نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

ثم في أوائل رجب بدأ العملة يشتغلون بحفر الأسس وتمهيد الأرض في محلة السليمية عند المحطة الحالية. وتتابع العمل ، وفي برهة وجيزة من الزمن ارتفعت المباني وتحقق الناس أن المحطة لا تكون إلا في هذه المحلة. وفيها تم إحصاء النفوس في حلب وملحقاتها فزاد فيه عدد أهل حلب بالنسبة إلى الإحصاء السابق ١٤٥٨٥ شخصا ، ومع ذلك لم يكن الإحصاء مدققا فإن الناس الذين أخفوا أنفسهم من التسجيل في حلب ـ ولا سيما في ملحقاتها ـ لا يقلون عن الثلاثين في المائة ، عدا سكان البوادي الرحل فإنهم لم يسجل من عددهم عشرة في المائة. وفيها ورد من قائمقام قضاء إدلب وحارم إلى والي حلب أن بغلة شقراء عند أحمد الحمودي من عشيرة البقّارة وأهل قرية «عري» في قضاء حارم ، وبغلة أخرى عند صون آغا تومي ـ من قرية بقسمتة في قضاء إدلب ـ ولدت كل واحدة منهما بغلا ، وقد أحضر فلو (١) إحدى البغلتين إلى حلب وشاهده كثير من الناس.

ضريبة جديدة :

وفيها ورد الأمر بفرض ضريبة جديدة على الناس اسمها «ويركو شخصي» وذلك بأن يطرح على كل ذكر بالغ صحيح الجسم مقدار من المال يدفعه عن كل سنة إلى جهة الحكومة ، بحيث يكون ملحوظا في مقدار المال حالة الشخص من جهة الفقر والغنى ، على أن تكون أقل المراتب خمسة عشر قرشا في السنة وأكثرها مائتي قرش ، وأن المستخدمين في الحكومة يحسم عن كل واحد منهم في السنة من راتبه الشهري راتب يومين إن كان راتبه يبلغ خمسمائة قرش في الشهر ، وراتب أربعة وعشرين يوما إن كان راتبه فوق خمسمائة قرش. وقد استاء الناس من هذا الأمر ولا سيما الفقراء منهم ، وانتدب كثير من أهل الجد والنشاط يرفعون شكاياتهم إلى السلطان ويسترحمون منه مسامحتهم عن هذه الضريبة الجديدة فلم يلتفت إلى استرحامهم.

وكانت الحكومة باشرت جمع هذه الضريبة في جهات الأناضول ، فهاج أهل أرزروم وماجوا وامتنعوا عن دفع الضريبة وهجموا على الوالي وأهانوه وكادوا يوقعون به. وتفاقم الأمر في تلك البلدة فخافت الحكومة سوء العاقبة وصدر الأمر بإبطال هذا المكس الجديد

__________________

(١) الفلو هنا : ولد البغل. ويطلق أيضا على ولد الحصان (أي المهر).

٣٦١

الذي لم تمتنع الرعية عن دفعه إلا لعلمها بأنه سيكون من جملة ما يصرف على الخونة والمستبدين والجواسيس اللائذين بقصر يلديز ، فقد كان القسم الأعظم من مداخيل الدولة تدخل هذا القصر وتختفي فيه ، وما يبقى منها خارجه يصرف في سبيل الفسق والفجور ، وجنود الدولة وحماتها والمستخدمون فيها ومن له راتب على وظيفة شرعية يتململون على نار الفقر والفاقة لتأخر رواتبهم وحبس جراياتهم عنهم بسبب فقر بيت المال ، وما فيه من فقر ولكن الظالمين كانوا متسلطين عليه. وفي هذه السنة كان الجراد في ملحقات حلب كثيرا ولا سيما في قضاء الباب. ولما كان فصل الشتاء اهتمت الحكومة بجمع بزره وإتلافه فجمع من ذلك القضاء فقط ٣٣٩٥ شنبلا حلبيا ومجموع ذلك ١٦٩١٥٠ أقة.

٣٦٢

سنة ١٣٢٤ ه

فيها ـ في آذار ـ كان البرد في ولاية حلب شديدا والأمطار غزيرة ، وقد تواردت الأخبار من أورفة وإدلب وجسر الشغور بموت عدة أشخاص على الطرقات من شدة البرد وكثرة الأمطار وزوابع الثلج. وفي هذه السنة قدم على حلب عدد عظيم من مهاجري قافقاسيا وداغستان وغيرهما من الأمم الإسلامية الذين هم تحت حكم الدولة الروسية ، وقدم آخرون من مهاجري جزيرة كريد ، فاهتمت الحكومة بإسكانهم في ولاية حلب ، وخصصت لهم في أكثر أقضيتها جهات عمرت لهم فيها المنازل ، وأعطت كل ذي عائلة منهم قدر ما يكفيه من الأراضي ليزرعها ويعيش من خيراتها. والجهات المذكورة هي قرية خناصر ـ في قضاء منبج ـ وقرية رعده لى في قضاء كلز ، وقطعة أرض من مدينة إسكندرونة ، وقرية بالطه جي في قضاء أنطاكية ، وقطعة أرض في مدينة الرقة.

وصول قطار سكة الحديد إلى حلب :

وفي يوم الخميس ١٢ جمادى الثانية الموافق ٢٠ تموز سنة ١٣٢٢ رومية وصل إلى محطة شمندوفر (١) حلب وحماة ـ المتقدم ذكرها ـ قطار من واغونات (عجلات) العمليات ، وهي أول عجلات سكة حديدية وصلت إلى حلب ، وكان الناس قبل أيام يخرجون إلى المحطة ألوفا مؤلفة للتفرج على مدّ قضبان الحديد ، ومنهم من يتوجه إلى جهة جسر الحج للتفرج على أعمال السكة ، إلى أن كان مساء يوم الخميس المذكور أقبل القطار المتقدم ذكره وهو مزين بأنواع الرايات ، وحوله في المحطة ألوف من الناس يشاهدون وصوله.

ثم في يوم الخميس ١٦ شعبان الحادي والعشرين من أيلول سنة ١٣٢٢ رومية جرى

__________________

(١) أي الخط الحديدي. والكلمة فرنسيّةChmin de fer.

