نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

حوادث الأرمن :

حوادث الأرمن ـ في حلب وأورفة وعينتاب وكلّز وأنطاكية ـ بدأت في السنة السابقة وانتهت في هذه السنة (١٣٣٤ ه‍). وهي محررة في كتاب مطبوع باللغة التركية عنوانه (فظائع الأرمن) قد فصلت فيه تلك الحوادث تفصيلا مسهبا ، وصورت منها الوقائع المهمة الفظيعة بالفوطغراف. وهو كتاب كبير يستوعب ثلاثمائة صحيفة ، نقلنا عنه جميع ما كتبناه في هذا الفصل سوى حوادث الأرمن في أنطاكية فقد أخذناها بالتلقي عن بعض ثقات من أهل تلك البلاد فنقول :

مشاغب الأرمن في أورفة :

في خلال السنة السابقة شاع في حلب أن جماعة من طائفة الأرمن في مدينة أورفة شقوا عصا الطاعة ، وجاهروا بعصيانهم بينما كانت الحكومة آمنة من غائلتهم لما تشاهدهم فيه من الغبطة والرخاء والحرية الشاملة في معايشهم ومعتقداتهم ومكاتبهم ومعابدهم ، حتى إنها لثقتها بهم وفرط اطمئنانها منهم قررت أن يكون لواء أورفة محل إقامة من تجليه عن بلاده من الأرمن الذين ارتابت بصداقتهم وخشيت غائلتهم على جيوشها المتصدية لمحاربة الروس.

يبلغ عدد طائفة الأرمن في أورفة نحو ثلاث عشرة (١) ألف نسمة. على أن هذه المنطقة الأرمنية لم تلبث بعد إعلان النفير العام سوى قليل من الأيام حتى تظاهرت بالانحراف عما كانت الحكومة تعهدها عليه من الوداعة والسكون ، فأشهرت عداءها على الحكومة العثمانية أسوة ببقية إخوانها الأرمن القاطنين في جهات آسيا الصغرى وغيرها من البلاد العثمانية. وسبب ذلك ـ حسبما ظهر من البحث والتدقيق ـ إغراء المبشرين الأميركان وغيرهم من مبشري الدول الأجنبية ، فإنهم بواسطة مكاتبهم يستخدمون الأمة الأرمنية كآلة صمّاء لبلوغ مآربهم. أضف إلى هذا وسوسة مرخص الأرمن في أورفة ، الذي كان منفيا إلى طرابلس الغرب بعد حادثة الزيتون التي سبق ذكرها في حوادث سنة ١٣١٣ فإنه بعد أن أطلق سراحه وعاد إلى أورفة عاد إلى ديدنه الأول ، فأخذ يلهج بحط مقام الدولة العثمانية

__________________

(١) الصواب : «ثلاثة عشر» لأن المعدود مذكر وهو الألف.

٤٦١

والانتقاد على أعمالها والتحرش بباقي رعاياها المخلصين.

وكان الأرمن في أورفة يتربصون بإعلان عصيانهم على الدولة قدوم جيوش الروس على جهاتهم ، غير أن الحكومة العثمانية لما أمرت بتجنيد مواليد سنة ١٣١٠ اتخذ الأرمن هذه القضية ذريعة للتجاهر بالعصيان ، فهبوا للتمرد وجمعوا عددا كبيرا من شبانهم في قرية كرموش التي تبعد عن أورفة مسافة ساعة ونصف وهناك أعلنوا العصيان.

هذه القرية عظيمة فيها كنيسة كبيرة ومعبد للبروتستان ومغائر متعددة. ولما اتصل خبر تمردهم بالحكومة أنفذت إليه ثلة من الدرك مؤلفة من ثلاثين شخصا ، ففاجأها العصاة بإطلاق النار فقتل منها واحد وجرح آخر. ومع ذلك فإن هذه الثلة هجمت عليهم وغنمت مقدارا كبيرا من السلاح والذخائر وقبضت على بعض الفدائيين منهم. وبينما كانت الجنود العثمانية تبحث في نفق للتحري عن السلاح إذ وجدت فيه ثلاثة من غرباء الأرمن قد طالت شعورهم لطول مكثهم في هذا النفق. وفي الحال أطلقوا عياراتهم على الجنود فقتلوا منهم اثنين وجرحوا آخرين. ثم إن شرذمة من الأرمن تعرضت إلى كتيبة من الدرك على طريق «سيوه رك» فلم تفلح. ثم تعرضت إلى عملة يشتغلون في موضع يقال له «اق هيوك» (تل أبيض) فقتلت ضابطا وجرحت أربعة أفراد ومختار قرية.

وبعد هذه الواقعة اختفى الأرمن في منازلهم واجتمع منهم شرذمة في دار أولاد الأطراقجي ، وأخذت تطلق عياراتها. ثم قام الأرمن كلهم يرمون الرصاص ويهجمون على محلات المسلمين واستولوا منها على بعض دور حصينة وقتلوا عشرة من نساء تلك الدور. وفي ذلك الوقت نقس (١) جرس الكنيسة الكبرى بأن هبوا جميعا لإشهار العصيان ، وكان ذلك بتدبير رجل اسمه (صوغومو) قسيس بروتستاني يدير دفة سياستهم ، فنفروا للحرب جميعا وقد خيّط على كمّ كل واحد منهم رقعة فيها عنوان وظيفته. فهاجوا وماجوا وقذفوا من أفواه بنادقهم نارا حامية ، وكانت القوة العسكرية غير كافية لكبحهم فدام تمردهم كذلك حتى وصلت إلى أورفة قوة عسكرية يقودها وكيل قائد الجيش الرابع ، فأرسل إليهم مع طائفة من نسائهم بيانا يقول لهم فيه : من كان منكم مطيعا للحكومة فليخرج من باب «صمصاد». فلم يصغوا إلى بيانه وثابروا على الامتناع وحينئذ صوّب

__________________

(١) نقس الناقوس بالخشبة : ضربه بها. (متعد). ونقس الشيء : صوّت (لازم).

