نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

إذا كان زيد إمام المسلمين طوى وأخرج من الكتب الشرعية بعض المسائل المهمة الدينية ، ومنع الكتب المذكورة وخرق حرمتها وأحرقها ، وتصرّف في بيت المال بالتبذير والإسراف بغير مسوّغ شرعي ، وقتل وحبس وغرّب الرعية بلا سبب شرعي واعتاد جميع المظالم ، ثم حلف اليمين على الرجوع إلى الصلاح وعاهد على ذلك ، ثم حنث بيمينه وأصرّ على إثارة فتنة عظيمة وإيقاع قتال يجعل به أمور المسلمين مختلّة اختلالا كليا ، ثم وردت الأخبار متوالية من جهات متعددة من بلاد المسلمين يقولون بها إن زيدا المزبور (١) تغلب على منصة المسلمين وإنهم لذلك يعتبرونه مخلوعا ، ثم لوحظ أن في إبقائه ضررا محققا وفي إزالته صلاحا ؛ فهل يجب على أرباب الحل والعقد تكليفه أن يتنازل عن الإمامة والسلطنة أو يخلع منهما ، وهل لهم ترجيح إحدى الصورتين؟

الجواب : نعم.

كتبه الفقير السيد محمد ضياء الدين

عفي عنه

ذكر شيء من سيرة هذا السلطان

خصصت هذا السلطان بذكر شيء من سيرته لغرابة أحواله ولأنه كان من أجلّ ملوك زمانه وأعظمهم دهاء وأعلاهم كعبا في فنون السياسة ، ولأنه آخر سلطان عثماني يستحق أن يسطر له شيء من سيرته في صفحات التاريخ ، ولأنه كان حصنا حصينا لدولة بني عثمان مدة سلطنته ، فلما خلع أخذت صنوف البلاء تنصب على هذه الدولة يوما بعد يوم حتى تدهورت إلى الدرك الأسفل وكادت تمحى سطورها من صحائف الوجود.

كم سنة بقي سلطانا :

كان جلوسه على عرش الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية مدة اثنتين وثلاثين سنة وسبعة أشهر وسبعة وعشرين يوما وست عشرة ساعة وخمسا وأربعين دقيقة.

قبض هذا السلطان على رقبة ذلك الملك العظيم بيد من حديد طول هذه المدة ، ولم

__________________

(١) أي المذكور ، أو المكتوب اسمه في صدر هذه الفتوى.

٣٨١

يضع منه سوى النزر اليسير الذي ربما كان هو المتساهل بحفظه ليكون فداء عن باقي دولته وليتمكن من التنكيل بأعدائه وإبادتهم.

إن بقاءه سلطانا وسلامة ملكه من أيدي الأغيار تلك المدة ـ مع فقر خزائن الدولة وخلّو مدخراتها من السلاح وبحارها من الأساطيل ـ لما يدهش له الإنسان ويأخذه منه العجب كل مأخذ. غير أنه إذا أمعن النظر بالأسلوب الذي كان يسير عليه في سياسة الأمة وإدارة الملك لا يلبث أن يزول عنه العجب ويقنع بأن ذلك الأسلوب حقيق أن ينتج عنه تلك النتيجة.

كيف كانت سيرته في رعيّته :

كانت الطبقة الدنيا والوسطى من الرعية على اختلاف عناصرها تخافه وتحبه :

تخافه لقوة بطشه وعظيم دهائه وتمكنه من الاطلاع على أحوال رعاياه ، فإنه كان لا تخفى عليه خافية من أحوالهم وكل ذي شخصية بارزة في ممالكه معروف عنده واقف تمام الوقوف على ما هو عليه من المحاسن والمساوئ.

وتحبه رعاياه لأنه كان لا يحب أن يبهظهم بالضرائب ، فكان الرخاء في أيامه شاملا والرعية راتعة في بحبوحة التنعم والرفاهية ، وكان عظيم العناية بكل ما يرضي رعاياه لا سيما البسطاء منهم ، غير متوان عن الإتيان بكل ما ينطبق على رغائبهم ، خصوصا بما كان له علاقة بالدين كخدمة شعائره وإعمار المعابد ، فقد عمر في أيامه ما يعسر على القلم إحصاؤه من المساجد والجوامع والمدارس الدينية والزوايا والتكايا وأضرحة الأولياء والصالحين. وكان من أجل آثاره وأكبر حسناته ـ وأقواها اجتذابا لقلوب المسلمين عامة وقلوب رعيته خاصة ـ سكة الحديد الحجازية فإنه هو وحده الساعي بإنشائها وبسعيه المشكور تم أمرها. وكان لا يقصر بإنقاذ المستغيثين به من مخالب الظلم ما لم يكن الظالم من مردته وأتباعه.

عدم سماحه عمن يمسّ شخصه وسلطانه ،

وكيف كان يعاقب المسيء إليه بالنفي وغيره من العقوبات :

وهو لا يؤاخذ أحدا على إطلاق لسانه بالظلمة والمستبدين من مستخدمي الحكومة

٣٨٢

أو متنفذي الرعية ، فقد كان الإنسان في أيامه يطلق لسانه بما شاء وبمن شاء لا بأس عليه بذلك ، إلا أن يتكلم بما يمس سلطانه فإنه لا يسامحه بأقل كلمة سوء تصدر منه في حقه فيعاجله بالنفي عن وطنه ، لكن مع تعيين راتب شهري له يقوم بتمام كفايته حسب مقامه. وهذه العقوبة جعلها مختصة بمن يتجرأ عليه بقول أو عمل يشتمّ منه رائحة المساس بشخصه أو سلطانه ولو من مسافة بعيدة. على أن العقوبة بالنفي على هذه الصفة كانت تعدّ من أهون العقوبات وأخفها عبئا على من يستحقها.

سألت الفريق عابد باشا ـ أحد كبار المنفيين إلى حلب ـ عن سبب نفيه فقال :حدثت في استانبول هزة أرض لم ينجم عنها ضرر ، فقلت لجماعة من أصحابي وأترابي : «بظلّ ملجأ الخلافة لم يحصل من هذه الهزة خطر». قلت ذلك بلسان تهكم وسخرية ، أعني بهما المتملقين من اللائذين بقصر يلديز وكتبة الجرائد الذين يأتون بهذه العبارة في مقدمة كل مقال ينمقونه بالإخبار عن كل حادث ، طبيعيا كان أم مفتعلا. مثلا يقولون : بظلّ ملاذ الخلافة وقع في حلب مطر غزير ، وبظلّ حامي حمى الخلافة بني في دمشق مكتب للإناث ، وبظلّ السلطان الأعظم كانت هذه السنة ذات فيض وبركة. قال عابدين (١) باشا : فاتصلت كلمتي تلك بسمع السلطان بواسطة أحد جلسائي الذين قلتها بحضورهم ، مع أنني لم أفه بها إلا وأنا معتقد أنهم جميعا من خواص أصحابي وأترابي ولم يخطر لي على بال قط أن بينهم متجسّسا لعبد الحميد.

