهتاف الفرح والمسرة والدعاء له بالفوز والظفر ، حتى وصل إلى دار الإمارة المعدّة لنزوله في محلة العزيزية. وفي ثاني يوم من قدومه أقام لسموّه نادي العرب حفلة باهرة حضرها الجمّ الغفير من أهل حلب ، وألقى خطابا مسهبا قال فيه ما صورته بالحرف الواحد :

«أيها السادة :

لقد كلّفني عند وصولي أمس بعض الأخوان أن أتكلم كلمتين تتعلق (١) بمصير

__________________

(١) الوجه أن يقال هنا : «تتعلقان».

٥٦٢

الشعب ومستقبله الذي ينبغي معرفته ، ولكن ضيق الزمان والمكان أمس حال دون الكلام فأرجأته إلى هذا اليوم. وكنا نود أن يكون الكلام في غير هذا النادي الذي لم يعد إلا للعلم والأدب والخطابة الاجتماعية. إلا أنني اضطررت إلى الكلام فيه إذ لم يتيسر أوسع منه. وإنني أتشرف بالمثول بين يدي قواد الجيش البريطاني ، وأمام كافة مندوبي الحلفاء ووجهاء هذه البلدة التي تمثل قسما كبيرا من القطر السوري.

إخواني!

لا شك أن كلماتي هذه قد سمع مرارا من فهمي أمثالها. وتكثير الكلام وترديد القول قد أزعجاني فأستميحكم العفو عن كل ما يصدر عني من الخطأ في القول أو اجتناب التصريح بكل ما في ضميري.

أول ما أخاطبكم به ـ أيها السادة ـ أني أعلمكم بأنكم اليوم في موقف ربما يعود لكم بالخير وربما يعود عليكم بغيره لا سمح الله. وهذا الأمر هو الذي حدا بي إلى الوقوف في هذا المقام.

ولا بد أنكم سمعتم خطابي في دمشق ، ذلك الخطاب الذي أفصحت فيه عن كل ما يختلج بنفسي وعن جميع ما قمنا به من الأعمال إلى ذلك التاريخ. وطلبت الاعتماد من الحضور كافة. فقبلوا جميع ما كلفتهم إياه ومنحوني الاعتماد التام لأتولّى سياسة أمورهم الداخلية والخارجية. وعلى ذلك الاعتماد أنا مثابر في أعمالي.

ولقد كانت أعمالنا إلى هذا التاريخ مقرونة بكل نجاح. وهذا نتيجة آداب الأمة وحسن سلوكها. وإني لأرجو أن تثابر على هذا السير الذي يسمو بها إلى المنزلة الرفيعة.

إن الأمم ـ وأخصّ منها التي حاربت لنصرة الحرية والمبادىء السامية ـ هي التي منحتكم حق الحكم والاستقلال منحا باتا لا مشاحة فيه. وقد وصلت اليوم إلى بيروت اللجنة المرسلة من قبل الأمم التي حاربت وإياكم. أتت هذه اللجنة لتبحث عن رغائبكم ومطالبكم وستكون شاهدا فإما لكم وإما عليكم. وإذا لم تحكم بما نبتغيه فالأمة هي الجانية. إن الأمم المتمدنة تريد أن ترى الأمة العربية عامة ـ والسورية خاصة ـ في مستوى الأمم الراقية. وقد خوّلتكم هذا الحق على شرط أن تكونوا حائزين الصفات اللازمة. وليس على هذه الأمة أدنى إكراه على قبول أي أمر كان. وقد صرّحت بذلك

٥٦٣

الدولة العظمى التي انتهت إليها مقاليد العالم. فيجب علينا أن نعلم أنه لا نجاح لنا إلا إذا تمسكنا بأهداب الإخاء والإخلاص ، والتؤدة والسكون واتحاد الكلمة ، وغير ذلك مما يثبت للعالم أننا أمة يجدر بها أن تدخل المجتمع البشري بيضاء الوجه. ويجب على كل فرد منا أن يتكلم أمام هذه اللجنة بملء الحرية من غير أن يؤثر فيه مؤثر ، ويعرب عما في قلبه ويبين كل ما في فؤاده ، راميا إلى درك مصالح أمته بدون خوف ولا حذر. (هتاف ـ تصفيق).

لا تحسبوا أن أحدا يريدكم على قبول ما لا تريدون. فإن مستقبلكم بين أيديكم على أن تبرزوا لهذه اللجنة القادمة كل تصرف مجيد. نعم ، إنه يوجد من يقول إننا نحن العرب أو السوريين لا نتمكن من إدارة شؤوننا بأنفسنا. ربما يكون هذا حقا وربما يكون باطلا ، فيلزم أن نفهم من يقدم علينا أننا إذا تركنا وشأننا نتولى أمورنا بأنفسنا سنتمكن من إثبات كفاءتنا وجدارتنا. فإذا أثبتنا ذلك فدعونا نسير في سبيل الأمم المتمدنة.

وبما أن الحالة الحاضرة هي ميزان المستقبل ، وبما أن الأمة محتاجة إلى توحيد الكلمة ، فوحدوا كلمتكم وأجمعوا على طلب الغاية التي تريدونها لأنفسكم وبلادكم. ولو كنت في غير مقامي هذا لجئت بتصريح أفصح وأوضح. ولست بمكلّفكم تكليفا ما ، وليس لأحد كذلك ، فأنتم المختارون. هذه أقوالي وسنبدي للعالم ما نحن محتاجون إليه (أصوات : فلنعتمد الأمير ، هتاف عال).