٤٦٢

أفواه المدافع إلى جهة حصونهم فهدمها ، واخترق الصف الأول من محلاتهم ثم دعاهم للانقياد والإذعان فلم يجيبوا واستمروا مجاهرين بالعصيان ، فأعاد إطلاق المدافع عليهم ، فما كان منهم إلا أن رفعوا خرقة بيضاء كتب عليها بقلم عريض كلمات بالتركية معناها : «أوقفوا النار للمخابرة». فأسكتت المدافع وبعد نصف ساعة سلموا نحو ستمائة من نسائهم وأطفالهم.

ثم في اليوم التالي عادوا إلى ما كانوا عليه من التمرد والفساد وهجموا على الجنود فقوبلوا بالمثل وانكسروا شرّ كسرة ، واستولت الجنود على الكنيسة ودار الأيتام والأماكن التي اتخذوها حصونا لهم ونكلوا بالعصاة شر تنكيل. وهكذا انتهت هذه الحادثة ، وكان عدد من قتل وجرح من مسلمي أورفة ٤٢ شخصا ، ومن الدرك ثمانية وجرح أربعة وعشرون ، ومن العساكر مائتان ، منهم ضابط واحد.

حادثة الأرمن في الزيتون :

لا ينكر ما لبعض رؤساء الأرمن وما لبعض الحكومات الأجنبية من الأيدي اللاعبة في عقول الأمة الأرمنية تهييجا لعصاباتهم على القيام في وجه تركيا أثناء اشتغالها في الحرب العامة ، عرقلة لمساعيها ولاشغالها عن مكافحة الروس :

فأول ما ظهر من متمردي الأرمن في الزيتون ـ بعد إعلان الحرب ـ أنهم رفضوا أوامر الحكومة وامتنعوا عن التجنيد ودفع الضرائب ، وقاموا يتعرضون للسابلة بالقتل والنهب ، وتعلّق دعّارهم في الجبال وخرجوا على قافلة تسير على طريق «فرنس» فقتلوا أكثر أهلها ونهبوا أموالهم وقتلوا جماعة من الدرك في بعض القرى. وحينئذ اهتمت الحكومة بشأنهم فألقت القبض على ٦٥ شخصا منهم. وبلغ الحكومة أن بانوس بن جافر ـ زعيم جمعية «خنجاق» في الزيتون ـ قد عزم على كبس دار الحكومة وقتل المأمورين وكبس مستودع السلاح ونهب ما فيه وقطع أسلاك البرق. فأخفق سعيه.

وكمنت عصابة من شطّار أرمن الزيتون في بعض الجبال المنيعة قصد التعرض إلى مهمات حربية قادمة على الزيتون ، فلم تنل هذه العصابة أربها ؛ إنما خرجت بغتة على جماعة من الدرك فقتلت منهم ستة وجرحت اثنين ، وقطعت السلك البرقي بين الزيتون ومرعش ،

٤٦٣

وتعرضت إلى عسس (١) مرعش ، وقتلت شابا مسلما من قرية بشانلي.

وقامت عصابة أخرى تتعرض إلى دار حكومة الزيتون وثكنتها العسكرية فقتلت اثنين من حاميتها وهددت المأمورين. واعتصمت عصابة أخرى في دير التكية ـ وهو دير حصين ـ فقصدها سليمان أفندي البيكباشي قائد الدرك بمن معه من الجنود ، فقتلته وقتلت معه خمسة وعشرين عسكريا وجرحت أربعة وثلاثين شخصا. وألقي القبض على قسم من هذه العصابة ، وقسم منها أضرموا النار في الدير ليلا وهربوا وأخذوا يتعرضون للسابلة ويجرون معها من الفظائع ما تقشعرّ منه النفوس. وألقي القبض على واحد من دعّارهم اسمه «ملقون» فذكر في استنطاقه أن العصابة أعلمته بأن الجنود الإنكليزية قد استولوا على إسكندرونة ، وأن الأرمن قد شغبوا هناك وأن الواجب على الأرمن أن يعرقلوا مساعي تركيا ويعضدوا الإنكليز. وقد انضم إلى عصابات أرمن الزيتون جماعة من أرمن جمعية خنجاق وجمعيات البلاد الأرمنية في لواء مرعش غير أن الجنود التركية ما زالت تجد في تتبعهم حتى ظفرت بهم واستولت على الكثير من أسلحتهم التي من جملتها قنابل الديناميت وغيرها.

حادثة الأرمن في السويدية :

بعد إعلان الحرب العامة بقليل من الأيام ، بدأ الأرمن ـ سكان جبل موسى في جهة السويدية من أعمال أنطاكية ـ يظهرون العتوّ والتمرد على مأموري الحكومة الذين يحضرون إليهم لتقاضي المرتبات الأميرية منهم ، خصوصا أهل قرية كابوسية وقرية خضر بك وقرية حاجي حببلو ، وغيرها من القرى الجبلية المنيعة التي يصعب السلوك إليها. وقد شوهد بين أرمن هذه الجهات عدد عظيم من أرمن العصابات الأرمنية المعروفة في جهات مرعش والزيتون. ولما علمت الحكومة ذلك أرادت إجلاءهم تأمينا لغائلتهم في هذا الثغر البحري الذي كانت مدرعات الدول المحاربة لا تنقطع عن التردد إليه.

وقد شعر الأرمن بعزم الحكومة على إجلائهم عن ديارهم فقاموا كلهم قومة رجل واحد واعتصموا بشعف (٢) تلك الجبال الشامخة التي كانوا ملؤوا مغائرها وكهوفها من

__________________

(١) العسس : الحرّاس في الليل.

(٢) الشعف : أعالي الجبال (وفي الأصل : بشغف ، بالغين ، فصححناها).

٤٦٤

الأقوات والمهمات ، وصاروا يتعرضون ـ حينما تسنح لهم الفرص ـ إلى سكان قرية السويدية والزيتونية والحسنية بالنهب والسلب. وعندها اهتمت الحكومة بشأنهم وأنفذت العساكر لكبحهم فقصدت أماكن اعتصامهم ، وبعد أن قاومهم الأرمن مقاومة عنيفة وجرح من الجنود كثيرون تحقق الأرمن أنهم مأخوذون لا محالة ، فتركوا معاقلهم وأسرعوا بالهرب ليلا إلى جهة البحر وكأنهم كان لهم ـ مع المدرعة التي حملتهم ـ إشارات خصوصية مصطلح (١) عليها فيما بينهم ، فلم تشعر العساكر التركية التي تتعقبهم إلا ومدرعة ضخمة قد حضرت إلى ثغر السويدية ، وصارت تطلق قنابلها على الجنود الذين اضطروا حينئذ للتغيب والتواري بين غابات السويدية ووراء آكامها. وفي ذلك الأثناء تقدم العصاة إلى جهة البحر تحت حماية قنابل المدرعة ، وقد أعدت لهم الزوارق والقوارب فركبوها زمرة بعد زمرة ، وكانوا نحو خمسمائة شخص. ثم أقلعت بهم المدرّعة وغابت عن العيون غير أن الجنود التركية ـ رغما عن هذا كله ـ ظفروا بعدد عظيم من المتمردين وسلموهم إلى إدارة سوق المهاجرين فأجلتهم إلى الجهات المعينة لهم.

