نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

أو تسعى بعرقلة مساعيها بواسطة إثارة القيام عليها من قبل إحدى الأمم التي تمت إليها بأواصر العنصرية أو وحدة المذهب.

سبب هذا التسلط :

وكان سبب هذا التسلط غلطة من الملوك العثمانيين أوقعهم فيها اغترارهم بقوتهم واستخفافهم بقوة روسيا ، وإهمالهم ردعها حينما كانوا قادرين عليه ، ومغادرتهم إياها متسلطة على ممالك خانات (١) القريم.

وبيان ذلك أن خانات القريم والدشت كانوا هم المسيطرين على الروس مدة مئة وخمسين سنة ، بحيث كان كناز الروس كالعامل لهم على مملكته ، كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الذي سبق بيانه من هذا الجزء تحت عنوان (إجمال في الأتراك). ثم لما وقع الخلف بين خانات القريم والدشت ، ودخل تيمورلنك بلادهم وخربها واستولى على قسم عظيم منها ـ واشتغل الخانات بقتال بعضهم ـ اغتنم الروس هذه الفرصة وقاموا نحو بلاد الدشت ، فطمت بحار غلبتهم عليها وكادوا يعمّونها بالاستيلاء ، وكان الملوك العثمانيون ـ في ذلك العهد ـ في عصرهم الذهبي ، بحيث كان يمكنهم أن ينضموا إلى خانات القريم ويصدوا تغلب الروس عليهم ، غير أنهم تركوا الخانات وشأنهم مع الروس ، قصد أن توهنهم الروس وتضعف سطوتهم ، وحينئذ يجهز العثمانيون على ما تبقيه الروس من بلادهم فيستولون عليها بأدنى عناء.

ووجه الغلط في هذه المسألة هو أن العثمانيين ـ اغترارا بقوتهم ـ لم يفكروا بأن ممالك الخانات كانت سدا منيعا بينهم وبين الروس ، كما أنهم ـ استخفافا بالروس ـ لم يخطر لهم على بال بأن روسيا ستبلغ باستيلائها على ممالك الدشت والقريم غاية القوة والعظمة ، وأنها متى استولت على ذلك السدّ تجرّها عظمتها إلى الطمع بالمملكة العثمانية والاستيلاء على القسطنطينية مملكة البيزنطيين.

السبب الثاني لانقراض الدولة العثمانية :

السبب الثاني لانقراض هذه الدولة هو جنودها المؤلفة من الانكشارية ، فإنهم بعد أن افتتحت الدولة بسيوفهم ذلك الملك العظيم داخلهم الغرور واستولى عليهم الكسل والشّره

__________________

(١) الخانات : الملوك ، والمفرد «خان» مختصر «خاقان» بلغة التتر. ثم لقب السلاطين العثمانيون ب «خان».

٥٢١

بالمال ، وأصبحوا مدة قرنين عونا على الملوك العثمانيين بعد أن كانوا عونا لهم ، فكان قيامهم على أولياء أمورهم في مدد متواصل وإثارتهم الفتن والقلاقل في البلاد ، وتسلطهم على الرعايا ، في استمرار غير منقطع. وفي كثير من الأوقات بينما كانت الدولة في ارتباك وشغل شاغل من أمر أولاء الجنود ؛ كانت روسيا ترهقها بالحرب اغتناما لفرصة اشتغالها بتسوية أمور داخليتها.

وكان سبب بلوغ الانكشارية تلك الدرجة من العتوّ والتمرد غلطة الصدر الأول من الملوك العثمانيين ، وهي أنهم كانوا يبالغون بالإحسان إلى الانكشارية ويعاملونهم معاملة الوالد الشفوق على ولده الوحيد حتى نبهتهم تلك المعاملة إلى عظم شأنهم وعرفتهم أنهم هم روح المملكة وأولياء نعمة ملوكها وشعوبها ، فهاموا بهذه الخيالات وطغوا وبغوا ، وأصبحت المملكة العثمانية في أيديهم كسفينة تتقاذفها عواصف شرورهم ، فلم يستطع السلاطين ردعهم ووقف تيار غلبتهم إلا بعد مشقات عظيمة أشرنا إلى بعضها في الإجمال الذي ذكرناه في هذا الجزء تحت عنوان «نبذة في الكلام على هذه الطائفة» فراجعه.

أسباب سرعة سقوط العراق والشام :

لا ريب في أن سرعة سقوط العراق والشام في يد إنكلترة وخروجهما من يد العثمانيين لم يكن إلا بسبب تقاعد أهل هذه البلاد عن مظاهرة جيوشهم وشدّ أزرهم ، خصوصا أهل العراق وأهل سوريا الجنوبية من حضر وبدو فإنهم لم يقنعوا بالتقاعد عن نصرة تركيا فحسب ، بل ظاهروا جيوش الدولة البريطانية وأعانوهم على الجيوش العثمانية بكل ما استطاعوا ، فاستولت جيوش إنكلترة على هذه البلاد بأقرب وقت ، ولو لا ذلك لما تمكنت هذه الجنود من الاستيلاء عليها في أقل من بضع سنوات إن لم يحدث في الكون ما يعوق استيلاءهم عليها ويبقيها في يد العثمانيين.

على أن لمظاهرة أهل تلك البلاد الجيوش البريطانية أسبابا عديدة أخص منها بالذكر هنا نفرة قلوب أهلها من تركيا بسبب أغلاط ارتكبها الاتحاديون اغترارا بأنفسهم.

وكان بعض المحامين عنهم يعتذر لهم بقوله : إن جميع ما أتوا به من الأسباب التي نفّرت قلوب الرعية لم يقصدوا بها سوى المصلحة العامة دون المصلحة الخاصة ، وإنهم لم يفعلوه إلا بنيّة خالصة وغرض عام ، غير أن الأقدار لم تساعدهم فما كان غلطهم إلا من قبيل

٥٢٢

الخطأ بالاجتهاد لا يسألون عنه أمام الله وأمام الناس ما دامت نياتهم بإتيانه حسنة.

نقول : إن الخطأ بالاجتهاد المعفوّ عنه إنما هو خطأ الأئمة المجتهدين في مفهوم المتشابه من القرآن والحديث ، فإن المجتهد منهم في ذلك إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر. أما المجتهد المخطئ من غيرهم فإنه مؤاخذ على خطائه بل تكون عقوبته على قدر المضرّة التي تنشأ عن خطائه ردعا له عن التهور فيما لا يدري عاقبته. فالاتحاديون الذين أخطئوا باجتهادهم في مسائل هذه الحرب لا يسامحون بخطائهم ؛ لأن الضرر الذي نشأ عن خطائهم كان عظيما.

على أن النتائج السيئة التي نتجت عن اجتهادهم بديهية لا تحتاج إلى إمعان فكرة وإجهاد قريحة ، فما هو إلا من قبيل التهور والهجوم على خطر محسوس. وحسبهم موجبا للمؤاخذة استبدادهم في أعمالهم وتركهم الشورى المطلوبة شرعا وعقلا. هذا إذا قلنا إن جميع ما أتوا به من الأغلاط المنفّرة مما يحتمل الاجتهاد. والحال أن كثيرا من المنفّرات التي أتى بها بعض زعانفهم لم يحملهم عليها سوى الطمع والشره في أموال الدولة والرعية ، كما أن كثيرا مما أتى به بعض المنتسبين إليهم من المنفّرات لم يبعثهم على إتيانه باعث سوى الميل إلى الهوى ومطاوعة النفس البهيمية ، ومنها ما دعاهم إلى إتيانه مجرد الاستخفاف بالدين واعتقادهم المغلوط بأن الدين مناف للمدنية.

