نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

سنة ١٣٣٣ ه

فتوى شيخ الإسلام في النفير العام :

في محرّم هذه السنة أصدر شيخ الإسلام فتوى شرعية في وجوب النفير العام ، وصرح فيها بأن كل مسلم قادر على حمل السلاح عليه أن يكون مجاهدا. وقد جرى لتلاوة هذه الفتوى في حلب اجتماع حافل في المكتب الإعدادي الكائن في محلة الجميلية ، وتليت فيه المواعظ والخطب الحماسية وحضر فيه عشرات الألوف من الناس.

قدوم جمال باشا إلى حلب :

في هذا الشهر قدم إلى حلب جمال باشا وزير بحرية تركيا وقائد الجيش الرابع العثماني في عامة البلاد العربية العثمانية. فبقي في حلب يومين ثم توجه على القطار إلى دمشق.

أمر جمال باشا جلال بك والي حلب بحمل الناس على

العمل في طريق المركبات :

ولما كان جمال باشا في حلب أصدر أمره إلى جلال بك والي حلب بأن يحمل الناس طوعا أو كرها على العمل بإصلاح طريق المركبات في جهة «راجو» ليشتغلوا كعملة في طريق سكة حديد بغداد. فأرهق الوالي الناس وأزعجهم بالسفر إلى تلك الجهة حتى إن الكثيرين منهم من أيقظوه من فراشه ليلا وساقوه إلى جهة راجو دون غطاء ولا وطاء (١). فمنهم من سار مشيا على قدميه ومنهم من أمكنه أن يركب دابة وكانوا زهاء ألف إنسان.

__________________

(١) الوطاء : ما يفترش أو يوضع تحت الإنسان وغيره. (ضد الغطاء).

٤٤١

ولما وصلوا إلى راجو لم يروا فيها مأوى يأوون إليه ولا شيئا يقتاتون به ولا أداة كالمعول والمسحاة يشتغلون بها. وجدوا هناك بعض ضباط عسكريين فلما رأوا تلك الجموع مقبلة عليهم بادروهم بالسبّ والشتم وقالوا لهم : ما عندنا لكم طعام ولا مأوى ولا أدوات تشتغلون بها ، فمن شاء منكم أن يرجع إلى حلب فليرجع ومن شاء فليبق هنا حتى يموت. فعادوا إلى حلب على أسوأ حالة ، وقد عرى أكثرهم الذّرب (١) من برد الخريف ووخامة الهواء. وعدّت هذه القضية أول فلتة من فلتات جمال باشا وأول سبب موجب لنفرة القلوب منه.

وفود استقبال العلم النبوي الشريف :

في هذا الشهر (محرّم) ١٣٣٣ أوفدت كل من حكومة حلب وبيروت وطرابلس الشام وحمص وحماة ـ وغيرهما من حكومات البلاد السورية ـ وفودا إلى دمشق الشام لاستقبال العلم النبوي الشريف المحمول إليها من المدينة المنورة إيذانا بالنفير العام وإثارة لحمية الإسلام. وكنت من جملة وفد حلب مع رفقائي الآخرين وهم : مفتي حلب الشيخ محمد العبيسي ، والسادة النبلاء الشيخ محمد رضا بن الشيخ محمد وفا الرفاعي ، وعارف بك ابن عزّت بك قطار اغاسي ، وأحمد بك بن حسين باشا المدرس ، وعاكف بك بن نافع باشا الجابري وفؤاد بك بن زكي باشا المدرس وفؤاد بك بن أحمد بك العادلي.

وبعد أن وصلنا إلى دمشق الشام بقينا فيها ننتظر قدوم العلم الشريف أحد عشر يوما. ثم في ضحوة اليوم الثاني عشر من قدومنا أرسلت إلينا القيادة العليا بأن نتوجه إلى جهة «محطة القدم» لأن العلم سيحضر في ذلك الوقت. فتوجهنا إلى المحطة المذكورة وقد أعدت هناك للوفود مضارب لأجل الانتظار ، فجلسنا في الخيام ننتظر وصول القطار. وما كاد يستقر بنا المجلس حتى قدم علينا رسول من قبل جمال باشا القائد العام يطلب أحد رفقائنا مفتي حلب ، فأسرع المفتي الإجابة ، ولما قابله القائد قال له ما معناه : إن وفود البلاد كثيرة وإن إعطاء الرخصة بالخطبة لكل فرد أمر يطول شرحه ولا يسعه الوقت ، ولذا تقرر ألّا يخطب أحد حين مجيء العلم ، سوى ثلاثة فقط أحدهم خطيب الجامع الأموي والثاني

__________________

(١) الذرب : مرض يعرض للمعدة فلا تهضم الطعام ، ويفسد فيها ولا تمسكه. وعرى المرض فلانا يعريه ، وعراه يعروه أيضا : غشيه وألمّ به.

٤٤٢

واحد منكم والثالث الأستاذ الشيخ أسعد شقير ، فانتخبوا واحدا من وفدكم الحلبي يخطب بالنيابة عنكم وعن بقية وفود البلاد.

ولما عاد المفتي إلى حلقة وفدنا الحلبي أخبرنا بما أوحى إليه القائد العام ، فقال لي رفقائي بلسان واحد : قد اخترناك أن تكون أنت ذلك الخطيب. فشقّ علي هذا الأمر لأنني لم أمرن على الخطبة ، سيما في مثل ذلك الجمع العظيم الذي يضم إليه المئين من علماء سوريا وأدبائها وشعرائها ومحرري صحفها. وبينما أنا أتنصل من القيام بهذه الوظيفة إذا بصفير القطار المعلن بوصوله إلى المحطة ، فما كان إلا أن هرعت إلى جهته تلك الجموع التي لا تقل عن مئة ألف نسمة ، وبدأت العسكرية بإطلاق المدافع لتحية العلم ، وضج الناس بالتهليل والتكبير إعظاما واحتراما للعلم ، فكنت لا تسمع سوى دويّ المدافع وصدى أصوات المهللين بكلمة «الله أكبر» كأنه الرعد القاصف. وكان قد تقدم القائد العام جمال باشا ووالي ولاية دمشق نحو حافلة القطار واعتنقا العلم الشريف وسارا به نحو الموقف الذي أعد لإلقاء الخطب فتبعتهم الجموع تموج موج البحر في يوم عاصف فاختلط الناس ببعضهم وأضعت رفقائي.