أحزاب الأرمن في حلب :

قال في الكتاب المذكور : اجتمع في حلب عدد عظيم من جالية أرمن الأناضول وغيره ، فرتبوا منهم عصابات وضعوا لها تعاليم ، من أحكامها أن تتزيا العصابات بالزي العثماني وتسير إلى جهات موش وبتليس ، وتنسف في طريقها أنفاق خط سكة الحديد وتتعرض للقوافل وتغتال بعض كبار الموظفين من ملكيين وعسكريين ، وتقتل ما تصادفه في طريقها من العساكر الذين رخص لهم بالذهاب إلى بلادهم لتبديل الهواء ، ثم تلتحق تلك العصابات بجيوش الروس ، على ألّا تتظاهر بأعمالها إلا بعد خروجها عن حدود حلب ؛ كيلا يتضرر الأرمن في حلب. وقد نمي خبر هذه العصابت إلى الحكومة قبل شروعها بأعمالها ، فظفرت الحكومة بالجمعية التي ألّفت هذه الأحزاب وألقت القبض على سبعين شخصا كانوا يعاونون الجمعية ويمدّونها بأموالهم وآرائهم ، وسلمت الجميع إلى الإدارة العرفية ، فظهر من اعترافهم والأوراق التي وجدت عندهم ما كتبناه عنهم في هذا الفصل.

__________________

(١) في الأصل : «مصلح» فأثبتنا الصواب.

٤٦٥

أحوال الأرمن في عينتاب وكلّز :

قال في الكتاب المذكور : أحسّت الحكومة في عينتاب وكلّز أن الأرمن متهيئون لإظهار العصيان في أول فرصة تسنح لهم ، وأنهم بدءوا يتأهبون لهذا القيام كما كان تأهب إخوانهم في حادثة أذنة قبلهم. وقد حضر إلى قريتي حبار وجنكن في قضاء كلّز نحو ثلاثين أرمنيا مسلحين من أهل الزيتون وجماعة من رؤساء عصابات كرون ، ففتكت بهم الجنود التركية وفرّ البعض منهم ، وألقت الحكومة القبض على «أغوب قازار» ابن راهب كلّز ، وهو رئيس فرع جمعية خنجاق ومرتب حركات العصيان في كلّز ، فسلّم إلى الديوان العرفي وتشتت شمل هذه العصابة.

الحملة على قناة السويس :

في هذه السنة (١٣٣٤ ه‍) ورد الخبر البرقي بأن جمال باشا أمر بتسيير حملة على مصر لتدخل إليها من جهة قناة السويس بعد أن تم مد فرع سكة حديدية من الخط الحجازي إلى بئر السبع.

ما هو الغرض المقصود من هذه الحملة؟

في الفصل الخامس من كتاب «مذكرات جمال باشا» كلام مسهب بالإفصاح عن شؤون هذه الحملة وما يتعلق بها من التأهب وإعداد الجنود والمهمات الحربية ، وإصلاح طرق المواصلات والتزود من الأقوات والمياه ، وكيف كان هجوم الحملة على القناة وأسباب فشلها ، وعدد من استشهد منها ، مع بيان قوات الإنكليز ومعداتهم ، وغير ذلك من الأمور التي تفيد الراغب بالإطلاع على شؤون هذه الحملة فائدة تامة.

غير أن هذا الفصل ـ على ما فيه من الإسهاب والإطالة ـ لا يحقق أمنية الباحث فيه عن حقيقة الغاية التي ترمي إليها هذه الحملة ، لأنه ـ بينما يفهم مما سطر فيه من عبارات جمال باشا أن الحملة ليست مقصودة لذاتها بل الغاية منها محض مظاهرة يقصد منها الاستطلاع على قوات العدو وإلفات نظر تركيا إلى ما يجب عليها تداركه وإعداده لحملة أخرى ـ إذ يمر بذلك الباحث من عبارات جمال باشا ما يفهم منه أن الحملة مقصودة لذاتها لأن الغاية منها الفتح والاستيلاء.

٤٦٦

فمن عبارات الشق الأول ، قول جمال باشا بعد فشل الحملة : «فلو كتب لنا النجاح لهذا المشروع الذي هو محض مظاهرة مصحوبة بقوة عسكرية لاعتبرناه فألا حسنا لتحرير الإسلام وتخليص الإيمبراطورية العثمانية» ، وقوله : «إن المشروع إنما كان محض استطلاع هجومي على القناة لمعرفة الموادّ التي لدى العدو وما نحتاجه نحن أنفسنا من المواد لعبور القناة. وبما أننا أدركنا غايتنا تماما فالأصوب أن ننسحب إلخ».

ومن عبارات الشق الثاني ، قول جمال معربا عن هواجس نفسه إبان السّرى (١) في صحراء التيه : «ونحن نواصل السير بالليل على ضوء القمر ؛ كان قلبي مفعما بالكآبة الممزوجة بالأمل الكبير في النجاح كلما رددت الموسيقى أنشودة الراية الحمراء تخفق فوق القاهرة ، والتي على وقعها شقّت الصفوف الزاحفة طريقها في ذلك القفر الذي لا نهاية له»

أقول : الذي يتبادر للذهن أن الغاية كانت من هذه الحملة هو الفتح والاستيلاء لا التمهيد لحملة أخرى ، وذلك أن التأهب لها كان عظيما لا تحتاجه فيما لو كان الغرض منها محض استطلاع واستكشاف. غير أن هذا التأهب وإن كان عظيما فهو بلا ريب دون ما تحتاجه حملة يقصد منها الهجوم على قناة السويس لأجل الاستيلاء على مصر وسلبها من يد أعظم دولة في العالم ، بل كان من أقلّ ما يلزم لهذه الحملة في اجتيازها إلى برّ مصر أن تردم الترعة ويدخل منها جيش لجب (٢) إلى برّ مصر ويبقى نظيره في برية الشام لعرقلة سير المدرّعات الإنكليزية الضخمة ، ورميها بقنابل المدافع التي هي من عيارات واسعة ، كما أشار إليه نفس جمال باشا بعد فشل حملته ومحاولة القائد الألماني إعادة هجوم الحملة مرة ثانية.