٣٦٣

الاحتفال بتدشين سكة حديد حلب وحماة على صفة باهرة ، فحضر الوالي وقائد العسكرية ومن دونهما من المأمورين والأمراء والأعيان والوجهاء ، وبعض أدباء حلب وبيروت وتلامذة المكاتب ، فتليت الخطب وعزفت الموسيقى العسكرية ، ثم ذبحت القرابين ودخل عظماء الناس إلى حجرة من من حجرات المحطة أعدّت فيها أنواع من الأطعمة الباردة فأكلوا ثم ركبوا عجلات الشمندوفر وهي مزدانة بالرايات العثمانية. وكان واقفا على طول الخط من المحطة إلى قرب جبل الجوشن صف من الناس يعدون بالالوف ، وركب جوق الموسيقى العسكرية عجلة أخرى وطفق يترنّم باللحن الحميدي والأنغام المطربة. ثم سار القطار إلى قرية الوضيحي التي تبعد عن حلب مسافة خمسة عشر (كيلومتر) وهناك استراح الركاب قدر نصف ساعة ثم عاد بهم القطار إلى حلب وهم يشنّفون أسماعهم بأنغام الموسيقى. ولما وصل إلى المحطة أكرم الحاضرون بالمرطبات والقهوة وانصرفوا إلى أماكنهم.

وفيها ألحق بقضاء أنطاكية عدة قرى كانت من أعمال جسر الشغر ، وهي : جقصونية وجوقاق وسيلوه ، وشمره جق وجيله وجوراق ، وميادون وباملكه وحاجي باشا ، وكولي وطاملاينه وعاقليه ودوايته ، وأوج أغز وجقور أوراق ، وقارلق وباسيه وعين فوار. وألحق بقضاء الجسر عدة قرى كانت من أعمال قضاء أنطاكية وهي : زرزور وهبته وعين ثابت ، وبيرون ودوز أغاج والحمام ، ودستور فوقاني وعين سماق وعين الخنزير ، وأستاريه وتروف وكوجوك كين ، وباغ ببلي وموبلين وزنباقيه وحسيني قرب. وفيها اهتمت البلدية بفرش البلاط على الجادة الكبرى الممتدة من باب دار الحكومة إلى حضرة السهروردي. فاختل بعد مدة وجيزة وأكلته بكرات العجلات فقلبته البلدية وفرشت الجادة بحجر أسود فاستقام أمره. وفيها ـ في كانون الثاني ـ كثر تساقط الثلوج على مرعش وضواحيها واشتد القرّ فهلك بسبب ذلك عدد من الناس والدوابّ.

٣٦٤

سنة ١٣٢٥ ه

مصابيح لوكس :

فيها أحضرت البلدية من مصنع لوكس نحو سبعة مصابيح وركزتها في أشهر فسحات حلب ، وهي أول مرة استصبح فيها بحلب بالمصابيح المذكورة ، والناس في حلب يسمونها الكهرباء.

وفيها ـ في حزيران ـ خصصت الحكومة في المكتب الإعدادي بحلب مكانا لأعمال تربية دودة القز ، وأباحت الدخول إليه كلّ من أراد أن يشتغل بتربية الدودة المذكورة ، ووعدت السابق منهم بنوط (١) ونقود. فأقبل على ذلك المكان صنّاع القز من حلب وأنطاكية وأعطت السابق منهم الجائزة الذي وعدت بها. وفيها في أيلول أجرت الحكومة سباق الخيل في أرض الحلبة ووعدت من يحوز قصب السبق بجائزة نقدية قدرها ليرتان إلى خمس وعشرين ليرا ، أدنى السابقين ليرتان وأعلاهم خمس وعشرون ليرا. وكان ذلك اليوم مشهودا حضره الأمراء وعظماء المأمورين والوجهاء والأعيان وألوف من الناس. وهي أول مرة أجرت الحكومة العثمانية في حلب سباق الخيل.

وفيها وضع في خان أقيول مطحنة إفرنجية عظيمة قوة محرّكها ٥٨ حصانا تنقّي الحبوب وتغسلها وتطحنها وتنخلها ، وهي تدور بقوة تسمى الغاز الفقير ، يتولد من الفحم الحجري أو النباتي. وهي أول مطحنة من هذا النوع وضعت في حلب ، وكان وضع قبلها بسنة في برية المسلخ مطحنة بقوة خمسة وأربعين حصانا يدور محركها بقوة زيت البترول المعروف بالكاز. وقبلها وضع في حلب وغيرها من بلدانها مطاحن عديدة من هذا النوع ، وهي ومعامل الجليد آخذة بالزيادة يوما فيوما.

__________________

(١) يعني بمكافأة أو تقدير ، أو ما يشبه ذلك.

٣٦٥

سنة ١٣٢٦ ه

فيها ـ في حزيران ـ ورد من الجهات الشرقية جراد طيّار نزل في حلب وضواحيها وكثير من مضافاتها ، فأكل الزروع الصيفية كالقطن والسمسم والبطيخ ، وما يوجد في بساتين حلب من الخضر كالباذنجان والخيار والقثاء ، حتى غلت أسعارها وعزّ وجودها. وكان يتهافت على قناة حيلان ونهر قويق تهافت الفراش على النار ، ففسد ماؤهما وخيف من ضرره ، فقطعت البلدية ماء القناة عن حلب وصرفته إلى النهر ، وكان الحر شديدا فاشتد احتياج الناس إلى الماء وصاروا يتكبدون في الحصول عليه مشقة عظيمة. وفي محرّم هذه السنة قدم على حلب والدة شاه العجم وأخوه ناصر الدين ميرزاخان واحتفلت الحكومة باستقبالهما وإكرامهما.

النداء بالدستور وقلب الحكومة العثمانية

من الحالة المطلقة الاستبدادية (الأتومقراطية)

إلى حالة المشروطية المقيدة (الدمقراطية)

في تاسع تموز سنة ١٣٢٤ رومية المصادف شهر جمادى الثانية من هذه السنة ورد من استانبول بلسان البرق رسالة بتوقيع سعيد باشا الصدر الأسبق ، مآلها أنه تعيّن الآن لمسند الصدارة. ثم في ثاني يوم ورد منه بلسان البرق رسالة أخرى تشعر بأن السلطان قد أمر بإعادة مجلس النواب ـ المعروف بمجلس المبعوثان ـ الذي مضى على إغلاقه بضع وثلاثون سنة. ثم أخذت الرسائل البرقية والكتب المرسلة مع البريد تتوارد كل يوم مذيعة أنه نودي في الآستانة بالحرية والمساواة.

