نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

تخبّرا عن رجال ليس يأخذهم

فيما يرومونه أين ولا ضجر (١)

(فرسالة) نبّئينا عن فوارسنا

هل عاقهم عنك ذاك المسلك الوعر

أم هل حصونك أجدت يوم حملتهم

نفعا ، وهل صدّهم عن أخذك البهر (٢)

يومان قد ظلّ فيها الطعن متصلا

حتى توالت على أعدائنا الغير

هيا (لدومكة) وانظر معالمها

فالعين تشهد ما لا يشهد الخبر

حلّوا ذراها وساروا نحو (أرمية)

بعارض هطله النيران والشرر

أروا عدّوهم حربا فسالمهم

لمّا تحقق لا منجى ولا وزر

وقائد الجيش قسطنطين حين رأى

جيوشه نكّسوا الرايات وانكسروا

ولّى ولم يلتفت خوفا إلى أحد

من بعد ما زاغ منه القلب والبصر

لا غرو إن مرّ وانشقّت مرارته

فمن فوارسنا الأطواد تنفطر

يا أدهم الاسم يا قاني الحسام ويا

مردى أعاديك إن قلّوا وإن كثروا

أنت المشير الوزير الفارس البطل

م الليث الغيور الكميّ الصارم الذكر

تركت فعلا لدى اليونان مشتهرا

متى جرى ذكره أودى بها الذعر

جزاك ربّك عنّا كلّ مكرمة

فليس منا يفيك الحمد والشكر

يا للبرية ما هذا المشير وما

تلك الفوارس والأبطال والبشر؟

أولئك الحزب حزب الله من شهدت

بحسن حزمهم الأرماح والبتر

مظفّرين بعزم من مليكهم

عبد الحميد الذي تزهو به العصر

ربّ السياسة منشي العدل مالكه

بحر الدراية سامي القدر معتبر

أفكاره شهب أقواله قضب

إنعامه سحب تهمي وتنهمر

من فضله عامل الأعداء مذ كسروا

بالصفح عن عظم ذنب ليس يغتفر

كم من مليك قبيل الحرب أنذرهم

خوفا عليهم فما أغنتهم النذر

خليفة الله دم فالنصر مقتصر

عليك إذ أنت في الشدّات مختبر

يا معشر الناس هنّوا ذا المليك فقد

أضحى بتاريخه (٣) من دأبه الظفر

__________________

(١) الأين : الإعياء والتعب.

(٢) البهر : الإجهاد وتتابع النفس من الإعياء.

(٣) سنة ١٣١٤ وهي تاريخ ابتداء هذه الحرب (المؤلف).

٣٤١

وعظّموا همة منه قد اشتهرت

يقول تاريخها (١) من دأبها الظفر

إلى آخره. وهي قصيدة طويلة اكتفينا منها بهذا القدر.

رجعنا إلى تتمة حوادث هذه السنة : في أواخر محرّمها تم بناء مستشفى الغرباء تحت القلعة. وفيها عمر في مدينة الرقة جامع ومكتب وبعض خلوات للطلبة وكانت النفقة على ذلك ـ وقدرها ١٥٦٥٠٠ قرش ـ من أموال الخزانة الخاصة. وفي هذا الشهر أيضا كان الاحتفال بمنتزه السبيل المتقدم ذكره بالغا حدّ الغاية من الرونق والبهاء. وفي صفر منها الموافق تموز سنة ١٣١٣ أحيت الحكومة في المكتب الإعدادي ليلة طرب وعزف ، صرفت مجموع دخلها على تجهيز هدية لجرحى الجنود العثمانية في حرب اليونان وأيتام شهداء الجنود وأراملهم. وكانت تلك الليلة بالغة منتهى الرونق والبهاء ، وكان مجموع دخلها ١٠١٥ ليرا عثمانية و ٢٤٨٧٥ قرشا.

وفي شهر جمادى الثانية منها الموافق تشرين الأول سنة ١٣١٣ وقع في جهات السويدية مطر يتخلله برد ، الواحدة منه في ثقل ٣٣ درهما تقريبا ، مستمرا ذلك نحو خمسين دقيقة ، فحطم عروق الأشجار وقتل كثيرا من الطيور وانقضّ في خلال ذلك عدة صواعق لم تعقب ضررا. وفي رجب منها وردت الأوامر بأن يؤخذ على كل شاة تذبح أربعون ، وعلى كل معزاة ثلاثون ، وعلى كل بقرة مائة وعشرون بارة ، يؤخذ ذلك وقتيا إعانة لمحاويج مسلمي كريد المهاجرين. وعليه صار هذا الرسم يؤخذ في مسلخ حلب ، وهو فوق ما كان يؤخذ من الرسم قديما باسم الذبحية من جهة البلدية. وقد انقضت حادثة كريد وعاد مهاجروها إليها وبقيت هذه الإعانة تؤخذ على الوجه المذكور ، إلا أنها صارت تصرف بعد رجوع المهاجرين إلى أوطانهم ، نصفها على مكتب الصنائع ونصفها الآخر على المكاتب الابتدائية ، وكان يبلغ مجموعها في السنة نحو مائة ألف قرش. وفيها في كانون الأول توالت الأمطار في مرعش بضعة أيام فانهدم فيها جامع آراسته عن آخره ولم يبق منه سوى منارته. وفيها عمر تجاه منتزه السبيل مخفرة عسكرية بإعانة جمعت من أهل الخير.

وفيها ـ في كانون الأول ـ بينما كانت قافلة كبيرة تسير إلى مرعش إذ هبت عليها ـ وهي قرب قمة جبل آخور ـ عاصفة ثلجية وقفتها عن السير ، وكادت تهلك عن

__________________

(١) سنة ١٣١٥ وهي تاريخ انتهائها (المؤلف).