ومن غرائب تهور سفهاء الاتحاديين وقلة تبصرهم أنهم اختاروا في جميع أعمالهم المتعلقة بهذه الحرب طريقة الإفراط المحض ، فطرحوا المعاملة بالرفق والمواساة ، واستعملوا في كل حركة من حركاتهم الشدة والعنف. وكانوا إذا نهاهم عن ذلك ناه وأرشدهم إلى استعمال الرفق في موضعه والعنف في محله قالوا له : إن هذه الحرب هي حرب حياة أو ممات لا واسطة بينهما. وقد غاب عنهم أن ولاة الأمور في الدولة الضعيفة هم بمنزلة الطبيب للمريض ، أيسوغ للطبيب الأمين الحاذق أن يضجر من مريضه ويجازف في حياته ويصف له دواء شديد التأثير يكون فيه للمريض حدّ الفصلين إما أن يميته وإما أن يحييه؟ كلّا ، ثم كلّا. بل الحكمة البالغة ومواجب الصنعة يقضيان على ذلك الطبيب أن يستكين إلى الأناة والتؤدة في تطبيب مريضه ، وألا يحمله الضجر على اليأس من شفائه ما دامت فيه نسمة حياة ، وأن يلطف له الدواء مهما أمكن ويستسلم في تأثير دوائه إلى عوامل القدرة

٥٢٣

ولا يخرج في تطبيبه إلى حد الخطر على حياته ، فإن أبلّ من مرضه فذاك هو المطلوب ، وإلا فلا ملام عليه.

ذكر طائفة من الأمور المنفّرة التي

كانت أثناء الحرب ، وهي تهور جمال باشا وقلة تبصره :

من تهوّر جمال باشا ـ وهو أول شيء دل على طيشه ـ أنه لما قدم إلى حلب لأول مرة أصدر أمره إلى الوالي جلال بك بأن يحمل الناس على الصعب والذّلول ، ويسوقهم فورا إلى جهة «راجو» ليعملوا في تسوية طريق سكة حديد بغداد. وكان صدور أمره هذا ليلا فلم يسع الوالي مخالفته (١). وفي الحال أمر رئيس الشرطة أن يسوق الناس إلى تلك الجهة بأسرع ما يمكن ، فأوعز رئيس الشرطة إلى رجاله أن يطرقوا الأبواب على الناس ويوقظوهم من مضاجعهم ، ويقبضوا على من يرونه في طريقهم من الرجال ويسوقوا الجميع إلى تلك الجهة بلا تفريق بين رفيع ووضيع. ففعلوا ما أمروا به وساقوا الناس بثياب نومهم ، ومنهم من نجا من شر هذه البلية بنقود دفعها للشرطة .. ولما وصلت هذه الجموع إلى جهة «راجو» قابلهم ضباط عسكريون وقالوا لهم : لأي شيء حضرتم إلى هنا؟ قالوا : لأجل العمل بالطريق. فقالوا لهم : أبأيديكم تحفرون التراب وتقلعون الحجارة؟ وبأي مكان تنامون؟ وأيّ طعام تأكلون؟ ارجعوا إلى حيث جئتم ، لا عمل لكم عندنا ، ولا مأوى ولا قوت. فرجعوا على أسوأ حالة وقد عرى أكثرهم الذّرب من برد الخريف وقلّة الزاد.

نحن لا نعدّ هذا العمل مظلمة من جمال باشا ؛ لأن عمل هذا الطريق أمر واجب في أيام هذه الحرب ، وإنما نعد التسرع في سوق هؤلاء على هذه الصفة خرقا (٢) وقلّة اكتراث بعباد الله. أما كان الواجب عليه قبل سوقهم أن يعدّ لهم ما يأكلون ويهيئ لهم خياما يأوون إليها وأدوات يشتغلون بها ولو كان ذلك كلّه من أموالهم؟ وإنما أرهقهم بالسفر ولم يترك لواحد منهم مجالا لأن يلبس ثوب يقظته ، مع أنه يعلم أن الموضع الذي يساقون إليه خلو من كل ما يحتاجون إليه في أنفسهم وعملهم.

__________________

(١) سبق للمؤلف أن ذكر هذه الحادثة في أول حوادث سنة ١٣٣٣ ه‍ فانظرها هناك أيضا لمزيد من التوضيح والبيان.

(٢) الخرق ، بضم الخاء : الحماقة.

٥٢٤

ركوب جمال باشا بالعظمة والأبهة :

ومن خشونة أخلاق جمال باشا ـ التي زادته في القلوب نفرة ـ أنه كان يركب في البلد لبعض شؤونه فيحف به عدد وافر من الفرسان المسلحين يسيرون على صورة رهيبة كأنهم في بلد عصى أهلها على الدولة أو خرجوا عن طاعتها ، فكان الناس يقولون نحن لا نحتاج إلى إرهاب لأننا مطيعون للدولة مخلصون بمحبتها ، والأولى بجمال باشا أن يسير بهذه المواكب تجاه أعداء الدولة إرهابا لهم لأنهم أولى منا بالإرهاب.

انهماكه في المعاصي :

ومما نفّر عنه القلوب انهماكه في الملذات وإرصاده لنفسه ـ في كل بلدة ينزلها من بلاد سوريا وفلسطين ـ عاهرة يواصلها ويصرف عليها النقود الكثيرة. وربما استقضته مصالح هامة تجني من ورائها المبالغ الطائلة. ولا يخفى على المتبصر ما يجرّ هذا الانهماك من فساد أخلاق الضباط والجنود الذين هم تحت إمرته على حد قول الشاعر :

إذا كان ربّ البيت للطبل ضاربا

فلا تلم الصبيان يوما على الرقص

تسلط المأمورين على التجار وأخذ الذهب منهم بالورق :

ومن التعديات الفظيعة تسلّط المأمورين العديمي الإنصاف من كل صنف ـ خصوصا الشرطة ورجال الدرك ـ على التجار وفقراء الباعة ، بتكليفهم إياهم أن يبيعوا منهم بضائعهم بعملة من الورق النقدي على أسعار النقود المعدنية الذهبية والفضية ، وأن يسددوا ما يزيد لهم من قيمة الورقة بنقود معدنية على السعر المعتبر عند الحكومة. مثلا يشتري شرطي رطل خبز من امرأة فقيرة بثلاثين قرشا ـ حسب تنبيه الحكومة ـ فيدفع لها ورقة نقدية سعرها عند الحكومة مائة قرش ، وسعرها في التجارة ثلاثون قرشا ، فيكلفها أن تقطع عليه ثلاثين قرشا ـ وهي قيمة الخبز ـ وتدفع له الباقي وهو سبعون قرشا نقودا معدنية ، فتخسر سبعين قرشا وهو مبلغ يستغرق جميع رأسمالها. وكان الكثير من الضباط والمأمورين العثمانيين يكلفون التجار بأن يصرفوا لهم الورق النقدي بالنقود الذهبية رأسا برأس ، فإذا امتنع التاجر عن إجابة طلبهم أهانوه وهددوه. وكان الناس يخافون من الضباط خوفا شديدا لأن كل واحد منهم مستبد بعمله مع الرعية يمكنه أن يتصرف بهم كيفما شاء.