أنتم أحرار في بلادكم ، وستقولون ما تريدون ويعمل بما تريدون. وهذه هي النتيجة المختصرة المفيدة أخبركم بها ، وإني سأقوم بواجبي فيما ينفع الأمة وفيما يوطد دعائم استقلالها في الحاضر وفي المستقبل اعتمادا على ما خولتني إياه من الثقة.

نعلم أن فينا من هو في الأقلية ومن هو في الأكثرية بالنظر إلى المذاهب ؛ وهو الأمر الذي ربما يقال أو يتصور أنه موضع اختلاف ، وقد يمكن أن يجعل ذلك بعض من يجهل حالة العرب اليوم سببا للقول في أمر العرب ومستقبلهم. أما أنا فأقول : لا أكثرية ولا أقلية لدينا ، ولا شيء يفرق بيننا. إنما نحن جسم واحد. (تصفيق وهتاف). ولا شك أن أعمال الحكومة الموقتة تدل على أن لا أديان ولا مذاهب ، فنحن عرب قبل موسى ومحمد وعيسى وإبراهيم. نحن عرب تجمعنا الحياة ويفرقنا الموت. لا تفريق بيننا إلا إذا قبرنا.

٥٦٤

(هتاف). ولا بد أن الحكومة ـ التي ستؤسّس بمساعدة من أخذ بناصرنا من الأمم المتمدنة العظيمة ـ ستعمل بجميع ما هو واجب لتأييد حقوق الأقلية. وسنقطع على ذلك العهود المكتوبة بالصحائف ، وأنا واثق أن هذه الصحائف التي تكتب لحفظ حقوق الأقلية ستأتي الأقلية فتمزقها بيدها ؛ لأنها سترى أن الأكثرية عاملة بما سطرته وفوق ما سطرته.

وأؤمل أن كل سوري يكون عربيا قبل كل شيء. وأؤمل أن كل من يتكلم بالعربية يشعر بمثل هذه العواطف التي أشعر بها. (تصفيق). لا يحترمنا العالم المتمدن إلا إذا احترمنا أنفسنا واحترم بعضنا بعضا. وإذا انقسمنا إلى أحزاب وشيع فإنه يستخفّ بنا. وهو ينظر إلى الأديان كافة نظرا واحدا ولا يميز بين أمة وأمة ، وأريد أن ينظر المجتمع العربي بعضه إلى بعض بهذا النظر.

يجب عليّ أيضا أن أكرر القول : إن أول عمل ينبغي علينا القيام به بعد ذهاب اللجنة ـ وما هو بعيد الأمد ـ أن تكون مجتمعاتنا علمية وأدبية لا سياسية. وإني أنشّط جميع مواطني الذين يسعون في إنشاء جمعيات علمية ، وأكون سعيدا إذا رأيت اسمي مقيدا بين أسمائهم.

تريدون أن أتكلم عن السياسة أكثر من ذلك فحسبي ما جئت به ، ولكني أتكلم الآن عن العلم ، وإني أتمنى أن يكون هذا النادي الذي أتشرف اليوم بالوقوف فيه خادما للعلم ومصدرا للآداب كافة. وأطلب من الأمة أن تنظر إلى مستقبلها بعين الارتياح.

ينبغي أن نكون إخوانا ولا نتفرق ولا يكون بيننا أحزاب ، حتى لا يؤثر شيء في مصيرنا. ومن أصابه أدنى ظلم من أي شخص كان فليصبر على ما يصيبه وليأت إلى المرجع المسؤول فيخبره بما أصابه. وربما يوجد مضلّون يحبون أن تتنازعوا ـ كما وقع قبل مدة ـ حتى يقولوا : إننا لسنا بمستحقين للحكم الذاتي ، وتسوء سمعتنا أمام العالم بمثل ذلك. فإني أحذركم عواقب هذه الأمور التي لن تسمع ولن ترى إن شاء الله. وإني لأتوقع أن أسمع وأرى كل ما يسرني من الهدوء ، وجمع الكلمة على طلب ما هو بغية كل عربي من الاستقلال الذي ستنالونه. اربطوا الجأش واعتصموا بحبل واحد.

من البديهي أن الأمن من ضروريات البلاد. والأمن لا يقوم إلا بالرجال وهم الدرك

٥٦٥

والجند. نعم ، إن الأمة قد خرجت من الحرب ناصبة (١) من الجندية ؛ ولكن الوطن يحتاج إلى من يصون الأمن فيه ، فأتمنى كثيرا أن تهرع الأمة إلى الانتظام في هذا السلك. أريد أن أرى الشهباء عند عودتي في المرة الثانية قد أكملت أهبتها. إن إخوانكم الدمشقيين قاموا بواجباتهم في هذا السبيل أحسن قيام ، وأؤمل أن أراكم غير متأخرين عن إخوانكم أولئك. بل الذي أؤمله أن تسبقوهم.

وإني أختتم الآن الكلام فأقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

زيارة سموه المستشفى الوطني ومكتب الصنائع :

ثم إن سمو الأمير فيصل زار في هذا اليوم المستشفى الوطني ومكتب الصنائع ، وسرّ بما شاهده فيهما من آثار الرقي والتقدم. وفي ثاني يوم طاف في أسواق حلب ماشيا ليس معه سوى جندي واحد يتفقد شؤون الناس ويطلع على أحوالهم.