٣٤٢

آخرها لو لا أن اتصل خبرها بمرعش وترسل الحكومة لإنقاذها عددا من العساكر وأهل البلدة ، ومع ذلك فقد هلك فيها ١٣ حمارا و ٦ شياه. وفيها ـ في كانون الثاني ـ ورد من مرعش أن الثلوج تتساقط عليها مدة ثلاثين ساعة متوالية فتكاثفت في الجبال قدر ذراعين. وفي مدينة مرعش قدر ذراع ، وأنه هلك في عواصف الثلج مسافر وسبعة دواب معه ، وانقطع من كثرة الثلوج سير القوافل بين مرعش والبستان والزيتون وأندرين ، وهلكت دابة البريد وصقع (١) في مرعش طفل رضيع ، وأتى البرد القارس على كثير من الوحوش والضواري. وورد من معرة النعمان أن الثلج فيها كثير والقرّ شديد. وجاء من عينتاب ما يشعر بذلك وأنه صقع في إحدى الطرق المؤدية إليها رجل. وورد من إدلب أن شدة البرد قتلت في إحدى ضواحيها رجلا ، وأنه لم يحدث في إدلب نظير هذا البرد منذ خمسين سنة.

وفيها فتحت جادة الخندق الممتدة بين العوينة وباب حديد بانقوسا ، وهدم خان الدلال باشي وصار بعضه جادة. وفيها ـ في آذار ـ شعر الناس في حلب بهزّة أرض ، وحدث مثلها في أورفه ومرعش وعينتاب وكلّز وإسكندرونة وبيلان والجسر وإدلب والبيرة والباب والزيتون والبستان وأرسوز لكنها لم تعقب ضررا. وفي آذار هاجت عندنا العواصف ، وقرس (٢) البرد وكثر المطر والثلج. وفيها في نيسان كثر تهطال الأمطار على القرى القريبة من عينتاب ، وتساقط معها برد كثير ، وانقضّ صاعقة على جدار فهدمته وقتلت عشرين شاة ، وجرف السيل من قرية أولو معصرة وحصانا (٣) و ٣٦ ماعزا ومن قرية أخرى نيفا وأربعمائة شاة ، وراعيا. وأفسد البرد كثيرا من الزروع. وفيها أحضرت البلدية من أوروبا دولابا للماء يدور بالهواء نصبته على بئر في منتزه سبيل الدراويش ، وهو أول دولاب أحضر من أوروبا على هذا الطرز.

__________________

(١) صقع فلان : أصابه الصقيع بأذاه ، وبابه فرح.

(٢) قرس البرد : اشتدّ.

(٣) في الأصل : «حصانا» فزدنا الواو العاطفة لتستقيم العبارة.

٣٤٣

سنة ١٣١٦ ه

فيها نقلت دار حكومة قضاء حارم من قصبة حارم إلى قرية كفر تخاريم ، وبنيت فيها دار حكومة بإعانة جمعت من أهل ذلك القضاء. وفي شهر صفر منها خسف القمر مبتدئا بالخسوف في نحو الساعة الثالثة ليلا ، وتكامل خسوفه نحو الساعة الرابعة والنصف ، ثم في نحو الساعة السادسة انتهى انجلاؤه. وفي أثناء خسوفه أخذ الناس يطلقون البنادق ويضربون على النحاس ويدقون بالهاونات جريا لعاداتهم حين خسوف القمر من قديم الزمان ، زاعمين أن خسوف القمر سببه حوت يبتلعه وأنه إذا سمع أصوات البنادق وتلك الأصوات المزعجة يخاف فيمجّ القمر (١). وفي هذا الشهر بوشر بتعمير المخفرة الكائنة في سفح جبل البختي ، تجان منتزه السبيل من شرقيه ، وقد عمرت من إعانة جمعت من أهل الخير.

وفيها حدث في أنطاكية أن امرأة أحبت شابا فاحتالت على زوجها وأطعمته كبّة نيئة وضعت فيها شيئا من الشك المعروف بطعم الفار ، وأكل معه على غير قصد منها بنت وولد لها ، فلحقت الولد وأخرجت اللقمة من فمه فلم يلحقه ضرر ، وأرادت أن تخرج اللقمة من فم البنت فلم تتوفق ، وابتلعت البنت الطعام وبعد ساعة ماتت البنت وأبوها من السم. وشاعت هذه الحادثة في أنطاكية وحكم على المرأة بالقتل قصاصا. وسيأتي بقيّة خبرها. وفيها وضع أساس منارة الساعة في حضرة باب الفرج ، في موضع قسطل كان يعرف بقسطل السلطان. وقد جرى لوضع هذا الأساس احتفال باهر حضره الوالي والأمراء والأعيان والوجهاء ، فكلفني الوالي إلقاء خطبة في هذا الموضوع فقلت على الفور والبديهة بعد البسملة ::

الحمد لله مبدع الكائنات ، خالق الأوقات والساعات ، منشئ الأملاك ومسيّر

__________________

(١) أي يلفظه ويخرجه من جوفه.