العفو عن المنفيين :

وعقيب ذلك بأيام قلاقل وردت الأوامر إلى الحكومة بصدور العفو العام عن المنفيين

٣٦٦

في جميع جهات البلاد العثمانية ، الذين كان نفيهم لجرائم سياسة (المراد هنا بالجرائم السياسية غضب السلطان عبد الحميد عليهم بسبب مسّهم إياه بكلمة ، أو إشارة إلى بعض مظالمه). وكان منهم في حلب زهاء خمسين منفيا ، عدا من كان يوجد منهم في بقية بلاد حلب ، وهم ما بين أمير ملكي وقائد عسكري ، وأديب وكاتب ، ومهندس وطبيب. فسرّوا من هذا الخبر سرورا عظيما ، وأخذوا يسافرون إلى أوطانهم زمرة بعد زمرة حتى لم يبق منهم واحد. وكان أكثرهم مقيما في محلة الجميلية ، ففرغت منهم المنازل التي كانوا يسكنونها وهبطت أجورها ، وبقي الكثير منها فارغا مدة طويلة.

صدور الأمر بإطلاق السجناء :

وفيها ورد الأمر بصدور العفو عن السجناء المحكومين بجرائم سياسية. وفي ثاني يوم من ورد هذا الأمر اجتمع تجاه دار السجن جماعة من كبار الموظفين الملكيين والعسكريين ، وأخرج من السجن نحو عشرين شخصا محكومين بجرائم سياسية وأكثرهم من الأرمن ، فألقيت عليهم الخطب الحبيّة ، وخوطبوا بالإخاء وبنوة الوطن ، والتوجع والأسف على ما كان من حبسهم واضطهادهم ظلما وعدوانا في أيام الاستبداد الحميدي. ثم عانقهم أكثر الحاضرين وودعوهم وانصرفوا إلى أوطانهم وكان ذلك الموقف مؤثرا لم تملك العيون فيه دموعها. وفي هذا اليوم جرى مثل ذلك في جميع سجون الولاية من الألوية والأقضية.

إبطال التجسس :

وفي هذه الأيام أبطلت الجاسوسية المعروفة باسم : خفية. وفيها ـ في ٢٤ تموز ـ ورد بلسان البرق أن كامل باشا الصدر الأسبق قد تبوأ مسند الصدارة بدل سعيد باشا.

صدور الترخيص بالسفر :

وفي هذا التاريخ ورد من نظارة الداخلية بلسان البرق صدور الإذن العام لكل عثماني أراد السفر من بلده إلى بلدة أخرى من البلاد العثمانية أو غيرها من البلاد الأجنبية. فسرّ الناس من هذا الإذن سرورا زائدا ، خصوصا طائفة الأرمن وبقية الطوائف المسيحية ، وذلك أن من كان يريد السفر من بلده في أيام الاستبداد الحميدي فرارا من الظلم والجور يتكبد عرق القربة بالحصول على تذكرة المرور. هذا إذا كان سفره لغير أميركا ، أما إذا

٣٦٧

كان سفره إليها فإنه يكاد يستحيل عليه أن يسافر إليها إلا هربا ، خصوصا إذا كان من جماعة الأرمن ، حتى إنه كان يوجد في كثير من ثغور البحر الأبيض ـ كبيروت وحيفا وصيدا ـ شركات لتهريب المسافرين إلى البلاد الأميركية ، فكانت الشركة تأخذ ممن يريد السفر إلى تلك الجهات ليرتين إلى عشر ليرات ، وتهرّبه بواسطة زورق تحمله فيه من فرضة عسرة المسلك أو بعيدة عن العمران. وكثيرا ما كان ولاة بيروت ورجال الدرك فيها يأخذون من تلك الشركات شيئا معلوما على كل مسافر فيجتمع لهم من ذلك مقدار عظيم من المال.

وفي أوائل رجب منها قرر أمراء العسكرية وضباطها ـ ومن انضم إليهم من موظفي الحكومة والأعيان في حلب ـ بأن يحتفلوا بزينة وإحياء ليلة لسماع الموسيقى وآلات الطرب وإلقاء الخطب التي موضوعها التنويه بالحمد والشكر على المناداة بالقانون الأساسي ، وعود مجلس المبعوثان ، وانتشار راية الحرية والعدل والمساواة بين جميع العناصر العثمانية ، على أن يكون إحياء تلك الليلة في بستان الشاهبندر ليلة الاثنين ٦ رجب الموافق ٢٢ تموز الرومي. وفي مساء يوم الأحد أقبل الناس إلى البستان المذكور ، ولما انتظم عقد المدعوين قام الخطباء يتلو بعضهم بعضا يلقون الخطب باللغتين التركية والعربية ، مآلها ما ذكرناه ، وهي أول خطب ألقيت في حلب بعد قرون طويلة لم ينقل إلينا التاريخ في أثنائها أن أحدا ألقى في حلب خطبة سياسية على رؤوس الأشهاد ، فيها بيان خطأ سلطان أو خليفة أو أمير ، حتى زالت هذه الملكة من علماء حلب وكتّابها ، وصار يعسر على النابغة منهم إيراد خطبة ولو على المنبر خصوصا في أيام السلطان عبد الحميد. ولذا كانت تلك الليلة مما دهش له الناس حينما سمعوا الخطباء تنطق ألسنتهم في مدح العدل والحرية والمساواة والتنديد بالظلمة والمستبدين. غير أن بعض من لا خلاق لهم من العامة أصبحوا بعد تلك الليلة يتظاهرون بالفسق والفجور وعدم المبالاة بالحكومة ، لفهمهم بأن الحرية التي نودي بها هي عبارة عن الرخصة لكل إنسان أن يعمل كل ما يريده دون قيد أدبي أو ديني.

وبعد هذه الليلة بدأ الحزب المتقهقر قبل إعلان الحرية يطلقون ألسنتهم علنا بذكر مظالم السلطان عبد الحميد وتنفير القلوب منه ، وذكر مساوىء حاشيته وأعوانه وجواسيسه ويصرّحون بشتمهم ولعنهم. فارتاع لذلك أهل الصيّال قبل الإعلان المذكور في حلب وغيرها ، وظهر على عظمائهم وعتاتهم الذل والانكسار ، فانزووا عن الناس ولزموا بيوتهم.

٣٦٨

ثم بعد أيام قليلة تألّف في المكتب الإعدادي الملكي جمعية عظيمة قوامها الضباط وبعض المأمورين وجمهور من أهل البلدة ، فاختاروا من الحاضرين جماعة سموّهم جمعية الاتحاد والترقي العثماني ، وألقي في ذلك الاحتفال الخطب التي مآلها مدح الحرية والمساواة وبيان مظالم بعض الأسر الحلبية وكثرة جورهم وتعديهم. وقد جعلت هذه الجمعية فرعا لجمعية الاتحاد والترقي العثماني في سلانيك المنعقدة تحت رياسة أنور بك ونيازي بك بطلي هذا الانقلاب. وقد تحالفت هذه الجمعية بجميع فروعها على التفاني والتهالك في سبيل المحافظة على تنفيذ أحكام القانون الأساسي والضرب على يد كل من خالفها وحاول المروق عنها. وجعل لهذه الجمعية فروع في جميع ألوية الولاية وأقضيتها أسوة بأمثالها من الولايات العثمانية ، وعمل لها زينة في كل لواء وقضاء ، وعين لها مكان للاجتماع يسمى (كلوب).