وحكى لنا عزيز بك ـ وهو من كبار المنفيين أيضا ـ أن سبب نفيه (٢) أنه كان أمّ السلطان مرادا بصلاة التراويح. وحكى لي عثمان بك أحد المبعدين إلى حلب ـ وهو ممن غلب عليه البله ، وكان يعاني في استانبول مهنة الحلاقة ـ أن السلطان عبد الحميد نفاه لأنه كان يبري الأقلام للسلطان رشاد وكان عثمان بك حسن الخط.

هكذا كان السلطان عبد الحميد يعاقب بالنفي على أدنى كلمة وأقل حركة يرى بها مساسا لشخصه أو سلطنته ولو توهما وتظنيا.

أما عقوبته بالتغريق أو الاغتيال أو الحبس فقد جعلها نصيب من يتوهم منه صدور

__________________

(١) كذا ورد اسمه هنا : «عابدين». وسبق في أول هذه الفقرة باسم «عابد».

(٢) يعني في أيام سلطنة عبد الحميد.

٣٨٣

شيء له مغزى سياسي يقصد به خلعه أو اغتياله. مثلا أطلق مسدسه الذي يصحبه دائما على إحدى حظياته فأرداها في الحال ، وذلك لأنها دخلت عليه دون استئذان منه ، فأطلق عليها عياره قبل أن تفوه بكلمة متوهما أنها أتت لاغتياله ، وكم مرة أمر بتغريق إنسان لمجرد ما أخبر به عنه جواسيسه من أنه أثنى على مدحت باشا ورحّم عليه (١) ، أو لمجرد ما بلغه عنه أنه مرّ من قدام قصر السجين السلطان مراد ، أو قصر السجين الآخر محمد رشاد.

استخدامه الرجال في مآربه وكيفية سياسته معهم :

كان من جملة المؤيدات لبقائه على كرسي السلطنة ـ طيلة هذه المدة ـ استعماله سياسة التفريق ، وذلك أنه حشد حوله أشخاصا لهم ظهور في أقوامهم من كل ملة تستظل بالراية العثمانية ، اختار من كل إقليم منها رجلا فأدناهم من حضرته وطفق ينهال عليهم بالعطايا الجزيلة والمرتبات الشهرية والرتب السنية والأوسمة العلية ، فملك أفئدتهم وأدهش عقولهم وكمّ أفواههم عن إظهار مساويه ، وأطلق ألسنتهم بحمده وشكره وإذاعة محاسنه يملؤون بذلك صفحات المؤلفات وأعمدة صحف الأخبار. وكل واحد منهم يرى من قدس واجباته استمالة قلوب أهل إقليمه إلى محبة هذا السلطان والإخلاص بولائه ، قد أرصد نفسه لأجل إقليمه وناحيته ونصبها لهم كالباب المفتوح يتوصلون بواسطته إلى السلطان لقضاء أوطارهم التي هي طلب المعاش أو الرتب أو الأوسمة أو الإنقاذ من الظلم أو إحقاق الحق أو إبطال الباطل أو عكس ذلك. ولا تسل عما كان يتسرب إلى هذا الباب من الأموال والتحف والطرف التي يعجز اليراع عن إحصائها.

وكان عبد الحميد سيّىء الظن حازما محترزا ، يخشى من أن يجرّ البطر وسعة النعمة أولئك الرجال إلى الانقلاب عليه ، وأن تدعوهم الضمائر الحرة إلى التبرم من جبروته ، ويتفقوا على إظهار حقيقته أو على الأقل أن يخفوا عنه ما يجري حوله من مناوئيه ، وما يدبره له أعداؤه ورقباؤه من أسباب البوار والدمار كما دبروا لعمّه السلطان عبد العزيز خان. فكان السلطان ـ دفعا لهذه الاحتمالات ـ يستعمل مع الرجال المشار إليهم سياسة التفريق ، فلا يغفل في كل حين وآخر عن إلقاء الشحناء والبغضاء بينهم. وطريقته في ذلك

__________________

(١) أي طلب له الرحمة.

٣٨٤

أنه كان يلتفت إلى زيد من أهل الإقليم الفلاني مدة فينهال عليه بالعطايا والرتب والأوسمة وقضاء المآرب ، وفي الوقت نفسه يلفت نظره عن عمرو ـ الذي هو من ذلك الإقليم ـ فيهجره ويبقيه مطروحا في زوايا الإهمال والنسيان ، فيستوحش عمرو من هذا الإهمال وينكسر قلبه وتدبّ في فؤاده نار الحسد لزيد ، ويرى أن هذا الأنكيس (١) لم يأته إلا من قبل زيد ، وأنه لا يعود التفات السلطان إليه إلّا بتنكيس أعلام خصمه زيد وسبقه عليه بنقل الأخبار إلى السلطان وإعلامه بما يجري حوله من الأمور والأحوال التي تمس شخصه وسلطنته ، ويكون زيد قد انتبه إلى مكايد عمرو واجتهاده بالتقرب إلى السلطان وإبعاد خصمه عنه ، فيقابل عمرا بمثل عمله فيقع بينهما التحاسد والتنافس. والسلطان أذن صاغية لكل واحد منهما ، يبقى على ذلك مدة من الزمن إلى أن يستوفي ما في وطاب (٢) المتجاولين ويستفرغ ما حواه جرابهما فينقلب على زيد ويقبل على عمرو ، ويعود بينهما الدرس الأول. وهلم جرا.

بهذه السياسة المدهشة كانت ولايات البلقان منقادة إلى طاعة هذا السلطان في كل هذه المدة ، رغما عما أظلته سماؤها من تعدد العناصر واختلاف الملل. ومثلها الولايات العربية.

استخدامه صحف الأخبار الأجنبية في مآربه :

وكان يدرّ إنعاماته الوافرة على أصحاب الجرائد الأجنبية الممتازة فتذكر محاسنه وتغضّ الطرف عن مساويه وتنوّه بعظمته وقوة دهائه ، وتجسّم خطورة مناوأته في مخيلات عظماء الرجال من الدول الأجنبية اللواتي لهن مستعمرات إسلامية ، بما كانت تبثّه في تضاعيف عباراتها من الكلمات التي مفهومها أن عامة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يدينون بمحبة السلطان عبد الحميد وولائه ، وأنهم على اختلاف أجناسهم وعناصرهم منقادون لسلطانه الروحي عليهم ، وأن أدنى إشارة منه إليهم تثير فيهم الحمية الدينية فيهبون لقيام عام يزحزح أركان السلام ويقلب الأرض ظهرا لبطن.

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولعلها : «التنكيس» كما سترد بعيد ذلك.

(٢) الوطاب : جمع وطب وهو وعاء اللبن. وجاءت في كلام المؤلف على المجاز ، أي لم يبق هناك شيء جديد يريد السلطان معرفته.