وبينما أنا أبحث عنهم إذ وقع نظر أحدهم عليّ فأقبل يعدو نحوي وقال : إن خطيب دمشق على وشك الانتهاء من خطبته وإن الناس يتشوقون إليك. ثم أخذني من يدي ومشى إلى الموقف فإذا هو عبارة عن مركبتين قد وقف في إحداهما مفتي السادة الشافعية في المدينة المنورة وهو يحمل العلم الشريف ، والمركبة الثانية قد أعدت لوقوف الخطيب وقد تحلق الناس حولهما لسماع الخطب حلقا وهم يعدّون بعشرات الألوف. وما كدت أقف بضع دقائق حتى انتهى خطيب دمشق من خطبيه ونزل من المركبة ، والتفتت العيون نحوي فصعدت إليها وفؤادي يخفق هيبة وجلالا ، سيما وأنا ممن لم يعتد على الوقوف في هكذا موقف رهيب ، ولست على أهبة فيما أقوله بهذا الموضوع ؛ إذ لم يفسح لي من الزمن ما يسع تحبير ما أريد أن أقوله لأن تكليفي للخطبة كان قبل بضع دقائق. فصعدت المركبة ولما استوليت على ظهرها شعرت كأن هاتفا يهتف بي بما أحاول أن أقوله ، فحييت العلم ببعض كلمات وذكرت ما كان من تأثير المجاهدين الذين ساروا تحت ظله ، وما فتحوه من الأقطار والممالك ببركة روحانيته ، وما عانوه من الأخطار والأهوال في سبيل حفظه

٤٤٣

وصيانته. ثم أشرت إلى العلم وأنا أنشد أبياتا من هائية الأزري (١) وهي :

علم تلحظ العوالم منه

خير من حلّ أرضها وسماها

هو ظلّ الله الذي لو أوته

أهل وادي جهنم لحماها

لو أعيرت من سلسبيل نداه

كرّة النار لاستحالت مياها

ثم ختمت المقال بالثناء على حمية أهل دمشق وفرط غيرتهم الدينية وتعظيمهم الشعائر الإسلامية ، وسخائهم في سبيل خدمة الدين وإعمار مسجد دمشق الذي أعيد إلى رونقه الأول بما بذلوه من الأموال الطائلة التي تعد بعشرات الألوف من الدنانير.

وهكذا انتهيت من الخطبة ونزلت من المركبة ، وصعد على الفور إليها الأستاذ الشيخ أسعد شقير ، ففاه بخطبة مسهبة كلها درر وغرر ، أتى فيها بالعجب العجاب مما لا يباريه به مبار ولا يلحق له في حلبة البيان بغبار.

قتلى بالرصاص :

وفي صفر هذه السنة قتل رميا بالرصاص بضعة أشخاص من الجنود الفارّين من الجندية ، قتلوا في البرية القريبة من الثكنة العسكرية المعروفة بالشيخ يبرق. هذه هي أول مرة جرى فيها القتل بالرصاص بعد عهد المرحوم إبراهيم باشا المصري الذي كان يعاقب الفارين من الجندية برميهم برصاص البنادق ، وذلك حينما كان مستوليا على حلب وباقي البلاد من المملكة العثمانية في التاريخ الذي سبق بيانه في هذا الجزء.

خبر استيلاء الجيوش العثمانية على أردهان :

وفي صفر هذه السنة ورد الخبر بالبرق العثماني بأن الجنود العثمانية استولوا على مدينة «أردهان» وكان الزمان شتاء والثلوج في تلك الجهات كثيرة والبرد فارس ، وأن الجنود العثمانية قطعوا بالوصول إلى هذه المدينة مسافة طويلة كلها جبال ومضايق ؛ لأنهم تعسفوا ـ بالوصول إلى أردهان ـ الطريق المؤدية إليها توا فسلكوا من أجل ذلك المسالك

__________________

(١) هو كاظم بن محمد الأزري البغدادي ، توفي سنة ١٢١١ ه‍ / ١٧٩٦ م. اشتهر بقصيدته الهائية تلك ، وهي تزيد على ألف بيت ، ومطلعها : «لمن الشمس في قباب قباها».

٤٤٤

الصعبة ، وهلك منهم بالثلج والجوع زهاء ثلاثين ألفا ـ على رواية ـ وأربعين ألفا على رواية أخرى.

ولما وصل خبر هذا الظفر إلى حلب خرج المنادي من قبل الحكومة ينادي بلزوم عمل مظاهرة فرح ومسرة ، فاحتشد في ثاني يوم تجاه باب القلعة ألوف من الناس ومعهم الطبول والزمور ، وخرجت تلامذة المكاتب تنشد الأزجال الحماسية وتعزف بالموسيقى ، ثم سارت تلك الجموع إلى دار الحكومة ووقفوا صفوفا في ظاهرها وباطنها وألقيت عليهم خطب البشارة بهذا الفتح العظيم والتنويه بعظمة الدولة وفوزها وفشل الروس وخذلانهم. ثم بعد أيام شاع أن الروس استردوا هذه البلدة وقتلوا من الجنود العثمانيين مقتلة عظيمة.

فروغ الفحم الحجري واستعمال

الفحم النباتي وقطع أشجار من البساتين :

وفيها فرغت مدخرات الفحم الحجري الذي تتحرك بناره قطارات السكك الحديدية ، فاضطرت الجهة العسكرية أن تستعيض عنه بالحطب ، وفتح لها مورد جديد للنهب والسلب لأنها جعلت تستورد الحطب اللازم لها على طريقة التضمين المعروفة بالالتزام ، على أن يقدم الملتزم الحطب من الغابات القريبة من حلب إلى أقرب محطة إلى الغابة ، سعر كل طن كذا مبلغ ، فكان يقع في هذا الالتزام ، من السرقة والمحاباة في الوثائق ، وبدل الالتزام ما يكل عنه الوصف وقد استغنى بسببه كثير من الناس وجمع منه الضباط وأتباعهم ما لا يحصى من المال. وفيها بدأت العسكرية تقطع من بساتين حلب الأشجار التي لا تثمر كشجر الدّلب والصفصاف وغيرهما لتجعل خشبه آلة لعربات النقل وتقدم ما لا يصلح منه للآلة إلى مطابخ الجنود.

متطوعة الدراويش المولوية :

وفيها أقبل علينا من جهة قونية رهط من دراويش الطريقة المولوية ، وقد تألفت منهم كتيبة عسكرية للتطوع في جهاد أعداء الدولة.

وفود القدس :

وفيها أوفد من حلب وغيرها من البلاد العثمانية العربية وفود للقدس قصد الاستطلاع

٤٤٥

على قوة الجيوش العثمانية وحسن انتظامها.