وأول شيء قامت به هذه الجمعيات هو السيطرة على المأمورين وتدقيق أحوالهم فكانت الجمعية متى سمعت بموظف يميل إلى الرشوة والمحاباة ترسل إليه من يتهدده ويتوعده فلا يلبث غير قليل حتى يستقيل من وظيفته. وبهذه الواسطة استقال نحو نصف الموظفين الذين كانوا متخذين الوظيفة وسيلة لجمع المال ، غير مبالين ـ في سبيل الوصول إلى رغائبهم ـ من تضييع الحقوق وتخريب البيوت وتخليد الأبرياء في السجون. على أن كثيرا من ذوي الأغراض والمقاصد السيئة صاروا ينسبون أنفسهم إلى هذه الجمعية الحرة ويتسلطون على الحكّام والموظفين البريئين من دنس الجرائم. ولهذا بدأ الناس ينقمون على الجمعية بعض أعمالها وينددون بانحرافها عن جادة العدل التي لم تنعقد الجمعية إلا لأجل السلوك عليها.

وقد جرى نظير ذلك في الآستانة وأكثر البلاد العثمانية ، حتى فطن مركز الجمعية الكبرى في سلانيك بأعمال هؤلاء المتطفلين عليها ، فصارت ترسل إنذاراتها إلى الولاة وتحذرهم من مجاراة أولئك المتطفلين ، وتظهر تبرّؤها منهم ومن أعمالهم. غير أن الولاة كانوا لا يقدرون على منعهم والتعرض إليهم فوقعوا تحت نير تسلطهم وصاروا مغلوبين على أمرهم مغلولة أيديهم عن مباشرة إصلاح أحوال ولاياتهم وتنظيم أمورها ، فأصبحت الحالة بسبب ذلك شبيهة بالفوضى ، وكثر التجاهر بالمعاصي والفجور ، ونهض أهل الدعارة واللصوص في المدن والقرى يتصدّون لقطع الطرق وسلب أموال الناس ، وقام القرويون يطردون من قراهم أصحابها وينتهبون مدخرات حبوبهم وأصبح الناس في أمر مريج.

٣٦٩

وفيها ـ في أواخر فصل الربيع ـ قدم على حلب والجهات الشرقية من ولايتها جراد كثير أتى على ما في البساتين من الخضر والبقول ، وأكل ما في القرى من الزروع الصيفية كالبطيخ والقطن والسمسم ، ثم غرز في الجهات المذكورة ، فخاف الناس ضرره في العام التالي وضنّ أهل الثراء من المزارعين والمحتكرين بما عندهم من الحبوب فحبسوها عن البيع ، فارتفعت أسعارها ارتفاعا فاحشا ، وبيع شنبل الحنطة بمائة وعشرة قروش بدل ثمانين قرشا. وكان شمندوفر (١) حلب وحماة ينقل من حلب كل يوم إلى ثغر بيروت نحو خمسمائة شنبل ، فقام فقراء الناس وغوغاؤهم واجتمعوا ، وأقبلوا جماهير على دار الحكومة يطلبون منها منع تسفير الحبوب بالشمندوفر. فلم تلتفت الحكومة إلى طلبهم مستندة على قاعدة (التجارة حرة) وحينئذ اجتمع من عامة الناس جمهور عظيم.

وفي ضحوة يوم الخميس ٢٤ رجب والسابع من آب هاجوا وماجوا وتراكضوا في الأسواق والشوارع ، ينهبون ما يجدونه في الدكاكين والخانات من الأموال والأقوات ويصيحون ويضجون ، فأجفل الناس من أمامهم وأسرعوا لقفل حوانيتهم ، ووقع الفزع في قلوبهم فتراكضوا إلى منازلهم. ونمي الخبر إلى الوالي ناظم باشا والقائد العسكري باكير باشا فأسرعا الكرّة نحو باب الجنان لردع هؤلاء الغوغاء وصدّهم عن خانات الحبوب الموجودة هناك ، وصحبا معهما عددا كافيا من العساكر فلم يبال الدّعّار بذلك ظنا منهم أن الحرية تبيح لهم هذا العمل ، فظلوا منهمكين بنهب الحبوب والتطاول على الناس. وحينئذ أمر القائد بعض الجنود بإطلاق الرصاص عليهم تهديدا وتخويفا ، فأطلقوا عياراتهم فخافت تلك العصابة من هجوم العساكر عليهم فوقفت عن حركتها ، ثم هرب بعضها وألقي القبض على آخرين وزجّوا في السجن. ثم تتبعت الحكومة المنهزمين وقبضت عليهم وزجّتهم في السجون ، وبعد الفحص والتحقيق عنهم أطلقت البريء منهم ونفت المتعدّي إلى البستان وغيرها. حتى إذا كانت أوائل شوال هذه السنة أطلقت سراحهم من المنفى.

على أن الحكومة بعد انقضاء هذه الحادثة رأت طلب الناس منع إخراج الحبوب إلى خارج الولاية صوابا ، فأصدرت أمرها إلى البلدية بمنع تسفير الحبوب بالسكة الحديد ، وأقامت الخفراء لمنع التسفير على محطة حلب والوضيحي ، وبو الظهور ، وأمّ ارجيم

__________________

(١) أي الخط الحديد ، كما سبق قبل بضع صفحات.

٣٧٠

والحمدانية. فانقطع تسفير الحبوب ووقفت أسعارها عن التصاعد. وكان هذا المنع صوابا لأن الجراد الذي كان غارسا في جهات الولاية لم يأت عليه شهر نيسان حتى نقف وأخذ يزحف على الزروع ، فأكل جميع حقول الشعير ، ونحو ثلاثة أرباع حقول الحنطة والقطاني ، فارتفعت الأسعار ارتفاعا فاحشا وبيع شنبل الحنطة بمائة وخمسين إلى مائة وثمانين بدل مائة وعشرين قرشا. هذا مع منع تسفير الحبوب ومجيء الحبوب والدقيق من حماة ودمشق كل يوم. ولو لا ذلك لعدمت الأقوات وأكل الناس بعضهم ، وقد تبعت أسعار الأقوات بعضها فارتفع سعر الزيت من ١٥ إلى ٣٠ وسعر السمن من ٣٥ إلى ٧٠.