مأدبة البلدية لسمو الأمير :

وقد أدبت لسموّه البلدية مأدبة حافلة ، جلس على مائدتها نحو من مئة وخمسين ذاتا من وجهاء حلب وعلمائها ورؤسائها الروحيين. وفي انتهاء الحفلة شكر الأستاذ الدكتور السيد عبد الرحمن الكيالي ـ على لسان البلدية ـ سموّ الأمير على تنازله بإجابة دعوى (٢) البلدية إلى هذه المأدبة ، والتمس منه غض الطرف عما يراه من التقصير فيما يجب لسموه.

حفلة الجمعية العلمية لسمو الأمير :

وفي نحو الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الجمعة ١٤ رمضان دعت جمعية النهضة العلمية سموّ الأمير إلى حفلة أقامتها له في نادي العرب ، حضرها وجهاء البلدة وأعيانها ، وتبرع الأمير بألف جنيه مصرية للجمعية وبراتب شهري عشر ليرات. وتبرع مولود باشا بخمسين جنيها وبراتب شهري خمس ليرات. وتبرع زكي بك الخرسا بمائتي جنيه وبنفقة عشرة

__________________

(١) أي أنهكت قواها تعبا.

(٢) هذا ترخص من المؤلف ، والوجه : «دعوة» وهي الدعاء إلى الطعام.

٥٦٦

تلامذة من أبناء العرب يرسلون إلى مكاتب أوربا. وتبرع السيد عبد الرحمن محّوك بثلاثمائة جنيه وبراتب شهري عشرين جنيها.

وصول برقية من المارشال اللّنبي عن اللجنة الدولية :

في هذه الأيام وصل من المارشال اللّنبي برقية تتعلق باللجنة الدولية ، صورتها بعد التعريب :

«تصل إلى الشرق عما قريب اللجنة التي تبحث في الأمور المتعلقة بمستقبل سوريا وفلسطين والعراق السياسي ، وذلك بعد أن يكون المندوبون الأمير كيون قد تحقق سفرهم إلى هذه الأقطار. وعندما تنتهي هذه اللجنة من فحص الحقائق المتعلقة بهذا الشأن يقدم أعضاؤها رأيهم إلى مجلس الدول المحالفة العظمى ، فيقرر المجلس الأمر تقريرا نهائيا».

عود سمو الأمير فيصل إلى دمشق :

وفي هذا الشهر عاد سمو الأمير فيصل إلى دمشق فشيّع باحتفال فائق.

الوفد الدولي واجتماع رجال حلب للمذاكرة بما يجيبونه به :

تقرر في المراجع الكبرى الأوربية إيفاد وفد أميركي إلى فلسطين وسورية لاستفتاء أهل البلاد. ولما أنبأ البرق بهذا الخبر عقد علماء حلب ووجهاؤها من جميع الملل جمعية كبرى في قاعة الأستاذ الدكتور السيد عبد الرحمن الكيالي وتذاكروا فيما بينهم بالجواب الذي يجيبون به الوفد الأميركي عن أسئلته. وبعد الأخذ والرد كانت الأكثرية في أن يكون الجواب هكذا :

«نطلب أن تكون سوريا مستقلة بحدودها الطبيعية استقلالا تاما وإذا لم يكن بدّ من إشراف دولة كبرى عليها فلتكن جمهورية أميركا ، وإذا رفضت أميركا أن تكون مشرفة عليها فلتكن دولة إنكلترا ؛ لا نرضى بإحداهما بديلا».

ثم أبرقت الجمعية بذلك إلى عصبة الأمم في أوربا.

٥٦٧

أعضاء المجلس العمومي :

في اليوم ال ١٦ من رمضان اجتمع في دار الحكومة المنتخبون الثانويون وانتخبوا سرا أعضاء ليمثلوا الشهباء في المجلس العمومي والمؤتمر السوري الذي سيعقد في دمشق عاصمة سورية.

افتتاح المؤتمر السوري :

وفي يوم الاثنين ٩ شوال دعا سمو الأمير فيصل أعضاء المؤتمر السوري إلى النادي العربي في دمشق. ولما تكامل الجمع فاه بخطاب أبان فيه أن الغرض من هذا الاجتماع تمثيل الأمة السورية أمام اللجنة الأميركية وعرض أمانيها ومطالبها لتقدّمها اللجنة إلى مؤتمر السلام ، وسنّ قانون أساسي يكون دستورا لأعمال الأمة في المستقبل ويحفظ حقوق الأقليات.

وبعد هنيهة من الزمن اجتمع أعضاء المؤتمر وقرروا أجوبتهم إلى اللجنة الأميركية ، وهي : طلب الاستقلال التام ورفض كل حماية ووصاية على سورية بحدودها الطبيعية المعروفة ، ومنع المهاجرة الصهيونية ، وعدم تجزئة سورية ، وتأليف حكومة دستورية ديموقراطية برآسة الأمير فيصل ، وتنظيم قانون أساسي تراعى فيه حقوق الأقليات ، والاجتماع على المادة ال ٢٢ من قانون عصبة الأمم ، وأنه إذا كان لا بد من إصرار مؤتمر الصلح على انتداب دولة على سوريا لأسرار خفية لا يدرك كنهها ، وبناء على تصريحات الرئيس ويلسون ـ القائلة بأن الدولة المنتدبة تكون لنفع الشعب المندوبة عليه لا لنفعها ـ فلذلك نطلب هذه المساعدة من دولة أميركا البعيدة عن المطامع الاستعمارية في بلادنا بشروط معينة على ألّا تمسّ هذه المساعدة استقلالنا السياسي ، وتكون عبارة عن مساعدة فنية علمية لمدة عشرين سنة فقط. وإذا رفضت أميركا فلتكن هذه المساعدة من دولة إنكلترا بنفس الشروط ، وإننا نرفض كل حقّ تدعيه (الدولة الأخرى) مع رفض كل مساعدة تقدمها لسوريا.