٥٢٥

وعليه فإن التاجر معذور على إجابة طلب الضباط ، فيصرف لهم الورقة النقدية التي سعرها في التجارة ثلاثون قرشا مثلا بليرة من الذهب قيمتها في التجارة مائة وسبعة وعشرون قرشا ، فيلحقه بسبب هذه الصّرافة خساة عظيمة. وكثيرا ما كان الوالي والقائد العسكري يعرضان على جماعة من التجار أن يصرفوا لهما خمسة آلاف ورقة نقدية مثلا بخمسة آلاف ليرا ذهبا ، بحجة أنهما يريدان شراء مواش من العربان الذين لا يقبلون قيمة مواشيهم إلا نقودا ذهبية. وقد سبق لنا بيان فساد هذا العذر في الكلام على حوادث سنة ١٣٣٣.

إخراج الناس من بيوتهم قهرا :

ومن الأحوال التي نفرت القلوب إخراج أسر كثيرة من أماكنهم جبرا قسرا وجعلها مسكنا لضابط أو مستشفى ، أو محلا لإقامة العساكر أو مستودعا للذخائر والمهمات. وكانت جهة العسكرية لا تهمل سكان هذه المحلات غير مدة قليلة بحيث لا يمكنهم أن يتمكنوا في خلالها من أن يظفروا بمكان يأوون إليه ، فمتى انقضت مدة المهلة تهجم الجنود على المحل ويخرجوا منه أهله ويأخذوه مجانا بلا أجرة ، وربما دفعوا لصاحبه بعد عناء طويل أجرة ورقا نقديا لا تبلغ خمس أجرته الحقيقية بل هي لا تفي بما هو محتّم على المحل من الضرائب الأميرية التي لا بد من دفعها ، سواء انتفع به صاحبه أم لم ينتفع.

ثم لا تسل عما يجري على المحل الذي يحتله العسكريون من تحطيم البلاط وتكسير الملاط (١) ، وتشويهه بالدخان وحرق أغلاقه وتحطيم زجاجه. هذا ما كانت تفعله في المحلات المذكورة عساكر الأتراك ، أما عساكر الألمان فإنهم كانوا يأخذون المحلات اللازمة لهم من أهلها برضاهم وحسن اختيارهم ويدفعون لهم أجرة مثلها وزيادة ، وهم مع ذلك محافظون على عمرانها بل ربما صرفوا على تحسينها شيئا من أموالهم ، فلذا كان الناس يرغبون معاملتهم ولا يمتنعون عن إجابة طلباتهم.

تظاهر جهلة الأتراك ببغض العرب :

ومن الأمور التي كانت تنفّر قلوب أهل البلاد العربية وتسيء ظنونهم بنوايا الدولة العثمانية : ما كانوا يسمعونه من وقت إلى آخر من الألفاظ القبيحة التي يفوه بها سفهاء

__________________

(١) الملاط : الطين الذي يجعل بين صفّي الحجارة ، ويطلى به الحائط.

٥٢٦

الأتراك من مذمة أبناء العرب وشتمهم وسبهم بكل صراحة ، وقذفهم العرب بالغدر والخيانة وتهديدهم بالمهلكات في مستقبل أيامهم. وكنا نسمع هذا الكلام وأشباهه من الأتراك المعدودين من عقلائهم فضلا عما كنا نسمعه من غوغائهم وجهالهم حتى من بعض النساء والصبيان. وهذا كله عدا ما كنا نراه صريحا واضحا في الصحف التركية من العبارات الدالة على استخفاف الأتراك بالعرب وقلة اكتراثهم بصداقتهم.

وذلك أن طائفة من الاتحاديين الطائشين كانوا ينادون بالصحف الإخبارية التركية أن الواجب على كتبة الأتراك وأدبائهم أن يطرحوا من كتاباتهم الكلمات العربية ويهجروها من كلامهم بتاتا ، ويقتصروا في عباراتهم على اللغة التركية المحضة التي هي لغة «جفطاي» أحد أجدادهم ، وأن طائفة من الأتراك كانوا يقولون بلزوم ترك تلقيب السلطان بالخليفة ، وأن يكون عنوان السلطان (ايمبراطور) ، وأن تضرب الحكومة التركية الصفح عن بلاد العرب التي لا خير فيها ، وتقتصر على البلاد التي يسكنها العنصر التركي فقط ، وأن تصرف فكرتها إلى افتتاح تركستان وتجمع تحت رايتها العنصر التركي (وهي فكرة مضى أوانها) وأن لا تحفل بالعرب ولا ببلادهم.

وشاع بين الناس أن كبار زعماء الاتحاديين قرروا بأن يتركوا العرب القاطنين في البلاد العثمانية ـ أي يضطروهم إلى أن ينسوا لغتهم ويصيروا أتراكا ـ وذلك بأن ينقلوا من البلاد العربية أسرا كبيرة إلى البلاد التركية ويزاحموا البلاد العربية بنقل أسر كبيرة تركية إليها ، فيتغلبوا على بقايا أهلها وتنقلب لغتهم إلى التركية. وقد باشروا تنفيذ هذا القرار بالفعل وشرعوا بإجلاء بعض أسر كبيرة من دمشق إلى البلاد التركية بغير سبب معقول. فيا عجبا ممن كان يوسوس بهذه المخازي التي كانت السبب الأعظم في افتراق كلمة الترك عن العرب بعد اتحادها مئات من السنين ، وضياع هذه البلاد العظيمة من يد الدولة العثمانية التي كان يخلص في محبتها كل ذي حميّة من العرب.

تعليم البنات فن الرقص والتمثيل :

وكانت قلوب المسلمين عموما والأمة العربية خصوصا ـ لما امتازت به عن سواها من قوة الإحساس والشعور ـ تزداد نفورا واشمئزازا كلما ترى صحف الأستانة تكتب المقالات الضافية في أثناء الحث على تعليم البنات وتهذيبهن ، مشيرة إلى لزوم افتتاح أماكن

٥٢٧

يتعلمن فيها أصول الرقص وأعمال التمثيل المعروفة بالتياترو ، وأن يستخدمن في الحكومة كالرجال.

إن عقلاء الأمة العربية لا ينكرون وجوب تعليم البنات وتهذيبهن إلى حدّ لا يتعدى ما يلزمهن في تحسين الأحوال المنزلية والتربية العائلية ؛ وإنما ينكرون لزوم تعليمهن أصول الرقص وأعمال التمثيل والاستخدام في دوائر الحكومة ، ويقولون حينما يقرءون تلك المقالات : إذا كان غرض الحكومة من إيصال البنات إلى هذا الحد هو الاقتداء بأوربا لتترقى بلاد هذه الحكومة كترقي أوربا فإن أوربا لم تجعل إيصال البنات إلى هذا الحدّ أول خطوة من خطواتها في سبيل التقدم والرقي ؛ وإنما كانت الخطوات الأولى منها في ترقّيها وتقدمها هو (١) ممارسة العلوم النافعة العمرانية التي لا يتم للأمم أمر العمران إلا بإحرازها منها النصيب الأوفر ، لا من علوم الرقص والقصف ودواعي الفجور والشرور.

على أن فن الرقص والتمثيل العلمي لا بدّ وأن يتقدمه علم الأخلاق وتهذيب النفس ؛ وإلا كان مدعاة لفساد أخلاق الفتاة وتلويث شرفها. ثم لنفرض أن تعليم البنات الرقص وفنون التمثيل أمر مستحسن ؛ إنما كان التجاهر به في هذا الوقت غير مستحسن لأنه مخالف لتقاليد هذه البلاد التي يرى أهلها المسلمون أن التمسك بالشرع من أعظم أسباب الانتصار في هذا الوقت الحرج.