ومما يدل على أن الحملة كان المقصود منها الفتح والاستيلاء : تيقن جمال بنجاحها وأنه لا بد وأن يدخل إلى مصر ظافرا منصورا ، بدليل إعداده جماعة تناط بهم خدمة الدرك في مصر واستحضاره ـ وهو في حلب ـ ملابس لهم ، الأمر الدالّ على أنه كان غير شاكّ ولا مرتاب مطلقا في فوز حملته وتكليل مساعيه بالفلاح والنجاح.

__________________

(١) السّرى : السير ليلا.

(٢) اللّجب : الكثير العدد.

٤٦٧

أما عباراته التي مفهومها بأن الحملة كانت الغاية منها تمهيدا لحملة أخرى ، فإنما فاه بها بعد فشلها تخلصا من رميه بسهام الملام على تقصيره في إعداد ما يلزم لهذه الحملة من الجيوش الضخمة والمهمات الوافرة والتدابير الصائبة التي بدونها لا تجوز المغامرة في تيار هذا الخطر العظيم.

ورود نبأ برقي بنجاح الحملة :

وفي هذه السنة (١٣٣٤) ورد علينا من جهة بئر السبع نبأ برقي بأن هذه الحملة قد نجحت بهجومها على القناة ومشت إلى جهة مصر ، فكان الناس لهذا الخبر بين مصدّق ومكذب ، وهمّ حزب الاتحاد بترتيب مظاهرة فرح وسرور بهذا الظفر ، وبينما هم يتذاكرون في شؤون هذه المظاهرة إذ ورد بالبرق تكذيب الخبر الأول.

أقول : إن جمال باشا أوضح في مذكراته سبب النبأ البرقي المعلن نجاح الحملة بما خلاصته أن مدير تلغرافات الجيش (الذي كان مشتغلا بمد الخطوط في الصحراء) أبلغه أحد المعتوهين كذبا نبأ سقوط الإسماعيلية ، فعجل بإبراقه إلى الآستانة ، فلما ظهرت الحقيقة انعكست الآية وكان لها أسوأ تأثير.

عدد الأيام التي أمضتها جيوش الحملة في قطع الصحراء بين بئر السبع والقناة :

قال جمال باشا في مذكراته ما خلاصته : إنه ما كاد يمر عشرون يوما على بدء الزحف من بئر السبع حتى وصل القسم الأول من الحملة بقوة كبيرة إلى نقطة تبعد نحو ١١ كيلومترا من القناة. ووصل الجناح الأيمن الذي زحف من العريش في جهة «قاطية» تجاه القنطرة ، بينما الجناح الأيسر الذي زحف من العقبة ـ عن طريق قلعة النخل ـ وقف في مقابلة السويس.

ما لاقاه الجيش من التعب والضنك :

قال جمال باشا في مذكراته : ويقصر اللسان عن أن يوفي القوات العثمانية ـ لا فرق بين ضباطها وجنودها ـ اللائي اشتركن في حملة القناة الأولى ، حقّهن من الثناء ، على ما بذلنه من الجهود وأظهرنه من ضروب الوطنية العالية. وأرى من واجبي تقديم إعجابي

٤٦٨

لأولئك الجنود البواسل الذين قاموا بذلك الزحف ، غبر مبالين بما لاقوه من ضروب الضنك وتحملوه من المشاقّ في سحب المدافع ، فضلا عن الجسور المتحركة (وهي ما كان لدينا من المعدّات لعبور القناة) وسط بحر من الرمال. هذا وقد ساد بين رجال الحملة ـ لا فرق بين الأتراك والعرب ـ شعور العطف الأخوي. ولم يكن بينهم من يضن بحياته دفاعا عن إخوانه. والواقع أن الحملة الأولى كانت برهانا ساطعا على أن غالبية العرب الساحقة انضموا إلى الخلافة بقلوبهم وجوارحهم.

عدد عساكر الحملة وعدد عساكر الإنكليز :

والمفهوم من مذكرات جمال باشا أن عدد جنود الحملة كان واحدا وعشرين ألفا ، وأن جمال باشا قد علّق أكبر آماله وقتئذ على مساعدة الوطنيين المصريين الذين رجا أن يثوروا كلهم بعد أن يشجعهم سقوط الإسماعيلية في يد الجيش التركي. أما عدد جيوش العدو ـ حسب المعلومات التي وصلت إلى مركز قيادة الجيش التركي ـ فهي ٣٥ ألفا على طول خط القناة ، عدا مئة وخمسين ألفا ـ ويزيدون ـ موزعين في طول مصر وعرضها.

مساعدة ابن السعود وابن الرشيد وعدد الجمال التي كانت في جيش الحملة :

قال جمال باشا في مذكراته : ولم يكن في استطاعة الأمير ابن السعود أن يمد لنا يد المساعدة المباشرة لقربه من الإنكليز الذين كان في استطاعتهم إيصال الأذى إليه ، إلا أنه كان شخصيا نافعا لنا جدا إذ أرسل الجمال للجيش وسمح بتصدير التجارة من بلاده إلى سورية. ولقد أقام الأمير ابن الرشيد البرهان الصادق على أنه مسلم صميم وشديد الإخلاص للخلافة. قال : وكان عدد الجمال التي سخرت لحمل أثقال الحملة وحمل الماء اثني عشر ألف جمل ، بعضها من سورية والقسم الكبير منها من بلاد الأمير ابن السعود.