وقد استغرقت هذه المناقشة نحو أربع ساعات ، ثم قبلت بعد تحوير طفيف بأكثرية ٤٦ صوتا يخالفها ١١ صوتا و ١٦ صوتا عدّ أصحابها مستنكفين.

٥٦٨

وصول اللجنة الأميركية إلى حلب واستفتاؤها الشعب الحلبي :

في منتصف ليلة الخميس ١٦ شوال سنة (١٣٣٧) وصل أعضاء اللجنة الأميركية إلى حلب قادمة عليها من حماة بالقطار الحديدي. وفي الغد أخذت وفود الأقضية ومشايخ العشائر ترد على حلب لمقابلة اللجنة ومكاشفتها عن أميالهم. وفي ثاني يوم تصدت اللجنة لقبول أهل ولاية حلب واستفتائهم عن مصير بلادهم ، فكان وجهاء كل محلة من أهل حلب يدخلون على الانفراد غرفة اللجنة ويبدون لها مطالبهم. كما أن كل ذي شخصية بارزة من أهل أقضية الولاية يدخلون فرادى على الغرفة ويصارحونها بمطالبهم. وكان مآل ما طلبه جميع الأهلين (١) مطابقا لما قرر المؤتمر السوري الذي أسلفنا ذكره.

قدوم الشريف ناصر إلى حلب وعوده إلى دمشق :

في يوم الأربعاء ٢٥ شوال سنة (١٣٣٧) وصل الشريف ناصر إلى حلب قادما عليها من دمشق ، فاستقبل بحفاوة ونزل في دار الإمارة. وبعد أيام عاد إلى دمشق.

عود ناجي بك السويدي :

في شهر ذي القعدة عاد إلى الشهباء المعاون الملكي ناجي بك السويدي ؛ بعد تغيبه ثلاثة أشهر مأذونا لزيارة الأهل والأصدقاء ، فاستقبل استقبالا حافلا.

سفر سمو الأمير فيصل إلى أوروبا :

في شهر ذي الحجة سافر سمو الأمير فيصل إلى أوروبا ليكون في اليوم ١٦ من أيلول سنة ١٩١٩ م حاضرا في باريس ، وهو اليوم الذي تطرح فيه المسائل السورية على بساط البحث ، وقبل سفره أوصى الأهلين بالتؤدة والسكون وانتظار النتيجة وألّا يغرهم ما يشيعه بعض أرباب الأغراض ، وأن يكونوا يدا واحدة ولا يدعوا للشر واليأس مجالا.

__________________

(١) وردت هذه الكلمة عند المؤلف هنا وبعد عشرة أسطر أيضا بياء واحدة. وفي سائر المواضع السابقة رسمت بياءين.

٥٦٩

قدوم الأمير زيد إلى حلب :

وفي هذا الشهر قدم الأمير زيد إلى حلب ، فاحتفل باستقباله. وبعد أن أقام في حلب أياما قلائل ـ حثّ في خلالها على التطوع العسكري وعلّق الأوسمة على صدر بعض الموظفين الكبار ، أوّلهم جعفر باشا ـ عاد إلى دمشق.

٥٧٠

سنة ١٣٣٨ ه

انسحاب الجيش الإنكليزي من دمشق وحلب :

في شهر ربيع الأول منها انسحب الجيش الإنكليزي من دمشق وحلب ، وأصبح أمر الأمن منوطا بالحامية الوطنية المتطوعة ؛ إلى أن يتقرر مصير البلاد في مؤتمر الصلح.

كان الأمن مدة احتلال الجيش البريطاني مادّا رواقه في حلب وسائر ملحقاتها ، وكانت حركة الاقتصاد في نجاح عظيم لم يسبق له نظير.

مظاهرة :

يوم الخميس ٤ ربيع الأول منها قام طلاب المدارس في حلب على اختلاف طبقاتهم ـ ومعهم جمهور من الناس ـ بمظاهرة وطنية احتجاجا على الاتفاق الأخير الذي يرمي إلى تجزئة البلاد ، فطافوا في الشوارع ورفعوا الأعلام العربية وقصدوا دار الحكومة ، فاستقبلهم الحاكم العسكري وشكر عواطفهم الوطنية ، وخطب أحدهم فقال : إننا جميعا متطوعون نضحي أموالنا وأرواحنا في سبيل حريتنا واستقلالنا ، وليحي الأمير فيصل. ثم في يوم السبت ٦ منه قاموا بمظاهرة أخرى نظير المظاهرة الأولى.