٣٨٥

رغبته بالمستخدم المبتلى بهوس ما ، وعدم رغبته بالمستخدم المتنفذ :

ومن غرائب السنن التي كان يسير عليها في استخدام بعض الموظفين أنه كان يسرّ جدا من المستخدم إذا كان ممحونا بمحنة متمكنة منه تضطره مباشرتها إلى استغراق وقته وتجعله غير مكترث ولا عان بأن يشتغل بغيرها من الأمور السياسية أو بالبحث عن أحوال السلطان وغيره. وعليه فإن المستخدم المحبوب عنده هو المصاب بهوس المقامرة ، والميل إلى الأحداث أو بنات الهوى أو بنت المدام ، أو بغير ذلك من المحن والشوائب. ذلك المستخدم الذي يتمسك به ولا يسمع فيه شكوى شاك وكأن لسان حاله يقول :

أذني لحبيبي صاغية

صمّت عند الواشي السّمج

حكاية عن مستخدم من هذا القبيل :

حكى لنا زين العابدين بك مكتوبي الولاية سنة (١٣٢٨) حكاية فحواها من هذا القبيل فقال : كنت مكتوبيا في إحدى ولايات البلقان ، وكان واليها ممتحنا بوجع الظهر منهمكا بالرشوة ، فكثرت عليه الشكايات فلم يعرها السلطان أذنا. ثم إن أحد الدهاة العارفين بالطرق التي تثير حفيظة السلطان دسّ في شكاية عليه كلمة مؤداها أن الوالي يجتمع عنده نفر من شبان «جون ترك» ويتفاوضون بأمور تمس حضرة ملجأ الخلافة. قال زين العابدين : وحينئذ أصغى السلطان إلى هذه الشكوى وسرعان ما أصدر إرادته السنية بإحضاري إلى استانبول لأسأل عن حقيقة هذا الوالي. فشخصت في الحال إلى استانبول وحضرت توا إلى «المابين» (١) ولما أعلم السلطان بحضوري أمر رئيس كتّابه أن يستقصي مني أحوال الوالي ، وقد وقف السلطان من وراء الحجاب يسمع كلامي. فقال لي رئيس الكتاب : أصحيح أن والي ولايتكم يجتمع عنده نفر من شبان «جون ترك» ويتفاوضون بمسائل السياسة؟ فأجبته على الفور : إن هذا الرجل ممحون بوجع الظهر ، وبالكاد (٢) أن يتسع له الوقت لأجل استيعاب اشتغاله بمداواة محنته ، وإن الشبان الذين يجتمعون عنده ليسوا سوى الشبان الذين يطيّبون مرضه.

__________________

(١) الجناح الإداري الملحق بقصر السلطان ... وسبق شرحه.

(٢) من ألفاظ العامة التي سرت إلى أقلام المنشئين. والصواب أن يقال : «ولا يكاد» أو ما بمعناها.

٣٨٦

قال زين العابدين : فسمعت قهقهة السلطان من وراء الحجاب ، ثم خرجت من «المابين» وقد تبعني رئيس الكتاب يقول لي : إن ولي النعم قد سرّ من كلامك وأمر لك بمائة ذهب. وفي المساء اجتمعت مع ناظر الداخلية وحكيت له ما جرى ، فقال :إنك مدحت الوالي وثبتّه بوظيفته من حيث لا تدري. فقلت له : وكيف كان ذلك؟ قال : أو ما قذفته بوجع الظهر؟ قلت : بلى ، أو لم يكن هذا المرض موجبا لعزله؟ قال :بل هذا المرض هو الذي جعل السلطان يتمسك به ويثبته في وظيفته لأنه ـ كما قلت ـ يعوقه عن الاشتغال بغيره من أمور السياسة والبحث عن أحوال السلطان. قال زين العابدين : وكان الأمر كما ذكر ناظر الداخلية ، فإن السلطان قد أبقى الوالي بولايته ولم يصغ فيه إلى واش أو رقيب.

أما عدم رغبة السلطان بالمستخدم القوي فلأنه يخشى منه استعمال نفوذه بما يمس سلطنته فيجري عليه ما جرى على عمه السلطان عبد العزيز من وزيره مدحت باشا. ومما يحكى عن السلطان في هذا الصدد أنه هو الذي اقترح على غليوم إيمبراطور ألمانيا التخلص من داهية السياسة بسمارك المشهور ، وذلك أن الإيمبراطور غليوم لما زار استانبول في المرة الأولى تحدث مع السلطان عبد الحميد عن نفوذ بسمارك في أوربا فقال له السلطان : أنا لا أحب أن يكون خادمي قوي النفوذ كهذا ، أترغب جلالتكم أن ترى كيف أعامل خدمي؟ فقال غليوم : نعم. وحينئذ لمس السلطان الجرس المنبّه. ولما دخل الحاجب قال له : ادع كاملا (وكان كامل يومئذ صدرا أعظم) فأرسل الحاجب الخيّالة يبحثون عن كامل باشا فأحضروه ، ولما دخل إلى المثول بين يدي السلطانين وقف مطرقا برأسه إلى الأرض مكتوف اليدين كأنه واقف في صفوف المصلين ، فلم يلتفت إليه السلطان. وبعد برهة من الزمن قال له : لا لزوم للانتظار فالمسألة بسيطة. فسلّم الصدر سلام الخلافة وذهب ماشيا القهقرى حتى غاب عن نظر العاهلين. وقد انتبه الإيمبراطور غليوم إلى ما كان يراه من وزيره بسمارك من التوسع في الحرية حين مقابلته ومحادثته ، فعزله عن وظيفته وحرم منه ذلك الدهاء الذي كان سياجا لسلطانه وملكه.

كان السلطان عبد الحميد لا تخفى عليه خافية من أحوال رجال «المابين» ومن هولائذ بقصر يلديز ، فقد كان يعلم كل العلم أحوال كل واحد منهم على حدته ، ويدري ما انطوت

٣٨٧

عليه سريرته من الخير والشر فكان لا يهمه من مكروه أوصافهم شيء ما دام أحدهم صادقا في خدمته مخلصا بولائه.

استكثاره من الجواسيس :

أكثر هذا السلطان من استخدام الجواسيس المعروفين بالخفية وجاد عليهم بالعطايا والمرتبات الوافرة ، وبثّهم في جميع دوائر الحكومة وأزقة استانبول وخاناتها وفنادقها وجوامعها ومدارسها. وهم على هيئات مختلفة وأزياء شتى : ما بين كاتب وخادم ومتسول ودرويش وكسيح وسائح وأبكم وأعمى. ولم يكتف ببثّهم في دوائر الحكومة بل أقام منهم العدد الكبير في نفس بيوت المستخدمين مصطبغين بصبغة الخدم والحشم. بل بعض منازل المستخدمين كان لا يخلو من متجسس على المستخدم من أهله وذوي قرابته حتى صار الإنسان يحترز من زوجته وابنه وأخيه وهو في بيته فلا يجسر أن يفوه بأقل كلمة تمس حضرة السلطان لا سرا ولا علنا.

لم يرخص قط بدخول التلفون (الهاتف) إلى استانبول ، ولا أن تستخدم فيها الكهرباء بجميع وظائفها منعا لسهولة التخابر بين مناوئيه ومعارضيه.

كراهيته الجمعيات ، ومنعه استعمال

بعض الألفاظ ، وتضييقه على المؤلفات وصحف الأخبار :

ومن غرائب الأمور التي تذرّع بها للحيطة على نفسه وسلطنته : كراهيته الجمعيات حتى اجتماع الأصحاب مع بعضهم للمسامرة والمؤانسة. وكان المجتمعون يحذّر بعضهم بعضا خشية أن يكون بينهم من يتجسس للسلطان والأغراب من هذا أنه منع استعمال الكلمات الآتية الذكر تلفظا وكتابة وهي : (كلمة جمعية ، وخان ، وخونة ، وعزل ، وخلع) ، وما تصرف من هذه الكلمات ، (ومراد ، ورشاد ، ويلديز) ، وغير ذلك من الألفاظ التي مفهومها التحزب والاجتماع والعزل والخلع ، حتى إن هذه الكلمات هجرت (١) استعمالها في أيامه الصحف الإخبارية ، والصكوك الشرعية ، والنظامية ، والمؤلفات العلمية ، فلا يجوز لكاتب أن يأتي بكلمة : «جمعية» ، ولا لقاض ، أن يقول

__________________

(١) كذا في الأصل ، والصواب : «هجر» بلا تاء.