إفساح الحكومة مجال البغاء :

ومن المنفّرات العظيمة أيضا إفساح الحكومة مجال البغاء ، وتكثير فتح أبواب العهر وشدة العناية بتيسير وسائط الوصول إليه في أكثر البلاد العثمانية ، حتى كان لحلب من هذه الوسائط النصيب الأوفر ، فقد فتح فيها على صفة رسمية ما ينوف على مائتي بيت يجمعها اسم «المنزول» أي الماخور. هذا عدا مئات من بيوت العهر غير الرسمية التي كانت متفرقة في المحلات بين البيوت والمنازل التي يسكنها أهل العرض والناموس ، فكان الإنسان إذا رفع خبر بيت من هذه البيوت المدنسة إلى الحاكم لينقل أهله إلى «المنزول» بحسب أحكام القانون يكن (٢) جواب الحاكم قوله له : (ليس لنا أن نخرج صاحبة هذا البيت من بيتها

__________________

(١) كذا في الأصل. والصواب «هي» كما يتضح من التركيب.

(٢) لا وجه لجزم الفعل ، والصواب : يكون.

٥٢٨

إذا لم يظهر منها لجيرانها «زررتي» ـ يعني بهذه الكلمة فتنة أو استعمال سلاح أو تلويث باب دار جار ـ أما ما دامت تجري شؤونها ، ولا يظهر بسببها للجيران شيء من الإضرار المذكورة فليس لنا عليها من سبيل).

على أن الذي كان يدافع عن أمثال هذه البيوت ويقف في وجه المشتكين منها هم رجال الشرطة أو الضباط العسكريون ؛ لأنهم هم الذين كانوا يترددون عليها للعهر ، أو كانوا يأخذون من كل بيت منها راتبا أسبوعيا ليدافعوا عنها تجاه أهل المحلة ويحموها ممن يسيء معاملتها من الزبائن. فكان أهل العرض والشرف المجاورون هذه البيوت المدنسة يتكبدون كل ضرر من جوارهم ، ويسلبون الراحة والقرار في الحرص على حريمهم وبناتهم كيلا يلحقهن شيء من فساد الأخلاق بسبب الجوار ، الأمر الذي أصيب به كثير من الناس وأصبحوا منكسي الرأس.

وبينما كان الناس يتضجرون من كثرة المومسات ووفور بيوت الريبة ؛ إذ أصبحوا ـ وهم في أواخر أيام هذه الحرب ـ فرأوا في محلة «بحسيتا» بيوتا علّق على أبوابها ألواح كتب فيها (ملاقاتخانه) نومرو (كذا) ، أي محلّ لقاء. فسألنا عن المراد من هذه البيوت ، فقيل لنا : المراد منها تسهيل الوصول إلى المحبوب لذوي الهيئات الذين يتحاشون الدخول إلى «المنزول». فعجبنا من اعتناء الحكومة بهذه الأمور الرذيلة ، في الوقت الذي تقضي فيه عليها السياسة ـ فضلا عن الدين ـ أن يكون تباعدها عنها فوق كل تباعد رعاية لعواطف الرعايا المسلمين. والغريب أن المراجع التي كان يلجأ إليها المشتكي من هذه الأحوال السيئة أصبحت مراكز للمومسات ومصائد لاقتناص الحرائر وإيقاعهن في شبكات الفجور. فقلما كان الإنسان إذا راجع المخفر للتشكي من هذه الأحوال أن لا يرى فيه عاهرة أعدّت لرئيس المخفر أو لأحد مقرّبيه ، أو يرى فيه حرّة لها حاجة عند هذا الرئيس قد أمسكها وماطلها لينال منها أربه أجرة له على قضاء حاجتها ، فإما أن تضحي شرفها وإما أن تخسر حاجتها.

وكانت نساء العساكر اللواتي يأخذن الرواتب الشهرية من الحكومة ـ في أثناء غياب أوليائهن ـ عرضة لبذل شرفهن إلى الشرطة المنوط بهم التصديق على حاجتهن للمعاش ، وإلى جباة الأموال المعروفين بالتّحصلداريّة وجماعة كتاب الديوان. فكم من محصنة من هؤلاء النسوة اضطرت أن تبذل صيانها لأمثال هؤلاء لتأخذ مرتّبها الشهري

٥٢٩

الحقير الذي لا يفي باقتياتها سوى يومين من الشهر. وكم جرّت الحاجة أمثال هؤلاء النسوة إلى منتهى درجات التبذل ، حتى صرن يجلسن في الشوارع والطرقات عرضة لخطّاب العهر ينلن منهم دريهمات يصرفنها على القوت الذي يحفظ عليهن رمقهن. ومن هؤلاء النسوة من يعز عليهن شرفهن فلم يرضين أن يحفظن رمقهن ببذل شرفهن ، فاخترن ما هو أخفّ وطأة من هذا ، وصرن يتعاطين السرقة بأنواع الحيل والدسائس فينالهن بسبب هذه المهنة من المكروه والإهانة ما لا يعلمه إلا الله تعالى. ومنهن من لم ترض بهذا ولا بهذا ؛ بل حملها شرف نفسها على أن تحفظ رمقها بالتسؤّل والجلوس في الشوارع ، ومدّ يدها إلى استعطاف المارّين والعابرين ، فكانت تقضي سائر نهارها ولا تجمع قيمة خمسين درهما من الخبز لأن قيمة مائة درهم منه بلغت ستة قروش.

كان الإنسان السخيّ يتصدق قبل هذه الحرب على واحدة من أمثال هؤلاء الفقيرات بربع القرش ، فتعدّ صدقته كثيرة لأن أكثر الناس يتصدق أحدهم على أمثالها بثمن القرش أو بنصف ثمن القرش ، وكانت الفقيرة تعيش من هذه الصدقة الطفيفة عيشة كافلة حياتها واقية نفسها من كوارث السغب وكواسر العطب. أما بعد حدوث هذه الحرب وارتقاء أسعار الأقوات في أثنائها إلى عشرين ضعفا عما كانت عليه قبلها ؛ صار ذلك الإنسان يتصدق على أمثال تلك الفقيرات بربع القرش ، فترى الفقيرة صدقته جزئية لأنها مهما أعانها الحظ لا يمكنها أن تجمع في يومها ثلاثين ربعا جمعها سبعة قروش ونصف ، وهي قيمة مائة وعشرين درهما من الخبز ، وهو مقدار لا يكفيها وحدها فضلا عن ولدها أو أولادها المتعددين ، فكانت هذه المسكينة تعجّ وتضجّ طول نهارها بل إلى وقت العتمة ، وهي تستجير وتستغيث وتنادي بأعلى صوتها : (جوعانه جوعانه يا أهل الخير) فلا تجد لها راحما ولا مغيثا ، حتى كأن الشفقة قد نزعت من القلوب ثم لا تلبث هذه المنكودة الحظّ حتى يدبّ الضعف في جسمها وأجسام أولادها ، ويستولي عليهم المرض ويكونوا في النهاية فريسة الجوع.

كل هذا ؛ وأكثر كبار المأمورين من ملكيين وعسكريين يجمعون ألوف الليرات بالتسلط على أرزاق العساكر وأموال الدولة والرعية بأنواع أساليب السلب والنهب ويصرفون ما عزّ وهان من ذهبهم الرنان على شراء الحليّ والحلل لنسائهم ، والتغالي فيما يقدمونه لبطونهم وفروجهم ، ولا تأخذهم رحمة ولا تهزهم شكوى في تعاسة هؤلاء الفقراء الذين

٥٣٠

تصدع أصواتهم شمّ الجبال ، وتمطر على أولي العواطف الشريفة وابل الوبال والنكال.