فرع من سكة الحجاز إلى الترعة :

وفيها بوشر بمد فرع من خط سكة حديد الحجاز يمتد إلى جهة الترعة.

إنهاء جسر جرابلس :

وفيها تم إنشاء جسر جرابلس الذي طوله ثمانمائة واثنا عشر مترا ، وعرضه خمسة أمتار ونصف ، وقناطره عشرة مسافة كل قنطرة ثمانين (١) مترا وثقلها ثلاثمائة ألف كيلو. وقدرت نفقاته بثلاثمائة ألف ليرا. وهو حقيق أن يعد من المباني العجيبة.

وفيها ولي حلب بكر سامي بك وبعد أشهر انفصل عن ولايتها وعين بدله مصطفى عبد الخالق بك.

وصول الورق النقدي إلى حلب :

وفيها وصل إلى حلب الورق النقدي العثماني المعروف باسم بنكينوط استعملته هذه الدولة في هذه الحرب بدل النقود المعدنية أسوة ببقية الدول المتحاربة. وقد أقبل الناس على تداوله بأسعاره المرسومة فيه ورغبوا به أكثر من رغبتهم بالنقود الذهبية والفضية التي كانوا يستصعبون تداولها لنقصها وتشويه الصيارفة إياها بالثقب وسرقة شيء منها بواسطة الحك ووضعها بالكذاب (٢). أما الورق النقدي فهو خال عن جميع هذه العيوب ولذا أقبل الناس على استعماله فنال رواجا عظيما.

إعانة الكسوة الشتوية :

وفي شتاء هذه السنة جمعت الحكومة من الرعية إعانة نقدية باسم الكسوة الشتوية للعساكر. واستمرت تجمع هذه الإعانة في شتاء كل سنة من سني الحرب.

__________________

(١) كذا ، والصواب : «ثمانون».

(٢) الكذاب : ماء الفضة. والكلمة أعجمية الأصل ، من الدخيل.

٤٤٦

مهاجرو (١) مكة :

وفيها وصل إلى حلب جماعة من أهل مكة المكرمة مهاجرين منها فرارا من الجوع.

قانون تأجيل الديون :

وفيها نشرت الحكومة في الصحف الإخبارية قانونا سمّته قانون تأجيل الديون ، يقضي بتأخير وفاء الدين إذا كان قبل الحرب ، سواء كان الدين للمصارف والتجار أم كان لغيرهما.

تعرض إنكلترا للبصرة وتقسيم جيوش تركيا :

وفيها بدأت دولة إنكلترا بالتعرض إلى البصرة ، فاضطرت الدولة العثمانية أن تجهز لجهة العراق جيشا علاوة على باقي جيوشها في غير هذه الجهة. والخلاصة أن تركيا اضطرت في هذه الحرب أن تقسم جيوشها إلى سبع جبهات : الأولى جبهة فلسطين. الثانية جبهة جناق قلعة الثالثة جبهة العراق. الرابعة جبهة العجم. الخامسة جبهة قفقاسيا. السادسة جبهة اليمن. السابعة جبهة الحجاز. هذا كله عدا القطعات العسكرية التي بعثتها إلى جهة النمسا والبلغار لمعاونتهما على أعدائهما.

إعلان الحكومة إلغاء الامتيازات الأجنبية :

وفي هذه السنة أيضا أعلنت الحكومة في جميع ولاياتها إلغاء الامتيازات الأجنبية المعروفة باسم (كابيتولاسيون) التي كان بعض الملوك العثمانيين خصها بالأجانب ، وذلك كوجود ترجمان أو مراقب من الأجانب في محاكمة أجنبي مع عثماني في مسألة حقوقية أو جزائية ، وكعدم جواز حبس أجنبي بمحبس عثماني إذا وجب عليه الحبس ، بل يحبس في محبس قنصله ، وكعدم إكراه الأجنبي على أخذ رخصة فيما يريد تعاطيه من المهن التي تحتاج إلى أخذ رخصة من الحكومة العثمانية بحسب قوانينها ، كبيع المسكرات وفتح المعامل ، وكعدم أخذ رسوم كمركية العثمانية بحسب قوانينها ، كبيع المسكرات وفتح المعامل ، وكعدم أخذ رسوم كمركية على ما يحضره القنصل لنفسه من البلاد العثمانية خاصة بنفسه ، وكعدم منع الأجانب من إقامة بريد على حدته يحمل كتبهم وكتب من أحبّ من العثمانيين أن تحمل كتبه فيه. إلى غير ذلك من الامتيازات التي كانت كثيرا ما تقف حجرة عثرة

__________________

(١) في الأصل : «مهاجري» فصحّحناها.

٤٤٧

في سبيل تنفيذ أحكام القوانين العثمانية وتجحف بحقوق تبعتها.

ومن أراد الاطلاع على صنوف هذه الامتيازات وأسبابها وتاريخ تخصيصها بالأجانب فليراجع ما كتبه فيها وطنيّنا الحلبي الكاتب البارع جميل بك النيال في كتاب ألفه باللغة التركية سماه «حقوق الدل» يستوعب ستمائة صحيفة فرغ من تأليفه سنة ١٣٢٦.

وفود للقدس :

وفيها أوفد من حلب وغيرها وفود للقدس الشريف لحضور حفلة افتتاح الكلية التي نسبت إلى المرحوم السلطان صلاح الدين ، وللاطلاع على قوات الدولة العثمانية هناك وانتظام أحوال جيوشها.

وصول جنود الألمان إلى حلب :

وفيها بدأت جنود الألمان تصل إلى حلب ومنها إلى دمشق ، ومعهم من الأثقال والمهمات الحربية مالا يكاد يحصى ، وكانوا ينزلون في حلب في بيوت وخانات استأجروها من ذويها وعاملوا الناس معاملة حسنة ، وربح منهم التجار أرباحا طائلة وقد مدوا كثيرا من التيول (١) الناقلة للصدى المعروفة باسم التليفون ، ونصبوا أداة التلغراف اللاسلكي في برية حارة الحميدية ، وأكثروا من نقل مهماتهم ولوازمهم من الأسلحة الحربية والسيارات المعروفة باسم أوتوموبيل ، التي كان البعض منها يحدث في سيره شبه زلزلة ترتجّ له الأرض وترتجف منه الجدران ويتكسر البلاط. وكان المتأمل في جدّهم وحركاتهم وعددهم وكثرة مهماتهم لا يشك ولا يرتاب بأنهم لم يحضروا إلى هذه البلاد إلا بقصد الاستيلاء والاستعمار لا بقصد المعاونة لحكامها الأتراك على أعدائهم.