٣٤٤

الأفلاك ، الملك الوهاب ، جاعل الشمس ضياء والقمر نورا ، وقدّره منازل لنعلم عدد السنين والحساب. أما بعد فإن أولى ما يفتتح به الكلام في هذا المقام رفع أكفّ الضراعة والابتهال إلى المولى المتعال ، مانح النوال وسامع السؤال ، بدوام أيام مولانا إلخ. وهو دعاء طويل سلكنا فيه على أسلوب ذلك الزمن. ثم قلت بعد ذلك :

هذا وإن بلدتنا الشهباء لم يمض عليها غير ردح من الزمن تحت ظل عناية هذا السلطان الأعظم حتى استبدلت خرابها بالعمار ، ووحشتها بالأنس وخمولها بالانتباه وخوفها بالأمن ، فاتسعت فيها الشوارع وكثرت المهايع (١) وأقبل الناس بكل جد ونشاط على تملك الأراضي ، واتسع نطاق العمران وأصبحت الشهباء بسعتها وضخامتها ضعفي ما كانت عليه. كل ذلك في برهة من الزمن يصعب على من كان غائبا عن حلب أن يتصورها. بلغت هذه الغاية العظيمة بأقل من نصف قرن. وها هي الآن يتعزز جمالها ويتتوج هام كمالها بتاج يحلو للعيون منظره ، ويلذّ للآذان خبره ، ويعمّ نفعه البعيد والقريب ، ويشمل شرفه الوطنيّ والغريب ، به تفصل الشهور والأعصار ، وتعلم الأوقات من الليل والنهار ، ألا وهو الساعة التي كانت ولادتها في الشرق وحضانتها في الغرب فما أحرى بالوالد أن يحضن ولده وبالممدّ أن يتفقد مدده ، وهذا هو أسّ منارتها التي ستكون بعظمتها ناطقة بهمم الرجال أولي المجد والإقبال إلخ.

وقد أرخها الشاعر الأديب عبد الفتاح الطرابيشي بقوله :

قد شاد (٢) بالشهبا منارة ساعة

تزهو بإتقان وحسن صناعة

في دولة الملك الحميد المرتجى ال

ثّاني الذي ساس الورى بدراية

وبهمة الوالي الرؤوف أخي الحجا

وصنيع قوم من أعاظم سادة

فهم رجال قد روى تاريخهم :

لعلائهم حتى قيام الساعة

وقال أيضا :

لقد شيد في الشهبا منارة ساعة

بعصر حميد عن علاه غدت تروي

__________________

(١) المهايع : جمع «المهيع» وهو الطريق البيّن الواسع.

(٢) كذا في الأصل ، ولعل الصواب : «شيد» كما سيأتي بعد خمسة أسطر.

٣٤٥

وجاءت كما يهواه رائف أرّخوا :

تنبّه للأوقات من كان في لهو

وفيها عمر مستودع للرديف في قصبة كفر تخاريم تبرّع بالإنفاق عليه جماعة من متموّلي القضاء. وفيها بلغنا أن امرأة من قرية تغله ، في قضاء كلّز ، بينما كانت جالسة في بيتها إذ دخل عليها شاب من أهل القرية شاكي السلاح يريد مواقعتها ، فاستغاثت به على أن يكف عنها فلم يفعل ، وحينئذ قامت إلى بندقية مزدوجة معلقة بالجدار وأخذتها وأطلقت عيارها عليه فأصابت رصاصتها كبده ، فما كان منه إلا أن أطلق عليها عياره فأصاب كبدها ووقعا قتيلين. وفي ذي الحجة منها توفي في مدينة إسكندرونة غلام في سن الخامسة عشرة وهو ابن فضل الله زريق ، وقد حضر إليه ـ وهو على النعش ـ أحد أقاربه المسمّى قيصر ، فأكبّ عليه يقبّله ، ولفرط حزنه عليه فاضت روحه ولحق به في الحال.

فيها تم بناء منارة الساعة.

٣٤٦

سنة ١٣١٧ ه

وفي صفر منها الموافق حزيران سنة ١٣١٥ بوشر بتجفيف مستنقع إسكندرونة ، فبي عليه سد عظيم طوله خمسمائة متر ، وتقرر أن يكون طوله ٩٥٠ مترا ثم فترت الهمة وبقي المستنقع على ما كان عليه. وفيها هدم مسجد كان عند باب حديد بانقوسا توسعة للطريق ، وبني بدله في موضعه مسجد بديع الطّرز مع مكتب ابتدائي في قربه. وفيها وصل إلى حلب دولاب طولمبة (١) يدور بقوة الهواء فنصب عند العوينة وعمر له في قربه حوض عظيم ينفذ ماؤه إلى كيزان مطمورة في الأرض ممتدة إلى قرب باب الفرج ، قد جعل لها منافذ لولبية يوضع فيها خرطوم للرش ، وقد استعمل مدة قليلة ثم تعطل الدولاب ، وكانت البلديّة صرفت على ذلك زهاء ثلاثة آلاف ذهب عثماني. وقد نصب نظير هذا الدولاب في محلة الجميلية وبعض البساتين فلم ينجح.

وفيها تم بناء العمارة على عين الموقف في إسكندرونة وجرت لها حفلة فائقة. وفي جمادى الأولى منها قدم على حلب سيف الدولة ابن شاه إيران قاصدا زيارة مقامات أهل البيت النبوي في حلب وغيرها من البلاد الشامية ، فاستقبلته الحكومة استقبالا باهرا ونزل ضيفا عند شهبندر (٢) دولة إيران فبقي بضعة أيام ثم سافر إلى جهة مقصده. وفيها تم عمل خريطة لمدينة حلب اعتنى بوضعها منهدس الولاية شارتيه أفندي وراغب بك ابن رائف باشا والي الولاية ، وقد أخذت في الفوطغراف على مقياس جزء من أربعين جزءا ، وهي أول خريطة وضعت لمدينة حلب وجاءت غاية بالضبط والإتقان. وفيها نجز فتح جادة العطوي ووصلت بطريق المركبات الآخذ إلى إسكندرونة المارّ قرب محلة السليمية ـ المعروفة بالجميلية ـ وهي تبتدىء من مزار السهروردي آخذة إلى طريق المركبات ،

__________________

(١) أي مضخة. وسيرسمها المؤلف في أول حوادث سنة ١٣١٩ هكذا «طلنبة» والكلمة فرنسية الأصل أو إيطالية ، وأصل معناها خرطوم الفيل ، أو البوق. وترسم أيضا كما تلفظ في الفرنسية : «طرمبة» و «طرنبة».

(٢) الشهبندر : القنصل.