كتاب «قوم جديد» :

ومن منفّرات قلوب المتعصبين للدين ـ من الرعايا المسلمين العثمانيين ـ كتاب ألفه رجل يقال له الشيخ عبيد الله باللغة التركية سماه «قوم جديد» أتى فيه بأمور لا يرضاها الحريصون على معتقداتهم الدينية. وكان نشر هذا الكتاب قبل الحرب بمدة قليلة ، أي كان نشره في الوقت الذي يجب فيه نشر كتاب ديني ترضاه الخاصة وتقبل عليه العامة ، ويصحح اعتقادهم بصلاح دولتهم وصدق إسلاميتها وتعصبها للدين وأهله. ويقال إن هذا الكتاب كان من أكبر العوامل التي زعزعت اعتقاد مسلمي الهند في الدولة العثمانية وجعلتهم يشكّون في صدق إسلاميتها قائلين : لو لا تشوه إسلاميتها لما كانت ترضى بطبع هذا الكتاب وتسعى بنشره.

كتاب سيرة النبي :

ومن الكتب التي هي من هذا القبيل كتاب تكلم فيه صاحبه عن السيرة النبوية ، ترجمه من اللغة الفرنسية (١) إلى اللغة التركية ، أثبت في مقدمته شمائل وحالات للنبي عليه السلام ينكرها التاريخ ويكفّر الدين من يعتقد صحتها. ثم تكلم على شيء من سيرته عليه السلام فطوى منها كل ما يدل على روحانيته وكونه موحى إليه.

هذا التركي الذي ترجم هذا الكتاب ـ ونقله عن مؤلف أجنبي عن الدين ـ إما أن يكون اطلع على شيء من كتب السيرة النبوية التي تعد بالمئات ؛ وهي من تأليف علماء المسلمين المجمع على صدقهم وسعة اطلاعهم وعلوّ مداركهم ، وإما أن يكون غير مطلع على شيء من تلك الكتب. فإن كان مطلعا فكيف يسوغ له عقلا ـ فضلا عن الدين ـ أن يعدل عما قالته وسطرته علماء الدين الصادقين المدقّقين (٢) إلى كتاب ألفه رجل أجنبي عن الدين ، لم يستند في كتابه إلى نقل ولا رواه عن ثقة. وإن كان غير مطلع على شيء من تلك الكتب ، أي كتب السيرة النبوية ، ولا يعلم أنه يوجد منها غير الكتاب

__________________

(١) في الأصل : «الفرسية».

(٢) الصواب : «الصادقون المدققون» وهما صفتان للفاعل «علماء».

٥٣١

الذي ترجمه ؛ كان عليه ألّا يتسرع بترجمته قبل أن يطلع عليه بعض علماء المسلمين ويستشيره بترجمته ، فإن رضي أن يترجمه فليفعل وإلّا لا.

على كل حال ينبغي أن يكون مترجم هذا الكتاب شابا طائشا مغفلا ، أو رجلا سيىء الاعتقاد. وعلى كل فإن الذنب كل الذنب على الحكومة التي رخصت له بطبع هذا الكتاب ونشره غافلة عما يجنيه من نفرة قلوب المسلمين وانحرافهم عن الدولة العثمانية.

التسرع بإراقة الدماء :

ومن المنفّرات الفاضحة ـ التي كانت من أعظم مدمرات معاهد الصدق والولاء التي شادتها الدولة العثمانية مدة أربعة قرون في قلوب الأمة العربية ـ تسرّع جمال باشا ورفقاه من زعماء الاتحاديين في إراقة الدماء ، واستخفافهم بأرواح عدد عظيم من الأبرياء الذين هم من زهرة شبان سوريا وبيروت وحلب.

إن أهل هذه البلاد قد نسوا مناظر المقتولين والمصلوبين ؛ لأنهم مضى عليهم زهاء ستين سنة ولم يروا إنسانا معلّقا على جذع ، فما راعهم في هذه الأيام إلا مناظر المعلّقين كل يوم على جذع لأقلّ سبب. فاشتد عليهم هذا الحال ونفرت قلوبهم من هذه الدولة نفرة لا رجوع بعدها. كان لا يمضي علينا أيام قلائل إلا ونسمع فرقعة البنادق التي كانت ترشق رصاصها على الفارّين من العساكر فنأسف عليهم ؛ غير أننا لا نلبث أن يزول أسفنا ونرى أنهم عوقبوا بما يستحقونه ثم وردت علينا صحف بيروت تخبر بتعليق جماعة من الشبيبة العربية فيها ، اتّهموا بالمروق على الدولة والسعي بأن يستظلوا براية غيرها. فاستعظمنا هذا الخبر أولا ثم قلنا : لعل الذي اتّهموا به أمر واقع.

ثم لم يمض سوى قليل من الأيام حتى سمعنا بإلقاء القبض على جماعة كانوا نسبوا إلى جمعية عربية عقدت في مدينة باريس ـ بعد حرب طرابلس الغرب ـ تضم إليها زهرة من أبناء العرب مسلمين ومسيحيين ، أكثرهم من جالية البلاد العثمانية اللاجئين إلى مصر وباريس ، ولو ندره وأميركا. وكان الرئيس على هذه الجمعية عبد الحميد الزهراوي. وقد طبعت كتابا أثبتت فيه نبأ كل ما أجرته ، ونسخة كل ما قالته في جلساتها ، مع بيان أسماء من حضر إليها أو كاتبها على بعد ، ممن رغب الانضمام إليها. وسطرت غير ذلك من الفصول

٥٣٢

والمقالات الصريحة المشعرة بالغرض من انعقاد هذه الجمعية وأحوالها وماجرياتها. وهو كتاب كبير يستغرق زهاء مائتي صحيفة ، تدل مقاصده ظاهرا على أن هذه الجمعية لا تطلب من الدولة العثمانية سوى منح البلاد العربية اللامركزية على شرط بقائها تحت العلم العثماني ، حتى إن واحدا من المتطرفين من رجال هذه الجمعية أشار في كلامه إلى لزوم انفكاك هذه البلاد عن العثمانية بتاتا والانضواء تحت راية دولة أخرى ، فرد عليه الجميع كلامه وقالوا : لا نرضى أن يظلنا غير راية الهلال.

هذا ما يدل عليه ظاهر مقاصد هذه الجمعية. والمفهوم من مقدمة هذا الكتاب ـ وعبارات الخطب التي اشتمل عليها ـ أن الذي حمل هذه الجمعية على طلب اللامركزية أمور كثيرة يطول شرحها ، وخلاصتها : استئثار دولة تركيا بدخل البلاد دون أن تترك لها منها ما يقوم بتعميرها وجعلها في عداد بلاد الأمم الراقية بمعاهدها العلمية ومعارفها العمرانية التي تثمر أطاييب الحياة لمن جناها من الأمم ، وأن تركيا بسبب سوء إدارتها تركت هذه البلاد ـ التي هي مصدر الترقي ومهد التمدن ـ مهملة معطلة ، أرضها موات وأهلها في عداد الأموات ، وقد أهملت المعدات البرية والبحرية الحربية حتى أصبحت تعجز عن أقل عادية تطرأ على بلادها ، فصارت مسرحا لمطامع الدول المستعمرة. ومن جهة أخرى خصت أبناء جنسها الأتراك بالخدم العالية ، وصرفتها عمن هو أجدر بها منهم من أبناء العرب الذين يتألف منهم ثلثا أهل هذه المملكة. وزد على ذلك ما هو مشاهد من مأموريها وحكّامها من الظلم والجهل وسوء الإدارة والتجاهر بالرشوة والانهماك بالرذائل ، إلى غير ذلك من الأمور التي تكون عقباها بلا ريب انسلاخ هذه البلاد من يد العثمانيين إلى يد دولة أخرى لا يبقى معها خيار للناس في كيفية حكمها عليهم.