إجلاء أمة الأرمن عن أوطانهم :

قال جمال باشا في مذكراته ما خلاصته : إنه يعتقد اعتقادا جازما أن الأرمن كانوا قد دبروا ثورة من شأنها تعريض مؤخرة الجيش التركي في القوقاز لأشد الأخطار لو وقعت ،

__________________

(١) أي الأسلاك. والكلمة من عامية حلب ، مفردها «تيل» ، وسبق استعمال المؤلف للمفرد في حوادث سنة ١٢٧٨ ه‍.

٤٤٨

بل ربما أدت في ظروف خاصة إلى إبادته عن بكرة أبيه. ولذا اضطر الاتحاديون إلى نقل الشعب الأرمني بأسره إلى جهة أخرى بحيث يؤمن شره من أن يعرّضوا المملكة العثمانية للمحن والخطوب الفوادح ويجلبوا عليها الطامة الكبرى ، فيكون احتلال روسية لآسيا الصغرى بأسرها أول رزاياها.

ثم قال : أما ما وقع من الحوادث في خلال نفيهم فينبغي أن يعزى إلى الأحقاد المتغلغلة في نفوس الأتراك والأكراد والأرمن في أثناء سبعين عاما. وتبعة ذلك إنما تقع على السياسة الروسية التي حولت الشعوب الثلاثة ـ التي عاشت القرون الطويلة معا في صفاء وهناء ـ إلى أعداء ألدّاء ولا ينكر أن الفظائع التي جرت على الأرمن أثناء نفيهم في سنة ١٩١٥ م / ١٣٣٤ ه‍ قد أثارت السخط الشديد ، ولكن ما ارتكبه الأرمن في غضون ثورتهم على الأتراك والأكراد لا يقل عنها قسوة بل يفوقها فظاعة وغدرا. ثم قال : ولم يكن فرار الأتراك من ديار بكر ، من طريق حلب وأطنة إلى قونية ، ومن أرضروم وأزرنجان إلى سيواس من وجوه الروس ، والفظائع التي ارتكبها الأرمن ضدهم ، بأقل سوءا ووحشية منه.

ثم قال : فلنفرض جدلا أن الحكومة العثمانية نفت مليونا من الأرمن من ولايات الأناضول الشرقية وأن زهاء ٦٠٠ ألف منهم ماتوا أو قتلوا في الطريق أو سقطوا ضحية الجوع والتعب ، فقد قتل ما يربو على مليون ونصف من الأكراد والأتراك في ولايات طرابيزون وأرضروم ووان وبتليس ، قتلوا على صورة تقشعرّ منها الأبدان بأيدي الأرمن عندما زحف الجيش الروسي على تلك الولايات.

ثم إن جمال باشا استشهد على صحة ما قاله بتقريرين مفصلين مسهبين مقدمين من ضابطين روسيين ـ ذكر اسمهما ـ وقد أوضحا في تقريرهما حوادث الاعتداء التي ارتكبها الأرمن ضد الأهلين الأتراك في ولاية أرضروم وما جاورها ، من مبدأ نشوب الثورة إلى أن استردت الجنود التركية قلعة أرضروم في ٢٧ فبراير سنة ١٩١٨ م / ١٣٣٧ ه‍. انتهى ما قصدنا إلى إيراده من مذكرات جمال باشا.

أقول : في هذه السنة (١٣٣٣) بدأت تركيا بإجلاء الأرمن عن أوطانهم فكانت جالياتهم تصل إلى حلب زمرة تلو زمرة ، كل زمرة منها تعدّ بعشرات الألوف. وقد أثرت

٤٤٩

عليهم مشقات الطريق ولا سيما على فقرائهم الذين قطعوا المسافات الطويلة مشيا على الأقدام مدة شهرين وهم حفاة عراة ، الأرض وطاؤهم والسماء غطاؤهم ، لم يفلت منهم من مخالب الجوع والبرد إلا من قويت بنيته وأبطأت منيّته. وقد وصلوا إلى حلب كأشباح بلا أرواح ، وكان أغنياؤهم ينزلون في البيوت ، وفقراؤهم في القياصر والأزقة والشوارع حتى ملؤوا حلب وازدحمت بهم الجوادّ (١).

وكانت الحكومة تبقي منهم الجالية في حلب أياما قليلة وتفرق عليها أقراص الخبز ثم تزجيها إلى جهات حماة أو إلى نواحي الزور والجزيرة ، فيموت الكثير منهم في أثناء الطريق جوعا وعطشا وحرا وبردا وغرقا. بلاء حلّ بهم جناه سفهاؤهم على ضعفائهم. وكان عرب البادية يأخذون منهم الأيامى (٢) واليتيمات ، ويتخذون الفتيات منهن زوجات لهم ، والقاصرات خادمات وراعيات لمواشيهم ، وكل واحدة منهن تدخل إلى مضاربهم يشمونها (٣) بالزّرقة في وجهها ويديها تزيينا لها وتحسينا حسب أذواقهم. وكانت قافلة الجاليات منهم كلما خفّ منها القطين (٤) في حلب يأتي بدلها قافلة أخرى حتى ملؤوا الديار وغلت بواسطتهم الأسعار.

الجرب وحمّى القملة :

وفشا في المدينة والقرى التي مروا منها في ولاية حلب داء الجرب ، فأصيب به ألوف من الناس ، ومرض آخر سماه الأطباء حمّى القملة أو حمى التجمع وربما سموه حمى التيفويد. وكان المصاب بهذا المرض يعتريه في أوائله شبه صداع وزكام مدة ثلاثة أيام ، ثم تشتد به أعراض الحمى يوما أو يومين فيسودّ لسانه وشفتاه ويلعثم في كلامه ، ثم يسكت ليلة أو ليلتين ويموت. وكان جهة الصحية تشدد المراقبة على المصاب بهذه العلة الوبيلة ، فكانت متى أحست بوجود مريض بهذا الداء تأخذه إلى مستشفاه الخاص به فيبقى فيه إلى أن يصحّ

__________________

(١) القياصر : يراد بها هنا بيوت صغيرة من القصب والأعواد المشبكة ، وما إليها وقد يستعمل فيها الصفيح. والجوادّ : جمع جادّة.

(٢) النساء اللواتي لا أزواج لهن.

(٣) من الوشم. وفعله : وشم يشم.

(٤) أي القاطنون المقيمون.