٣٤٧

من وسط بستان باقي جاويش وبستان إبراهيم آغا مارة على الجسر الجديد الذي تم بناؤه في هذه الأيام وهو من أحسن جسور نهر قويق وأفخمها.

وفي هذه السنة كان الشتاء شديدا وكثرت فيه الثلوج والأمطار وغرق في السيول كثير من الناس والدواب في حلب وغيرها ، وكثر الهدم ـ خصوصا في عينتاب ـ وقرس البرد ولا سيما في البلاد الشمالية ، فقد تعددت فيها حوادث توقف القوافل في الطرقات وموت الكثيرين من الناس والدواب بالقرّ. وفي ضاحية كلّز هجم وحش شبيه بالكلب على صغار يمرحون فاختطف منهم بنتا وغاب بها وبعد أن تعقبه جماعة من الشجعان وجدوا رأس البنت وذراعها على سفح جبل ولم يظفروا بالوحش.

٣٤٨

سنة ١٣١٨ ه

عزل رائف باشا عن ولاية حلب :

فيها عزل المرحوم رائف باشا عن ولاية حلب ، وكان وزيرا شهما جمع بين القوة والأمانة. وقد أثر في حلب آثارا حسنة ، منها منتزه السبيل وبرج الساعة والجادة الكبرى الممتدة من حضرة مزار السهروردي إلى محطة الشام ، والجسر العظيم المضروب على نهر قويق في هذه الجادة الذي تضاف إليه. وله في حلب غير ذلك من الآثار التي يثني عليه لسان حالها مدى الأدهار. وكان السلطان عبد الحميد يحذره ويسيء به ظنونه ، لاعتقاده به أنه يسير في الدولة على منهاج مدحت باشا بطل الدستور العثماني ، لأنه كان معاونا له في ولايته على بغداد.

ولما عزل الآن عن ولاية حلب أسرع الرحيل عنها إلى وطنه استانبول فتوجه إليها بحرا عن طريق إسكندرونة. ولما وصل إلى المحل المعروف باسم قرق خان قرب مدينة بيلان وصل إلى وكيل الوالي بحلب ـ علي محسن باشا ـ رسالة بالبرق فحواها أنه صدرت إرادة سنيه بتوقيف رائف باشا عن السفر إلى استانبول. فبلّغه وكيل الوالي هذه الرسالة وهو في قرق خان ، فبقي هناك مدة كالمنفيّ. ثم وردت رسالة أخرى بعوده إلى حلب فعاد إليها ونزل ضيفا كريما في منزل المرحوم أحمد أفندي كتخدا. وكان سبب توقيفه عن السفر أن بعض كبار الأتراك المنفيين في حلب سعوا به سرا لدى السلطان عبد الحميد وألصقوا به تهمة الطعن والتنديد بالسلطان ، وأنه أزال أثرا عظيما من آثار السلطان سليمان خان ، وهو القسطل المعروف باسم قسطل السلطان ـ الذي أسلفنا الكلام عليه في محلة بحسيتا من الجزء الثاني ـ وأنه بعد أن محا أثره بنى في موضعه برج الساعة الذي هو من بدع الفرنج. وأنه فعل غير ذلك من الأمور التي لا تنطبق على أحكام الشرع الشريف ،

٣٤٩

ولا تروق للسلطان عبد الحميد الذي كان مبدؤه التظاهر بالأعمال الدينية إرضاء للرعية ، فيتوخى كلّ عمل يلائم أفكارهم.

وألصق به هؤلاء المنفيون غير ذلك من التهم التي هو براء منها والتي لم يقصد من عملها سوى خدمة الوطن وتحسين أحوال البلدة. وكان الباعث لهؤلاء الطغمة الشريرة على وشايتهم به أنه كان مدة ولايته في حلب يعارضهم في أعمالهم الاستبدادية ، ويمنعهم عن تداخلهم في شؤون الحكومة ، وكان أسلافه الولاة يهابونهم ولا يعارضونهم في تداخلهم ، أما هو فإنه ضرب على أيديهم ووقف تيار استبدادهم وأعلمهم بأنهم هم منفيون ليس لهم من الأمر شيء.

بقي رائف باشا ضيفا كريما في منزل أحمد أفندي كتخدا مدة تزيد على شهرين ، وهو في أثنائها في ضنك عظيم يتوقع كل لحظة صدور أمر السلطان بجعله من جملة المنفيين ، غير أن السلطان تحقق في هذه المدة بواسطة جواسيسه الصادقين أن رائف باشا من المخلصين في ولائه وأن جميع ما ألصقه به أعداؤه من التهم كذب وبهتان ، فأصدر إرادة سنية ترخّص له الحضور إلى استانبول ، فتوجه إليها. وفي يوم خروجه من حلب خفّ لوداعه عدد عظيم من العلماء والأعيان إلى منتزه السبيل ، فجلس هناك برهة من الزمن ثم استأنف المسير إلى جهة إسكندرونة ، فأسف عليه الناس أسفا عظيما ودعوا له بالسلامة وطول البقاء.

ولاية أنيس باشا في حلب :

وقبل سفر رائف باشا إلى استانبول بأيام قلائل ، حضر إلى حلب أنيس باشا واليا عليها فنزل في دار البلدية وأقبل الناس عليه للسلام. وفي ثاني يوم من وصوله نزل إلى الجامع الكبير وزار المرقد الشريف ، وطاف في البلدة وزار مراقد الأولياء والصالحين وعاد إلى منزله. ومضى على قدومه إلى حلب عدة أيام ولم تزره قناصل الدول المعظمة. ثم شاع عنهم أنهم يطلبون من السلطان تبديله وأنهم لا يعترفون بولايته على حلب زاعمين أنه هو الذي أغرى الأمة في ولاية ديار بكر ـ حينما كان واليا عليها ـ بالقيام على الأرمن وقتلهم. ولما أصر القناصل على عدم الاعتراف بولايته على حلب ورد إليه أمر مرموز بأن يبقى مختبئا في منزله لا يظهر إلى أحد حتى يأتيه أمر آخر يوضح له ما يجب عليه عمله. فبقي هذا الوالي المسكين مختبئا في منزله كالمحبوس مدة شهرين أو أكثر لا يظهر لأحد ،

٣٥٠

وقام بأمور الولاية بدله علي محسن باشا القائد العام على حلب وأطنه وما والاهما. ثم ورد له الأمر بالظهور ومباشرة العمل.

