نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

سنة ٢١ وعلى كل فقد كان الأمير على دمشق وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة في سنة ٢١ عمير بن سعد بن عبيد الأنصاريّ ، وكان الأمير فيها ـ على البلقاء والأردن وفلسطين والسواحل وأنطاكية ومعرّة مصرين ـ معاوية.

أيام عثمان رضي الله عنه

وفي سنة ٢٥ غزا معاوية الروم فبلغ عمورية فوجد الحصون بين أنطاكية وطرسوس خالية ، فجعل عندها جماعة من أهل الشام والجزيرة حتى انصرف. ثم غزا الصائفة يزيد ابن الحرّ العبسي وفعل فعل معاوية ، وهدم الحصون إلى أنطاكية.

وفي سنة ٢٦ غزا معاوية قنّسرين ، وكان عمير بن سعد قد طال مرضه فاستعفى عثمان فأعفاه وضم حمص وقنّسرين إلى معاوية ، فاجتمعت له في هذه السنة ولاية الشام كلها ، فولّى معاوية على حمص عبد الرحمن بن خالد ، وعلى قنّسرين حبيبا (١) بن مسلمة بن مالك الفهريّ.

أيام علي بن أبي طالب

وفي سنة ٣٦ فرّق علي رضي الله عنه عمّاله على الأمصار ، فبعث سهلا بن حنيف على الشام وكان معاوية متغلبا عليه ، فلما وصل إلى تبوك لقيته خيل فقالوا له : من أنت؟

قال : أنا أمير. قالوا له : على أي شيء؟ قال : على الشام. قالوا : إن بعثك عثمان فحيّهلا بك (٢) وإن كان غيره فارجع. قال : أوما سمعتم بالذي كان؟ يعني استشهاد عثمان.

قالوا : بلى. فرجع إلى عليّ.

__________________

(١) الصواب : «حبيب» بغير تنوين أيضا. ونكتفي بمثل هذه الإشارة هنا.

(٢) اسم فعل أمر ، للحث والاستعجال.

٢١

حوادث أيام بني أمية

أيام معاوية

سنة ٤٢ مات حبيب بن مسلمة الفهري بأرمينية ، وكان أميرا عليها لمعاوية.

قلت : أظن أن معاوية استعمل حبيبا هذا على أرمينية في هذه السنة وضم قنّسرين إلى حمص ، وعاملها عبد الرحمن بن خالد. وهذا غير بعيد لأن الذي مصّر قنسرين يزيد ابن معاوية لا معاوية ، إنما معاوية رتّب خراج قنسرين في هذه السنة أربعمائة ألف وخمسين ألف دينار ، ورتّب حلب للخلفاء من بني أمية لمقامهم في الشام ، وكون الولاة في أيامهم بمنزلة الشّرط لا يستقلّون بالأمور والحروب ، وولاة الصوائف (١) ترد كل عام إلى دابق ، وأقام منهم جماعة بنواحي حلب ، منهم سليمان بن عبد الملك أقام بدابق حتى مات.

تجنيد قنّسرين وتسمية حلب بالعاصمة :

حكى الطبري في تاريخه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما عزم على فتح الشام سمّى لكل أمير أمّره على الجيوش كورة (٢) ، فسمّى لأبي عبيدة كورة حمص وليزيد بن أبي سفيان كورة دمشق ، ولشرحبيل بن حسنة كورة الأردن ، ولعمرو بن العاص وعلقمة ابن محمد كورة فلسطين. فدلّ هذا على أن الشام لما كان بأيدي الروم كان منقسما إلى هذه الكور الأربع ، وكانت قنّسرين مضافة إلى كورة حمص. اه.

ثم لم تزل الشام كذلك حتى ولي الخلافة يزيد بن معاوية فجعلها خمسة أجناد : جند فلسطين ، وجند الأردن ، وجند دمشق ، وجند قنّسرين.

__________________

(١) جمع صائفة ، وهي الغزوة في الصيف. وبها سمّيت غزوة الروم ، لأنهم كانوا يغزون صيفا ، اتّقاء البرد والثلج.

(٢) الكورة : البقعة التي تشتمل على عدة قرى. ويقابلها اليوم : (المحافظة).

٢٢

قال ياقوت في معجمه : وسمي الجند جندا لأنه جمع كورة ، والتجنيد التجميع ، وقيل : سميت كل ناحية جندا لأنهم كانوا يقبضون فيه أعطياتهم ، وكانت الجزيرة مع قنسرين جندا فأفردها عبد الملك وصارت الجزيرة جندا برأسه ، وكان من جملة جند قنّسرين أنطاكية ومنبج وتوابعهما فلما استخلف الرشيد أفرد قنسرين بكورها فصيّرها جندا ، وأفرد منبج ودلوك ورعبان وقورس وأنطاكية وتيزين ، وما بين ذلك من الحصون ، فسمّاها العواصم لأن المسلمين كانوا يعتصمون بها من العدو إذا انصرفوا من غزوهم. وجعل مدينة العواصم منبج وأسكنها عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس في سنة ١٧٣ فبنى فيها أبنية مشهورة ، وذكرها المتنبي في مدح سيف الدولة فقال :

لقد أوحشت أرض الشام طرّا (١)

سلبت ربوعها ثوب البهاء

تنفّس ، والعواصم منك عشر

فيوجد (٢) طيب ذلك في الهواء

قال ياقوت في موضع آخر : العاصم هو المانع ، ومنه قوله تعالى (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) وهو صفة ، فلذلك دخله الألف واللام. والعواصم : حصون موانع ، وولاية تحيط بها بين حلب وأنطاكية ، كان قد بناها قوم واعتصموا بها من الأعداء ، وأكثرها في الجبال. وربما دخل في هذا ثغور المصيّصة وطرسوس وتلك النواحي. وزعم بعضهم أن حلب ليست منها ، بدليل قولهم : قنّسرين والعواصم ، وحلب من أعمال قنّسرين ، والشيء لا يعطف على نفسه.

عمّال قنّسرين وحمص من سنة ٤٥ إلى سنة ٥٩ :

وفي سنة ٤٥ توفي عبد الرحمن بن خالد عامل حمص وما والاها ، وكان أهل الشام قد مالوا إليه فدس إليه معاوية سما فمات.