٤٥٠

أو يموت. وقد هلك بهذه الحمى من الحلبيين عدد غير قليل. أما من مات بها من الأرمن فهم كثيرون جدا وقد بلغت الوفيات منهم في اليوم الواحد في أقصى اشتداد هذا المرض زهاء مائة وعشرين نفسا.

وما زال هذا المرض يفتك في الأرمن والحلبيين والعساكر العثمانيين وباقي الأغراب في حلب إلى السنة الرابعة من سني هذه الحرب ، وحينئذ خفت وطأته فقلّ عدد المصابين به وقلّت وفياتهم ، وكان أكثرهم يبرأ منه غير أن آثاره ما زالت باقية في حلب إلى ما بعد انتهاء الحرب. على أن الأرمن بعد أن قل عددهم في حلب مدة سنة ـ وهي السنة الثالثة من سني الحرب ـ أعادت الحكومة في السنة الرابعة إلى حلب من كان منهم في جهات حماة والزور ، فازدحمت بهم حلب مرة ثانية وقدر عددهم ـ بعد دخول الدولة العربية إلى حلب ـ بنحو ستين ألف نسمة.

وفي أثناء وجود جالياتهم في حلب كان الحلبيون على اختلاف مللهم يعطفون عليهم ولا يقصّرون بالإحسان إليهم ، وقد اتخذ من نسائهم بعض المسلمين زوجات شرعيات ، ومنهم من اتخذ منهن خادمات لم يمسّوا شرفهن ، بل بعض المسلمين استخدموا صغارهن وعنوا بتربيتهن كما يعتنون بتربية بناتهم.

غلاء البضائع الأجنبية :

وفي هذه السنة بدأت البضائع الأجنبية ترتفع أسعارها حتى ارتفع سعر البعض منها عشرة أضعاف عما كان عليه قبل هذه الحرب ، وذلك كالسكّر والقهوة ، وأنواع الحديد والقزدير ، وجميع أنواع الأقمشة والغزل ، والعقاقير الطبية والبترول والمسكرات. وكان سبب هذا الارتفاع انقطاع ورود هذه المواد من البلاد الأجنبية لوقوف الحركة التجارية في البحار. وقد تنبهت أفكار بعض التجار لهذا الأمر فاحتكروا من هذه البضائع شيئا كثيرا وباعوه أخيرا بثلاثين أو أربعين ضعفا من ثمنه الذي اشتروه به ، فكان ذلك سبب اعتنائهم. وكان حظ تجار حلب من هذه الأرباح أوفر جدا من حظوظ تجار باقي البلاد السورية وغيرها. وحكمة ذلك أن حلب كان يوجد فيها من هذه البضائع قبل هذه الحرب مالا يوجد في غيرها ، كأنها كانت لهذه البضائع مستودعا تستمد منه سوريا والأناضول.

٤٥١

تصاعد أسعار الحبوب :

وفي هذه السنة بدأت أسعار الحبوب تتصاعد في بعض الأقضية الغربية من ولاية حلب كأنطاكية وإسكندرونة وحارم ؛ لأن المواسم في تلك الجهات كانت غير جيدة في هذه السنة ، وبيع رطل الحنطة في أنطاكية باثني عشر قرشا بدل ثلاثة قروش.

حجز الغلّات :

وفيها وضعت الجهة العسكرية يدها على الغلّات في خانات حلب ومنعت أصحابها من بيعها ، فانقطع وارد الحبوب من القرى وغلت أسعارها وبدأ الفقير يحس بعضّ أنياب الجوع.

الجراد النجدي :

وفيها وصل إلى حلب بغتة نوع من الجراد لم يكن قبل معروفا في هذه البلاد ، وسماه الناس جرادا نجديا. وهو شيء كثير انتشرت جيوشه من أطراف الحجاز إلى أوائل بلاد الأناضول ، فعم ضرره بلاد دمشق وفلسطين وحلب وأذنة. وقال بعضهم : إنه وصل إلى أزمير. أتى هذا الجراد على جميع ما في حلب ونواحيها ومفاوزها من الأعناب والتين والزيتون والفواكه والقطن والسمسم والذرة وأنواع اليقطين والبطيخ ، وأضرّ الأشجار ضررا عظيما لأنه كان يأكل ورقها ثم يتبعه بأكل لحائها ، فكانت الشجرة تسقط ثمرتها ثم تجفّ وتصير حطبا.

ومن عجيب أمر هذا الجراد أنه مخالف في نشوئه وغراسه جراد بلادنا. يغرس وينقف مرة في كل شهرين غير متأثر بالشتاء ولا بالصيف ، وهو يغرس في الأرض الصلبة والمفلوحة بين الزروع ، بخلاف جراد بلادنا فإنه لا يغرس إلا بالأرض الصلبة ولا ينقف في السنة إلا مرة واحدة ، يغرس في تموز وينقف في نيسان ، ولا يأكل النباتات المرة. والجراد النجدي هذا يأكل كل نبات يمرّ به. وقد عدّت بليته هذه أول ضربة سماوية إذ لا دخل في إيجادها للحرب العامة.

٤٥٢

هدم الحكومة المنازل في جادة السّويقة :

وفيها هدمت الحكومة الأماكن والمنازل التي على جانبي الجادة الآخذة من حمام الواساني في السويقة إلى منتهاها ، تجاه الجادّة الآخذة إلى العقبة. وكان غرض الحكومة من ذلك توسيع هذه الجادة التي كانت ضيقة جدا مع أنها تعتبر من الجادات العمومية.

قدوم أنور باشا إلى حلب :

وفيها قدم إلى حلب أنور باشا ، وجرى استقباله على صفة باهرة ، وحضر لاستقباله من دمشق جمال باشا القائد العام ، وأدبت لهما بلدية حلب مأدبة فاخرة أعدتها لهما في المكتب السلطاني (١). وكان مع جمال باشا مفتي جيوشه وخطيبه المصقع الشيخ أسعد شقير ، فتليت الخطب وأنشدت القصائد وقدمت البلدية إلى كل من أنور وجمال عباءة حريرة موشاة بالقصب الفضي ، يستعمل نوع هذه العباءة نساء أكابر استانبول كالإزار ليلا. وكان تقديمهما عن يدي وقد سرّا منهما. وقدم أنور باشا للبلدية خمسين ذهبا عثمانيا وزعتها البلدية على فقراء حلب.