بلاغ مندوب حكومتي إنكلترا وفرنسا :

وفي هذا الشهر ورد من الحاكم العسكري في دمشق إلى الحاكم العسكري بحلب كتاب خلاصته : إننا تبلغنا رسميا من المندوبين المومأ إليهما أن الجنود الفرنسية ستحلّ محل الجنود البريطانية في شتورة ورياق وبعلبكّ ، حسب القرار العسكري الأخير ، احتلالا عسكريا على أن تبقى هذه المناطق مرتبطة من الوجهة الإدارية بالحكومة العربية.

وعلى أثر هذا الخبر انتدب اللواء نوري باشا السعيد إلى مقابلة القائد الفرنسي العام

٥٧١

في بيروت ليفهمه الأخطار التي تنجم عن هذا الإشغال الذي لا ينطبق على أفكار الشعب.

وبعد بضعة أيام ورد من دمشق على قيادة الفرقة الثالثة بحلب برقية مآلها أن الفرنسيين عدلوا أول أمس عن إشغال بعلبك ورياق وشتورة وحاصبيّا وراشيّا ، واكتفوا بإقامة ضابط ارتباط في بعلبك فقط فاستبشر الناس بهذا الخبر.

روابط المحبة بين العرب والأرمن في حلب :

في هذا الشهر أقامت طائفة الأرمن بحلب حفلة شاي في ميتم الأرمن الكائن في خان الصابون برآسة جعفر باشا ، حضرها ٥٢ شخصا من وجهاء العرب و ٤٤ من وجهاء الأرمن تبودلت فيها الخطب الودية بين الطرفين ، وخطب ناجي بك السويدي فبحث عن وجوب الاتحاد والتضامن بين الأمتين ومدح ثبات الأمة الأرمنية واستعدادها.

عود الأمير فيصل من أوربا :

يوم الأربعاء ٢٣ ربيع الثاني سنة (١٣٣٨) وصل سمو الأمير فيصل إلى بيروت عائدا من باريس ، فاستقبلته وفود البلاد السورية استقبالا باهرا. وكان من جملة المستقبلين وفد حلب. وقد أطلقت المدافع تحية لمقامه الملوكي ورفعت له الأعلام العربية على أقواس الظفر المنصوبة بالشوارع.

خطاب الأمير في دمشق :

وبعد أن وصل الأمير إلى دمشق بيوم ألقى خطابا بحضور الجم الغفير ، قال فيه ما خلاصته : إنه حتى الآن لم يعقد بينه وبين أيّ كان من الدول الأوربية اتفاق ، وإنه لم يتحول عن عزمه الذي ذهب من أجله ـ وهو طلب الاستقلال ـ ليس لسورية فقط بل لجميع البلاد العربية ، وإنه لا يتزعزع عن هذا العزم إلى آخر لحظة من حياته.

قدوم سمو الأمير فيصل على حلب :

في نحو الساعة التاسعة زوالية صباح يوم الخميس ٩ جمادى الأولى سنة (١٣٣٨) وصل إلى حلب القطار الخاص الذي يقلّ سمو الأمير فيصل فاستقبل أجلّ استقبال كان رسم برنامجه على صفة منظمة.

٥٧٢

سمو الأمير في نادي العرب :

يوم الجمعة ١٠ منه حضر سمو الأمير إلى حفلة أقيمت له في نادي العرب ، وألقى خطابا حثّ فيه على الاهتمام بالتجنيد. ومن جملة ما قال فيه :

«إن البلاد لا تتخلص إلا بقدرة الباري وقوة التجنيد ، وإن الجنود حرس الاستقلال».

سفر الأمير :

وفي يوم السبت ١١ منه برح الأمير حلب عائدا إلى دمشق.

تعيين حاكم عسكري على حلب :

وفي جمادى الأولى منها تعيّن عبد الحميد باشا القلطقجي حاكما عسكريا على حلب ، وتشكلت فيها متصرفية مستقلة. وبعد أيام قلائل ورد الأمر بإبقاء حلب ولاية كما كانت سابقا.

استقلال سوريا وتتويج سمو الأمير فيصل ملكا عليها :

يوم الاثنين ١٨ جمادى الثانية سنة (١٣٣٨) ه و ٨ آذار سنة (١٩٢٠) م أعلن استقلال سوريا ، وتوج سمو الأمير فيصل في دمشق ملكا على سوريا ، فأطلقت مدافع البشرى من قلعة حلب وأقبل وفود المهنئين على الحاكم العسكري ومعاونه. ثم تلا ناجي بك السويدي المعاون صورة البرقية المعلنة بذلك فقابلها الجمهور بالاستحسان ، وانبرى الخطباء يعددون فضائل الاستقلال وفوائده. وفي المساء زينت البلدة وقامت الأفراح وعزفت آلات الطرب.