رأى السلطان عزل أنيس باشا عن ولاية حلب ـ لمجرد رفض القناصل ولايته عليها ـ وهنا في سطوته وإخلالا بشرف سلطنته ، فأبقاه مختبئا تلك المدة مغالطة وإيهاما بأنه قد عزله. ثم استرضى السفراء على إبقائه واليا في حلب فبقي أمره نافذا ولم ينكسر للأجانب ، وعدّ تدبيره هذا من جملة دهائه ونبوغه في فنون السياسة.

وفي جمادى الأولى منها تم بناء مستودع المواد النارية العسكرية ـ المعروف باسم جبخانة ـ خارج حلب في شرقيها إلى الشمال قرب تكية الشيخ أبي بكر الوفائي وكانت المواد النارية قبلا تحفظ في مستودع داخل القلعة وبعضها يحفظ في مستودع داخل الثكنة العسكرية المعروفة بقشلة الشيخ يبرق ، فخيف من حدوث حريق يتصل بهذين المستودعين فينجم عنه أضرار عظيمة فنقل ما فيهما إلى المستودع الجديد. وفي هذه السنة كان الشتاء شديدا والثلوج كثيرة وأخبار الهالكين بالقرّ والصقيع وفيرة ، خصوصا في جهات مرعش والبستان وتلك الجهات.

وفي ذي القعدة منها تمّ إنشاء حديقة محلة العزيزية المعروفة بالمنشية ، وركب على بئر ـ حفر فيها ـ دولاب هوائي يرفع الماء إلى برميلها ثم ينحدر إلى حوض مهندم في الحديقة كأنه حوض طبيعي. وقد جاءت الحديقة غاية باللطافة وحسن المنظر. وفي هذا الشهر كان الاحتفال بتأسيس الثكنة العسكرية في مدينة إسكندرونة. وفيها انتهت جميع متممات مستشفى الغرباء الكائن تحت القلعة قرب سوق الضرب ، وفرش بالأسرة ودخلت إليه المرضى من الفقراء وهو مستشفى حافل يقل نظيره في البلاد العثمانية ، قد اشتمل على غرف للرجال وأخرى للنساء وخلوات للممرضين والأطباء وأماكن للتشريح والأعمال الجراحية وأهراء (١) للمؤنة وغير ذلك.

__________________

(١) الأهراء : المخازن ، وما يسمى بالمستودعات. والمفرد : الهري.

٣٥١

سنة ١٣١٩ ه

وفي صفر منها فتح في حلب مكتب للصنائع ، وهي النجارة والخياطة وعمل الأحذية ـ المعروفة بالقندرات ـ ونسج الأقمشة الغزلية ونسج الجوارب. والنفقات الأولية لهذا المكتب جمعت من دخل مسارح التياترو والنفقات الدائمة من إعانة وضعت على اللحم قبل بضع سنوات باسم إعانة مهاجري كريد ، وقد وليت إدارته فأسست صنائعه ورتبت أموره وبقيت مديرا فيه مدة أربع سنوات. وفيها حضر إلى حلب آلة لحفر آبار شبيهة بالأرتوازية ، وحضر مع الآلة أستاذان فباشرا مهنتهما في جهة من جادة الخندق ـ بين باب النصر والسهروردي ـ وعملا هناك بئرين فما مضى عليهما غير قليل من الزمن حتى تعطلا ، وانصرف الأستاذان من حلب بما معهما من الآلات. على أن هذه الآبار يستخرج منها الماء بواسطة طلنبة (١) مركبة على فوّهة الأنبوب الذي يخترق الأرض ويصل إلى منبع الماء.

وفي فصل الربيع من هذه السنة الموافقة سنة ١٣١٧ رومية تساقط على ولاية حلب برد كثير ـ لا سيّما في جهات مرعش والبستان ـ وكان كبير الحجم ، بعضه في حجم البيضة ، وقد قتل عدة أوادم ومواشي (٢) ، وأفسد كثيرا من الزروع. وفيها ورد من البستان أن سبعة أشخاص أكلوا نوعا من الفطر فماتوا كلهم ، واتصل الخبر بحكومة ذلك القضاء فأصدرت أمرا يقضي بمنع بيع الفطر. وفيها ـ في التاسع والعشرين أيار ـ سقط في إسكندرونة صاعقة على زاوية غرفة في الطابق العلوي من شرقي فندق فهدمت جانبا من الزاوية ودخلت الغرفة فصدمت قائمة سرير حديدي كان نائما عليه رجل فاحترقت حاشية السرير ولم يتضرر النائم بشيء من جسمه ، ثم خرجت من الغرفة وصدمت قنطرة

__________________

(١) انظر الحاشية السابقة في أول حوادث سنة ١٣١٧ ه‍.

(٢) الوجه حذف الياء : «ومواش».

٣٥٢

في جهة النهر فهدمت أكثر من نصفها ، ورفعت حصانا كان هناك وألقته على بعد عشرة أمتار من موضعه فهلك.