وفود من بلاد العرب إلى استانبول :

وفي ذي القعدة من هذه السنة ، وهي سنة ١٣٣٣ أوفدت الحكومة إلى استانبول ـ من حلب وباقي البلاد الشامية العربية ـ وفودا ليستطلعوا على حصانة مضايق الدردنيل المأخوذ تحت حصار أساطيل إنكلترا ، وليتحققوا ما تجريه الدولة العثمانية في دفع هذا الحصار من الحزم والعزم ، وما تعده من المهمات والقوات الحربية ، وليظهر عظماء الدولة وكبار موظفيها إكرام أبناء العرب وحسن التفاتهم إليهم ، نفيا لما كان شاع بواسطة سوء تدبير جمال باشا وغيره من جهلة الأتراك من أن الأتراك ينظرون إلى أبناء العرب بعين البغض والازدراء ، الأمر الذي نفّر عن الدولة قلب كل عربي. وقد دعيت لأن أكون من جملة هذا الوفد فاستقلت خوفا من مشقة الطريق. وكانت النفقة على هذه الوفود من أموال الدولة ، وكل واحد من هذه الوفود أعطي خمسين ذهبا عثمانيا.

__________________

(١) هو اليوم «ثانوية المأمون».

٤٥٣

وكانت الوفود في استانبول محل حفاوة الوزراء وأعيان الدولة وأقيمت لهم المآدب الحافلة ، ودعاهم السلطان محمد رشاد إلى مأدبته وأظهر لهم محبة العرب وحسن نيته بهم. ولم يبق محل من الأماكن التي تصنع فيها أدوات الحرب أو تنسج فيها الأقمشة إلا وعرض على أنظار الوفود ، وأشخصوا إلى جهة «جناق قلعة» ليطلعوا على حقيقة الحال ويتبينوا قوة الدولة وحصانة المواقع. وقد ألقوا هناك الخطب وشكروا القائد والجنود ووعظوهم وحثوهم على الثبات ، ونال بعض أفراد الوفود وساما وساعة ذهبية ثم عادوا إلى أوطانهم وكلهم ألسن تتلو آيات الثناء على الدولة العثمانية وحسن حفاوتها بأبناء العرب وعظيم اهتمامها في مصانع الأسلحة وشدة حزمها في حرب أساطيل الإنكليز.

أخذ العسكرية أموال التجّار :

وفيها اشتدت حملة الجهة العسكرية على التجار في حلب لأخذ البضائع منهم كالمنسوجات وغيرها ، تأخذها باسم التكاليف الحربية ، البعض منها مصادرة بلا بدل ولا عوض ، والبعض الآخر تأخذه بقيمة تعيّنها جمعية تسمى «لجنة المبايعة» وتعطي به وصلا.

هبوط أسعار الورق النقدي :

وفي آخر هذه السنة بدأت الأوراق النقدية تهبط عن قيمتها الموضوعة لها. وسبب ذلك أن إدارة الدخان المعروفة بإدارة الريجي أصبحت في يوم من الأيام معلنة باعة الدخان بأنها لا تقبل منهم ثمن الدخان إلا نقودا فضية أو ذهبية. فشاع هذا الخبر بين الناس وحصل منه الارتياب في عاقبة الورق النقدي فهبطت أسعاره عشرين في المائة. ثم لم يزل يهبط مرة ويصعد أخرى حتى هبط في آخر سني الحرب ثمانين في المائة.

تكليف موظفي الحكومة التجار تبديل الورق بالنقود :

ومما ساعد على هبوطه أيضا أن كثيرين من ولاة الأمور كانوا يكلفون التجار أن يبدلوا لهم الورق النقدي بالنقود الذهبية رأسا برأس ، وهم يعتذرون عن عملهم هذا بقولهم نحن مضطرون لذلك لأن العربان الذين نشتري منهم المواشي لا يفقهون حساب الورق ولا يقبلون أثمان مواشيهم إلا نقودا ذهبية. وهو اعتذار غير مقبول ؛ من وجهين :

الأول : إذا كان قولهم هذا صحيحا فعلى الحكومة أن تدفع للعربان أثمان مواشيهم نقودا

٤٥٤

ذهبية من مالها ؛ لأنها يوجد عندها مبالغ طائلة من هذه النقود فهي غير مضطرة إلى أن تكلّف التجار تبديل أوراقها بنقودهم الذهبية فيكون تكليفها هذا سببا لخسارتهم وخسارة نفسها ؛ لأن فعلها هذا هو الذي جعل سعر الورق في الحضيض الأسفل وخفضه إلى سدس قيمته.

الثاني : أن كثيرين من الضباط والمأمورين ـ الذين لم يوكل إليهم شراء شيء من المواشي المذكورة ـ هم الذين كانوا يكرهون التجار أيضا على تبديل الورق بالنقد ، فهم لا شك لم يفعلوا ذلك إلا لحساب جيوبهم. على أن الإنصاف والعدل يوجبان على الحكومة إذا كانت مضطرة إلى النقود الذهبية أن تبدل الورق على سعره التجاري كما كان يفعل الألمان لا على سعره الأميري المحرر عليه.

إحسان الحكومة بالحبوب على خدمة العلم :

وفي هذه السنة كثر تشكي الناس ـ الذين من جملتهم خدمة العلوم الدينية ـ من غلاء أسعار الحبوب ، فأصدر جمال باشا أمره بأن يوزع على خدمة العلوم حنطة كما وزع على أمثالهم في دمشق ، فوزع على الفقير منهم ثلاثة شنابل مجانا ، وعلى غيره مقدار مؤنته ، قيمة كل شنبل ورقة ونصف. وكانت قيمة الشنبل في خانات حلب نحو مائتي قرش نقودا ذهبية ، والورقة والنصف كانت قيمتها التجارية مائة وعشرين قرشا. فكان هذا الالتفات من جمال باشا معدودا من حسناته.

استيلاء جيوش بريطانيا على البصرة :

وفي هذه السنة تواردت الأخبار باستيلاء الجيوش البريطانية على مدينة البصرة ، وأنهم تقدموا إلى جهة بغداد يطاردون الجيوش التركية بمعاونة عربان تلك البلاد.

٤٥٥

سنة ١٣٣٤

تصاعد أسعار الحبوب :

في هذه السنة ازداد تصاعد أسعار الحبوب ، وبيع رطل الخبز بثلاثة عشر قرشا معدنية.