قلت : ومن هذه السنة إلى حدود سنة ٨٦ لم أطلع على أسماء عمّال الخلفاء على قنّسرين وحمص ، ولعل العمال عليهما في هذه المدة هم أمراء الصوائف والمشاتي ، يخرجون إلى الروم ويرجعون إلى إحدى البلدتين بعد انقضاء غزوهم ، فإن البلدتين من أعظم ثغور

__________________

(١) كذا ، ورواية الديوان «حتى» وما في الديوان هو الصواب.

(٢) في الديوان : «فيعرف». عشر : أي على مسافة عشر ليال. تنفّس : تتنفّس.

٢٣

الروم ، فلا يستبعد أن يكونا محل إقامة الأمراء المذكورين أيام تقاعدهم عن الغزوات ، وأنهم كانوا يقومون بوظائف العمال في أثناء ذلك ويستخلفون إذا غزوا. ولما كان هذا من المحتمل عقلا أدرجت ضمن الحوادث أسماء الأمراء المذكورين في سني خروجهم إلى الغزوات إلى سنة ٨٦ المذكورة. وعلى هذا المنوال رتبت ذكرهم في سنوية ولاية حلب المعروفة باسم السالنامة ، فأقول :

في سنة ٤٦ كان مشتى مالك بن عبد الله بأرض الروم ومثلها في سنة ٤٧ وسنة ٤٩ ولم يغز سنة ٤٨ وفي سنة ٥٠ كانت غزوة بسر بن أرطاة وسفيان بن عوف الأزدي بأرض الروم. وفي سنة ٥١ كان مشتى فضالة بن عبيد بأرض الروم ، وغزوة بسر بن أرطاة الصائفة. وفي سنة ٥٢ كانت غزوة سفيان بن عوف الروم وشتّى بأرضهم وتوفي بها ، في قول ، فاستخلف عبد الله بن سعد الفزاري. وقيل الذي شتّى بأرضهم هذه السنة بسر بن أرطاة ومعه سفيان المذكور. وعزا الصائفة محمد بن عبد الله الثقفي.

وفي سنة ٥٣ كان مشتى عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي بأرض الروم. وفي ٥٤ كان مشتى محمد بن مالك بأرض الروم وصائفة معن بن يزيد السّلمي. وفي سنة ٥٥ كان مشتى سعيد بن عوف ، وقيل عمرو بن محرز ، وقيل عبد الله بن قيس الفزاري ، وقيل مالك بن عبد الله. وفي سنة ٥٦ كان مشتى جناد بن أبي أمية ، وقيل عبد الرحمن ابن مسعود ، وقيل عياض بن الحرث. وفي سنة ٥٧ كان مشتى عبد الله بن قيس. وفي سنة ٥٨ غزا الروم مالك بن عبد الله الخثعمي (١) وفي سنة ٥٩ كان مشتى عمر بن مرّة الجهني.

أيام يزيد بن معاوية

وصول رأس الحسين رضي الله عنه إلى حلب :

وفي سنة ٦١ قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكربلاء ، واحتزّ رأسه الشريف شمر بن ذي الجوشن ، وسار به وبمن معه من آل الحسين إلى يزيد في دمشق ، فمر بطريقه

__________________

(١) في الأصل : «الخثعي» خطأ مطبعي.

٢٤

على حلب ونزل به عند الجبل ، غربيّ حلب ، ووضعه على صخرة من صخراته فقطرت منه قطرة دم عمر على أثرها مشهد عرف بمشهد النقطة. وقد ألمعنا إلى ذلك في الكلام على المشهد في باب الآثار.

أيام معاوية بن يزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم

وعبد الملك بن مروان

غزوات بني أمية الروم وغير ذلك :

وفي سنة ٦٦ كان على الشام عبد عبد الملك بن مروان. والظاهر أنه كان يقوم بإدارة البلاد الشامية بنفسه لضيق مملكته حينئذ ، لوقوع أكثرها تحت يد المتغلبين. وفي سنة ٧٣ غزا الروم صائفة محمد بن مروان ، ومثلها في سنة ٧٤ وسنة ٧٥ و ٧٦ و ٧٧ غزا الروم صائفة الوليد بن عبد الملك. وفي سنة ٧٨ أصاب أهل الشام طاعون شديد حتى كادوا يفنون فلم يغز تلك السنة أحد. قيل : وفيها أصاب الروم أهل أنطاكية وظفروا بهم. وفي سنة ٨١ سيّر عبد الملك بن مروان ابنه عبيد الله ففتح قاليقلا. وفي سنة ٨٢ غزا محمد ابن مروان أرمينية. وفي سنة ٨٥ غزا الروم مسلمة بن عبد الملك.

أيام الوليد بن عبد الملك

وفي سنة ٨٧ غزا مسلمة المذكور الروم وفتح عدة حصون ، وقيل هشام بن عبد الملك. وفي سنة ٨٨ غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن عبد الملك الروم وفتحوا الجزيرة وعدة حصون من عمورية ، وغزا العباس الصائفة من ناحية البذندون. وفي سنة ٩٠ غزا مسلمة الروم وفتح الحصون الخمسة التي بسورية. قال ابن العديم ما ملخصه :

إن الوليد بن عبد الملك لما ولي الخلافة سنة ٨٦ أبقى محمد بن مروان على ولايته حتى عزله سنة ٩٠ بأخيه مسلمة ، فدخل مسلمة حرّان. وكان محمد بن مروان يتعمم وبيده المرآة فبلغه الخبر أن مسلمة يخطب على المنبر فارتعد وسقطت المرآة من يده وقال : هكذا تقوم الساعة بغتة؟ فقام ابن محمد للسيف يثب على مسلمة فقال له أبوه : مه يا بني ولّاه أخوه وولّاني أخي. وكان أكثر مقام مسلمة بالناعورة بنى فيها قصرا بالحجر الصّلد وحصنا

٢٥

بقى منه برج إلى زماننا (زمان ابن العديم). قلت : ذكر ياقوت الناعورة فقال : الناعورة الدولاب ، موضع بين حلب وبالس ، فيه لمسلمة بن عبد الملك قصر من حجارة وماؤه من العيون وبينه وبين حلب ثمانية أميال. اه.