وفي ليلة الخميس عشرين من جمادى الثانية ـ في نحو الساعة السادسة منه ـ شبّت النار من دكان روّاس في سوق العرصة من عينتاب وسرت إلى ما جاورها فأتت على ثلاث دور ومائتين وسبعين دكانا واثني عشر فرنا وسبعة بيوت قهاوي وثمانية مخازن ومطحنة وأتت على جانب عظيم من خان وعشرين دكانا ثم خمدت. وفي آذار السنة الرومية ـ بعد العشاء الأخيرة ـ انقضّ على ردهة دار بني صولا ـ أحد بيوتات المسيحيين التليانيين في محلة الجلوم الكبرى بحلب ـ صاعقة دخلت من داخن الموقد المعروف بالصوبا ، وكانت الردهة خالية من الناس ، فحطمت الصاعقة شيئا من زجاج النوافذ ، وصدمت بعض عقود قناطرها فنفر من اللطمة قدر قيراطين ، ثم خرجت الصاعقة من النافذة التي حطمت زجاجها ودرجت على الزنك الذي هو سقف الدرج وصدمت قنطرة باب الدار الذي غلقه من الحديد فأبقت في القنطرة أثرا دخانيا وتطايرت المسامير المغروسة في باب الحديد ، وهكذا انتهت حركتها. وفيه هاج في اسكندرونة إعصار دمر منها عدة منازل على البحر. على أن هذه المدينة لا تكاد تسلم من الإعصار في مثل هذه الأيام كل سنة.

٣٥٣

سنة ١٣٢٠ ه

فيها كان افتتاح مربى الخيل المعروف باسم حارة في جهة الحمرة. فقام الوجهاء وأكابر المأمورين يتزلفون إلى السلطان بإهداء الخيول الأصائل التي تربّى في ذلك المحل. وفي مدة وجيزة نجح المربى نجاحا باهرا ثم أخذ يتقهقر إلى أن اضمحل في بضع سنوات ولم يبق له ذكر. وفيها نصب على قنّة جبل البختي ـ تجاه منتزه السبيل في ظاهر حلب ـ طاحون يدور بالهواء على الطرز الجديد ، فاشتغل مدة ثم تعطلت آلاته وبطلت حركته. وفي هذه السنة ـ في كانون الأول ـ توالت الأمطار على حلب وعينتاب وأنطاكية ، فحملت السيول وطغت الأنهار طغيانا عظيما وانبسطت على الحقول والعمران ، فهدمت البيوت وأتلفت الزروع ، وأغرقت عدة أوادم ودوابّ. وفيها عزل والي حلب أنيس باشا من ولايته وكان عفيفا متدينا محبا للخير ، وقد بذل ما في وسعه لنجاح مكتب الصنائع وغيره من المباني الخيرية. وقد ولي حلب بعده مجيد بك.

وفيها ـ في كانون الأول ـ أنبأت حكومة دمشق أن الهواء الأصفر قد تفشّى فيها ، فأرسل من حلب ضابط ومعه عدد كاف من الجندرمة (١) الفرسان إلى كل موضع من المواقع الكائنة وعلى حدود ولاية دمشق ، وهي خان شيخون والهبيط وقلعة المضيق والحمراء ، لتكون هذه القرى تحت نظارة الضابط ومن هو في صحبته من الجنود. ثم فتح في خان شيخون محجر صحي ، فيه الأطباء وأدوات التبخير لفحص من يمرّ من هناك قاصدا جهات حلب ، وضرب على قرية الهبيط والمضيق والحمراء نطاق صحي. وفيها انتهى تعمير مخفرة في السويدية من أعمال أنطاكية عمرت من إعانة جمعت من أهل الخير. وفيها ـ في شباط ـ زالت علة الهواء الأصفر من دمشق ورفعت المحاجر الصحية

__________________

(١) الجندرمة : الدرك. وكان هذا الاسم يطلق على رجال الشرطة في الأرياف. وقد سبق ذكر الكلمة أيضا في الجزء الأول.

٣٥٤

(الكورنتينة) من خان شيخون والهبيط والمضيق والحمراء. وفيها عملت الحكومة إحصاء مواليد ووفيات في الجهات الآتي ذكرها ، في غضون ستة أشهر من هذه السنة ، فكانت كما يأتي (١) :

وفيات

مواليد

الإناث

الذكور

الإناث

الذكور

جمع الوفيات

جمع المواليد

اسم القضاء

٩٥

٦٠٤

٥٦٥

٩٢٦

٧٠١

١٤٩١

قضاء أنطاكية

٤٣٤

٤٦٤

٤٣٢

٦٠١

٨٩٨

١٠٣٣

 ـ حارم

٣٣

٧٢

١١٢

١٣٦

١٠٥

٢٨٨

 ـ إسكندرون

٣٢٢

٨٨٨

١٦٥

٨٤٨

١١١٠

١٤٩٤

 ـ كلّز

٧٩

١١١

١٧٩

١٨٧

١٩٠

٣٦٦

 ـ المعرة

١٥٦

٣٠٧

٣٨٤

٤٨٢

٤٦٤

٨٦٦

 ـ جسر الشغور

٨٤٨

٥٩٧

٦٠٦

٧٧٧

١٣٤٥

١٣٨٤

 ـ إدلب

٤٨٨٣

٦٩٢٢

٩٦٠

١٦٨٧

٢٥٧٥

٣٠٤٨

٢٦٤٧

٥٦٢٣

لواء مرعش

٧٤٢٠

١٢٥٤٥

وأحصيت المواليد والوفيات في لواء مرعش في غضون ستة الأشهر المذكور ، فبلغت مواليده ٥٦٢٣ الذكور منهم ٣٠٤٨ والإناث منهم ٢٥٧٥ ووفياته ٢٦٤٧ الذكور منهم ١٦٨٧ والإناث منهم ٩٦٠ نسمة. وفيها ورد من متصرفية مرعش أن بقرة في قرية جلكي ـ في قضاء البستان ـ ولدت ثلاثة عجول في بطن واحد وبعد أربعة وعشرين ساعة هلكت العجول وأمّهم (٢).