٣٨٨

في صكوكه : خالعت فلانة زوجها فلانا ، ولا أن يقول في متولّ : عزل لأجل خيانة.

وكان شياطينه يتعقبون له هكذا ألفاظ ، حتى في كتب الدين ، وقد أمر مرة بأن يطبع كتاب صحيح مسلم ، طبعا متقنا ، فنفذ أمره ، وبعد أن تم طبع الكتاب ، أخبره بعض شياطينه بوجود حديث الإمامة فيه ، وهو «الأئمّة من قريش» فأمر في الحال ، بجمع نسخه ، وإحراقها ، وأن يعاد طبعه بعد حذف هذا الحديث منه (١). وهذا هو المراد من قول شيخ الإسلام في الفتوى السابقة الذكر : «وأخرج من الكتب الشرعية بعض المسائل المهمّة» إلى آخره. وكان يبعثر أموال الدولة ويصرفها على كبار جواسيسه ، وإعمار القصور في بلاطه المعروف باسم «يلديز» ، الذي لا يجسر أحد أن يلفظ به ، حتى ولا بكلمة «نجم» التي هي ترجمته ، ولا بكلمة «مراد» ، ومن كان مسمّى بهذا الاسم ، فعليه أن يمسخه ويحرّفه حين يلفظ به ـ أو حين يكتبه ـ إلى «مرات». وأغرب من هذا ، أن البقل المسمى بالحرف ، المعروف عند الحلبيين بالرشاد ، قد طووا اسمه المشهور عندهم ، وصاروا يشيرون إليه بقولهم : «أخو المقدونس».

واتفق لي مرة ـ حينما كنت رئيس كتاب المحكمة الشرعية ـ أني أعطيت حجة شرعية في مخالعة جرت بين رجل وزوجته ، فأرسل الرجل الحجة إلى المشيخة الإسلامية لأجل التدقيق فلم أشعر إلا والحجة قد أعيدت إليّ ومعها كتاب من شيخ الإسلام يقول فيه ما معناه : يعمل بمضمون هذه الحجة بعد إجراء بعض الإصلاح عليها. فأخذت الحجة وقرأتها بكل تدقيق وإمعان فلم يظهر لي فيها خلل من جهة ما فحرت في أمري ثم عدت إلى تصفحها وبذلت جهد المستطيع بتدقيقها ، إذ بصرت بعض الكلمات منها قد سحب فوقها خط بالحمرة ضئيل جدا ربما كان أدق من الشعرة فعلمت حينئذ أن المراد من الخلل هو وجود تلك الكلمات فإذا هي كلمة : «خلعت ، وخلعها ، ومخالعة» ، وباقي ما يتفرع عن هذه الكلمة. فاضطررت آنئذ أن أعيد كتابة الحجة من جديد مع قيدها في السجل وأستبدل لفظة «المخالعة» ، وما تصرف منها ، بكلمة «المبارأة» ، وما تصرف منها.

__________________

(١) يبدو أن المؤلف تعجّل في هذا الخبر بلا تثبت. فالحق أن حديث الإمامة المذكور ، لم يروه مسلم أصلا في صحيحه ، ولا البخاري أيضا ؛ بل رواه كل من ابن حنبل ، والنسائي ، والضياء المقدسي. وهو صدر حديث طويل. ولتتمّته رواية أخرى عند الحاكم ، والبيهقي. انظر كشف الخفاء للعجلوني ١ / ٣١٨ والفتح الكبير للنبهاني ١ / ٥٠٤.

٣٨٩

كان محررو الجرائد من جراء هذا التدقيق المشين يتكبدون عرق القربة بتحرير صحفهم ، إذ على المحرر منهم ـ بعد تحرير صحيفته وطبعها ـ أن يقدم أول نسخة منها إلى المراقب (السنسور) المعيّن ، فمتى وجد فيها كلمة من الكلم التي سبق بيانها أو وجد فيها عبارة تشفّ ـ ولو من وراء ألف ألف حجاب ـ عن غمز أو لمز يقصد بهما السلطان ، فإن حضرة (السنسور) لا يحجم لحظة واحدة عن تشذيب المقالة وضربها بقلمه القاسي ضربة تقضي على حياتها مهما كان موضوعها أديبا بديعا ، وحينئذ يذهب تعب ذلك المحرر أدراج الرياح ، ويضطر إلى تحضير مقالة بدلها ليملأ بها من جريدته ما حدث فيها من الفراغ. وبعد أن يطبعها أيضا يرفعها إلى حضرة المراقب فربما ضربها ضربة ثانية بذلك القلم الشبيه بمعول يهدم معاهد العلم وصروح الأدب ، محتجا على محررها ولو بكلمة فيها حروف لفظة «عزل» مثلا كأن يقول : عزال ، عزاليك ، أو عزرائيل. ولا تسل حينئذ عن حال ذلك المحرر المنكود الحظ الذي قد يشتغل أسبوعا تاما بتحرير مقالة يرضي بها المراقب ، وينفي فيها الشبهة الموهومة عن نفسه.

وكان المؤلفون الذين يصرفون من أعمارهم الثمينة الأعوام الطويلة في تأليف كتاب أدبي ، أو علمي أو فني ، مكلفين ـ لأجل الحصول على الرخصة في طبع مؤلفهم وتدوينه ـ أن يبيضوا منه نسختين يقدمونهما إلى نظارة المعارف في استانبول ، وهي تدفع إحداهما إلى مراقبها الخاص فيفحصها على الصورة المتقدم ذكرها في فحص الجرائد ، ولربما شذبها وضرب بقلمه المشؤوم تلك الضربات العنيفة فمحى نحو ثلث الكتاب أو نصفه ، لوجود شيء في عباراته من الكلمات المتقدم ذكرها أو شيء مما يشبهها. وقد يستغرق (السنسور) في هذا العمل الذميم نحو سنة أو سنتين ، وقد لا يرخص له بطبع ذلك الكتاب مطلقا بعد تلك المدة الطويلة.

وروى بعض أصدقائنا من منوّري شبان الأتراك أن بعض شياطين السلطان عبد الحميد استلفت نظره إلى ما في القرآن الكريم من الألفاظ المتقدم ذكرها ، التي تنبو عن سمعه وتشذّ عن ذوقه وطبعه ، فكاد السلطان يصدر أمره الكريم بتنقيح نسخة منه وتنظيفها من تلك الألفاظ وطبعها ، مهذبة منقحة ، غير أن بعض محبيه المخلصين بين له خطارة هذا العزم وما ينشأ عنه في العالم الإسلامي من الاضطراب فأمسك عن إصدار أمره المذكور.