وفي سنة ٩١ غزا الصائفة عبد العزيز بن الوليد ، ومقدّم الجيش مسلمة بن عبد الملك. وفي سنة ٩٢ غزا مسلمة بن عبد الملك الروم وفتح ثلاثة حصون. وفي سنة ٩٣ غزاهم وفتح ماسيه وحصين الحديد وفيها كان الزلزال بالشام ودام أربعين يوما فخربت البلاد وكان معظم ذلك في أنطاكيّة. وفي سنة ٩٥ انتقضت قنّسرين ، وكان العباس بن الوليد يغزو الروم ، ففتح هرقلة وغيرها وعاد إلى قنسرين وفتحها.

أيام سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز

وفي سنة ٩٩ ولّى سليمان بن عبد الملك من قبله على الأحصّ هلالا بن عبد الأعلى ثم ولي عليها الوليد بن هشام المعيطي.

أيام يزيد بن عبد الملك وهشام أخيه

وفي سنة ١٠١ عزل الوليد هذا من قبل يزيد بن عبد الملك لأنه كان مرائيا ، وولّي على قنسرين الوليد بن القعقاع بن خليد العبسي. وقيل : الذي ولي العمل على قنسرين من قبل يزيد هو عبد الملك بن قعقاع بن خليد العبسي ، وإليهم كان ينسب حيار بني عبس (١) ، وإلى أبيهم كانت تنسب «القعقاعية» قرية في بلد الغايا.

وفي سنة ١٠٨ كان طاعون شديد بالشام. وفي سنة ١١٣ غزا معاوية بن هشام أرض الروم فرابط من ناحية مرعش ثم رجع. وفي سنة ١١٥ وقع طاعون بالشام وسرى إلى العراق وامتد إلى السنة بعدها. وفي سنة ١١٩ غزا الوليد بن القعقاع أرض الروم.

أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك

وفي سنة ١٢٥ ولّى الوليد الخليفة على قنّسرين مكان الوليد بن القعقاع يزيد بن عمر

__________________

(١) موضع بقنّسرين ، ويسمى أيضا : حيار بني القعقاع.

٢٦

ابن هبيرة لوحشة بين الوليد الخليفة وبين بني القعقاع. وبعد أن عزله الخليفة بعث به إلى يزيد بن عمر بن هبيرة المذكور فعذبه وأهله حتى مات.

أيام يزيد الناقص بن الوليد بن عبد الملك

وإبراهيم المخلوع ومروان بن محمد

وفي سنة ١٢٦ خرج يزيد الناقص على الوليد الخليفة ، ووثب عليه فقتله وأخذ عامله في دمشق وسيّر أخاه مسرور بن الوليد إلى قنسرين. وقيل : سيّر أخاه بشر بن الوليد. وفي سنة ١٢٧ قبض مروان بن محمد بن الحكم ، الخليفة ، على مسرور بن الوليد والي قنسرين وعلى أخيه بشر وقتلهما بحلب ، وولي حلب وقنسرين عبد الملك بن الكوثر الغنوي.

وفي سنة ١٢٨ خرج على مروان الخليفة : سليمان بن هشام بن عبد الملك ، فأمسكه مروان بخساف (١) واستباح عسكره ، وفيها كان الحكم وعثمان ابنا الوليد بن يزيد محبوسين بقلعة قنّسرين ، حبسهما أخوهما يزيد الناقص ، فنهض إليهما عبد العزيز بن الحجاج ويزيد (٢) ابن خالد القسري وقتلاهما وقتلا معهما يوسف بن عمر الثقفي ، فقبض مروان على القاتلين المذكورين وصلبهما. وفي سنة ١٣٠ غزا الصائفة الوليد بن هشام فنزل العمق وبنى حصن مرعش.

__________________

(١) خساف : برّية بين مسكنة وحلب. وقيل : مفازة بين الحجاز والشام. والأول هو الصواب.

(٢) في الأصل «بن» فصححناها كما يقتضي السياق.

٢٧

حوادث أيام الخلفاء العباسيين

أيام عبد الله السفاح

في ربيع الآخر سنة ١٣٢ بويع أبو العباس السفاح ، واسمه عبد الله بن محمد بن علي. فجهز عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس في جيش عظيم لقتال مروان بن محمد الخليفة الأموي ، فالتقى معه بالزاب من أرض الموصل ، فهزم مروان ، وتبعه عبد الله بن علي حتى نزل بمنبج ، فبعث إليه أهل حلب بالبيعة ، وقلد عبد الله المذكور أخاه عبد الصمد حلب وقنسرين.

ثم سارا إلى حلب فبايعه أبو الورد مجزأة بن الكوثر بن زفر الكلابي ، وكان من أصحاب مروان. ثم انصرف عبد الله من حلب وأرسل قائدا من قواده في مائة وخمسين فارسا إلى «الناعورة» ، وكان بها مسلمة بن عبد الملك وكان معه أهله ، فاستجار مسلمة بأبى الورد الكلابي فلم يلتفت إليه ، واغتاظ الكلابي وخرج من مزرعته «خساف» في عدّة من أهل بيته وخالف وبيّض (لبس البياض الذي هو شعار الأمويين) وقتل القائد ودعا أهل حلب وقنسرين لنقض البيعة العباسية فقصده من دمشق عبد الصمد في زهاء عشر (١) آلاف فارس ، فقتل أبو الورد وانهزم أصحابه وأمّن عبد الله أهل حلب وقنّسرين فبايعوا وسوّدوا (لبسوا السواد الذي هو شعار العباسيين).

وفي سنة ١٣٣ لبس الحمرة بحلب العباس بن محمد المعروف بالسفياني. وجده معاوية ابن أبي سفيان. فقصده من قبل السفاح العباسي عطاء العكي فانهزم السفياني وفتح العكي حلب عنوة ولم يبق فيها من الأمويين أحد. وفي هذه السنة تغلّب عبد الله بن محمد بن علي على حلب وقنّسرين وديار ربيعة ومضر وسائر الشام.