__________________

(١) في الجدول التالي أغلاط وخفاء في بعض الأرقام ، وفي جموعها أيضا. فأبقينا ما لم نهتد إلى صحته على ما هو عليه.

(٢) كذا وردت العبارة في الأصل. والصواب فيها : «أربع وعشرين ساعة هلكت العجول وأمّها».

٣٥٥

سنة ١٣٢١ ه

فيها مدّ السلك البرقي من حلب إلى الباب. وفيها ـ في أوائل آب ـ فتح في المكتب الإعدادي الملكي ـ الكائن في محلة الجميلية ظاهر حلب ـ معرض عام لتشهير البضائع التجارية والصناعية الوطنية : كالمنسوجات القطنية والحريرية والقصبية الفضية ، والمصنوعات التطريزية والغلات الزراعية والحيوانية ، والمصوغات الفضية والذهبية ، والعروض الخفافية والسراجية والحديدية والنحاسية ، والنجارية والترابية والدباغية والعطرية ، من حلب وأكثر البلدان الكبار في ولايتها كعينتاب والرها ومرعش. وزيّن المكتب داخلا وخارجا بالرايات وأنواع السجّاد ـ الذي هو من مصنوعات حلب ـ والقطع الجميلة ، وأنير في الليل بالأضواء الساطعة ، وأقيمت في رحبته الألعاب التريّضية المعروفة باسم (جيمنستق) ، وفي الليل الخيالية المعروفة باسم (سينه توغراف) وهرع إليه الناس من حلب وغيرها ، واستمر مفتوح الأبواب كذلك مدة شهر وزيادة ، والبضائع التي حازت فيه قصب السبق وصارت محل إعجاب الجميع هي منسوجات حلب. وقد أخذت فيه غرفة لعرض مصنوعات مكتب الصنائع ، فأقبل الناس على شرائها باليانصيب فراجت وربحت. ثم زاحمني على الغرفة نجيب بك ابن الوالي ، أخذها مني لرجل يعينه على فجوره ، فاستأت من هذا العمل واستقلت من مديرية المكتب. وبلغ الخبر والده فاستاء منه وزجره واسترضاني فعدت إلى إدارة المكتب.

وفيها في آب سنة ١٣١٩ ظهر في حلب مرض مشكوك به ثم تحقق الأطباء أنه مرض الهواء الأصفر ، وكان قبلا ظهر في دمشق وفتك في أهلها فتكا ذريعا ، وزحفت جراثيمه إلى حماة ومنها إلى جسر الشغر وإدلب والبيرة وكلّز وعينتاب ، ثم ظهر في حلب وأحصي عدد من مات فيها في برهة أسبوع فكانوا أحد عشر شخصا. فاهتمت الحكومة في قضية الكنس والرشّ وتنظيف الشوارع والأزقة من القمامات والأقذار. وكان قبل أيام من ظهوره وصل إلى حلب طبيب ألماني اسمه فونسكي أفندي ، ومعه عدد من الأطباء أمر

٣٥٦

السلطان بإشخاصهم إلى حلب للاهتمام بالأسباب الواقية من تطرق هذا المرض إلى حلب من البلاد التي ظهر فيها في الولاية وغيرها. فأوعز هؤلاء الأطباء إلى البلدية بأن تعزز وسائط النظافة وتلتفت إلى الفواكه المضرّة فتمنع بيعها ، وأن تعمر على كل حوض مكشوف في المساجد وغيرها جدارا يمنع تناول الماء من الحوض رأسا منعا للتلويث ، بل يكون تناول الماء من الحوض بواسطة مبذل (١).

فقامت البلدية بجميع ما أمرها به الأطباء ، ولكن مع هذا كله ما برح هذا المرض يفتك في النفوس حتى أوائل تشرين الثاني من سنة ١٣١٩ إلا أنه كان خفيف الوطأة بحيث لم تزد وفياته اليومية في شدّة بحرانه (٢) على خمسين نسمة. ثم إنه بعد أيام تقلص ظلّه من إدلب وعينتاب وبيره جك وإسكندرونة وحماة وحمص وطرابلس الشام وبقية بلاد سورية ، ورفعت عنها مناطق الحجر الداخلية والخارجية وعادت مياه الصحة إلى مجاريها. وفيها ـ في حادي عشر تشرين الثاني ـ هطلت أمطار غزيرة على عينتاب وضواحيها ، فحملت منها السيول على قرية «تنب» القريبة من عينتاب وأتت على قرباط هناك تحت بيوت الشعر فأغرقت منهم ثلاثة وعشرين إنسانا وثلاثة حمير وثلاث رمكات (٣). وبعد أن انحسر الماء عن ذلك الموضع التقطت جثث الغرقى ودفنت.

وفاة علي محسن باشا :

وفي أول يوم من شوال هذه السنة توفي في حلب الفريق علي محسن باشا ابن كل حسن باشا ، أحد ياوري (٤) السلطان عبد الحميد ، ووكيل القائد العام فوق العادة في حلب وأطنة (آذنة) وضواحيهما. أمضى في حلب نحو خمس عشرة سنة. وحينما حضر إليها كان برتبة القائممقام ، ثم حاز رتبة الفريق ، ثم في حادثة الزيتون صار وكيل القائدية العامة المذكورة ليكون واقفا لحوادث الأرمن بالمرصاد ، وهي وظيفة وقتية ألغيت بعد انقلاب الحكومة العثمانية إلى الحكومة الدستورية. وكان علي محسن باشا جوادا كريما حلو الشمائل

__________________

(١) كذا في الأصل «مبذل» بالذال ، خطأ ، وإنما هو بالزاي «مبزل» والمراد به هنا الصنبور أو ما يسمى «بالحنفية». وسيذكر أيضا بصيغة الجمع في كلام المؤلف على حوادث سنة ١٣٣٥ ه‍ تحت عنوان : «قلة الماء في حلب ...».