هذه خلاصة بواعث الجمعية على طلب اللامركزية. على أننا لا ننكر وجود نافخ ينفخ في نار حميّة رجال هذه الجمعية لغرض يقصده ، وهم يعلمون ذلك ولا يجهلونه وإنما اضطرهم إلى الاستكانة إليه قلّة الظهير والنصير لهم ، عملا بقول الشاعر :

إذا لم يكن غير الأسنة مركبا

فما حيلة المضطرّ إلا ركوبها (١)

إن رجال هذه الجمعية لم يكونوا هم أول من أدرك سوء مصير حالة الدولة العثمانية ،

__________________

(١) البيت للشاعر الأموي : الكميت بن زيد الأسدي.

٥٣٣

وأحسّ بانحطاطها إلى الدرجة الأخيرة فقنطوا من صلاحها وأيقنوا بضياع بلادها فقاموا يتحدثون في طلب اللامركزية إبقاء لكيانها ؛ بل البادئ بإدراك ذلك قبلهم والمتحدث به كثيرون من متبصري رجال الدولة الأتراك وعقلائهم ، حتى إنهم كانوا يعلنون مداركهم هذه في صحف الآستانة ويتظاهرون باستحسان منح اللامركزية الأمة العربية وأنه أبقى على البلاد وأرفق بحالة العباد.

إن اليأس من صلاح هذه الدولة في تلك الأيام قد بلغ غايته ، وإن ضعفها المتناهي الذي أهاب به انكسارها في طرابلس الغرب والبلقان قد أزال ما كان لها من الهيبة والرهبة في قلوب شعبها ، فأمنوا بطشها وصار الكثير منهم ينادي علنا بلزوم اختيار دولة غربية تتولى هذه البلاد ليأمن أهلها الغوائل تحت رايتها ، فكان أكثرهم يختار دولة إنكلترا ، وأقلّهم يختار غيرها ، وصدى ضوضائهم في اختلافهم على ذلك يدوّي في أصمخة (١) ولاة الحكومة التركية فيتصامّون عنه ولا يقدرون على ردّه.

فهل ـ والحالة هذه ـ يعدّ رجال تلك الجمعية متهوّرين؟ وهل يلامون على قيامهم لطلب اللامركزية التي هي أخفّ الضررين؟

وهب أن اللامركزيين المذكورين كانوا غير محقّين في قيامهم هذا ، أفيمكن للاتحاديين أن يتبرّؤوا من وصمة الغدر بهم؟ بعد أن حلوا عقدة مؤتمرهم طوعا حينما ألانت لهم الحكومة القوله ، ونادتهم بالرجوع إلى أحضانها ووعدتهم بإجابة طلبهم وأمّنتهم على أرواحهم ، وأعطتهم على ذلك العهود والمواثيق ، وأسندت إلى كل واحد منهم وظيفة باشرها بكل صدق وأمانة ، ومضى عليه زمن طويل ولم يظهر منه أقلّ شيء يدل على سوء نيّته. وبينما كان كل واحد منهم قائما بخدمته مثابرا على عمله في إبان الحرب العامة إذ دعي إلى الديوان العرفي المفتتح في «عاليه» فاستوقف فيه موقف خصم الدولة وعدوّها ، وبعد أن ذاق في سجنه أنواع العذاب وتجرّع من كأس الذل والتضييق أمرّ من الصاب (٢) ، واستغرق في المحاكمة أمدا طويلا إرغاما له وتنكيلا ؛ حكم عليه بقصاص القتل تعليقا (٣). ثم في

__________________

(١) الأصمخة : جمع الصّماخ ، وهو باطن الأذن.

(٢) الصاب : شجر مرّ ، له عصارة بالغة المرارة.

(٣) أي تنفيذ حكم الإعدام فيه.

٥٣٤

ليلة واحدة نفذ هذا الحكم على واحد وعشرين شخصا من رجال هذه الجمعية ، علّق بعضهم في بيروت وبعضهم في دمشق ، كما أشرنا إلى ذلك في حوادث سنة ١٣٣٤.

كان الأشخاص المقتولون من مشاهير رجال سوريا وذوي العقول المنوّرة منهم ، ولهم شيعة كبيرة تسير على سننهم وتقتفى آثارهم في أعمالهم وتعتقد بهم كل فضيلة وكمال. ولذا نقول : إن الاتحاديين أخطئوا في هذه الحادثة من عدة وجوه :

الأول : قتل الرجال المذكورين ؛ لأنه كان من أكبر الدواعي لتنفير قلوب شيعتهم الكبيرة العربية من الحكومة العثمانية ، في الوقت الذي كان اللازم فيه على الاتحاديين أن يجتهدوا بعمل ينشأ عنه عكس ذلك ، أي بعمل ينشأ عنه تحبيب القلوب بالحكومة العثمانية واستمالتها إليهم بمقتضى موقفها الحرج الذي هو في حاجة شديدة إلى تكثير عدد الصديق وتقليل عدد العدوّ. حتى لو فرضنا أن الرجال المذكورين كانوا يستحقون القتل حقيقة ؛ كان الواجب السياسي يقضي على الحكومة في هذا الوقت الحرج ألّا تقتلهم ؛ بل بعد أن تحكم عليهم بقصاص القتل وتوهمهم بأن لا مناص لهم من هذا القصاص ـ إظهارا لقدرتها وتنويها بسطوتها ـ تفاجئهم بصدور العفو حلما منها وحنانا عليهم ، ثم يستتابوا وتتلى عليهم النصائح والمواعظ ويقال لهم : عفا الله عما مضى ويستمالوا بالمعروف وتملك قلوبهم بالإحسان ، فيندمون على ما فرط منهم ويعترفون بفضل دولتهم وفرط رأفتها وحلمها عليهم ، وتتبدل عداوتهم لها بالصداقة ويخدمونها بكل أمانة وإخلاص. حكي عن إسكندر المكدوني أنه قيل له : بم نلت هذه المملكة العظيمة على حداثة السن؟ فقال : باستمالة الأعداء وتصييرهم بالبر والإحسان أصدقاء وتعاهد الأصدقاء بأعظم الإحسان وأبلغ الإكرام.

الثاني : غدر الاتحاديين بهم وعدم احترامهم وعود حكومتهم. ومعلوم أن وفاء العهد إذا كان من حيث هو واجبا فهو على الحكومة أشد وجوبا ؛ لأن الحكومة قد يكفيها وفاء العهد والوعد مؤنة حرب عظيمة إذا عرفت باحترام العهود ، فأما إذا كانت معروفة بإخلاف الوعد ونكث العهد فإنها تفقد الثقة من القلوب وتصبح مضطرة إلى استعمال القوة والعنف في كل غاية تطلبها. الأمر الذي يجعل الحكومة طول حياتها في تعب ونصب ، ولهذا قيل فيما ينسب إلى الفرس : فساد المملكة واستجراء الرعية وخراب البلاد بإبطال

٥٣٥

الوعد والوعيد. ومن هذا القبيل ما أورده ابن خلدون في الفصل ١٩ من الفصل الثاني من مقدمته فراجعه. وقد ظهرت آثار صدق هذا الكلام فيما نتج من غدر الاتحاديين بهؤلاء الجماعة وما جنوه في عملهم هذا على دولتهم من المتاعب والمعاطب وتعجيل ضياع بلادها وتنفير قلوب شعوبها.