__________________

(١) الصواب : عشرة.

٢٨

أيام أبي جعفر المنصور

وفي سنة ١٣٧ ولّى عبد الله على حلب أبا عبد الله زفر بن عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي. وفيها سيّر المنصور أبا مسلم الخراساني لقتال عبد الله ، فانتصر عليه أبو مسلم وكتب إليه المنصور بولاية الشام جميعه وحلب وقنسرين ، وأن يقيم له نوابا في بلاده ففعل. ثم استوحش المنصور من أبي مسلم فعزله وولّى على حلب وقنسرين وحمص صالحا بن علي بن عبد الله بن العباس ، فنزل حلب وابتنى بها خارج باب النيرب قصرا بقرية بطياس ، بالقرب من النيرب. قال ابن العديم : وآثاره باقية إلى الآن.

قلت : محل هذا القصر يعرف الآن بكرم القصر وهو بستان فستق مملوك لبعض الأهلين. اه.

قال ابن العديم : ومعظم أولاد صالح بن علي ولدوا ببطياس. وقد ذكره البحتري وغيره في أشعارهم. قلت : تقدم فيما جاء بمدح حلب شيء من ذلك. وفي سنة ١٣٩ غزا صالح بن علي الصائفة مع ابنه الفضل بأهل الشام وهي أول صائفة في خلافة بني العباس ، وغزا مع صالح أختاه أم عيسى ولبانة بنتا علي ، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن تجاهدا (١) في سبيل الله.

وفي سنة ١٤١ خرج بحلب وحرّان قوم يقال لهم الراوندية ، زعموا أنهم كالملائكة وصعدوا تلا بحلب وقد لبسوا الحرير فطاروا منه وكسروا وهلكوا. وفيها حج بالناس صالح ابن علي.

ضرب النقود في حلب :

وفي سنة ١٤٦ ضرب صالح بحلب سكّة (٢) ، على أحد جانبيها : (ضرب هذا الفلس بمدينة حلب سنة ١٤٦) وعلى الجانب الآخر : (مما أمر به الأمير صالح بن علي أكرمه الله).

__________________

(١) في الأصل : «يجاهدا» فصوّبناها بالتاء.

(٢) يعني نقودا معدنية.

٢٩

وفي سنة ١٥٢ مات صالح وتولى مكانه حلب وقنسرين ابنه الفضل ، واختار العقبة فسكنها. وفي سنة ١٥٤ ولّى المنصور على حلب وقنسرين موسى بن سليمان الخراساني. وفي سنة ١٥٧ ضرب السكة بقنسرين وعلى أحد جانبيها : (ضرب هذا الفلس بقنسرين سنة ١٥٧) وعلى الآخر : (مما أمر به الأمير موسى مولى أمير المؤمنين). وفي سنة ١٦٢ خرج على الخليفة المهدي عبد السلام بن هاشم الخارجي فأرسل له المهدي جنودا كثيرة ، فهرب منهم إلى قنسرين ، فلحقوه وقتلوه فيها.

قدوم المهدي الخليفة إلى حلب

وفي سنة ١٦٣ قدم الخليفة المهديّ إلى حلب عازما على الغزو ، فتلقاه العباس بن محمد والي الجزيرة وأنزله في عمله. ثم وصل المهدي إلى حلب ونزل بقصر بطياس ، وولّى على حروب حلب وقنسرين والجزيرة وخراجها وصلاتها عليا بن سليمان بن علي بن عبد الله ابن العباس ، وولّى حلب والشام جميعه هارون ، وأمر كاتبه يحيى بن خالد أن يتولى ذلك كله بتدبيره. ثم عرض المهدي العسكر بحلب وأغزى ابنه هارون الروم.

قتل الزنادقة في حلب ، ووصول رأس المقنع إليها :

في هذه السنة جمع محتسب حلب عبد الجبار الزنادقة من الأطراف إلى المهدي فقتلهم وقطع كتبهم بالسكاكين. ووصل إليه وهو بحلب رأس المقنّع وكان زنديقا مبتدعا ، ظهر في خراسان سنة ١٥٩ واستغوى جماعة وكثرت أتباعه وعاثوا في الأرض فسادا إلى أن هلك في هذه السنة ، وهي سنة ١٦٩.

أيام الهادي والرشيد

وفي سنة ١٧٣ ولّى الرشيد حلب وقنّسرين عبد الملك بن صالح بن علي ، فأقام بمنبج وابتنى فيها قصرا لنفسه وبستانا إلى جانبه كان يعرف به. وقد سبق لنا في الكلام على منبج منادمة الرشيد مع عبد الملك حين زاره في قصره.

٣٠

عمّال حلب من سنة ١٧٥ إلى سنة ١٩٣ :

وفي سنة ١٧٥ عزل الرشيد عبد الملك عن حلب وقنسرين وبعد سنة ولّى عليها سليمان ابن عيسى ، ثم ولّى الشام جميعه موسى بن يحيى بن خالد. وفي سنة ١٧٨ ولّى الرشيد الشام جميعه جعفر بن يحيى بن خالد ، فتوجه إليه سنة ١٨٠ واستخلف عليه عيسى بن العكّي. وفي سنة ١٨٢ ولّى الرشيد حلب وقنسرين إسماعيل بن صالح بن علي ، وأقطعه الحوانيت التي بباب أنطاكية إلى رأس الدلبة وكانت له ، ثم عزله وولى مكانه عبد الملك بن صالح. وفي سنة ١٨٧ بلغه عنه أنه يحدث نفسه بالخلافة فعزله وولى على حلب وقنسرين ابنه القاسم ابن الرشيد.

وفي سنة ١٨٨ رابط القاسم بن الرشيد بدابق. وفي سنة ١٩٠ خرج الروم إلى عين زربة والكنيسة السوداء وأغاروا ، فاستنقذ أهل المصّيصة ما كان معهم من الغنيمة. وفي سنة ١٩٣ ولى الرشيد على حلب وقنسرين من قبل ابنه القاسم : خزيمة بن خازم ، وفيها جعل الأمين مع أخيه القاسم قحافة بن أبي يزيد ، وولى خزيمة بن خازم الجزيرة.