مبايعة رؤساء الطوائف المسيحية في دمشق لجلالة الملك فيصل الأول :

صورة المبايعة بالحرف الواحد

«باسم الله»

إننا ، نحن الواضعين إمضاواتنا وأختامنا بذيله ، الرؤساء الروحانيين للملل التابعة لنا ، نقرر ما يأتي :

٥٧٣

لما كان قد وقع اختيار الأمة السورية على تمليك سمو الأمير فيصل ابن جلالة الملك حسين الأول على سوريا بحدودها الطبيعية ؛ حضرنا اليوم في دائرة بلدية دمشق العاصمة لتأدية فرض المبايعة. فأصالة ونيابة نقرّ بأنه ـ مع مراعاة الشرائط السبعة التي ارتبطنا بها مع سموه في أول مقابلة بيننا يوم الاثنين في سادس شهر تشرين الأول سنة ١٩١٨ وهي :

طاعة الله ، احترام الأديان ، الحكم شورى على مقتضى القوانين والنظامات التي تسنّ لذلك ، المساواة في الحقوق ، توطيد الأمن ، تعميم المعارف ، إسناد المناصب والوظائف إلى أكفائها ، وقبول سموه بها واحدة فواحدة ـ نبايعه ملكا على هذه البلاد متعهدين بالطاعة والإخلاص لجلالته والمعاونة لحكومته بكل ما تصل إليه القدرة. وعليه أعطينا هذا الصك تحت إمضاواتنا وأختامنا ، مسترحمين صدور إرادة جلالته بنشره في الجريدة الرسمية تصديقا منه وقبولا بمضمونه ، داعين لجلالته بطول العمر واستمرار التوفيق لما فيه خير البلاد وترقي أهلها».

الإمضاوات : بطريرك الروم الأرثوذكس. بطريرك الكاثوليك. مطران السريان الكاثوليك ، والقديم. خوري الموارنة. مطران الأرمن قديم وكاثوليك. رئيس البروتستان. حاخام اليهود.

وفد التهاني لجلالة الملك فيصل :

في شهر جمادى الآخرة منها سافر إلى دمشق ـ لعرض التهاني على جلالة الملك فيصل ـ وفد مؤلف من قاضي حلب ورؤساء الطوائف والوجوه ، مسلمين وغيرهم.

والي الولاية :

ولي حلب رشيد بك طليع. وفي يوم الخميس ٢٠ رجب قدم على حلب فاستقبل باحتفال كبير وأطلقت له المدافع من القلعة تحية وإجلالا.

الاحتفال بالعلم العربي :

في شهر شعبان سنة (١٣٣٨) احتفل بتسليم العلم العربي في جهة المزّة. وقد خرج

٥٧٤

إليها الجيش العربي مشاة وفرسانا ، وبعد قيامه بمناورة عظيمة وقف جلالة الملك فيصل والعلم بيده وقال يخاطب القائد :

«إن هذا العلم الذي في يدي لا يزال نقيا طاهرا لم يدخل المعارك ولم يلوّث بالدم ، وإن غاية ما أتمناه أن يظل كذلك ؛ إلا إذا أهين شرف الأمة وأراد أحد أن ينال من حرمتها ، فعند ذلك أريد أن يبرهن هذا اللواء الذي أهدي إليه هذا العلم اليوم على أنه أهل لهذه الهدية ، وأنه كيف (١) يفتدي العلم بدمه وكيف يدافع عن الوطن».

ثم سلّم العلم إلى قائد الجيش. أما المكتوب على العلم فهو هذا ، على أحد جانبيه :«البسملة ـ وجاهدوا في سبيل الله ـ إن الله معنا ـ إنا فتحنا لك فتحا مبينا». وعلى الجانب الآخر : «لا إله إلا الله محمد رسول الله ـ اللواء الأول سنة ١٣٣٨ ـ المشاة».

زيادة الضرائب والدعوة إلى التجند وقيام الفتن في سورية الساحلية :

بعد تتويج الأمير فيصل ملكا على سوريا واستقراره على عرش الملك ، بدأت حكومته تزيد في الضرائب وتدعو إلى التجنّد. وكانت العصابات في المنطقة الشرقية السورية ـ التي تخفق عليها الراية الفرنسية ـ قد استفحل أمرها. وكانت الدولة المنتدبة المحتلة في سواحل سوريا قد أهمها أمر تلك العصابات وجهزت لقهرها جيشا جرارا ، فلم يتسنّ لها قمعها إلا بعد جهود عظيمة وخسائر جمّة. وكثرت الفتن والوقائع في جهات بشارة وأنطاكية وتل كلخ وغيرها من الجهات السورية.

توتر العلائق بين جلالة الملك فيصل وبين الحكومة الفرنسية المنتدبة :

ولما حدثت هذه الأمور أخذ الارتياب من سمو الأمير فيصل يأخذ محلّه من نفوس الحكومة الفرنسية المنتدبة ، وكان قد تسرب إليها الشك في إخلاصه لها من خطبة ألقاها في دمشق لمحّ فيها إلى وجوب رفض الانتداب الفرنسي والإصرار على الاستقلال التام ، وذلك بعد أن كان ألقى في بيروت خطبة صرح فيها بما يوافق فرانسة ويرمي إلى غرض الرضا بانتدابها.

__________________

(١) هنا كلمة ناقصة فيما يبدو. ولعل العبارة : «وأنه يعرف كيف ..» أو ما هو بهذا المعنى.

٥٧٥

أول ما ظهر من نتائج توتر العلائق :

قال الأستاذ الفاضل محمد كردعلي في كتابه خطط الشام ما خلاصته : كان الجنرال غورو المفوض السامي للجمهورية الفرنسية ولبنان يعزز جيشه في الساحل. ثم في ١١ تموز سنة (١٩٢٠) أرسل إلى الملك فيصل كتابا قال فيه : «بينما كانت السكينة سائدة في سوريا أثناء الاحتلال الإنكليزي ابتدأ الفساد يوم حلت جيوشنا محل الجيوش البريطانية ، ولا يزال آخذا بازدياد منذ ذلك الوقت». وأرسل إليه أيضا يوم ١٤ تموز بلاغا يكلفه فيه أن يعطى فرنسا الخط الحديدي من رياق إلى حلب ، وأن تلغي حكومة فيصل القرعة العسكرية ، وأن يقبل الانتداب الفرنسي والنقود السورية ، ويضرب على أيدي الأشقياء.