ثقة جمال باشا بإخلاص العرب :

قال جمال باشا ما خلاصته : وكانت كتائب الحملة مكونة من عرب الشام وفلسطين ، ولم توجد مقاتلة أتراك سوى كتائب متطوعي الدراويش ، وفصيلة مشاة من متطوعي «دوبريجه» التي أنشأها جمال باشا لخدمة القيادة. قال : أفلا يدل كل ذلك على ثقتي

٤٦٩

بالعرب واعتقادي أنهم لن يثوروا ضدنا أو يطعنونا من الخلف؟

هجوم الحملة على القناة وفشلها وعدد من قتل وأسر وجرح فيها :

المفهوم من كلام جمال باشا في مذكراته أن الوقت الذي كان معينا لعبور القناة هو الليل ، غير أن الجيش المعدّ للعبور تأخر وصوله ، وحينما بدأ بمد الجسور المتحركة وشرع بالعبور كانت الشمس في الأفق ، فصارت أعمال الجيش ظاهرة للإنكليز فهبوا للدفاع عن نقطة العبور مباشرة بما كانت نتيجته تحطيم الجسور عدا ثلاثة منها. وكان قد تمكن من العبور ٦٠٠ مجاهد فأسرهم الإنكليز. وهاك بيان خسائر هذه الحملة :

قتل

جرح

اسرى

مفقودون

ضابط

١٤

١٥

 ـ

١٥

جندي

١٧٨

٣٦٦

٦٠٠

٧١٢

ولكن الإنكليز قدروا خسائر الأتراك في هذه الحملة بألف قتيل وألفي جريح وستمائة وخمسين أسيرا.

مقتل زعماء الجمعية اللامركزية :

في رجب هذه السنة (١٣٣٤) الموافق مايس سنة ١٩١٦ م ورد الخبر من دمشق وبيروت بتعليق واحد وعشرين شخصا من أفراد الجمعية التي كانت ـ قبل أربع سنوات ـ عقدت في مدينة باريس مؤتمرا عربيا للمفاوضة في طلب الحاكمية اللامركزية للبلاد السورية تحت سيادة الدولة العثمانية. وقد علّق منهم في بيروت أربعة عشر شخصا وفي دمشق سبعة أشخاص ، علّقوا كلهم في ليلة واحدة ، فارتاع الناس من هذا الخبر وداخلهم من القلق والوحشة ما لا مزيد عليه. وقد بسط جمال باشا في مذكراته الكلام على أعذاره في تعليقهم. وسنتكلم على ذلك في الآتي.

قيام حضرة الشريف حسين على تركيا :

في شعبان هذه السنة (١٣٣٤) تواردت الأخبار بأن حضرة الشريف حسين بن الشريف علي ـ أمير مكة المكرمة ـ قد تظاهر بالعداء حيال الدولة العثمانية. ثم تواردت

٤٧٠

الأخبار في رمضان بأنه استولى على مكة المكرّمة وجدّة والطائف وينبع ، وطرد العساكر التركية وأسر بعضها ، وعقد مع دولتي إنكلترا وفرنسة معاهدة على أن يستولي على البلاد العربية العثمانية بمعاونتهما فيستقل فيها العنصر العربي ويكون هو الملك عليها إلخ.

حركة حضرة الشريف هذه قد أثبت فيها جمال باشا ـ في مذكراته ـ كلاما مسهبا ليس من غرضنا التعرض إلى تفنيده أو إلى تصويبه ، بل نكل ذلك إلى من يرون أنفسهم مضطرة إلى كشف الحقيقة وتمحيضها في هذه المسألة الخطيرة.

على أنني لا أنكر أن هذا القيام لم يخل من فائدة لسوريا فإنه قد وقف تيار الفتك الذي كان يخوض في بحره جمال باشا دون رادع ولا مسيطر.

إجلاء أسر من دمشق وحلب :

فيها أجلى جمال باشا بعض أسر كريمة عن دمشق لقرابة بينهم وبين بعض المقتولين الذين تقدم ذكرهم ، أجلاها إلى جهات الأناضول ، وأجلى من حلب أسرة محترمة لأن جنديا من ذوي قرابتها التحق بجيوش حضرة الشريف ، أجلاها إلى مدينة قرق كليسا في ولاية أدرنة.

إحداث جريدة في المدينة :

وفيها صارت الأخبار ترد من الحجاز تارة بانتصار الجيوش التركية على الجيوش العربية ، وتارة بالعكس ، وأن المدينة المنورة دخلت في حوزة العرب وأنهم نسفوا سكة الحديد في جهات الكرك ومعان وغيرهما. ولما كانت هذه الأخبار تضعف معنويات الجنود التركية وتزيد في قوة معنويات العرب ، رأى جمال باشا أن يصدر في المدينة المنورة صحيفة إخبارية تحرر ما يجري في الحجاز بين الجنود التركية والعربية على الصفة التي تخدم إرادته وتروّج أفكاره ، وأن تنشىء مقالات تبرهن على حسن سلوك جمال باشا وسوء سلوك حضرة الشريف في هذه المسألة. فجهز للمدينة المنورة مطبعة بأدواتها ولوازمها واختار محررا لها وطنينا البارع الأديب الشيخ بدر الدين النعساني ، فسافر إلى المدينة المنورة وأصدر هناك صحيفة سماها «الحجاز» واستمرت تصدر مدة سنة أو أقل منها ، ثم بطلت وعاد محررها إلى أوطانه.

٤٧١

وفود إلى المدينة :

وفيها ـ في رمضانها ـ أوفد جمال باشا إلى المدينة المنورة وفودا من حلب ودمشق وغيرهما ليطلعوا على حقائق الأحوال ويعودوا إلى أوطانهم فيخبروا أهلها بأن المدينة المنورة لم تزل باقية في يد العثمانيين ، وأن سكة الحديد بين دمشق والمدينة لا يوجد فيها شيء مختلّ. وقد دعيت لأن أكون من وفد حلب فاستقلت خوفا من مشقة الطريق وشدة الحر. وكانت نفقة هذه الوفود من جهة العسكرية ، وقد أعطي كل واحد منهم خمسين ليرا عثمانيا ورقا نقديا. ولما عادت هذه الوفود إلى أوطانهم أخبر كل واحد منهم أهل وطنه بأن المدينة المنورة لم تزل باقية بيد العثمانيين وأن لا سبيل إلى الاستيلاء عليها ، وأن سكة حديد الحجاز سليمة لا خلل فيها.