حوادث أيام الأمين في حلب

وفي سنة ١٩٤ عزل الأمين أخاه القاسم عن حلب وقنسرين والعواصم وسائر الأعمال وولاها خزيمة بن خازم. ثم في سنة ١٩٦ عزله وولى عليها عبد الملك بن صالح بن علي ثالثة. وفي ذي القعدة سنة ١٩٦ مات عبد الملك بن صالح بالرقة.

حوادث أيام المأمون في حلب

وفي سنة ١٩٧ ولّى المأمون خزيمة بن خازم حلب وقنسرين ، وقيل الوليد بن طريف. ثم ورقة بن عبد الملك ثم يزيد بن يزيد. وفي سنة ١٩٨ ولى المأمون حلب والشام جميعه طاهر بن الحسين. وفي سنة ٢٠٦ ولى المأمون مصر والشام جميعه عبد الله بن طاهر. وفي سنة ٢١٣ ولى المأمون حلب وقنسرين والعواصم والثغور ابنه العباس وأمر له بخمسمائة ألف درهم. وفي سنة ٢١٤ ولى المأمون حلب وقنسرين وبقية ما كان بيد ولده اسحاق

٣١

ابن إبراهيم بن مصعب بن زريق ، نيابة عن ولده العباس. ثم عزله في هذه السنة وولى ورقة الطريفي نيابة عن ولده العباس.

قدوم المأمون إلى حلب :

وفي سنة ٢١٥ قدم المأمون حلب للغزاة ونزل بدابق وولى حلب عيسى بن علي بن صالح نيابة عن ابنه العباس ، وولى قضاء حلب عبيد بن جنّاد بن أعين مولى بني كلاب بعد أن امتنع عبيد عن القضاء وهدده المأمون. وفي سنة ٢١٨ أناب المأمون عن ابنه العباس عبيد الله بن عبد العزيز بن الفضل بن صالح صاحب قصر بطياس.

حوادث أيام المعتصم بحلب

وفي سنة ٢٢٣ كان المعتصم عائدا من غزاة الروم فقبض على العباس لما بلغه من عزمه على مخالفته. ثم استطعم العباس فأطعم طعاما كثيرا وحبس عنه الماء وأدرج في مسح فمات في منبج ودفن بها ، وولى المعتصم حلب وقنّسرين حربهما وضياعهما ، عبيد الله بن عبد العزيز. وفي سنة ٢٢٥ ولى المعتصم الشام جميعه والجزيرة ومصر أشناس التركي ، وكان نائب أشناس على حلب وقنسرين عبيد الله بن عبد العزيز.

وفي سنة ٢٣٠ مات أشناس وولي حلب وقنسرين عبيد الله بن عبد العزيز. وبعده ولي عليهما وعلى العواصم في هذه السنة عبيد الله محمد بن صالح بن عبد الله بن صالح ، فكانت سيرته غير محمودة وكان أحمر أشقر فلقب بالسمّاقة لشدة حمرته. ويقال إنه أول من أظهر البرطيل بالشام وأوقع عليه هذا الاسم ، وكان يعرف بالرشوة يعطى على غير إكراه ، وكان صموتا لا يسمع له كلام إلا بالأمر والنهي.

حوادث حلب أيام الواثق

وفي سنة ٢٣١ ولّى الواثق على الثغور والعواصم وأعمالها أحمد بن سعد بن مسلم ابن قتيبه وأمره بحضور الفداء مع خاقان وميخائيل صاحب الروم فأمضى الفداء في هذه

٣٢

السنة ثم غزا شاتيا ، فأصاب الناس شدة فوجد الواثق عليه (١) وعزله ، وولى على ما ذكر نصر بن حمزة الخزاعي.

حوادث حلب أيام المتوكل

وفي سنة ٢٣٢ ولى المتوكل حلب وقنسرين والعواصم «الشارباميان» أحد قواد المتوكل ، وكان الوالي على جند قنّسرين ، من قبل الشارباميان ، علي بن إسماعيل بن صالح ابن علي فكانت أيامه حسنة. ثم ولى الشارباميان مكانه عيسى بن عبيد الله بن عبد العزيز ابن الفضل. وفي سنة ٢٣٥ ولّى المتوكل علي مظالم جند قنسرين والعواصم والنظر في أمور العمال طاهرا بن محمد بن إسماعيل بن صالح. ولما وافاه مرسوم الخليفة بالتولية كان في مرضه الذي مات فيه فولّى على قنسرين والعواصم والثغور وديار ربيعة ومضر والموصل ، وغير ذلك ، ابنه المنتصر بن المتوكل ، فكانت الولاة تأتي من قبله وفيها أمر المتوكل أن يكتب إلى الآفاق بأن يؤمر أهل الذمة باستعمال الغيار (٢).

حادث غريب :

وفي سنة ٢٤٢ وقع طائر أبيض دون الرّخمة على دلبة (٣) بحلب لسبع مضين من رمضان ، فصاح : يا معشر الناس ، الله الله ، أربعين مرة. ثم طار وعاد من الغد وصاح أربعين صوتا. فكتب صاحب البريد بذلك محضرا وأشهد فيه خمسمائة إنسان سمعوه. قال ابن العديم بعد أن حكى هذه الحادثة : ولا يبعد عندي أن تكون الدّلبة هي التي ينسب إليها رأس الدّلبة. قلت : كان محلها سوق الحمام.

وسمع في هذه السنة أصوات هائلة من السماء وتزلزلت نيسابور وتقلعت جبال من أصولها ونبع الماء من تحتها ووصلت الزلزلة إلى الشام والثغور.

__________________

(١) أي غضب عليه.

(٢) لباس خاصّ بهم. ويختلف من عصر إلى آخر. انظر ، مثلا ، ما ذكره المؤلف في حوادث سنتي ٧٠٠ ه‍ و ١٢٢٩ ه‍ عن ذلك.

(٣) الرّخمة : نوع من الطيور غزير الريش ذو منقار طويل ، وله جناح طويل مدبّب يبلغ طوله نحو نصف متر ، ومخالبه متوسطة الطول. والدلب : شجر عظيم الورق لا زهر له ولا ثمر.