عقد شركة إسهام لبيع الحبوب :

ولما كان السعر آخذا بالصعود يوما فيوما ـ حتى ربما بلغ حدا يتعذر معه تدارك القوت على الفقير بل على الجهة العسكرية نفسها ـ رأى القائد العام جمال باشا أن يعمل تدبيرا يأمن بواسطته غائلة فقد القوت بسبب مطامع الزراع والمحتكرين ، فدعا إليه ـ وهو في دمشق ـ جماعة من الحلبيين تجارا ومزارعين وكلفهم أن يعقدوا فيما بينهم شركة إسهام تقوم بجمع الحبوب وحصرها عندهم وبيعها للأهلين والجيوش عن يدهم. تشتريها هذه الشركة من ذويها بأسعار محدودة من قبل جمال باشا وتدفع ثمنها لهم ورقا نقديا على سعره الأميري ، ثم تبيعها بورق نقدي كذلك بربح لا يزيد عن عشرة في المائة ، تأخذ الشركة هذا المقدار من الربح لقاء أتعابها ونفقاتها التي تصرفها في سبيل جمع الحبوب ونقلها وإحرازها وغير ذلك من النفقات.

فقبل المدعوون من جمال باشا هذا التكليف واشترطوا عليه عدة شروط : منها أن يرخّص لهم بمصادرة الحب الذي يمتنع صاحبه عن تسليمه بالسعر المحدود أو يخفيه عنهم أو يهربه منهم. ومنها أن يمدّهم بالقدر اللازم من العساكر لحفظ مستخدميهم وإرهاب من يمتنع عنهم في تسليم حبوبه. ومنها أن يعطيهم عددا كبيرا من الوثائق التي يستثنى حاملها من الجندية ليعطوا كل واحد من مستخدميهم في هذه القضية وثيقة يخلص بواسطتها من تعرض الموكول إليهم إلقاء القبض على العساكر الفراريين. ومنها أن يصدر أمره إلى جهة العسكرية بألا تتعرض إلى خانات الحبوب أو إلى أحد من المزارعين في القرى والمنازل ، بأخذ ما يوجد عندهم من الحبوب ، بل للعسكرية أن تطلب الحبوب التي تعوزها من هذه

٤٥٦

الشركة ، وعلى الشركة أن تقدم لها كفايتها مهما أعوزها. ومنها أن يسلف جمال باشا هذه الشركة مقدارا كبيرا من الورق النقدي ليستعينوا به على مهمتهم ريثما ينتظم حال الشركة وتقرر قواعدها فيما بين أعضائها. ومنها أن يكون داخلا في منطقة نفوذ هذه الشركة أربعة أقضية ، وهي قضاء جبل سمعان والباب ومنبج وإدلب. إلى غير ذلك من الشروط التي قبل جمال باشا جميعها وتعهد للمدعوّين بإنفاذها.

فعادوا المدعوون (١) من دمشق وهم فرحون ؛ لأنهم رأوا بمقتضى حسبانهم أنهم يربحون من شركتهم هذه أرباحا طائلة تعد بمئات الألوف من الليرات. ولما وصلوا إلى حلب شرعوا بتعيين المستخدمين وأعدوا مكانا في حلب يجتمعون فيه للمذاكرة في شؤون مهمتهم. فأول خلاف نجم بينهم تنازعهم على الرئاسة ، فإن كل واحد منهم يريد أن يكون هو رئيس هذه الشركة. والخلاف الثاني في تقسيم الأسهم : زيد يريد عشرة أسهم ، وخالد يريد عشرين ، وبكر يريد أربعين. وهكذا قام النزاع بينهم حتى أفضى بين اثنين منهم إلى المشاتمة والمخاصمة ، ورفعت قضيتهما إلى المحاكم ثم تداخل بعض عقلاء الشركة فصالحوهما مع بعضهما. وبعد أن مارسوا العمل بهذه الشركة أياما قليلة ونقلوا إلى بعض الخانات مقدارا من الحبوب وتزاحم الناس على شرائها بدأ يظهر لجماعة الشركة من ماجريات الأحوال أنهم عاجزون عن إتمام القيام بتعهدهم ، غير قادرين على جمع القدر اللازم من الحبوب : (١) لأن أصحابها في القرى والمزارع قد أخفوا الحبوب عن العيون بأماكن لا يمكن لمستخدمي الشركة أن يهتدوا إليها. (٢) لعدم قيام جمال باشا بتعهده الذي هو إمداده إياهم بالعدد اللازم من العساكر لأجل حماية مستخدميهم وتهديد من امتنع عن تسليم حبوبه. (٣) لقلة الجمّالين والمكارية وغلاء أجرة النقل. (٤) لعدم مساعدة حكومات الأقضية المذكورة مستخدمي الشركة على استحصال الحبوب واستخراجها من عند ذويها. بل بعض قائمي مقام هذه الأقضية كان يعاكس المستخدمين ويعارضهم بتشددهم على الزارعين. (٥) لقيام جماعة من الزراع للتشكي على بعض مستخدمي الشركة وتذمرهم من ظلمهم وقلة إنصافهم ومعاملتهم الزراع بالضرب والشتم. (٦) لأن الجهة العسكرية كانت تطالب الشركة بالقدر اللازم لها من الحبوب بكل شدة وصرامة ، غير مصغية إلى شكواها من صعوبة جمع الحبوب ونقلها. (٧) لإعطاء جماعة الشركة الوثائق التي تخلّص

__________________

(١) كذا في الأصل ، والوجه إفراد الفعل : «فعاد المدعوّون».

٤٥٧

من العسكرية بعض أفراد من أقربائهم وأنسبائهم دون أن يباشروا عملا من أعمال الشركة بل لمجرد تملّصهم من العسكرية وقد باعوا منها عددا كبيرا لجماعة من التجار بقيمة وافرة ليتملص آخذها من العسكرية ليس إلّا.

والخلاصة أن هذه الشركة لم تلبث غير قليل حتى ظهر للعسكرية والحكومة عجزها عن القيام بما تعهدت به ، فأهملتا جانبها وشرعت العسكرية تجمع اللازم لها من الحبوب تارة بواسطة الحكومة وأخرى تباشر جمعها بنفسها. وبسبب ذلك انقطع جلب الحبوب إلى الخانات وتصاعدت أسعارها ، لأنه كان متى حضر إلى خان من الخانات حبّ وضعت العسكرية يدها عليه وصادرته أو دفعت قيمته ورقا بالسعر الذي تحدده هي ، فلا يبلغ ربع قيمته الحقيقية. وبعد أن مضى على هذا العمل بضعة أشهر اضطر أصحاب خانات الحبوب إلى إغلاقها وقلّت الأقوات وصارت الحبوب تباع بين البيوت أو خارج البلدة سرا بأسعار باهظة يضطر صاحب العيال إلى أن يشتريها بتلك الأسعار إذ لا يوجد من يبيعه مؤنته بأقل منها.