فتوى في وجوب قتال من خرج على الخليفة :

وفيها ورد من دمشق الشام طائفة من علمائها ، ومعهم صورة فتوى شرعية توجب قتال من خرج على الخليفة وشقّ عصا الطاعة وفرّق كلمة الجماعة. فدعا الوالي عبد الخالق بك نفرا من علماء حلب وكلفهم ختم هذه الفتوى أسوة بعلماء دمشق فختموها.

قدوم الشريف علي حيدر باشا على حلب :

وفيها قدم على حلب حضرة الشريف علي حيدر باشا ، وقد تعين لإمارة مكة المكرمة بدل حضرة الشريف حسين ، المتظاهر بعداء الدولة. فأقام حيدر باشا بحلب قليلا ثم سافر منها إلى دمشق فبقي بها مدة ثم سافر منها إلى جهة لبنان لينتظر نتيجة الحرب الحجازية ، فلم تسنح له الفرصة بالتوجه إلى الحجاز وعاد إلى استانبول في أواخر سنة ١٣٣٦.

جودة الموسم ورخص الأسعار :

وفيها كانت المواسم جيدة والرخاء شاملا. وشاع بين الناس أن جهة العسكرية عازمة على مصادرة السمن والحبوب والصوف وغيرها. فخاف المحتكرون ولم يجسر أحد منهم على احتكار شيء من هذه البضائع. فازداد رخص السمن وبيع رطله بخمسة وعشرين قرشا ، وبيع كل مائة بيضة بسبعة قروش ، مما لم يعهد له نظير منذ عشرين سنة ، وبيع رطل اللحم الخالص بخمسة عشر قرشا ورطل الصوف بأحد عشر قرشا. وكانت جميع

٤٧٢

أسعار الأقوات الوطنية رخيصة سوى الحبوب وزيت الزيتون والزبيب والتين والجوز وباقي الفواكه التي أتى الجراد النجدي على شجرها ، كما أسلفنا ذكره في السنة ١٣٣٣.

٤٧٣

سنة ١٣٣٥ ه

ملكية حضرة الشريف حسين على البلاد العربية :

في اليوم السادس من محرّم هذه السنة نودي في البلاد الحجازية باسم حضرة الشريف حسين أمير مكة المكرمة ملكا على البلاد العربية العثمانية. وقد تقدم الكلام على مبدأ قيامه على تركيا واستيلائه على معظم الحجاز في أخبار السنة الماضية.

وفد من استانبول إلى البلاد الشامية :

فيها قدم من استانبول إلى حلب وفد مؤلف من رجال الدولة العثمانية وأعيانها لردّ زيارة الوفد العربي الذي كان في العام الماضي زار استانبول. وقد استقبل الوفد التركي حينما دخل إلى محطة بغداد استقبالا حافلا ، وأدبت له البلدية في فندق البارون مأدبة فاخرة ، وقدّمت لكل واحد منه عباءة حريرية جميلة من صنع حلب. ثم بعد ثلاثة أيام سافر الوفد إلى دمشق ومنها إلى بيروت ، ولقي فيهما من الحفاوة والإكرام ما لقي في حلب وزيادة. وكان الغرض الحقيقي من زيارته هذه البلاد تطييب قلوب أهلها العرب وإظهار محبة الأتراك إياهم ، ونزع ما غرسه بعض الاتحاديين في قلوبهم من النفرة والبغضاء بسبب سوء تدبيرهم.

سباق الخيل :

وفيها جرى في أرض الحلبة من ظواهر حلب سباق خيل على أبهج طرز.

دار للمعلمين ودار للحكومة :

وفيها بوشر في أرض الميدان الأخضر الشهير في شمالي مدينة حلب [ببناء](١) مكتب

__________________

(١) ما بين مربعين زيادة منا يقتضيها السياق ، وهي ساقطة من الأصل. ويحتمل أن تكون الكلمة المقدرة هي :«بتأسيس».

٤٧٤

سمّي دار المعلمين ، وبوشر أيضا بتأسيس دار للحكومة جديدة تجاه باب القلعة ، باتصال المدرسة السلطانية من شرقيها. وقد وضع لها مهندس الولاية مصورا دخلت فيه «الغوثية» فهدمت عن آخرها ولم يبق لها أثر. ثم شقّت الأسس وبوشر ببنائها على صفة متقنة. وقبل انتهاء بناء الأسس وقع الاستيلاء على حلب فبطل العمل بعد أن صرف عليه مبلغ طائل.

أخبار غزة :

فيها تواردت الأخبار بأن «غزّة هاشم» دخلها الجيش العربي الإنكليزي ، وكانت الجنود التركية كامنة فيها فخرجوا من مكامنهم وهجموا على الجنود الإنكليزية فقتلوا منهم في البلدة عددا كبيرا وأخرجوا الباقين منهم قسرا ، وأن البلدة قد خربت ولم يبق من أبنيتها سوى القليل. وقد نزح عنها أهلها وتشتتوا في البلاد ، منهم من سار إلى عربان البادية وأقام عندهم ، ومنهم من سار إلى جهات طبرية والخليل والقدس ودمشق وحمص وحماة وغيرها ، وجرى عليهم من البلاء ما لم يجر على غيرهم. ثم في أواخر هذه السنة أعادت الجيوش الإنكليزية العربية الكرّة على غزة فاستولت عليها وعاد إليها من أهلها من كان مهاجره قريبا منها. ومن ذلك الوقت بدأ العمار يعود إليها شيئا فشيئا.

انفكاك مصطفى عبد الخالق عن ولاية حلب :

وفي هذه السنة انفك الوالي عبد الخالق بك عن ولاية حلب وعيّن مستشارا في نظارة الداخلية. وهو من أنزه ولاة تركيا وأحرصهم على رعاياها المخلصين وقد تعيّن بدله لولاية حلب توفيق بك.

نفي بعض المتلاعبين بالورق النقدي :

وفي هذه السنة شدد جمال باشا العقوبة على المتلاعبين بالورق النقدي ، ونفى بعض التجار إلى جهة أذنة لتلاعبهم بهذا الورق فلم يحصل من نفيهم نتيجة واستمر سعر الورق على هبوطه.