٣٣

وفي سنة ٢٤٥ كثرت الزلازل في الدنيا وتهدم من أنطاكية كثير من الدور وأبراج السور.

ولاة حلب أيام المنتصر والمستعين والمعتز

وفي سنة ٢٤٧ ولّى المنتصر الثغر الشامي وصيفا التركي. وفي سنة ٢٥٠ مات وصيف المذكور ، وولّى المستعين حلب وقنسرين موسى بن بغا. وفي سنة ٢٥١ ولّى حلب والعواصم أبا تمام ميمون بن سليمان صدقة بن عبد الملك بن صالح. وفيها بويع المعتز بالله وامتنع عليه أهل حلب وأقاموا على الوفاء للمستعين فحاصرهم أحمد المولد فلم يجيبوا ثم أجابوا وبايعوا للمعتز.

وفي سنة ٢٥٢ ولّى أحمد المولد على جند حلب وقنسرين والعواصم صالحا بن عبيد الله. وجده صاحب قصر بطياس. وفي سنة ٢٥٣ ولي حلب وقنسرين والعواصم أبو تمام ميمون بن سليمان ثانية. وفي سنة ٢٥٤ مات أبو تمام المذكور بالرقة وولى صالح بن وصيف ، أحد قواد المعتز ، على عمله أبا الساج ديوداد في ربيعها الأول. وفي سنة ٢٥٥ تغلب أحمد بن عيسى بن شيخ علي الشامات.

أول العمال الأتراك في الشام :

وفي سنة ٢٥٦ مات أحمد المذكور وولي الشام أحمد بن طولون مع أنطاكية وطرسوس وغيرهما من البلاد.

عمّال حلب أيام المعتمد

وفي سنة ٢٥٨ عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد ، الملقب بالموفّق ، على حلب وقنسرين والعواصم ، فاستناب فيها «سيما الطويل» ، أحد قواد بني العباس ومواليهم ، فابتنى بظاهر حلب عند باب أنطاكية دارا حسنة لها بستان كان يعرف ببستان الدار ، وبهذه الدار سميت محلة باب أنطاكية «الدارين» تثنية دار ، إحداهما هذه ، والثانية دار بناها قبله محمد بن عبد الملك بن صالح. وإحدى الدارين تعرف بالسليمانية على حافة نهر قويق ، وحاضر السليمانية يعرف بها وهو حاضر حلب.

٣٤

وجدد سيما الطويل الجسر الذي على نهر قويق قريبا من داره وركّب عليه بابا أخذه من قصر بعض الهاشميين بني صالح بحلب ، يقال له قصر البنات ، وبه كان يعرف بدرب البنات ، والقصر يعرف بأمّ ولد اسمها «بنات» كانت لعبد الرحمن بن عبد الملك الهاشمي.

وسمى «سيما» باب الجسر المذكور باب السلامة. وفي سيما الطويل يقول البحتري شعرا :

فردّت إلى سيما الطويل أمورنا

وسيما الرضى في كل أمر نحاوله (١)

حوادث أيام بني طولون :

وفي سنة ٢٦٤ عصى أحمد بن طولون على مولاه أبي أحمد الموفق وأظهر خلعه ونزل إلى الشام ، فجفل (٢) منه سيما الطويل إلى أنطاكية فنزل عليها ابن طولون وحاصرها وفتحها عنوة وقتل «سيما» ، واستولى على حلب والشام. وفي سنة ٢٦٥ توجه أحمد ابن طولون إلى مصر وولّى على حلب مملوكه لؤلؤا.

سنة ٢٦٧ خبر الزلزلة :

فيها كانت زلزلة عظيمة بالشام ومصر والجزيرة وأفريقيا والأندلس ، وكان قبلها هدّة عظيمة قوية. وفي سنة ٢٦٨ خرج بكّار الصالحي ، من ولد عبد الملك بن صالح ، بين حلب وسلمية ، ودعا لأبى أحمد الموفق ، فوجه إليه لؤلؤ قائدا يقال له يوذر فأخفق سعيه.

ثم ظفر لؤلؤ ببكّار وقبض عليه سنة ٢٦٨.

عصيان لؤلؤ على مولاه :

فيها عصى لؤلؤ على مولاه أحمد بن طولون ، وكاتب أبا أحمد الموفق بالمسير إليه وقطع الدعاء لمولاه في مدنه جميعها : حلب وقنسرين وحمص وديار مضر ، ووافقه أهل الثغور على ذلك وأخرجوا نواب مولاه منها. فوافاه مولاه من مصر سنة ٢٦٩ في مئة ألف وقبض

__________________

(١) سيما ، في الشطر الثاني : العلامة. والرواية : «يحاوله» بدل «نحاوله». وانظر زبدة الحلب لابن العديم ١ / ٧٧ وديوان البحتري ٣ / ١٦٨٥.

(٢) أي ارتحل هاربا.

٣٥

على حرمه وباع ولده ، وكان لؤلؤ هرب إلى أبى أحمد الموفق.

قصد ابن طولون الثغور وموته :

في سنة ٢٧٠ قصد ابن طولون الثغور فأغلقها أهلها في وجهه فعاد إلى أنطاكية ومرض. وولى حلب عبد الله بن الفتح ثم شخص إلى مصر ومات بها. ثم ولّى ابنه أبو الجيش ، خمارويه ، أبا موسى محمد بن العباس الكلابي. ثم كاتب خمارويه أبا أحمد الموفق بأن يقره على حلب ومصر وسائر البلاد التي كانت في يد أبيه ، ويدعى له على المنابر ، فلم يجبه الموفق إلى ما طلب ، فاستوحش خمارويه وولّى حلب القائد أحمد بن دوغباش عامل الرقة.

وفي هذه السنة تواقع إسحاق بن كنداج عامل الموصل والجزيرة للخليفة مع ابن دوغباش عامل حلب لخمارويه.