وقد زعم جمال باشا في مذكراته أن قتل هؤلاء النفر لم يكن مبنيا على ما صدر منهم في مؤتمرهم الذي عقدوه في باريس ؛ بل كان قتلهم مبنيا على أمور صدرت منهم بعد العفو عنهم حالة قيامهم في وظائفهم. على أن جمال باشا ذكر هذا ولم يذكر شيئا مما زعم صدوره منهم بعد العفو المذكور. والحق يقال : إن إراقته دماء هؤلاء الجماعة لم يكن إلا تشفيا لغيظه من العرب ، عادّا عمله هذا فوزا عظيما وانتصارا مبينا ، به سماه مدّاحوه والمتقربون إليه فاتح سوريا وبطل تركيا. ولو أمنوا بطشه لسمّوه بسبب هذه الجريمة مضيّع سوريا وناكب تركيا.

والأمر الغريب أن جمال باشا بعد أن غدر بهؤلاء الرجال أحس بأن العرب قد نقمت عليه عمله وعدّته ظلما وتشفيا ، فأراد أن يعتذر للعرب بقتلهم ويوهمهم بأنه لم يقتلهم إلا لأنهم يستحقون القتل لجرائم صدرت منهم ، فأمر أن يلفّق له كتاب تذكر فيه جرائمهم وذنوبهم التي استحقوا من أجلها القصاص ، مع بيان الأعذار الشرعية والقانونية التي دعت الحكومة إلى قتلهم. فلفق له هكذا كتاب وطبع ونشر ، فكان المتبصرون من قرائه يرون أن أكثر الأعذار المستند إليها في قتلهم حجّة على جمال لا حجة له ، وأن باقي الأعذار المسرودة في هذا الكتاب مما لا يوجب عليهم شيئا من العقوبة أكثر من التوبيخ أو الحبس مدة يسيرة ليس إلا. ولذا قيل إن هذا الكتاب لما اتصل خبره بالقائد العسكري الألماني معاون جمال واطلع على ما فيه بواسطة مترجمين رأى أنه مما يؤكد غدر جمال باشا وظلمه ، عكس المراد منه ، وأنه مما يزيد نفور الرعية من تركيا ويضاعف حقدهم عليها. فأمر بجمع ذلك الكتاب وإحراقه ، فجمع منه القدر الكثير وقلّت بين أيدي الناس نسخه :

إذا لم يكن عون من الله للفتى

فأوّل ما يجني عليه اجتهاده

ومن منفرات قلوب الرعية ـ خصوصا منهم الحلبيين ـ قتل أفراد منهم لأغراض دنيئة قامت في مخيلة جمال باشا زعما منه بأن قتلهم من الأمور التي تقتضيها السياسة ،

٥٣٦

وذلك أنه قتل شابا بستانيا لوجود صندوق مدفون في بستانه فيه بعض أثواب بالية ادّعى بعض الفقراء الأرمن أن هذا الصندوق سرق من بيته. وكان هذا الشاب ممن عرف بين سائر أقرانه وأهل حرفته بالتقوى وحسن السيرة ، وهو لا يعرف هذا الصندوق ولا يدري من دفنه في بستانه؟ وقد حلف على ذلك أيمانا مغلّظة وشهد بصلاحه وورعه كثير من الناس ، فلم يصغ جمال لذلك ولم يمهله غير يوم واحد حتى أصبح ذلك المسكين معلّقا ، فبكى عليه كل من يعرفه ودعا على جمال بالهلاك وسوء العاقبة. والمفهوم من بعض حاشية جمال أنه لم يقتل هذا الشاب لسوء ظنه به في مسألة الصندوق ؛ بل هو معتقد أن الرجل عفيف بعيد عن السرقة وإنما قتله لغرض سياسي وهو جعل قتله ـ حين مناقشته الحساب عما أجراه من الفظائع مع الأرمن ـ برهانا على فرط عناية تركيا بحقوق الأرمن وشدة حرصها في حمايتهم وصونهم من التعدي ، حتى إنها قتلت رجلا مسلما لمجرد قيام شبهة عليه في سرقة هكذا صندوق.

ومن الدم الذي أراقه جمال باشا لغرض سياسي يزعمه ، دم شابين من أهل حلب : أحدهما في سن الثانية والعشرين ، والآخر في سن الثامنة والعشرين وهما غضّا الشبيبة منوّرا العقل ، زعم جمال باشا أنهما نددا بظلم الحكومة العثمانية وألبّا عليها جموع العرب ومدحا حكومة العرب الشريفية وندبا الناس إليها. وحقيقة الحال أن الصغير منهما كثرت عليه الديون وضايقه غرماؤه فهرب من وجههم إلى جهة الباب ، واجتمع في إحدى جهاتها على طريق الصدفة بواحد أو اثنين من عرب البادية وذكر لهما في أثناء حديثه معهما شيئا مما يقاسيه أهل حلب من المتاعب والمساغب وتسلّط العسكرية عليهم في هذه الأيام التي هي أيام الحرب العامة ، وحكى لهما أن حضرة الشريف قام الآن على الاتحاديين لينقذ الناس من ظلمهم ليس إلا.

هذا كل ما نسب إلى هذا الشاب وجعل سببا لقتله. وأما الشاب الآخر فإنه لم يخرج من حلب ولا اجتمع بترك ولا عرب ، وليس له ذنب غير كونه صديقا للأول ، ولم تقم عليه شبهة توجب إراقة دمه سوى أن الشرطة لما هجموا على بيته ـ ليفتشوا على أوراق يستخرجون منها شبهة تثبت اشتراكه مع الأول ـ وجدوه يطبخ قهوة البن على أوراق يحرقها ، فقالوا : لو لم يكن في هذه الأوراق ما يدعو إلى الشبهة لما أحرقها. والحال أن هذا الرجل معروف لدى جميع أصحابه أنه معتاد من القدم على أن يطبخ القهوة على نار

٥٣٧

الأوراق التي هي الجرائد القديمة ومسودات الدعاوي التي يوكل بها لأنه كان محاميا.

علّق جمال باشا هذين الشابين لمجرد الأسباب التي ذكرناها. على أن الديوان العرفي برّأهما ولم يعدّ هذه الأسباب موجبة لقتلهما. فأصرّ عليه جمال بأن يحرر مضبطة بوجوب قتلهما وقال للديوان : يكفي موجبا لقتلهما فرارهما من العسكرية ، مع أن الأول منهما كان عسكريا بالفعل وسافر إلى الباب بالإذن ، والثاني كان خطيبا مستثنى من الخدمة العسكرية بحكم القانون.