وقد أسمعني ذلك الصديق أربعة أبيات باللغة التركية في هجاء مراقبي الكتب والمؤلفات

٣٩٠

في دولة السلطان عبد الحميد ، وكلفني بنظمها بعد ترجمتها إلى اللغة العربية فقلت :

يا صاح نقّاد المعارف عندنا

أعمت قلوبهم المناصب والرتب

كم من كتاب مفرد في بابه

قد أفسدوا منه الصحيح المنتخب

هذا كتاب الله وهو منزّل

ظنوه جهلا أنه قصص العرب

فتصفحوه ونقّحوه بزعمهم

من كل ما تأبى السياسة والأدب

تحرزه المفرط في أكله وشربه ومحل نومه :

ومما بلغ فيه حد الإفراط تحرّزه في المأكل والمشرب ، فقد كان من المحال أن يأكل طعاما أو يشرب شرابا قبل أن تتناول منهما والدته شيئا ، إذ هي الموكول إليها أمر حراسة مأكوله ومشروبه وبمعرفتها ومراقبتها يطبخ ويجهز له ما يأكله ويشربه.

ومن جملة احترازه أيضا أنه كان لا ينام ليلتين متواليتين في غرفة معينة في قصر من قصور يلديز ، بل كان في كل ليلة ينسلّ خفية تحت جناح الظلام إلى قصر من تلك القصور ويرقد على أحد سرره المنصوب في إحدى غرفها العديدة ، التي له في كل واحدة منها سرير مطابق ـ بشكله وهيئته ـ بقية السرر المنصوبة في جميع الغرف مطابقة تامة.

غناه وحشده الأموال :

كان يعدّ في عصره أغنى ملك في الدنيا. ولم لا يكون كذلك ورزقه من بيت المال كل يوم أربعة آلاف ذهب عثماني قبل افتتاح مجلس النواب للمرة الثانية ، وثلاثة آلاف كل يوم بعده؟ هذا عدا مداخيل أملاكه ومزارعه في الولايات العثمانية التي كانت تقدر بثلث أموال الدولة ، وعدا ما يأخذه اعتباطا من صناديق الدوائر كصندوق الأوقاف وصندوق النافعة وصندوق المعارف ، وعدا ما يأخذه نافلة من طلاب امتيازات المعادن ومدّ سكك الحديد وغيرها. وكان له في المصارف الأجنبية الكبيرة عشرات ألوف الألوف من الذهب ، وكان البسطاء من الناس لا ينكرون عليه هذا الغنى لأنهم كانوا يزعمون أنه لم يحتكر تلك الأموال العظيمة إلا بقصد تهريبها من أيدي وزرائه الخائنين وادّخارها للمهمات الحربية التي قد تفاجىء الدولة في مستقبل الأيام. ونحن لا ندري ما فعل الله بتلك الأموال بعد وفاته : هل أنكرتها المصارف ، أم استخلصها منها الاتحاديون فصرفوها في شؤون الدولة ،

٣٩١

أم وضعوا أيديهم عليها وصرفوها في شؤون أنفسهم؟

التغالي بألقابه ومدائحه :

تغالى المداجون من محرري الصحف وغيرهم بألقابه ومدائحه إلى غاية لم نسمع صدور نظيرها في ملك قبله ولا بعده. لقبوه بملك الملوك (شهنشاه) وملجأ الخلافة (خلافتبناه) وباني الدنيا (كيتى ستان) وظل الله في الأرض ، والسلطان الأعظم ، والذات الأقدس ، وغير ذلك من الألقاب والكلمات التشريفية التي يصلح بعضها أن يطلق على منشئ العوالم وخالق السماوات والأرض. وهكذا كان تغاليهم بمدائحه.

الاحتفال بزينة عيدي ميلاده وجلوسه :

وكان الاحتفال بالزينة العامة في جميع الممالك العثمانية يحدث في العام مرتين ، إحداهما في عيد ميلاده والأخرى في عيد جلوسه ، وفي كل من الاحتفالين كانت الصحف الإخبارية تبرز يوم الاحتفال في ثوب قشيب من الزينة والبهاء. وفي كل صحيفة منها مقالة افتتاحية تستوعبها من أولها إلى آخرها محررة بمداد مذهّب ، محفوفة بإطار ذهبي بديع ، محشوة بعبارات أنيقة كلها مدح وإطراء في عدل السلطان وتعداد مآثره وشرف أخلاقه وأنه هو الملك الوحيد في الدنيا ، وأن يوم ولادته ويوم جلوسه من أبرك الأيام وأشرفها وأسماها طالعا وأسعدها ؛ لأن فيه كان بزوغ شمس العدالة في العالم المعمور وطلوع أقمار السعادة في سماء الربع المسكون. إلى غير ذلك من عبارات المدح والإطراء البالغة حد الغلو والاستغراق. وكان من الواجب في ذلك اليوم على كل مستخدم ووجيه في محلته أن يزين باب منزله بالسجاد وعروق الشجر ، ويسرج عليه كثيرا من المصابيح التي ربما عدّت بالمئات. وكلما كان المزيّن أكثر مداجاة وأشد تزلفا للحكومة ازداد تأنقا في زينة باب منزله وأكثر عدد مصابيحه. ومنهم من يعد للمتفرجين على احتفاله بهذه الزينة مقاعد ومفارش ، ويحضر لهم جماعة المطربين العازفين بآلات الطرب ويحرق الألعاب النارية ويكرم الزائرين بالمرطبات.

ويقدّر ما كان يصرف من الأموال في كل احتفال من هذين العيدين في حلب فقط بألوف الليرات. كان المداجون وأرباب الوجاهة منهم يتنافسون بهذه الزينات ، لأن السابق

٣٩٢

منهم بزينته والمبرّز بها على أقرانه ربما يكافأ على إخلاصه برتبة أو وسام ، وكانت جماعة الشرطة لا شغل لهم في تلك الليلة سوى التجوال في أزقة البلدة وشوارعها والبحث والفحص عن المزينين وعمن تكون زينته أعظم وأفخم ، فيكتبون أسماء المزينين ويحررون عند اسم كل مزين منهم إشارة لرتبة زينته من العدد الأول إلى العدد السابع ، وإذا سهت جماعة الشرطة عن مزيّن ولم تذكر اسمه فإنه في الغد يعترض ويطلب أن ينص على احتفاله بالزينة في جريدة الولاية ، لأن هذه الجريدة تصدر في صبيحة ليلة الزينة محررة من أولها إلى آخرها بأسماء المزينين والإشارة إلى مراتب زينة كل واحد منهم ، وإذا طوت الجريدة اسم أحد المزينين أو قصّرت في بيان رتبة زينته فلصاحب الزينة حق الاعتراض ، وعليها أن تصحح الخبر في عددها التالي.

مواكب السلطان في صلاة الجمعة والعيدين :

كانت مواكب السلطان عبد الحميد في صلاة الجمعة والعيدين في استانبول من أجلّ وأفخم جميع مواكب ملوك الدنيا. وكان السيّاح يطوون للتفرج عليها المسافات الطويلة ، وينتظرون حولها الساعات الوفيرة وكانت ذات جلال وبهاء يعجز القلم عن تصويرهما.