سنة ٢٧١ اتفاق إسحاق مع محمد بن ديوداد بن أبي الساج المعروف بالأفشين :

فيها طمع المذكوران في الشام ، فسارا إليها باتفاق مع الموفق وملكا دمشق. وولى الموفق ابن ديوداد حلب وأعمالها. ثم قدم أحمد بن الموفق إلى حلب بجيشه الجرار فدخلها في ربيع الآخر منها ، ثم سار إلى قنسرين وهي لأخي الفصيص التنوخي ، وحاضر طيئ لطيئ ، وعليها سور وقلعة. ثم سار إلى شيزر فكسر العسكر المقيم بها. ثم تواقع مع خمارويه على الطواحين قرب بلد الرملة ، فكانت الغلبة أولا لابن الموفق ، ثم انعكس الحال وكسر وتفرقت عساكره ، وخرج عليه ابن ديوداد قبل وقعة الطواحين وجاء إلى حلب واستولى عليها ومعه إسحاق بن كنداج.

وفي سنة ٢٧٣ نزل خمارويه إلى حلب وصالحه ابن ديوداد ودعا له على المنابر وحمل خمارويه لوجوه أصحاب ابن ديوداد مائتي ألف دينار ، ولكاتبه نيفا وعشرين ألف دينار ، ثم راسل خمارويه أبا أحمد الموفق فأجابه وأقره على ما بيده. وفي سنة ٢٧٥ صعد خمارويه من الشام إلى مصر فعاد ابن ديوداد إلى فساده ، فقصده خمارويه فهرب منه وعبر الفرات وخمارويه في طلبه ، فهرب إلى الموفق بن المتوكل ، فأحسن إليه. وفي سنة ٢٧٦ ولى خمارويه حلب غلام أبيه طغج بن جفّ ، والد الإخشيد.

٣٦

عود حلب إلى العباسين وحوادثهم فيها

[أيام المعتضد](١)

وفي سنة ٢٨٦ قلّد المعتضد حلب وقنسرين ولده أبا محمد علي ، وولى أبو محمد بن المعتضد من قبله على حلب ابنه الحسن بن محمد المعروف بكوره الخراساني ، وإليه تنسب دار كوره داخل باب الجنان بحلب والحمام المجاورة لها ، وكانت خربت ولم يبق منها أثر. وكان كاتب محمد بن المعتضد يومئذ الحسين بن عمرو النصراني فقلده النظر في هذه النواحي.

وفي سنة ٢٨٧ خرج وصيف خادم الأفشين على الخليفة المعتضد فضم المعتضد الثغور إلى «كوره» وكان قد أسر وصيفا المذكور وأتى به إلى حلب فأقام بها يومين ، ووجد في بستان من بساتينها مالا أقرّ به وصيف أنه كان دفنه بذلك البستان أيام مولاه الأفشين ، وقدره ستة وخمسون ألف دينار ، فحمل إلى المعتضد.

حوادث أيام المكتفي

وفي سنة ٢٨٩ صرف المكتفي الخليفة الحسن بن كوره عن ولاية حلب وولى عليها أحمد بن سهل النوتجاني ، وذلك في جمادى الآخرة منها. ثم في سنة ٢٩٠ صرفه عنها وولّى مكانه أبا الأغر خليفة بن المبارك السلمي ، ووجّهه لمحاربة القرمطيّ (٢) صاحب الخال ، فإنه كان قد عاث في البلاد وغلب على حمص وحماة ومعرة النعمان وسلمية وقتل أهلها وسبى النساء والأطفال. فقدم أبو الأغر حلب في عشرة آلاف فارس ، وأنفذ القرمطيّ سرية إلى حلب فخرج إليها أبو الأغر ، إلى وادي بطنان ، فكبسه غلام القرمطي وقتل عامة أصحابه ، وسلم أبو الأغر في ألف رجل ولجأ إلى قرية من قرى حلب. وأقام القرامطة كالمحاصرين لحلب.

فلما كان يوم الجمعة سلخ (٣) رمضان سنة ٢٩٠ تسرع أهل حلب للخروج للقاء

__________________

(١) ما بين مربعين زيادة منا للتوضيح.

(٢) بكسر القاف والميم ، كما يضبطها المؤرخون والنّسابون. أما اللغويون فيجعلونها بفتح القاف والميم.

(٣) السّلخ : آخر الشهر.

٣٧

القرامطة فمنعوا ، وكسروا قفل الباب وخرجوا ، ووقعت الحرب بين الفريقين ونصر الله الحلبيين وأعانهم أبو الأغر ، فقتل من القرامطة خلق كثير وعاد الحلبيون يوم عيد الفطر.

وفي سنة ٢٩٠ ولى المكتفي حلب عيسى غلام النوشري ، وفي آخر هذه السنة توجه عيسى إلى مصر لمحاربة الطولونية واستخلف على حلب ولده. ولما رجع إلى حلب صرفه المكتفي منها إلى مصر وولى حلب أبا الحسن ذكاء بن عبد الله الأعور سنة ٢٩٢ وكان كريما يهب ويعطي ، وإليه كانت تنسب دار ذكاء ، وإلى جانبها دار حاجبه فيروز ، انهدمت وصارت تلا نسفه الملك الظاهر وظهر في بقايا من الذخائر كالزئبق وغيره ، وكان موضع سوق الصاغة ، وكان وزير ذكاء وكاتبه أبا الحسن محمد بن عمر بن يحيى النّفري ، وإليه كانت تنسب حمّام النّفري ، وداره هي المدرسة النفرية.

حوادث أيام المقتدر

وفي سنة ٢٩٥ عاثت بنو تميم في بلد حلب وأفسدوا فسادا عظيما وحاصروا ذكاء في حلب ، فكتب المقتدر الخليفة إلى الحسين بن حمدان في إنجاد ذكاء في حلب ، وكان ابن حمدان بالرحبة فسار إلى بني تميم ولقي منهم جماعة بخناصرة وأوقع بهم وأسر بعضهم ، وانصرف ولم يجتمع بذكاء. وفي سنة ٣٠٢ ولى المقتدر الشام ومصر مؤنسا الخادم نيابة عن ابنه أبي العباس بن المقتدر ، فاستناب مؤنس الخادم عنه في حلب أبا العباس أحمد بن كيغلغ في هذه السنة ، وهو الذي مدحه المتنبي بقوله (كم قتيل كما قتلت شهيد) (١). وكان أحمد المذكور أديبا ظريفا. ومن شعره قوله :

قلت له والجفون قرحى

قد أقرح الدمع ما يليها :

ما لي في لوعتي شبيه

قال : وأبصرت لي شبيها؟

ثم ولّى مؤنس الخادم على حلب في هذه السنة أبا قابوس محمودا بن جك الخراساني ، وكان جبارا عنيدا منحرفا عن أهل البيت. وفي سنة ٣١٢ عزل مؤنس الخادم أبا قابوس ، وولى مكانه وصيفا البكتمري الخادم. وفي سنة ٣١٦ عزل وصيفا وولّى مكانه هلالا ابن بدر أبا الفتح غلام المعتضد.