خطبة عامة في الجامع الكبير :

وفي أواخر شعبان هذه السنة قدم من استانبول على حلب رجل من أذكياء علماء كركوك يقال له الشيخ عناية الله أفندي ، وكانت جهة مقصده الموصل وهو عضو سيّار في جمعية الاتحاد والترقي العثماني. وفي يوم قدومه إلى حلب قصد منزل الوالي ناظم باشا واستدعى بواسطته طائفة من علماء حلب فأطلعهم على منشور عضويته ، وكلفهم أن يسعوا بحشد الناس وجمعهم في مكان فسيح ليلقي عليهم خطبة أمرته الجمعية بإلقائها في جميع البلدان التي يتجول بها. فقر الرأي على حشد الناس في الغد في الجامع الكبير. وفي صبيحة الغد خرج أشخاص ينادون في الأسواق بما معناه : (معاشر الناس من كل ملة ودولة ، سيلقى بعد الظهر في الجامع الكبير خطبة فاحضروا لسماعها).

وبعد ظهر ذلك اليوم أقبل الناس إلى الجامع الكبير مسلمين ومسيحيين وإسرائليين وإفرنج حتى غصت بهم رحبة الجامع ، وكان الشيخ عناية الله واقفا على الدكّة الحجرية في وسط رحبة الجامع ، ومعه الوالي وجماعة من أهل العلم. فاعتلى كرسي الخطابة وافتتح خطبته بصوت جهوري وما زال يتلوها مرتلة حتى أتى على آخرها ، وقد استغرفت تلاوتها نحو نصف ساعة ، وخلاصتها : حمد الله تعالى وشكره على نعمة الحرية والمساواة والعدالة والاتحاد ، ومدح هذه الخلال وبيان فضائلها والحثّ على التزامها وعدم الحياد عنها ، وأن تكون الأمة العثمانية على تمام الوفاق والتحابب مع بعضها مهما اختلفت مذاهبها ومشاربها ، وأن هذه الأمور هي أقصى غايات جمعية الاتحاد والترقي العثماني التي سعت بقلب الحكومة العثمانية من الحكومة المطلقة إلى الحكومة المقيدة المعروفة بالمشروطية ، وأن المشورة من

٣٧١

المسائل التي أمرت بها الشرعية (١) المحمدية بلسان القرآن العظيم ، وأن مجلس المبعوثان هو عبارة عن مجلس الشورى وأن الواجب على الأمة ألّا تنتخب لهذا المجلس إلا من عرف بالعلم والاستعداد والصلاح والتقوى إلخ ما قال.

افتتاح نادي جمعية الاتحاد :

وفي أواخر شعبان أيضا فتح في فندق خان قورت بك مكان سمي منتدى جمعية الاتحاد والترقي العثماني ويعرف عند الأتراك باسم (كلوب) ، يجتمع فيه أعضاء الجمعية المذكورة للمذاكرة والمفاوضة. وقد أقبل الناس عليه يسجلون أسماءهم بدفتر الجمعية ، وبعد أن يحلفوا للجمعية يمين الإخلاص تعتبرهم من حزبها. وفي يوم افتتاح هذا المنتدى حضر الوالي والقائد العسكري وجمهور من العلماء والأعيان ولفيف من كهنة الطوائف المسيحية وتليت فيه الخطب باللغة التركية والعربية ، وكلها ترمي إلى غرض واحد وهو مدح المشروطية والحرية والاتحاد والعدل والمساواة.

انتهاء مرمّات الجامع الكبير :

وفي رمضان من هذه السنة انتهت مرمّات الجامع الكبير التي كان الشروع فيها منذ سنة ، وهي تجصيص أكثر جدران الجامع داخلا وخارجا وترميم الرواق الشرقي من جهة الحجازية ، وتوسيع باب الحجازية المذكورة وتوسيع شبّاكها وفرشها بالرخام ، وتجديد رخام الرواق الشرقي والرواق القبلي ، وتوسيع باب قبلية الأحناف من جهة الغرب وتوسيع باب القوافين وغير ذلك ، ورفع طرابزون كان يتوسط القبليتين ويقطعهما شطرين طولا من الشرق إلى الغرب ، ونقل سدّة قبلية الأحناف إلى محلها الحالي ، وفرش هذه القبلية بالسجاد الجديد وتنويرها بمصابيح لوكس وغير ذلك.

وقد بلغت النفقات على هذه الإصلاحات زهاء ثلاثمائة ألف قرش هي بدل أحكار معجّلة عن أراض ظهرت جديدا في جهات التلل قرب محلة العزيزية وكانت قبلا غير معروفة أنها من جملة أوقاف الجامع. وكان العمدة في هذا الترميم مفتي حلب الشيخ محمد العبيسي

__________________

(١) كذا في الأصل ولعلها : «الشريعة».

٣٧٢

الحموي. وللوالي ناظم باشا في هذا الترميم واستحصال الأرض سعي يستحق أن يذكر فيشكر.

وفي هذا الشهر أيضا ورد على حلب وفد من جمعية الاتحاد والترقي العثماني ، فاحتفلت الحكومة باستقبالهم وأنزلتهم في فندق دوبارك في بستان الشاهبندر ، على نفقة البلدية التي عملت لهم ضيافة حافلة حضرها الوالي والقائد العسكري وغيرهما من كبار الموظفين ، وتليت الخطب وعزفت الموسيقى العسكرية ، وكانت ليلة حافلة.

إبراهيم باشا ابن معمو التمّو :

وفي هذا الشهر أيضا مات إبراهيم باشا ابن معمو التمّو الكردي ، في الموضع المعروف بتل شرّابة ، بين قضاء نصيبين ولواء الزور ، وهو من عشيرة كردية يقال لها عشيرة الملية تبلغ زهاء أربعمائة بيت ، تقيم تحت خيام الشعر في جهات «ويران شهر» من أعمال قضاء رأس العين التابعة لواء الزور. والرجل المذكور شيخها ورئيسها ، وكان والده توفي في حلب في حدود سنة ١٢٩٥ ودفن في زاوية الشيخ جاكير خارج باب النيرب فخلفه ابنه هذا في المشيخة على عشيرته ، وكان يعرف إذ ذاك بإبراهيم آغا. وبعد أن صار شيخ العشيرة المذكورة اقتفى أثر آبائه وأجداده في شن الغارة على العشائر الكردية والعربية وأسرف بالنهب والسلب ، خصوصا في عشيرة قره كج فإنه لم يبق لها سبدا ولا لبدا (١).