٤٧٥

قلة الماء في حلب وجرّ ماء عين التل إليها :

وفي هذه السنة بدأت الآبار والينابيع تنضب مياهها وقل ماء قناة حلب ونهرها. وكثرت شكوى الناس من هذه البلية التي لا دخل للحرب في وجودها بل هي بمحض إرادة ربانية قضت بأن لا يقع في موسم الشتاء ثلج على جبال عينتاب وغيرها من الجبال التي ينصب ماء عيونها إلى مجرى نهر حلب. وكان جمال باشا مطلعا من قبل على قلة ماء حلب ، وقد أعلمه الأطباء بأن ماء القناة والنهر ـ مع قلته ـ يحمل أنواعا من جراثيم الأمراض القتالة التي يخشى على العساكر من فتكها. فاهتم جمال باشا بجر ماء عين التل إلى حلب وأحضر لذلك قساطل الحديد من جهة يافا وغيرها. وفي مدة وجيزة مدّها من العين إلى رأس محلة التلل ، وهناك عمل لها خزان عظيم يصب فيه الماء ومنه يتوزع إلى جهة حلب.

وعمر في رحبة باب الفرج حوض جميل بديع الصنعة ـ لو تمّ عمله ـ يصب فيه الماء فينفر إلى العلاء قدر رمح ، ثم يصب في حويض مستور ، له مباذل (١) مغروسة بدائره. وعمل لأخذ الماء عدة مراكز أقصاها عند خان الكمرك ـ في سوق السقطية ـ وفي متوسط خندق العطوي الآخذ إلى باب النصر. فلم يستفد من هذا الماء سوى المحلات القريبة من باب الفرج بسبب قلته وعدم ارتفاع خزّانه. وعلى كل حال فإن سكان هذه المحلات وما قاربها قد ارتاحوا قليلا من جهة ماء الشرب ، وعدّ عمل جمال باشا هذا من أكبر الحسنات التي تكفّر بعض سيئاته وتخلد ذكره في التاريخ.

ولما انتهى هذا المشروع الحسن عمل له في شعبان هذه السنة ـ ومايس سنة ١٣٣٣ رومية ـ حفلة افتتاح عند حوض باب الفرج المذكور ، حضر فيها الجمّ الغفير من الأعيان والأمراء والأهلين ، وأنشدته قصيدة من نظمي اقترحها عليّ والي حلب توفيق بك ، وهي قصيدة طويلة منها قولي :

إن ماء أجراه عذبا فراتا

فيه إرواء غلّة الورّاد

__________________

(١) يعني صنابير أي «حنفيات» أو ما يشبهها. وكذا رسمت في الأصل بالذال «مباذل» خطأ ، والصواب بالزاي «مبازل» وسبق مثله في حوادث ١٣٢١ ه‍.

٤٧٦

قد سقانا الشراب منه طهورا

فروى من نميره كلّ صاد (١)

وبه ساغت المشارب في الشّه

با وكانت عسيرة الازدراد

وبه أثلج الصدور كما قد

أضرم النار في قلوب الأعادي

جاريا في ربوعنا بابتذال

كنجيع الأعداء في كلّ واد (٢)

منّة طالما النفوس تمنّتها

م إلى أن أتت بلا ميعاد

منّة أحيت النفوس وأحيت

ذكره بالجميل حتى المعاد (٣)

ذخرتها له الليالي (٤) حتى

يجتنى حمدها إلى الآباد

قرن الله سعده بنجاح

وفلاح ورأيه بالسّداد

وأرّخها الأديب الفاضل الشاعر الشيخ إبراهيم أفندي الكيالي بقوله :

أحمد الفعل (٥) جمال في الورى ،

ماء عين التلّ للشهبا جلب

إنّ هذا الخير ، أرّخ : زانه

حسن ذكر لجمال في حلب

١٣٣٥ وبقوله :

أحمد الفعل جمال في الورى ،

أنعش الشهباء بالماء الزّلال

صاح ، إن رام الورى تاريخه :

ناد عين التلّ تجري بجمال (٦)

١٣٣٥

وبعد فراغي من إنشاد القصيدة افتتح جمال باشا بخطبة قال فيها : إن أحب شيء إليه هو إبقاء الآثار الخيرية التي تخلّد له الذكر الجميل ، وإن جرّه ماء عين التل هو ثاني ماء جرّه من محل بعيد إلى بلدة ، وذلك أنه كان جرّ ماء عين في جهات الروملّلي إلى مدينة «قرق كليسا».

__________________

(١) النّمير : الماء العذب. والصادي : العطشان.

(٢) النجيع : الدم الأحمر.

(٣) حتى المعاد : إلى يوم القيامة.

(٤) تحريك ياء «الليالي بالضم» ضرورة شعرية.

(٥) أي قام بفعل حميد.

(٦) ويجوز كسر اللام في قافيتي البيتين.

٤٧٧

أقول : والحق يقال إن جرّ عين ماء التل إلى حلب حقيق أن يعدّ لأحمد جمال باشا أثرا عظيما ويدا بيضاء ومنّة كبرى على سكان الشهباء ، فقد حقق بها أمانيهم بهذا الماء الذي طالما تمنّوا إسالته إلى حلب فلم يتح لهم القدر ما تمنّوه.

الغلاء وضحايا الجوع :

في هذه السنة أخذت أسعار الحبوب تتصاعد بسبب رداءة الموسم وإقبال الألمان على الاحتكار. وقد شددت الحكومة ـ بأمر العسكرية ـ المراقبة على محتكري الحبوب من الأهلين وأعلنت أنها ستكبس البيوت والمستودعات ، فمن وجدت عنده من الحبوب أزيد من مؤنة سنة فإنها تصادر الزائد وتحاكم صاحبه في الديوان العرفي وتعاقبه بما تقضي عليه أحكامه. وقد نتج من هذا الإعلان انقطاع ورود الحب من القرى ، وارتفع سعر الشنبل من الحنطة إلى ألفي قرش ، ومن الشعير إلى ألف وأربعمائة. واشتد الخطب على الفقراء في شتاء هذه السنة وهلك بالجوع كثيرون ولا راحم لهم ولا مغيث ، وكل واحد من الناس يقول : نفسي نفسي ؛ لأن الجميع كانوا يرون أن هذه الحرب سيطول أمدها وتكون سببا لإبادة العالم.