احتفال السلطان بالأضاحي في عيد الأضحى :

وصف الأستاذ الصابونجي (١) في كتابه (ديوان شعر النحلة) الاحتفال بأضاحي عيد النحر عند السلطان عبد الحميد فقال ما ملخصه : يأمر السلطان بالاستعداد إلى عيد الأضحى قبل حلوله بشهر ، وبانتخاب عدد مفروض من الأكباش العظيمة وبعلفها

__________________

(١) هو لويس البري الشهير بالصابنجي ، ناظم وناثر واسع الاطلاع متضلع باللغات الشرقية والغربية ، رشيق العبارة حلو الحديث بعيد عن التعصب المذموم. والمستفاد من كتابه ديوان نحلة الشعر أنه ولد في جزيرة العشّاق الكائنة بين دجلة والفرات وأنه وجد عضوا في الجمعيتين العلميتين ، المعروفة إحداها باسم (أكاديمية الأركادي) في رومة والأخرى باسم (الجمعية الآسيوية الملكية) في لندرا ، وأنه كان انتخب أستاذا لتعليم اللغات الشرقية في دار الفنون المعروفة باسم (إيمبريال أنستيتيون) في لندرا ، واتخذه السلطان عبد الحميد خان الثاني العثماني أستاذا لأولاده في علم التاريخ ومترجما خاصا له من اللغة الإنكليزية والعربية والتليانية والفرنسية إلى التركية. وله في السلطان مدائح كثيرة لما كان يوالي عليه من برّه وإحسانه. أخبرني بعض معارفه أنه الآن حي في الديار الأميركانية وأنه ربما كان سنه فوق الثمانين (المؤلف).

٣٩٣

وتسمينها وبالاعتناء بنظافتها وغسل صوفها وتمشيطه وجعلها في رادة (١) تصلح أن يتقرب بتضحيتها إلى الله تعالى ، قيمة كل كبش منها ، يضحّى عن السلطان ، نحو ثلاثين ليرا ذهبا وعن أنجال السلطان ٢٥ ليرا وعن حرمه ١٥ ـ ٢٠ ليرا ، ويبلغ عددها مئة كبش وزيادة ، ويهدي السلطان إلى كل موظف كبشا أو أكثر للتضحية يوم العيد. ومتى حل يوم العيد تصدر إرادة السلطان إلى جميع رجال الدولة ورؤساء الجيوش والقواد والصدور العظام بأن يقبلوا إلى قصر «طولمه بغجه» ببزتهم الرسمية ليرفعوا إلى أعتابه فروض التهاني بحلول العيد.

وفي أول يوم من العيد ينهض السلطان مبكرا ويؤدي صلاة العيد بموكب حافل في جامع بشكطاش ، ثم يركب في موكبه ويسير إلى قصر «طولمه بغجه» تتقدمه كتائب الجيوش ويتلوها رجال «المابين» بملابسهم الرسمية المطرزة بالقصب وعلى صدورهم أوسمة الدولة العثمانية فقط. (لأنه لا يسوغ لأحد على الإطلاق أن يحمل وساما أجنبيا في حضرة (أمير المؤمنين). وحينما يصل الموكب الملوكي إلى القصر ينزل السلطان عن المركبة ويرقى بوقار وإجلال درج الرخام المغطى بالسجاد ، ثم يأخذ السكين من أحد الموظفين في المابين الملوكي. ويكون رعاة القصر قد أعدوا الكباش المعلوفة التي أسلفنا ذكرها ، ومشطوا صوفها الأبيض الطويل وزينوا قرونها الكبيرة وجباهها وصوف ظهرها بورق الذهب وشرائط الحرير الأحمر والأزرق والأبيض ، وجعلوا على رؤوسها تيجانا من الورق الذهب المزدان بالزهور المصنعة والريش وقطع من المرايا ووضعوها صفين بين يدي السلطان ، وقبض كل جزار بيده اليمنى على قرن كبش من الكباش ولبث ينتظر الإشارة من حضرة السلطان لينحر الكبش. ويلبس كل جزار منهم في مثل هذا الوقت جبّة من الجوخ الأخضر تصل أذيالها إلى ما تحت ركبتيه وحواشيها مطرزة بأسلاك الذهب. ويضع على رأسه قبعا مخروط الشكل مصنوعا من الجوخ الأخضر ، وعليه تطريز بأسلاك القصب ، وله شرّابة طولها نحو نصف ذراع مصنوعة من الحرير الأخضر وأسلاك الذهب ، وهو يرخيها من أمام على كتفه.

وحينما يحل وقت ذبح القرابين يسلّم السلطان السكين إلى رئيس أولئك الجزارين ويأمره بذبح القرابين نيابة عنه ، ثم يصعد درج القصر ويدخل قاعة الاستراحة ويلبث هناك مدة قصيرة يتهيأ فيها للدخول إلى قاعة العرش.

__________________

(١) أي في حالة ومنزلة. والكلمة تركية.

٣٩٤

وصف قاعة العرش :

قال الأستاذ الصابونجي ما خلاصته : إن قاعة العرش في وسط قصر «طولمه بغجه» المشيد على ساحل البوسفور من جهة أوربا ، وهي أكبر قاعة قام بناؤها على وجه الأرض كلها ، في الطول والعرض والارتفاع. وعليها قبة عظيمة جميلة الشكل قامت على اثنين وأربعين عمودا. ومما زاد هذه القاعة حسنا وغرابة في السعة أن قبتها العظيمة مستندة إلى أعمدة ليست مركوزة في صحن القاعة بل هي مصطنعة صنعا ظريفا في لصق جدرانها ، وقد بقي الصحن كله خاليا منبسطا يسهل الجولان فيه وينشرح به الصدر. قال الأستاذ : وقد رأيت قصور ملوك فرنسا بباريس وفرسايل ، وقصور ملوك الإنكليز بقرية وندرز ومدينة لوندره ، وقصور ملوك إيطاليا بمدينة تورين ورومه ، وقصر الباباوات والواتكان برومة ، فما شاهدت قاعة بلغت من السعة وحسن هندسة البناء مثل قاعة «طولمه بغجه».

وقد وضعوا في صدر القاعة ـ على نحو خمسة أو ستة أذرع من الجدار ـ عرش أمير المؤمنين متجها نحو البحر. وهذا العرش كرسيّ مستطيل الشكل كالسرير يبلغ طوله نحو ذراعين ونصف الذراع ، وارتفاعه من أمام نحو ذراع ، وكله قطعة واحدة من الذهب الابريز المسبوك سبيكة واحدة في قالب الهندام وحسن الصنعة ، وعلى ظاهره نقوش محفورة في صلب الذهب وثخانة جدار العرش نحو ثلاث عقد ، وعلى مقعده فرش محشوّ بريش النعام وغطاؤه قماش من الحرير الأحمر المنقوش بقصب الذهب.

كان هذا العرش سابقا لمماليك مصر من عائلة الغوري ، غنمه منهم السلطان سليم لما فتح الديار المصرية سنة ٩٢٢.

مفروش تجاه هذا العرش ـ مكان موطئ قدمي السلطان ـ سجادة من الحرير المطرز بأسلاك قصب الذهب تطريزا بديع الصنعة. وفي أربع زوايا قاعة العرش أربعة شمعدانات (منارات) من الفضة الخالصة يبلغ ارتفاع كل منها ثمانية أذرع. وله قاعدة مسدسة الجهات تبلغ ثخانتها نحو شبر ومحيطها نحو ستة أذرع ، وعلى رأس كل شمعدان عشرون مشعلا لإيقاد نور الغاز الهيدروجيني ، وعلى كل مشعل قبع من البلور المنقوش ليمنع نفوذ الغاز من المشعل بعد انطفائه. ويوجد كذلك في كل زاوية من أربع زوايا القاعة شمعدان من البلور النقي في شكل ثريا جمعت بين حسن الصنعة وجمال الهيئة.