ولما كثر تشكي هذه العشائر منه أمسكته حكومة ولاية ديار بكر ونفته إلى سوارك ، فبقي فيها إلى حدود سنة ١٢٩٧ وفيها استغاث بوالي حلب جميل باشا وقدم له تقدمة جزيلة ، فسعى باستقدامه إلى حلب فحضر إليها ومعه الخيول المطهّمة (٢) العربية هدية خص بها الوالي المشار إليه ، فشفع به عند السلطان عبد الحميد وصدر العفو عنه وعاد إلى وطنه «ويران شهر». ولما تألفت الكتائب الحميدية من سكان البوادي مضاهاة لكتائب القوزاق في دولة روسية ، جعل إبراهيم آغا مقدّم مائة ثم مقدّم ألف ثم أمير لواء ، ومن ذلك الوقت صار يدعى إبراهيم باشا. وقد كثرت أتباعه وشيعته واستقدم إلى الآستانة لعرض كتيبته فشخص إليها مع عدد وافر من عشيرته الجند «الحميدي» البالغ حد النهاية بحسن البزّة

__________________

(١) أي لم يبق لها شيئا قليلا ولا كثيرا. وهما في اللغة كناية عن الإبل والغنم.

(٢) أي الحسنة التامة ، أو المتناهية الحسن.

٣٧٣

والرونق. وقدّم إلى السلطان عبد الحميد من الخيول العربية والسّمن العربي ما جعله يعتقد أنه من خواصّ محبّيه ومواليه. واتصل بوالدة السلطان وقدّم لها مبالغ طائلة فسرّت منه أيضا ودعته بقولها : أنت ابني. وأحسن إليه السلطان بالأوسمة العظيمة وأمر بأن يبلّغ سلامه.

ثم عاد إبراهيم إلى وطنه فازدادت سطوته وعظمت نكايته وصارت أتباعه تشنّ الغارة على العشائر المجاورة له ، والقرى التي هي من أعمال أورفه وولاية ديار بكر. حتى خرب الكثير منها بسبب جلاء أهله عنه وضرب على القفول والكروان (١) التي تمر من تلك النواحي ضريبة من المال تدفع إليه وإلا سلّط أتباعه عليها وانتهبوها. فضج أهل تلك الجهات من جوره وواصلوا الشكايات عليه لحكوماتهم مدة طويلة فلم يجدهم ذلك نفعا ، لأن الولاة كانوا لا يجسرون على الإيقاع به لعلمهم بالتفات السلطان إليه. ولشدة اشتهار أتباعه ومواليه بالنهب والسلب صار كثير من الدعّار والشطّار الأجانب عنه يقطعون الطرقات ويتسمّون بأسماء أتباعه وأعوانه. فعظم ضرر الناس من ذلك وأخذوا يوالون التشكي عليه إلى الدوائر الكبرى في الآستانة : كالباب العالي ، ونظارة الداخلية والكتابة الأولى في «المابين» (٢). وشخص جماعة من بلاد الرها إلى الآستانة للتشكي عليه وبذلوا في إزالة ضرره النفيس والغالي ، فلم يحصلوا على طائل ورجعوا بالخيبة لأن تلك الدوائر كانت تعلم أيضا أن إبراهيم ملحوظ السلطان وأحد منابع استفادته.

ثم شرع الناس يتشكون منه لذات السلطان على لسان البرق مخاطبين إياه بلهجة عنيفة غير مبالين بما كان عليه من الشدة والجبروت ، وتجهز منهم جماعة من أهل الثراء وسافروا إلى الآستانة بقصد التظلم من أعمال هذا الرجل وصرفوا على نوال غايتهم المبالغ الوفيرة والأعوام العديدة فأخفق سعيهم وعادوا خائبين. وكان هذا الرجل لا يفتر شهرا واحدا عن تقديم الهدايا إلى السلطان ووالدته وكبار جواسيسه ومطبخه وإصطبله ، يقدّم إلى السلطان ووالدته وبعض جواسيسه النقود الكثيرة ، وإلى المطبخ صناديق السمن ، وإلى الإصطبل الخيول الأصائل. وبهذه الواسطة كان السلطان لا يسمع فيه وشاية ولا يصغي

__________________

(١) أي القوافل.

(٢) المابين : الجناح الإداري الملحق بقصر السلطان والمرتبط بأوامره مباشرة.

٣٧٤

لشكوى أحد منه. ثم لما تمادى الرجل على بغيه وعدوانه هاج الناس وماجوا في ولاية ديار بكر وحلب وأخذوا يوالون فيه الرسائل البرقية المشتملة على أشد العبارات التي يخاطب بمثلها ذلك السلطان العظيم. وقد ساعدهم والي حلب ووالي ديار بكر وأيّدا شكاويهم وجعلاها مصبوغة بصبغة سياسية.

وحينئذ خشي السلطان عاقبة الإغضاء عنه إلى ذلك الحد فأصدر إرادته بتأليف لجنة من عدة أشخاص للفحص عن أحوال هذا الرجل على أن يكون محل اجتماع هذه اللجنة في مدينة ديار بكر وأن يكون ثلاثة أشخاص من هذه اللجنة من مدينة حلب وشخص من مدينة حماة وآخر من أورفة وبقية أعضاء اللجنة من ديار بكر ورئيسها واليها. فاختار مجلس إدارة حلب أن يعيّن لهذه اللجنة من ديار بكر ، ورئيسها واليها. فاختار مجلس إدارة حلب أن يعيّن لهذه اللجنة مرعي باشا الملاح والشيخ حسين أفندي الأروفه وي وأحمد أفندي ميسّر. وبعد أن أخذوا نفقات طريقهم وفرض لكل واحد منهم يومية كافية ، سافروا إلى ديار بكر واجتمعوا مع باقي إخوانهم وشرعوا يفحصون أحوال هذا الرجل فحصا مدققا ، فظهر لهم صدق شكاوي الناس عليه وأنها غير مبالغ فيها ، إلا أنهم رأوا أن تمام التحقيق عنها متوقف على استجوابه عما نسب إليه لعله يدلي به عذرا ، فأرسلوا بطلبه فلم يحضر وأرسل يعتذر بأنه منحرف الصحة ، فلم يجسروا على إحضاره قسرا لعدم الرخصة لهم بذلك. ولما لم يروا فائدة من مثابرتهم على التحقيق عن أحواله حلّوا عقدة اجتماعهم وعاد الغرباء منهم إلى أوطانهم بعد أن غابوا عنها زهاء ستة أشهر.