خسوف القمر :

وفي رمضان هذه السنة ـ في ليلة النصف منه ـ خسف القمر خسوفا تاما بحيث غاب جميعه ثم عاد للانجلاء كما كان. وفي أثناء خسوفه قامت ضجة عظيمة من أصوات العيارات النارية والضرب على النحاس والدق في الهاوانات (١) جريا على العادة القديمة.

مقتول بالتعليق :

وفي هذا الشهر علّق عند برج الساعة ـ في رحبة باب الفرج ـ شخص من العساكر الفرارية (٢).

__________________

(١) كذا جاء الجمع عند المؤلف ، مع أن المفرد : «الهاون» بغير ألف بين الواو والنون. ويقال أيضا في المفرد :«الهاون» وجمعه هواوين.

(٢) الفرارية : كلمة شاعت وقتئذ على الألسنة ، وتعني الذين هربوا من الخدمة العسكرية. والمفرد «فراري».

٤٧٨

طوابع على الثقاب ودفاتر اللفائف :

وفيه أيضا ورد في صحف الآستانة قانون يقضي بلصق طوابع على علب الكبريت ودفاتر ورق سكاير التبغ ، فهبطت أسعار هذين النوعين أولا ثم تصاعدت جدا.

تعليق شخصين :

وفي شوال هذه السنة علّق عند برج الساعة شخصان.

قدوم إبراهيم بك على حلب :

وفيها قدم على حلب إبراهيم بك أحد كبار موظفي نظارة الأوقاف في الآستانة ـ وهو ابن صاحب بك ـ متوجها إلى المدينة المنورة فنزل إلى الجامع الكبير الأموي في حلب وأمر برفع الطرابزون الذي يجعل قبلية الحنفية شطرين ، ورفع الطرابزونين اللذين يفصلان قبلية الحنفية عن القبلية الشافعية ، ويكون بينهما الدهليز الذي يستطرق منه إلى باب القوافين. فرفع الطرابزونان وصارت القبليتان واحدة ، وصار الداخل من باب القوافين يدخل إلى القبليّة مباشرة دون دهليز. وأمر أيضا بنزع الرفرف المرفوع فوق باب الحجازية وقاية لنزول المطر ـ فوق المجتازين من باب الطيبة إلى الرّواق الموجه إلى القبلة ـ فنزع ، وكان جدّد منذ قريب وصرف عليه مبلغ كبير وكان نزعه خطأ.

ثم إن إبراهيم بك سافر إلى دمشق الشام ومنها إلى المدينة المنورة وأمر هناك بتخريب بعض البيوت العامرة المتصلة بالحرم النبوي ، وأخذ جميع ما في قبة الضريح النبوي من الذخائر النفيسة الفضية والذهبية والأحجار الكريمة ، وما في كتبيّة (١) الحرم من المصاحف الشريفة والكتب النادرة ، مما تقدّر قيمته بمئات ألوف من الليرات. وضع جميع هذه الأشياء في صناديق محكمة وعاد بها إلى استانبول.

عزل توفيق بك والي حلب ، وتعيين بدري بك ، وأكياس الرمل :

فيها عزل توفيق بك والي حلب وتعيّن بدله بدري بك. وفيها بدأت الجنود البريطانية

__________________

(١) الكتبيّة : أطلقت هذه الكلمة على الرفوف الثابتة التي توضع عليها الكتب ، وكان في كل بيت «كتبيّة» أشبه بخزانة الكتب. ثم حلّت بعض أواني الزينة وما إليها محلّ الكتب ، وبقي الاسم : «الكتبيّة» مستعملا.

٤٧٩

بحصار قلاع القدس الشريف ، وصدر أمر جمال باشا بأن يعمل أكياس من الخام لأجل إملائها رملا وجعلها متاريس في قلاع القدس لتردّ عنها كرات المدافع. ففرض على أهل حلب فقط ستون ألف كيس جمعت من التجار باسم الإعانة ، وجمع أضعاف هذا المبلغ من بقية البلاد وملئت رملا وجعلت متاريس في القلاع المذكورة ، فلم تغن شيئا.

قدوم أحد أفراد الأسرة العثمانية على حلب :

وفيها قدم على حلب البرنس عبد الحليم أفندي ـ أحد أفراد الأسرة السلطانية العثمانية ـ متوجها إلى جبهة الحرب في فلسطين لمشارفة الحرب ، فاستقبل بكل تجلّة واحترام. ثم توجه إلى جهة مقصده.

توحيد أوائل الأشهر :

وفيها ورد في البرق العثماني أن مجلس النواب العثماني قرر توحيد أوائل الأشهر الشمسية الشرقية والغربية ، فاعتبر رأس السنة الشمسية الشرقية أول شهر كانون الثاني ـ كما يعتبره الغربيون ـ إلا أن تاريخ السنة بقي شرقيا عثمانيا ، كما سلف الكلام عليه في مقدمة هذا التاريخ ، فأسقط من شهر كانون الأول ثلاثة عشر يوما التي هي الفرق بين الغربي والشرقي واعتبر أول سنة ١٣٣٣ الشرقية ابتداء كانون الثاني. ثم بعد دخول الدولة العربية إلى هذه البلاد جرت حكوماتها في تاريخ السنة أيضا على التاريخ الغربي الميلادي ، فاتحد التاريخان الشمسيان شهرا وسنة وصارا تاريخا واحدا.

الأوراق النقدية المعروفة باسم بنكينوط :

أسلفنا الكلام في حوادث سنة ١٣٣٣ على حدوث الورق النقدي وتداوله وهبوط أسعاره. وهنا نقول : إن هذا الورق ما زالت أسعاره في حلب تهبط ، إلى أن كانت هذه السنة فازداد فيه تلاعب التجار والصيارفة حتى هبطت أسعاره هبوطا زائدا ، وكان يهبط ويصعد في اليوم الواحد عدة مرات دون سبب معقول ، حتى إننا كنا نقول : إن لتبديل أسعار هذا الورق سرا طبيعيا لا يمكن للعقول إدراكه كبقية الأسرار الطبيعية ، وكثيرا ما كان يهبط ويصعد تبعا لما هو عليه في استانبول أو دمشق أو بيروت أو غير هذه البلاد حسبما تفيده أخبار البرق والبريد ، وقد يهبط ويصعد وليس هناك خبر برقي ولا بريدي يشعر بهبوطه

٤٨٠