__________________

(١) في الأصل : «شهيدا» خطأ. وهو نعت لقتيل. وتمام البيت : «لبياض الطّلى وورد الخدود». والطّلى : الأعناق.

٣٨

وفي سنة ٣١٧ عزل هلالا وولى مكانه وصيفا ، ثانية ، فمات في حلب يوم الثلاثاء ثامن ذي الحجة منها ، وكان كاتبه عبد الله والد أبي العباس أحمد بن عبد الله الشاعر المعروف بابن الكاتب. وفي سنة ٣١٨ ولى على حلب الأمير أحمد بن كيغلغ ثانية. وفي سنة ٣١٩ ولّى على حلب غلام مؤنس الخادم ، وهو طريف بن عبد الله السبكري الخادم ، وكان شهما كريما حاصر بعض حصون اللاذقية وقهر أهلها وأحضرهم معه إلى حلب مكرمين ، وأضيفت إليه حمص مع حلب.

حوادث أيام القاهر

وفي سنة ٣٢١ قبض الخليفة القاهر مولاه مؤنس الخادم ، وولى حلب ودمشق بشرى الخادم ، فأقر بشرى طريفا على عمله وسار إلى حمص لقتال ابن طغج فكسر بشرى وأسر وخنق ، ووصل الأمير ابن كيغلغ إلى حلب واتفق مع محمد بن طغج.

حوادث أيام الراضي الخليفة

وفي سنة ٣٢٤ قلّد الراضي حلب وأعمالها بدرا الخرشني ، فبلغ خبره طريفا وكانت حلب وأعمالها بيده فأنفذ صاحبا له إلى ابن مقلة ليتوسل له بتجديد العهد وبذل له عشرين ألف دينار ، وكان الخرشني وصل إلى حلب فدافعه طريف رجاء أن يقضي أربه ، فزحف الخرشني على طريف في أرض حلب فانهزم طريف. وتسلّم حلب الخرشني فأقام بها مدة ثم طلبه الخليفة فسار إليه واستناب طريفا وقلده حلب وأعمالها. وفي أواخر هذه السنة قلد الراضي أبا بكر الإخشيد محمدا بن طغج مصر وأعمالها مضافا إلى ما بيده من الشام. وفي سنة ٣٢٥ استناب الإخشيد بحلب أبا العباس أحمد بن سعيد بن العباس الكلابي ، وفيها وردت بنو كلاب من نجد وأغاروا على المعرة وأسروا واليها وأكثر جنوده ، فخرج إليهم أبو العباس والي حلب وخلص منهم والي المعرة.

وفي سنة ٣٢٧ دخل حلب واليا عليها أبو بكر محمد بن رائق ، وقيل كان دخوله إليها سنة ٣٢٨ ولما وصل إليها استناب بها خاصة محمد بن يزداذ وسار لقتال الإخشيد ، فهزم الإخشيد وسلّم دمشق إلى ابنه مزاحم. ثم جرى بين أبي بكر وبين الإخشيد وقعة ثانية

٣٩

في «الحفار» أسر فيها مزاحم ، فرجع ابن رائق وخلّص ولده فقتل أخو الإخشيد فكفنه ابن رائق ووضعه في تابوت وبعث به إلى الإخشيد أخيه مع ابنه مزاحم الذي كان مأسورا وقال : ما أردت قتل هذا ، وهذا ولدي لتقيده (١) به. فأحسن الإخشيد إلى محمد المذكور ورده على أبيه.

حوادث أيام المتقي

استيلاء الدولة الإخشيدية على حلب وحوادثهم فيها :

وفي سنة ٣٢٩ سيّر الإخشيد كافورا من مصر ومعه عسكر ضخم ، وفي مقدمته أبو المظفر مساور بن محمد الرومي. فوصل إلى حلب هو وكافور والتقيا مع محمد بن يزداذ والي حلب من قبل رائق ، فكسراه وأسراه وأخذا منه حلب ، وتولاها مساور بن محمد الرومي ممدوح المتنبي بقوله :

أمساور أم قرن شمس هذا

أم ليث غاب يقدم الأستاذا (٢)

يريد بالاستاذ كافورا. وإلى كسرة بن يزداذ أشار بقوله :

هبك ابن يزداذ حطمت وصحبه

أترى الورى أضحوا بني يزداذا (٣)

ومساور هذا هو صاحب الدار التي كانت تعرف بدار ابن الرومي بالزجّاجين بحلب ، وتعرف أيضا بدار مستفاد ، وهي شرقي المدرسة العمادية التي جددها سليمان بن عبد الجبار بن أرتق ، وتنسب إلى بني العجمي.

ثم إن الإخشيد اتفق مع ابن رائق على أن يبقي بيد ابن رائق حمص وحلب ويحمل إلى الإخشيد مالا معلوما ويزوجه ابنته. وفي سنة ٣٣٠ قتل أبو بكر بن رائق المذكور ، وكان شهما مقداما سخيا لكنه عظيم الكبر مستبد برأيه غير موفق للصواب ، وكان نائبه بحلب أحمد بن علي بن مقاتل ومعه مزاحم بن رائق.

__________________

(١) من القود ، أي لتقتله به. والقود : القصاص. يقال : أقاد القاتل بالقتيل : قتله به قودا.

(٢) قرن الشمس : أول ما يبدو منها. يقدم : يتقدم.

(٣) ابن : مفعول حطمت. هبك : احسب نفسك.

٤٠