(٢) أي في أوج حدّته وقوة فتكه.

(٣) الرمكة : نوع من الخيول يتخذ للنّسل.

(٤) الياور : لفظة أخذها الأتراك عن الفرس ، ومعناها : المساعد والمعاون.

٣٥٧

محسنا للحلبيين متلطفا بهم محبا لصالحهم ، كما أن أهل حلب كانوا يحبونه كثيرا. وقصره في محلة السليمية ـ المعروفة بالجميلية ـ هو ثاني قصر بني فيها. ولما توفاه الله بلغ منهم الأسف عليه مبلغا عظيما رجالا ونساء ، ومشى في جنازته منهم زهاء ثلاثين ألف شخص ، سوى من كان واقفا منهم على أسطحة البيوت الكائنة في ممر الجنازة من محل سكناه في السليمية إلى التكية المولوية خارج باب الفرج حيث دفن. وقد عمل على قبره الرخام الأبيض المؤزر البديع الصنعة وكان مولده سنة ١٢٦٨ وهذا العدد يوافق عدد حروف (علي محسن) وهو اسمه.

وفي هذه السنة اهتم يحيى بك ألاي بك الجندرمة الدمشقي ـ من بني الشمعة ـ بافتتاح مكان في منزله في محلة «الجديدة» لنسج السجاد الذي كان لا يوجد من صنّاعه في حلب سوى شخص أو شخصين. وقد أحضر يحيى بك صناعا من البلاد الشمالية ، وعمل في ذلك المحل مكانين أحدهما للرجال والآخر للنساء ، فما مضى غير زمن قليل حتى ظهر من المتعلمين بارعون في هذه الصنعة واستغنوا عن المعلمين ، وفشت هذه الصنعة في أكثر محلات حلب وصار السجاد الحلبي مما يتنافس فيه أهل الولع في السجاد. على أن هذه الصنعة كانت معروفة في حلب منذ دهر قديم ثم فقدت إلى أن جددها يحيى بك المومأ إليه.

٣٥٨

سنة ١٣٢٢ ه

فيها تم تعمير مستشفى الغرباء في اسكندرونة وسمي المستشفى الحميدي ، وهو مشتمل على ثمانية مخادع ، كبرى سفلى وعليا ، وعلى سبعة مخادع صغرى ، والقسم العلوي منه يستوعب اثنين وخمسين سريرا. ويشتمل أيضا على قاعة كبرى تعرف بالصالون وكانت النفقة على تعميره من بلدية اسكندرونة. وفيها كان الشروع بإحصاء سكان ولاية حلب ، فقسمت مدينة حلب إلى أربعة (١) مناطق ، عينّ لكل منطقة منها لجنة تتجول في محلاتها وتحصي أهلها. وفيها كان الشتاء شديدا والبرد قارسا ، وكثرت أخبار الغرق والهدم وسقوط الصواعق وموت الناس والدوابّ بالبرد في شمالي الولاية. وفيها عزل مجيد بك عن ولاية حلب ووليها عثمان كاظم بك ، وكان مجيد بك عفيفا عاقلا غير أن ولده نجيب (٢) كان سفيها مسلطا على المستخدمين بأخذ أموالهم بالتخويف والتهديد ، وكانت أفعاله سببا لعزل والده.

__________________

(١) الصواب : أربع.

(٢) الصواب : «نجيبا» ، ولا يمنع من التنوين.

٣٥٩

سنة ١٣٢٣ ه

فيها عزل عثمان كاظم بك عن ولاية حلب ووليها ناظم باشا

الشروع بأعمال سكة حديد حلب ـ حماة

فيها تم الاتفاق بين الحكومة العثمانية وبين شركة سكة حديد حماة وحلب على أن تدفع الحكومة للشركة ثلاثة عشر ألفا وستمائة وستة وستين فرنكا باسم تأمينات عن كل كيلومتر من الخط المذكور الذي تقرر مده من حماة إلى حلب ، والمسافة بينهما ١٤٣ كيلومتر. وشاع أن الشركة مزمعة على أن تجعل محطة حلب في غربي البلدة ، أي في محلة السليمية بعد أن كانت مصممة على جعلها في محلة قارلق. فقام أهل المحلات الشرقية من حلب وقعدوا وخابروا قائدية العسكرية ووعدوه بإعطاء أراض كثيرة في جوار المحطة التي تكون في ضاحية محلاتهم ، فوعدهم بأنه سيجعل المحطة في قارلق. فعارض بذلك أهل المحلات الغربية وكثر اللغط ، وحينئذ رأى الوالي ناظم باشا بأن يجمع عددا وافرا من أهل الزراعة والتجارة ويرى أيّ الفريقين أكثر ، القائلين بجعل المحطة في قارلق أم القائلين بجعلها في السليمية؟ فانتخب نحو خمسين شخصا وكلفهم الاجتماع عنده وبيان رأيهم لديه. اجتمعوا في دار الحكومة نهار الثلاثاء عشرين رجب. وكان قبل الاجتماع بساعة تولّد في هذه المسألة رأي جديد ، وهو جعل المحطة في خراب تحت القلعة. فلما اجتمع الناس في ذلك اليوم تبين أن القائلين بجعل المحطة في قارلق ثمانية وفي السليمية ثلاثة وعشرون ، وفي خراب تحت القلعة واحد وعشرون شخصا. فأنهى الوالي بذلك إلى المراجع العليا ، وتهافت كل حزب على التلغراف يرفعون فيه الرسائل بطلب جعل المحطة في الموضع الذي أراده. فلم يفدهم ذلك شيئا لأن الشركة والمراجع الاختصاصية متفقون منذ بضع سنوات على جعل المحطة في السليمية.

٣٦٠