ثم في شعبان هذه السنة أصدر السلطان إرادته بإشخاص إبراهيم باشا المذكور إلى الحجاز لينضم إلى الجنود السلطانية المخيّمة هناك ويعاونهم على ردع قبيلة عوف وهوازن وغيرهما من القبائل العربية التي قامت تعارض الدولة في مدّ السكة الحديدية من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة. فامتثل إبراهيم الأمر ونهض من محلّه «ويران شهر» وقصد الحجاز من طريق حلب فوصل إليها في بضعة أيام ، ونزل هو وعساكره الحميدية في الميدان الأخضر تحت خيام قدمت لهم مع الأطعمة والعلف من قبل الثكنة العسكرية. وقد استقبله الوالي والقائد العسكري واحتفلت الحكومة بنزوله احتفالا باهرا. وبعد أن بقي في حلب بضعة أيام بارحها إلى جهة دمشق على قطار السكة الحديدية ، وما كاد يستقر في دمشق قراره إلا وحدث الانقلاب ونودي بالدستور ، فارتاع إبراهيم باشا من ذلك وخاف أن يلقى القبض

٣٧٥

عليه لما يعلمه من نفسه بأنه أول من يستحق العقوبة والتنكيل على سابق أعماله ، فأظهر للمشير في دمشق أنه يريد الرجوع إلى حلب ليحضر بقية جنوده. وقبل أن يأذن له المشير بالرجوع إلى حلب نهض من دمشق في الليل وكرّ راجعا إلى وطنه من طريق حلب إلا أنه لم يدخلها بل توجه إلى جهة «ويران شهر» من خارج حلب.

وحينما تحققت الحكومة هربه أرسلت في طلبه الجنود من حلب يقتفون أثره فلم يدركوه إلا في جهات ماردين معتصما في جبل هناك ، فشددوا عليه الحصار مدة شهر ، ولما علم بأن لا مناص له من سطوة الجنود ركب جواده وقصد أن يسلم نفسه طائعا مختارا. وكان التعب والسهر قد أنهكا جسمه واستولى عليه الهم والغم ، وبينما هو راكب جواده إذ وقف ونزل إلى الأرض وفي برهة دقائق فاضت نفسه. والمروي عن هذا الرجل أنه كان يوجد عنده نحو مليونين من الليرات وأنه عمل نفقا خفيا في الأرض وكنزها فيه ، وأن المعمار الذي عمل له هذا النفق قتله حالما فرغ من عمله كيلا يخبر عنه. وقيل إن هذا النفق لا يدري مكانه سوى ولده الكبير والله أعلم. وعلى كل حال فإن إبراهيم باشا كان على جانب عظيم من السخاء والدهاء والشجاعة ، يتكلم باللغة الكردية التي هي لغة آبائه وأجداده وعشيرته ، وباللغة العربية التي هي لغة أمه وزوجته ، وباللغة التركية التي هي لغة الدولة. ويذكر أنه أنشأ في سواريك مكانا شبه تكية يطعم فيها الفقراء والمسافرون رحمه الله.

الشروع بانتخاب النواب المعروفين بالمبعوثان :

وفيها في رمضان وردت المضابط من مراكز أقضية الولاية تفيد بأن عدد ذكور الولاية الذين أعمارهم فوق الخامسة والعشرين ٢٨٤١٠٢ نسمة ، فاتضح من ذلك أن عدد المبعوثين الذي يجب انتخابهم من ولاية حلب ستة أشخاص لكل خمسين ألف ذكر تقريبا شخص.

تنازل السلطان عن أملاكه ومزارعه :

في هذا الشهر تنازل السلطان عبد الحميد خان إلى بيت المال عن دخل جميع المسقّفات المعروفة باسم الأملاك السنية ، والقرى والمزارع المعروفة باسم الجفاتلك الهمايونية في سائر البلاد العثمانية. وكان دخلها يقدر بربع دخل جميع المملكة العثمانية ، وكان السلطان يستأثر

٣٧٦

به وحده علاوة على رزقه من بيت المال الذي كان لا يقل عن تسعين ألف ذهب عثماني في الشهر.

ما هي الأملاك السنية والجفاتلك الهمايونية؟

لما استولت الدولة العثمانية على هذه البلاد كان العمار غالبا على برّها ، والزراعة سائدة في أكثر أنحائها ، ثم لم تلبث غير قليل بسبب سوء إدارة حكامها إلا وأخذ العمار ينزح عنها ويحل محله الخراب حتى كاد يعم جهتي الجنوب والشرق من ولاية حلب. وكانت جهة الجزيرة في منتهى درجات العمار بحيث كانت ولاية عظيمة عاصمتها الرقة ، ولما دخلت تحت استيلاء الدولة العثمانية اعتبرتها أيضا ولاية واستمرت ترسل إليها واليا يحكمها على انفرادها ، إلى أن أخذ عمرانها بالانحطاط صارت تعهد بالولاية عليها إلى والي حلب وتسمّيه والي حلب والرقة. وما زال الخراب يشن عليها غاراته حتى ألقى فيها جرانه (١) وخلت من السكان الحضر ، ولم يبق من أرضها معمورا سوى واحد في المئة وخلت مدينة الرقة من الحكومة وأصبحت عاصمة الرشيد قرية يسكن أهلها تحت مضارب الشعر مستمرة على هذه الحالة نحوا من قرن ونصف.

ولما جلس السلطان عبد المجيد خان على العرش العثماني ألفت نظره إلى جميع ما في المملكة العثمانية من القفار الواسعة والمفاوز الشاسعة ، خصوصا ما كان من ذلك في الشام والجزيرة والعراق ، فاعتبر السلطان هذه البراري ، مواتا وعزم على إحيائها لتكون ملكا له بحكم :«من أحيا مواتا فهي له» (٢). فعمل لأجل هذه الغاية ديوانا خاصا جعل وظيفته السعي والاهتمام بإحياء هذه الأراضي ، وأمده بشيء من ماله لينفقه في هذا السبيل ودعا هذا الديوان (جفتلك همايون إداره سى) إدارة المزارع السلطانية ، وفوضه أن يشتري له مسقّفات وأملاكا في البلاد العثمانية. فباشر هذا الديوان وظيفته واشترى له عدة أملاك وعقارات في حلب وغيرها كالخانات والحمامات والبساتين. ومن جهة أخرى بذل الديوان اهتمامه بإحياء الأراضي واستعان على إعمارها بالولاة والأمراء العسكريين ، وبعد العناء الطويل

__________________

(١) أي ثبت واستقرّ. والجران في اللغة : مقدّم عنق البعير.