فطلب الملك مهلة أربع وعشرين ساعة. فانتهت ثم مددت أربعا وعشرين ساعة أخرى ، ثم مددت ثانية ولم يجب لانقطاع الأسلاك البرقية. وحينئذ سار الجنرال غورو بجيوشه إلى جهة دمشق واشتعلت نار الحرب في جبال ميسلون بين جيوشه وبين الجيش العربي ، يعضده بعض عامة دمشق وبضع مئات من البدو ، فكانت الغلبة للجيوش الفرنسية. ثم أعلم الجنرال غورو الملك فيصلا أنه مستعد أن يتوقف عن الزحف إذا قبل بموادّ الإنذار السابق وبشروط بيّنها له ـ مذكورة في خطط الشام ـ فتأخر جواب الملك فيصل عن هذا الإنذار ، فاستمرت الجيوش الفرنسية على الزحف إلى أن دخلت دمشق في اليوم ال ٢٥ تموز سنة (١٩٢٠) بعد أن قتل من الجيش العربي مقتلة عظيمة. وأسر منه العدد الكبير على الوجه الذي حكاه الأستاذ محمد كردعلي في خططه مفصلا.

ذكر ما حدث في حلب أثناء هذه الحرب :

وفي أثناء هذه الحرب ورد الأمر من قيادة دمشق إلى القيادة العسكرية العربية بالاستعداد إلى مقاومة الجيوش الفرنسية. فاستعدت القيادة للمقاومة على زعمها بإعداد جيش من الجند الوطني لا يزيد عدده على بضع مئات ، ونشرت الدعوة للمقاومة بين العامة واستدعت بعض قبائل الأعراب من ضواحي حلب ، وخرجت العامة إلى الثكنة العسكرية وطلبوا من القيادة السلاح فلم تعطهم. وطلب الجند منها عددا من المدافع فأجابتهم بأن ما هو موجود منها في الثكنة مختلّ لا يصلح للاستعمال.

٥٧٦

ثم ورد الأمر من القيادة في دمشق بالتسليم وعدم المقاومة ، ثم ورد بالمقاومة. غير أن الحكومة الحلبية حينما رأت هذا التذبذب في الأمر وضعف الأمة عن المقاومة ، عقدت مجلسا من أعيان حلب ووجهائها للاستشارة في هذه المسألة فاختلفت الكلمة في ذلك. وأخيرا رأى حضرة كامل باشا القدسي أن المقاومة تضر بالبلدة فضلا عن كونها لا تؤدي إلى الغرض المطلوب ، وقد أقام على ذلك ما لا يمكن دحضه من الأدلة والبراهين. وقوله في ذلك حق لامراء فيه ولا سيما وهو رجل عسكري محنك. وعليه فقد أذعن الحاضرون إلى رأيه وقرروا التسليم بالطّوع والرضا.

منشور ألقته الطيارة على حلب :

وقبل قدوم الجيش الفرنسي إلى حلب ألقت طيارة مئات من نسخة منشور باللغة العربية خلاصته : أن فرنسا لا تتعرض إلى استقلالكم ولا تدعو إلى التجنيد ، وهي تخفف عنكم الضرائب ولا تعمل بسلطتها ضدكم ، ولا تتعرض إلى الموظفين الوطنيين ؛ بل تبقي كل واحد منهم في وظيفته ، وإن مقاومة جيشها يضرّ بالبلد وأهلها ويضطر فرنسا إلى عمل لا تحمد عقباه. وهو منشور طويل هذا فحواه.

والي حلب :

في شهر ذي القعدة سنة (١٣٣٨) ولي حلب حضرة ناجي بك السويدي.

دخول الجيش الفرنسي إلى حلب :

صباح يوم الجمعة ٨ ذي القعدة سنة (١٣٣٨) وفي ٢٣ تموز سنة ١٩٢٠ م احتلت الجيوش الفرنسية مدينة حلب ، وأشغلت بعض النقاط في أطراف البلدة ولم يحدث أقل حادث.

وفي صباح يوم الجمعة المذكور جرى الاحتفال بقدوم الجنرال «ده لا موط» قائد الجيوش الفرنسية في المنطقة الشمالية السورية ، فزار مقام الولاية وألقى خطابا قوبل بالاستحسان. وإليك ترجمته :

«أيها السادة : إن فرنسا وجنودها لم تدخل هذه البلاد بصورة عدائية ، ولا مقصدها

٥٧٧

الاستيلاء على البلاد ولا استعمارها ؛ بل إن الواجب الوطني هو الذي ألقي على عاتقها لرقي البلاد وإسعادها وإيصالها إلى أقصى درجات الرقي والعمران. ولذلك فإن الحكومة باقية على ما هي عليه ، محافظة على شكلها وموظفيها وقوانينها وأحكامها.

لذا ، فإني أطلب من جميع رؤساء الدين والأشراف والأعيان والأهالي دوام الألفة وازدياد المحبة بين جميع طبقات الأمة وإطاعة أوامر الحكومة ، وبذلك يكونون سعداء ، وعلى الأخص فيما إذا تحققت أمانيهم برؤيتهم هذه البلاد سعيدة حرة مستقلة. اه».