أما الغرض السياسي الذي يقصده جمال باشا من قتل هذين الشابين ـ اللذين أدمى قتلهما القلوب ـ فهو تأييد زعمه بأن عامة البلاد العربية السورية كان أهلها أعداء الدولة العثمانية ، وأن أهل مدينة حلب من جملتهم. وكان ولاة حلب ينكرون على جمال هذا الزعم ويقولون له : الحلبيون لا يوجد بينهم أعداء لحكومة الأتراك ، وإنهم لم يظهر منهم قطّ شبهة تدل على ذلك. فاجتهد جمال باشا بأن يظفر من الحلبيين بشيء سياسي يؤيد دعواه ويكذّب ما كان يقوله الولاة فلم يتيسر له ما أراد ، وبقي سرّه منغّصا لأن عدم ظفره بهكذا شيء يجعله كاذبا في دعواه بأنه فاتح سوريا ؛ تلك الدعوى المفتراة التي آيدها في بيروت ودمشق وغيرهما من البلاد السورية الجنوبية بما أراقه فيها من دماء أهلها العاصين على الحكومة على زعمه ، وبقيت دعواه في مروق أهل سوريا الشمالية غير مؤيّدة. ولما حدثت قضية هذين الشابين في حلب عدّ قتلهما فرصة لتأييد زعمه وتأكيد دعواه في الحلبيين أيضا وأنه ألمعيّ لا تخيب فراسته ولا تخطىء سهام ظنونه المرمى ، وأن ولاة حلب ـ الذين كانوا يبرّئون أهلها من شائبة المروق على الدولة ـ لا تحقيق عندهم ولا تدقيق.

تسلط جباة الأموال ورجال الدرك على أهل القرى :

ومن المنفّرات العظيمة التي كان يتسبب بها أراذل جباة الأموال ورجال الدرك المعرفون بالجندرمة : سوء معاملة هؤلاء لأهل القرى وتسلطهم عليهم بالسب والضرب ؛ بحجة أنهم يتقاضون منهم المتأخر في ذممهم من مرتّبات الدولة عليهم كالأعشار ، ورسوم الأملاك المعروفة بالوركو ، والإعانات التي تجبى من الناس بأسماء مختلفة كقولهم : إعانة الكساوي الشتوية للعساكر الشاهانية ، وإعانة الأسطول ، والإعانة الملّيّة وإعانة المهاجرين ، وغير ذلك من الإعانات المختلفة الأسماء المتحدة المعنى ؛ لأن جميعها كانت ترمي إلى غرض واحد

٥٣٨

وهو امتصاص دم الأهلين واستنزاف أموالهم ، وقلما يمضي شهر واحد إلا ويظهر فيه شيء من هذه الإعانات ، فكان جباة الأموال ورجال الدرك المتقدم ذكرهم يتوجهون إلى القرى بحجة تقاضي هذه الأموال من أهلها ، فيقبلون على القرية وقد قبضوا على السياط بأيديهم ، فيستقبلهم أهل القرية لينزلوهم عن دوابّهم ويأخذوهم إلى دار ضيافتهم ، فلا يكون سلام أولئك الظلمة عليهم سوى إعمال السياط في أجسامهم وسبّهم ومخاطبتهم بأقبح لسان.

وأول شيء يطلبونه من القروي أن يقدّم العلف لدوابّهم ، فإذا لم يكن عنده شعير كلفوه أن يقدم لها علفا من مؤنته التي تتوقف عليها حياته ، ثم يكلفونه أن يقدم إليهم طعامهم من اللحوم والدجاج والبيض وغيرهما من الأطعمة التي يندر وجودها عنده في أيام هذه الحرب. فإذا لم يقدر أهل القرية أن يتداركوا لهم هذه المآكل وقدّموا لهم من طعامهم المعتاد قام أولئك الظلمة عليهم وأوسعوهم ضربا وشتما ، ثم هجموا على ما يرونه في القرية سارحا من الدجاج والربائط (١) التي يستخرج منها أهلها أدمهم الضروري ، فيذبحونها ويأمرونهم بطبخها وتقديمها إليهم.

وإذا بصر هؤلاء اللصوص في بيت من بيوت القرية بما يعجبهم من البسط واللّبابيد أخذوه كأنه غنيمة من مال حربي ، ثم يطلبون المتأخر على القرية من الأموال التي تقدم ذكرها ، فيجمع لهم المختار من أهل القرية ما يقدر على جمعه من النقود ويدفعها لهم رشوة على سكوتهم عن طلب المتأخر عندهم من الأموال التي يعجزون عن وفائها لفقرهم بسبب تسلط الحكومة عليهم. وإذا كان أهل القرية لا يجدون ما يرشون به هؤلاء اللصوص فلا تسل حينئذ عما يفعلونه بهم من المظالم والفظائع ، فربما كانوا يأتون بالرجل ويشدّونه بالحبال ويدهنون وجهه دبسا ويقفونه في ضحّ الشمس (٢). وربما ضربوه ضربا مبرّحا ونتفوا لحيته ولطخوها بالقذر. وقد يهرب رجال القرية من وجوههم فلا يبقى فيها سوى النساء والأطفال ، وحينئذ يأتون بالمرأة المصونة ويطرحونها على الأرض ويرفعون رجليها للضرب فتبدو سوءتها لتقرّ لهم عن مكان رجل بيتها ، وربما مسّ بعضهم شرفها ، ثم يهجمون على

__________________

(١) الربائط : الدوابّ التي ترتبط ليستفيد منها أصحابها في طعامهم ومعاشهم وإدامهم ، كالغنم والبقر. والمفرد :ربيطة.

(٢) أي تحت أشعة الشمس.

٥٣٩

البيوت ويستخرجون ما يجدونه فيها من المؤنة فيأكلون منه قدر شبعهم ويضعون الباقي في حقائبهم.

ولهذه الأعمال الفظيعة خرب الكثير من القرى في الجهات الشرقية والجنوبية وغيرهما من ولاية حلب وجلا أهلها عنها ، وأصبحت خرابا يبابا لا أنيس فيها ولا جليس.

حبس الأقوات عن المدينة المنورة وجهات بيروت :

ومن المنفرات العظيمة : حبس جمال باشا الأقوات عن المدينة المنورة وجبل لبنان ، كيلا يبقى لأهلهما همّ غير خلاص أنفسهم من غائلة الجوع ، فيكون في ذلك شغلهم الشاغل عما كان يتوهمه فيهم من العصيان والتمرد على الحكومة العثمانية والانحياز إلى أعدائها. وقد جلا أهل المدينة عنها ونالهم من المشقة والزحمة ما يعجز القلم عن بيانه ، وجلا البعض من أهل لبنان عنه وهلك بالجوع ـ ممن بقي فيه ـ عشرات الألوف. وكان جمال باشا يودّ أن يقدر على تنفيذ هذا المقصد في دمشق وحلب غير أنه لم يوفق إليه بسبب كون هذين البلدين من البلاد الزراعية التي يتعذر خلوّها من الأقوات. على أنه مع هذا أمكنه أن يرمي شيئا من سهام هذا البلاء أهل حلب حينما قلّت فيها الأقوات وغلت أسعارها ومات الكثير من فقراء أهلها بالجوع ، والأقوات كثيرة متوفرة في المستودعات العسكرية وجهات ماردين وغيرها ، مع عدم ترخيصه بإعطاء شيء من المستودعات أو إحضار مقدار من الجهات المذكورة تخفيفا لويلات أولئك الفقراء.

منع إخراج البضائع من مواضعها :

ومن المنفّرات أيضا ما جرت عليه الجهة العسكرية في إبان هذه الحرب من العادات المضرة بصالح الأهليّين ، التي من جملتها أن المواد الغذائية وجميع البضائع التي تصرف في حاجيات الحرب والعساكر لا يجوز إخراجها من بلدة إلى أخرى إلا إذا كان الذي يريد إخراجها ضامنا ، أي ملتزما لها على شرط تسليمها إلى الجهة العسكرية أو إدارة الإعاشة في غير بلدة فإنه يرخص له بإخراجها ، وإدارة السكة الحديدية توافق على شحنها له إلى الجهة التي يريد أن ينقلها إليها.

هذه القاعدة أوقعت بالأهلين أضرارا عظيمة وأفقدت المساواة بينهم في المعيشة ، وفيما

٥٤٠