٣٩٥

ثم يوجد ثريا أخرى عظيمة جدا في غاية الحسن وإتقان الصنعة وكلها من البلور النقي المثمن ، معلقة في سقف قبة القاعة بسلسلة نصفها الأعلى منم الفضة ونصفها الأسفل من جنس بلور الثريا. ويبلغ طول هذه الثريا البديعة الصنعة نحو ٤٠ ذراعا ومحيط دائرتها الوسطى نحو ثلاثين ذراعا. وهي مركبة من دوائر عديدة مختلفة القطر في الكبر ، قد ركب بعضها فوق بعض بترتيب يناسب كبرها وصغرها ، فإنك ترى قطر دائرتها السفلى أكثر من ذراع ، وما فوقها من الدائرة يزيد قطرها درجة عما تحته. وكلما ارتفعت الدوائر يزداد قطرها بنسبة بعدها وارتفاعها ، وتكبر بالتدريج حتى يبلغ قطر الدائرة الوسطى منها نحو ثلاثين ذراعا ، ثم تأخذ الدوائر بأن تصغر بالتدريج حتى يصير قطر أعلى دائرة كقطر الدائرة السفلى. وفي هذه ما ينيف على ألفي مشعل لإيقاد نور الغاز الهيدروجيني ، وعلى كل مشعل بلورة منقوشة في شكل قبع جعلت منعا لنفوذ الغاز من أنابيبه قبل الإشعال. ثقل هذه الثريا (٨٥٠٠) أقة. اشتغل في تركيبها بالقاعة رجل أوربي نحو سنتين وكان راتبه الشهري ثلاثين ذهبا عثمانيا ، وكانت الثريا صنعت في أوربا ونقلت إلى القاعة قطعا ثم ركبت.

أرض هذه القاعة مفروشة بتقاطيع خشب السنديان المصقول والمصبوغ بصباغ يحكي لون خشب الجوز. ويفرش الخدم القاعة يوم المعايدة سيورا من الطنافس الثمينة المنسوجة في المعمل السلطاني ، يبلغ عرض كل سير منها نحو ذراع ونصف الذراع ، ليمشي الزوار عليها وقاية من الزلق على خشب أرض القاعة المجلوّ جلوا صقيلا. أما سقف القبة وجميع جدران القاعة فمنقوش بالقلم والألوان نقوشا جميلة بديعة الصنعة ، وفي الشقة العليا من القاعة أربعة أطناف (١) أحدها تجاه العرش يقف فيه جماعة الموسيقى السلطاني ، والآخر عن يمين العرش مختص بسفراء الدول الأجنبية وحواشيهم الذين يقصدون التفرج على رسم المعايدة من ذلك العلو الشاهق ، وقد أعد لهم من كرم السلطان مائدة عظيمة عليها من المأكول والمشروب والأقراص الحلوة أشكال وأفانين.

وصف المعايدة :

قال الأستاذ الصابنجي : ولما فرغ السلطان من إيفاء سنّة الأضاحي مشى إلى غرفة

__________________

(١) جمع «الطنف» وهو هنا ما يشرف على أرض القاعة من سقيفة أو سدّة أو شرفة ، وما إليها.

٣٩٦

الاستراحة فلبث بها مديدة حتى تهيأت له مراسم المعايدة. ثم نهض إلى قاعة العرش ودخلها من باب بينها وبين غرفة الاستراحة وانتصب واقفا أمام العرش ووجهه إلى جهة البحر ولفيف الحرس السلطاني الخاص ورجال الموسيقى يكررون الهتاف بالدعاء الملوكي «بادشاهم جوق يشا» (١) ، ثم صدحت الموسيقى السلطانية بأنغامها المطربة يتراجع صداها في فضاء قبة القاعة ، وينزل على الحاضرين كأنغام نازلة من السماء تسحر الألباب ، وتهتز لها طربا ألياف القلوب ما دامت ذرات الهواء مهتزة بها في قلب الأثير. قال الأستاذ : وقد سمعت أنغاما موسيقية كثيرة في أوربا وأميركا ولم أسمع فيها أنغاما تشابه هذه في الطرب.

قال : ثم إن السلطان أصدر أمره إلى إبراهيم بك ـ رئيس التشريف ـ بالبدار إلى المعايدة. وفي الحال اصطف رجال «المابين» وراء العرش صفا واحدا في مقدمتهم رئيس الحجاب (سرقرنا حاج علي بك) ورئيس الكتاب (تحسين بك) والكاتب الثاني (عزت بك) مع لفيف الحجاب وآغاوات الحرم السلطاني ، ثم أقبل نقيب الأشراف وهو لابس جبة خضراء وطأطأ رأسه ثلاثا وسلّم بسلام الخلافة ووقف تجاه العرش على بعد نحو عشرة أذرع ، ثم بسط ذراعيه وتلا الفاتحة. وفعل السلطان فعله وتبعه الصدر الأعظم وباقي الوزراء ، والسلطان واقف على قدميه في الطرف الشمالي من العرش وكفاه مجللتان بالقفّاز الأبيض ، مستندتان إلى مقبض سيف الخلافة. وكان الصدر الأعظم واقفا على يمين العرش وقد حمل على كفيه سيرا من الحرير الأحمر المقصب بأسلاك الذهب المفتول ، فإذا أقبل الوزير وصار على مقربة من العرش سلم ثلاث مرات بسلام الخلافة ثم دنا من العرش وقبّل طرف السير ورجع القهقرى وهو يسلم بسلام الخلافة ثلاث مرات إلى أن توارى. ثم انتقل الصدر الأعظم إلى يسار السلطان وأقبل عليه وزراء الجهادية فسلموا بسلام الجندية دون أن يحنوا ظهورهم ولثموا طرف السير ورجعوا.

خبر زلزال حدث في ذلك الوقت وثبات جأش السلطان :

ثم أقبل صف أصحاب الرتب وابتدؤوا بالمعايدة وكانت الساعة بلغت الرابعة إلا خمس عشرة دقيقة إذ سمع صوت رجة خفيفة حصلت من اصطكاك في بلور الثريا الكبيرة المتقدم ذكرها ، ثم اشتد صوت الارتجاج رويدا رويدا حتى صار اهتزازا عنيفا تناثرت من قوته

__________________

(١) عبارة تركية سبق ذكرها في الجزء الأول ومعناها : «لتعش أيها الملك» أو «أيها السلطان».

٣٩٧

قطع بلور الثريا وسقطت على فرش القاعة وتكسرت إربا إربا ، فاستولى الرعب على الحاضرين ، وبينما كانت قلوبهم تهتز طربا بأنغام الموسيقى صارت أقدامهم تهتز بالزلزال هلعا ورعبا. غير أن السلطان لم يبرح جالسا على عرشه بجأش رابط وقدم ثابت ، وقد هرع أكثر الحاضرين إلى القاعات المجاورة لقاعة العرش ، ومن بقى منهم ضجوا يستغيثون بالله ويطلبون منه النجاة. ثم إن السلطان لما رأى انقطاع المعايدة وخروج الناس نهض عن العرش بوقار وهدوء ومشى الهوينى نحو قاعة الاستراحة.