(٢) في سنن الترمذي ٥ / ٦٧ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : «من أحيا أرضا ميتة فهي له». وإحياء الأرض يكون بالسقي أو الزرع أو الغرس أو البناء.

٣٧٧

تمكن الديوان من تحضير بعض العشائر البدوية وإسكانها في قرى حقيرة بنيت لهم في تلك البراري. ومن ذلك اليوم عادت روح العمار تدبّ رويدا رويدا في جهتي الشرق والجنوب من ولاية حلب ، وجهة الجزيرة التي عاصمتها الرقة.

ولما جلس السلطان عبد الحميد خان على كرسي المملكة العثمانية سنة (١٢٩٣) اهتم بهذه المسألة اهتماما عظيما وأسس لها في استانبول ديوانا خاصا سماه (خزينه خاصه نظاره سى) نظارة الخزينة الخاصة. وجعل له فرعا في كل بلدة يوجد في برّها أراض موات ، سماه إدارة الجفتلك الهمايوني. فاجتهدت هذه الإدارة بإعمار القرى على أطلالها القديمة وأسكنتها جماعة من العربان وقدّمت لهم ما يحتاجونه من الدواب والمؤنات وآلات الحراثة ، وسامحتهم من الجندية وسائر الضرائب الأميرية سوى رسوم عدّ الغنم التي توجد في هذه القرى أو التي تمر منها ، وسوى الأعشار وكومة الطابو ، فإن الإدارة جرت في أخذها من الزراع على قاعدة سمّتها التخمين ، وهي أن يقدر أهل الخبرة البيدر ـ قبل أن يدرس ـ بقدر معلوم من الحب ويكتب على صاحبه سبعة عشر في المئة من مجموع الحبّ المقدر ، عشرة من هذه السبعة عشر هي العشر الشرعي ، والباقي ـ وهو سبعة أجزاء ـ أجرة الأرض وتسمى كومة الطابو ، وبعد أن تتم دراسة البيدر ويتمحض الحب يحمل صاحبه القدر المفروض عليه إلى المستودع المعين لناحيته ويسلّمه إلى حافظ المستودع ويأخذ به وصلا. وكانت إدارة الجفتلك هذه تأخذ العشر الشرعي أيضا لنفسها مع أن العشر حق بيت المال كما لا يخفى.

وقد نجحت هذه الفروع في أعمالها ، وجد في ولاية حلب قرى كثيرة يربو عددها على الخمسمائة ، وكثر عدد سكان الرقة واستعمل عليها حاكم صغير باسم مدير ، ثم زاد العمار في جهاتها وأنشأ فيها السلطان جامعا وجعلت مركز قضاء وتعين لها قائمقام. وهكذا كان العمل في منبج. وقد بلغ دخل السلطان من هذه القرى التي هي في شرقي الولاية وجنوبها سبعين ألف ذهب عثماني في السنة المتوسطة بين الخصب والجدب ، وذلك عدا رسوم الأغنام التي كان يستأثر بها السلطان أيضا. ولما خلع هذا السلطان وضعت الحكومة يدها على سائر الأملاك والمزارع المذكورة وسمتها الأملاك المدورة ثم الأملاك الأميرية وصارت تجبي غلاتها على قاعدة التخمين السالفة الذكر إلى جهة خزانة الحكومة ، وألغيت النظارة الخاصة في استانبول وفروعها في خارجها وأنيط النظر في الأملاك المذكورة بدواوين مالية الدولة

٣٧٨

التي تعرف باسم المحاسبة وسميت هذه الأملاك بالأملاك الأميرية.

وفي هذه السنة ورد من نظارة المعارف رخصة بإصدار عدة صحف إخبارية مثل جريدة الشهباء وصدى الشهباء والشعب والتقدّم وغيرها ، فصدرت أكثر هذه الجرائد وأقبل الناس عليها ولا إقبال الجياع على القصاع ، لأنهم في عهد الاستبداد الحميدي كانوا لا يطّلعون على جريدة مصرية أو بيروتية إلا بشق الأنفس. وفي هذه السنة أعلن البلغاريون استقلالهم بالروملّي. وفيها انتهت أعمال سكة حديد الحجاز وبدأ القطار يسير من دمشق إلى المدينة المنورة.

٣٧٩

سنة ١٣٢٧ ه

فيها ولي حلب رشيد بك وكان من دهاة الرجال.

وفي صفرها فتح في جادة باب الفرج تجاه التكية المولوية مكان جديد تأسست فيه جمعية جديدة سميت جمعية الإخاء العربي. وكان الاحتفال بهذا المنتدى بالغا حد النهاية بالرونق والبهاء. وقد أقبل الناس على الاكتتاب به أفواجا ، ثم لم يلبث غير قليل حتى اختل أمره وانحلّت رابطته. وكان الغرض منه ظاهرا التعاضد على تأييد أحكام القانون الأساسي والمطالبة بحقوق الأمة العربية فيما يتعلق بخدم الدولة ، وباطنا الضرب على يد جمعية الاتحاد والترقي والوقوف لها بالمرصاد وقيام العرب على جمعية الاتحاد والترقي انتصارا للسلطان عبد الحميد وهو الذي ندب إليه سرا.

وفي هذه السنة وصل إلى حلب أول مرة عجلات الأتومبيل المعروفة بالسيارات أحضرها من أوربا أحد التجار الحلبيين المسيحيين المعروف باسم الخواجا يوسف أندريا ليشغلها بين حلب واسكندرونة فلم تنجح.

خلع السلطان عبد الحميد

في اليوم السابع من شهر ربيع الأول من هذه السنة ـ وفي ١٩ نيسان سنة ١٣٢٥ رومية ـ خلع السلطان عبد الحميد خان الثاني العثماني ، وخلفه على عرش الملك السلطان محمد رشاد الخامس ، وأعلن في حلب خلعه وجلوس أخيه مكانه بإطلاق مئة مدفع ومدفع من قشلاق (١) حلب وقلعتها. وفي الليل قامت في البلدة مظاهر الزينة وأطلق فيها من العيارات النارية ما يعد بعشرات الألوف. كان خلع هذا السلطان مبنيا على أسباب يعلمها القارئ من الفتوى التي أصدرها شيخ الإسلام بوجوب خلعه ونصها بعد الترجمة :

__________________

(١) القشلاق : لفظة تركية ، كالقشلة ، بمعنى الثكنة «منزل العسكر».

٣٨٠