رفع استقالة :

رفع حضرة ناجي بك السويدي والي الولاية استقالته إلى وزارة الداخلية فقبلت.

والي الولاية الجديد :

يوم الثلاثاء ١٩ ذي القعدة سنة (١٣٣٨) ٣ آب سنة (١٩٢٠) م عيّن سعادة كامل باشا القدسي من كبار أعيان حلب واليا للولاية.

٥٧٨

إجمال في الكلام على الأمة الفرنسية المحترمة (١)

مملكة فرنسا ، ومن أين أتى إليها هذا الاسم؟

ذكروا أن هذه المملكة قديمة العهد واسعة الحد ، وأنها كانت تضم إليها جميع مملكة البلجيك وسويسرا وضفاف نهر الرين وبلاد فرانسا الحالية ، وأنه كان يسكنها قديما أقوام يقال لهم إيبير وبسك وسكسكون. ثم قبل المسيح بنحو ألفي سنة زحف عليها أقوام يقال لهم الغال وسلتيك ، وغيرهم من أمم البربر. وفي سنة ٥٨ ق. م زحف عليها القائد الروماني يوليوس قيصر واستخلصها من يد أهلها. وسماها الرومانيون غاليه ، واليونانيون سلتيك. وبعد أن اضمحلت الدولة الرومانية زحف على هذه المملكة أمم من البربر يقال لهم ويزيكوت ـ توطنوا الجهة الغربية ـ وبرغوند : توطنوا منها الجهة الشرقية ، وفرانك :توطنوا منها الجهة الشمالية. ثم زحف عليها أتيلا ملك الهون فتألبت عليه هذه الطوائف وطردته عنها. وكانت طائفة فرنك أعظم الطائفتين بلاء في طرده ، فترأست عليها وسميت تلك البلاد باسمها وصارت تدعى فرنسا ، التي أصلها فرنك ، والعرب يسمونها فرنجة. ومن ذلك الوقت دخلت تحت تملك الملوك الفرنسيين.

وقد قسم المؤرخون ملوك فرنسا إلى ثلاث سلاسل ، فحذونا نحن حذوهم. وسنتكلم في الآتي من هذا الإجمال على كل سلسلة منهم وعلى ما كان من الحوادث العظيمة في أيامهم.

ديانة سكان تلك البلاد :

كان الغاليّون يعبدون إلها اسمه «توتاتيس» وغيره من الأوثان ، وكانوا يقدمون له الضحايا من نبات الحقول ولا سيما ورق البلوط المسمى (دكى) ، وهم يسمون كهنتهم

__________________

(١) هذا الإجمال استخلصناه من تاريخ الأمة الفرنسية المحترمة ، بمعاونة صديقي الفاضل القس جبرائيل رباط الرومي الملكي الحلبي المحترم. (المؤلف).

٥٧٩

(درويد). وقد جعلوهم عليهم حكاما وعلماء وكهنة ، وكانوا يتّشحون بثياب طوال سود ويعقدون على رؤوسهم أكاليل من ورق البلوط. وكان الفرنك يدينون بالوثنية ويعبدون إلها اسمه أودين أي إله الحرب.

متى دخلت النصرانية تلك البلاد؟

يذكر أن أول من دعا للنصرانية في هذه البلاد هو العازار الذي أحياه المسيح.

أول من تنصر من ملوك فرنسا :

وأن أول ملك من ملوك فرانسة اعتنق الديانة المسيحية هو الملك كلوفيس حفيد مى روى ، أول ملك من ملوك السلسلة الأولى الفرانسيين ، وذلك سنة ٤٩٦ م. وكانت زوجته كلوتيد مسيحية ، وقد عمد في عيد ميلاد هذه السنة في كنيسة رانس في حضور جم غفير.

السلسلة الأولى من ملوك فرانسة :

هذه السلسلة تدعى الميرونجيين. وأول من ملك منها على فرانسا هو الملك مى روى تسلم زمام الدولة الفرنسية حينما صارت تعرف بهذا الاسم. وبعد وفاته خلفه أولاده ثم حفدته وكان أعظم ملوك هذه السلسلة الملك كلوفيس ـ أحد حفدة الملك مى روى ـ وأما الباقون من ملوكها ، الذين هم أولاد كلوفيس وحفدته ، فلم يرافقهم النجاح في أعمالهم لاستيلاء التواني عليهم حتى عرفوا باسم الملوك المتوانين ، ولهذا تغلب عليهم أحد وزرائهم المسمى شارل مرتيل وصار ملكا على فرانسا ، وهو الذي حارب العرب في جبهات بواتيه وانتصر عليهم.

السلسلة الثانية :

ثم إن بيبان (القيصر) اتحد سنة ٧٥٢ م / ١٣٥ ه‍ مع البابا ضد اللومبرديين فتوّجه ملكا. وبذلك انتهت سلسلة الملوك الميرونجيين ـ التي هي السلسلة الأولى من ملوك فرانسا ـ وابتدأت سلسلة ملوك فرانسا الثانية التي أول ملك منها بيبان المذكور. ولما آل ملك فرانسا إلى شرلمان ـ الذي هو أعظم ملوك هذه السلسلة ـ اهتم بإعلاء شأن بلاده

٥٨٠