فك الحصار عن الدردنيل :

وفي خامس يوم من ربيع الأول ـ من هذه السنة ـ الموافق عاشر شباط سنة ١٩١٥ م أقلعت أساطيل الإنكليز عن حصار الدردنيل ، فقامت الأفراح والمسرات في البلاد العثمانية وعدّ الإقلاع عنها فوزا عظيما للعثمانيين.

قدوم أنور باشا إلى حلب وتعليق الستار على المرقد الشريف :

وفيها حضر إلى حلب أنور باشا من استانبول ، وحضر جمال باشا من دمشق لاستقباله ، ونزل أنور باشا إلى الجامع الكبير وعلّق بيده على حجرة الضريح ستارا مزركشا نفيسا.

توزيع البذر والنقود على الزراع :

وفيها وزعت الحكومة على المزارعين حبا للبذر لأن أكثر حبوبهم قد أخذته العسكرية باسم المبايعة ، فأصبح الكثيرون منهم لا يوجد عنده شيء من الحب يقتات به فضلا عما

٤٥٨

يحتاج إليه حقله من البذر ، ووزّعت على محاويج الزراع شيئا من النقود ليشتروا به دوابا (١) ، لأن العسكرية أخذت دوابهم باسم المبايعة أيضا ، ولم تبق لهم منها غير الضعيف الذي لا يصلح للعمل ، على أن ما وزعته (٢) عليهم من الحبوب والنقود تستوفيه منهم في الموسم التالي.

مكتب المعلمات :

وفيها اشترت العسكرية دار البلدية الكائنة في الجميلية ، التي كانت معدّة لسكنى الولاة ، وجعلتها مكتبا للمعلمات سمته «مكتب سليمان الحلبي» تنويها بذكر هذا الرجل الذي كان خلاص مصر وعودها إلى الدولة العثمانية بواسطته على ما حكيناه في ترجمته. وكان الساعي بإيجاد هذا المكتب جمال باشا ، والمساعد له في الحصول عليه والي حلب مصطفى عبد الخالق بك. وقد قال لجمال باشا : إن هذه الدار عظيمة كثيرة الغرف والمقاصير التي تزيد على حاجة الولاة ، فيبقي الزائد منها فارغا غير منتفع به ، وإن كثيرا من الولاة القليلي الإنصاف يستأجرونها من البلدية بخمس أجرتها بحيث لا يفي ما يدفعونه منها بما تنفقه البلدية على فرشها ومرمتها. وكانت قيمة الدار التي دفعتها الجهة العسكرية للبلدية نحو سبعة آلاف ورقة نقدية عنها نحو ٣٥٠ ألف قرش ؛ القرش جزء من الذهب العثماني المقدر ب ١٢٧ جزءا. ولما كانت هذه القيمة دون قيمتها الحقيقية فقد تنازلت الجهة العسكرية للبلدية ـ علاوة على تلك القيمة ـ عن عرصة المقبرة الصغيرة الكائنة في جنوبي بستان إبراهيم آغا. وكان جمال باشا أمر بإبطالها ونسف ما فيها من القبور فعادت قاعا صفصفا.

تشدد العسكرية بالوثائق :

فيها تشددت الجهة العسكرية في قضية الوثائق التي تخلّص حاملها من التجند ، فأمرت كل من كان معه وثيقة بأن يصور شخصه صورتين ، تلصق إحداهما على الوثيقة التي يحملها وتلصق الأخرى تحت اسمه في سجل الوثائق. وسبب هذا التشدد اطّلاع الجهة العسكرية

__________________

(١) الصواب «دوابّ» وهو اسم ممنوع من التنوين.

(٢) في الأصل : «ما وزعتهم» والسياق يقتضي ما صححناه.

٤٥٩

على عدة وثائق مزورة اخترعها بعض الناس وباعها من المكلفين للجندية للتخلص منها. وقد ظفرت العسكرية ببعض مزوري تلك الوثائق فنكلت به وصادرت ما كان عنده من الأموال وزجته في أعماق السجن.

استيلاء الجيوش البريطانية على قود الإمارة :

وفيها استولت الجيوش البريطانية على قود الإمارة بين البصرة وبغداد واضطر قائد الجيوش التركية إلى الانتحار بعد أن أصيب بجراحات خطيرة. ثم أمدت الجيوش التركية واستردت البلدة المذكورة وأسرت قائدا كبيرا من قواد الإنكليز يقال له (طاوسند). ثم دارت الدائرة على الجيوش التركية فكسروا وعادت البلدة إلى استيلاء الجيش البريطاني.

إسعاف الفقراء بالحبوب والخبز :

وفيها كثرت شكوى الفقراء من قلة الخبز والحب وغلاء أسعارهما. فأصغى والي حلب مصطفى عبد الخالق بك إلى شكواهم واهتم بتخفيف ويلاتهم فاشترى من الجهة العسكرية مقدارا عظيما من الحب ودفع لها ثمنه من أموال صندوق البلدية وسلّم البلدية حوالات بتلك الحبوب على الجهة العسكرية ، فاستلمت البلدية الحب شيئا فشيئا وأودعته في أهراء (١) خاصة. ثم أخذت من كل محلة من محلات حلب دفترا حرر فيه أسماء المعوزين منها ، كل أسرة على حدتها ، وأعطت رئيس الأسرة وثيقة بمقدار محدود من الحب وأخذت منه قيمته ورقا نقديا على معدل السعر المقطوع ، وأحالته على أمين الأهراء التي أودع فيها الحب ليأخذ قسطه منه ، واستثنت من أهل المحلات من كان عسكريا أو مستخدما فلم تعطهما وثيقة ، لأنهما يأخذان ما يلزمهما من الحبوب وغيرها من جهة دائرته الرسمية.

وصارت البلدية تأخذ كل يوم مقدارا من هذا الحب وتطحنه وتفرقه على الأفران لتبيعه خبزا لفقراء المحلات الداخلة في منطقتها بالسعر المقطوع ، وهو سبعة قروش ورقا نقديا عن كل رطل عنها ٤ قروش معدنية تقريبا. استمر هذا العمل مدة خمسة أشهر ، ثم نفد الحب الذي ادّخرته البلدية وامتنعت العسكرية عن بيعه لها ، فانقطع بيع البلدية الحب والخبز وعاد الحال إلى شدته الأولى وصعد سعر شنبل الحب إلى ثلاثمائة قرش ذهبا.

__________________

(١) الأهراء : مفردها «الهري» وهو بيت كبير يجمع فيه القمح ونحوه.

٤٦٠