قال الأستاذ : أما أنا فلبثت في قاعة العرش وقلت لنفسي : إلى أين الفرار من هذه القاعة السلطانية قاعة العظمة والجلال التي لا مثيل لها بين قاعات ملوك الدنيا كلها؟ فإذا كانت الزلزلة تهدم هذه القاعة (لا سمح الله) فتهدم معها القصر بتمامه ، وإذا كان الأجل دنا فالموت في قاعة العرش الفسيحة وتحت قبتها العظيمة أمر عظيم لا يحصل كل يوم لأيّ من كان ولا أستطيع أن أختار له مكانا أحسن من هذا المحل.

ثم إن الهزة قد خفّت وزال الخطر وعاد السلطان إلى مكانه. وأتم بقية المعايدين فروض المعايدة على الوجه الذي سلف بيانه ، ثم نهض السلطان بين هتاف الدعاء الملوكي والنغم الموسيقى وسار عائدا إلى قصر يلديز محفوفا بكتائب الجنود ، والخدم ينثرون الدنانير في الطريق على الفقراء الذين كانوا يدعون للسلطان بالإقبال وطول العمر.

سلام الخلافة :

سلام الخلافة هو أن ينحني الإنسان إلى الأرض بنصف جسمه (كأنه راكع) ويمد يده اليمنى إلى أن تلمس الأرض ثم يرفعها إلى جبينه باحترام ، ويكرر ذلك ثلاث مرات بين كل مرة وأخرى فترة من الزمن ، كأنه يشير بذلك إلى أن تراب أقدام الخليفة على الرأس والعين. قال الأستاذ : ورأيت من كرر ذلك السلام أكثر من ثلاث مرات ومشى القهقرى مسافة طويلة ، ووجهه يحاذي وجه السلطان ولا يلفت إليه ظهره حتى يغيب عن منظر السلطان.

نبذة في الكلام على الزلزلة :

قال الأستاذ الصابونجي : ولما كانت الزلازل من أعظم المصائب التي نكبت بها الكرة

٣٩٨

الأرضية مع سكانها ، رأيت أن أذكر في هذا الباب شيئا من أحوالها وأسبابها تتمة للفائدة. ثم قال ما خلاصته : يحدث الزلزال في الليل أكثر من النهار. وقد أحصى المدققون نحو خمسمائة زلزلة وزلزلتين كان حدوثها في بلاد أسفيزرة ، منها ٣٢٠ زلزلة حدثت في الليل بين الساعة السادسة بعد الظهر وبين الساعة السادسة قبله ، وإن التي تحدث قبل نصف الليل تكون أشد مما تحدث بعده.

وقالوا إن الزلزال في الأراضي البركانية أكثر من الزلزال في السهول. وإن حدوث الزلزال (١) في فصل الشتاء أكثر منها في فصل الصيف ، وما يحدث منها في الكانونين يكون أشد من غيره وذلك لكثرة سقوط الأمطار التي تجري مياهها إلى شقوق الأرض وتتطرق إلى قلب الأرض وتصل إلى الصخور المسخنة بحرارة المواد النفطية المشتعلة فتحدث في الصخور انفجارا ينبعث عنه هزة في قشرة الأرض.

تنتشر الهزة التي تحدث في قشرة الأرض بسرعة عظيمة ربما بلغت سرعتها ٢٠٥٢٦ قدما في الثانية.

والزلازل التي كانت عواقبها وخيمة كثيرة ، منها زلزلة حدثت في مدينة لزبون سنة ١٧٥٥ م و ١١٦٩ ه‍ فقد

دفنت تحت أنقاض المدينة نحو ١٠ آلاف إنسان ، والأحياء الذين بقوا بعد الهزة الأولى التجئوا إلى رصيف الميناء فباغتتهم الهزة الثانية ورفعت مياه البحر إلى علو ٥٠ قدما ، ثم جرفت الرصيف وكل ما كان عليه إلى أعماق البحر ، ثم انشقت الأرض تحت البحر وابتلعت جميع السفن التي كانت في الميناء ثم أطبقت عليها ولم يظهر منها فيما بعد أثر على وجه الماء.

أسباب الزلازل :

أسباب الزلازل كثيرة ، منها ما هو معروف ومنها ما هو مجهول فالمعروف هو :

أولا : تأثير جاذبية القمر في قشرة الأرض.

ثانيا : المد والجزر في البحار.

ثالثا : ضغط الهواء على قشرة الأرض وسطح البحار.

__________________

(١) كذا والوجه أن يقال : «الزلازل» لما سيأتي في بقية العبارة.

٣٩٩

رابعا : الانفجار الذي يحدث في الجبال البركانية.

خامسا : الانفجار الذي يحدث أحيانا في معامل البارود.

سادسا : الانفجار الذي يحدث في قلب طبقات الأرض بسبب تطرق المياه إلى الصخور المسخنة باشتعال المواد النفطية فمتى لامس الماء هذه الصخور الشديدة الحرارة تفرقعت وأحدثت هزة عنيفة في قشرة الأرض.

سابعا : تموج المادة النارية المائعة في مركز الأرض ، فهذه الكتلة من المادة المائعة إذا لامست جدران قشرة الأرض من داخل فعلت بها فعل أمواج البحر بصخور الساحل ، أي إنها تجرف من جدران قشرة الأرض بعض الصخور العظيمة بقوة تفوق إدراك البشر ، ومتى سقطت تلك الصخور في بحر تلك المادة النارية المائعة فرغ مكانها فيتدحرج إليه ما جاورها من الصخور ويشغله. وعلى هذا الأسلوب صخر يعقب صخرا في التدرج فيحصل من جراء ذلك ارتجاج وهزّة هائلة في قشرة الأرض ثم ينتشر إلى سطحها. وقد يكون مركز الهزة على عمق ثلاثين ميلا من سطح الأرض وربما كان أقل من ذلك إلى نحو ميل ونصف ميل ، وهلم جرا.

ثامنا : إن السبب الأكبر لحدوث الزلازل في الكرة الأرضية وفي جميع الشموس والنجوم والكواكب ، هو الله جل جلاله الذي وضع للمادة على الإطلاق نواميس لا تتغير تستن بها ، ثم ساسها بحكمته الأزلية وسخرها متى شاء لإجراء إرادته الإلهية في خلائقه.

بقية حوادث سنة ١٣٢٧ :

في ربيع الثاني من هذه السنة حدث في كل من مرعش وأنطاكية ، وقريتي كسب وقريق خان ، مشاغب أرمنية قتل فيها عدة أشخاص من الأرمن والمسلمين ، وعلّقت الحكومة بعض الرجال (١) من أعيان مسلمي أنطاكية وسكنت الفتنة.

مظاهرة في حلب ومقاطعة اليونان :

وفي ضحوة يوم الاثنين ٢٩ رجب من هذه السنة احتشد الجم الغفير من أهل حلب

__________________

(١) أي أعدمتهم تعليقا على الأعواد «المشانق».

٤٠٠