نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

مدير مطبعتها أيضا. وقد دخلت غلّتها إلى مالية الدولة وصار مستخدموها يتناولون رواتبهم من صندوق المال العام بعد أن كانوا يتناولونها من صندوق المطبعة الخاص.

سالنامة الولاية :

كلمة سالنامة فارسية مركبة من كلمتين (سال) سنة و (نامه) ورقة. وقد تطلق على كتاب يصدر في آخر كل سنة يشتمل على إحصائيات الولاية المالية وغيرها ، وعلى أسماء موظفيها وعلى بعض شؤون تاريخية سياسية ومدنية قديمة وحديثة تتعلق بمركز الولاية وبعض أعمالها ، وعلى جغرافية الولاية وما فيها من الجبال والغابات والمعادن والبحيرات ، وعلى غير ذلك من المسائل والمقاصد التي تفيد الراغب بالاطلاع على أحوال الولاية فائدة إجمالية لا يستغنى عنها. وقد دعيت في أول صدورها باسم (فهرست السنة). ولعل تسميتها (سنوية الولاية) يكون موافقا. أول من أصدر هذا الكتاب في حلب حالت بك المكتوبي في هذه السنة (١٢٨٤) وقد صدر المرة الأولى صغيرا وطبع على مطبعة الحجر وما زال يتّسع حجمه وتزاد مسائله إلى حدود سنة ١٣٠٠ وإذ ذاك أنيط تحرير صحيفة الفرات بعارفي بك ، أحد موظفي قلم المكتوبي الذي صار بعد رئيس الكتاب في مجلس إدارة الولاية. فاجتهد المومأ إليه بتوسيع السالنامة وتوفير أبحاثها ، وطلب مني مساعدته على ذلك ، وكنت وليت ترجمة صحيفة الفرات فبذلت جهدي في مساعدته وقدمت له عدة كتب تاريخية لاستخراج ما فيها من المسائل التي لها علاقة بحلب ، فتوفرت فوائد السالنامة وعظم حجمها وصارت تصدر كل سنة مطبوعة بالحرف.

ثم في سنة ١٣٠٤ تحوّل عارفي بك إلى جدّة قائم مقام عليها. وبقيت السالنامة تصدر تارة بترتيب مكتوبي الولاية وأخرى بترتيب صديقنا المحترم السيد أسعد بن ناجي أفندي إمام زاده ، الشهير بالعينتابي ، وكان قائما بوظيفة مديرية أوراق الولاية ، وكان يحرر صحيفة الفرات في أكثر الآنات (١) بالنيابة عن المكتوبي. وفي أيام قيامه بترتيب السالنامة صححت منها جدول عمال حلب وكفّالها وولاتها بطلب منه ، وكان فيه أغلاط كثيرة. على أنه لم يزل يوجد فيه أغلاط أحدثتها أيدي عملة المطبعة ، ولم تزل السالنامة تصدر

__________________

(١) انظر الحاشية السابقة.

٣٠١

إلى سنة ١٣٢٦ وفي هذا التاريخ قلّت مداخيل المطبعة وعجزت عن النفقات المقتضية للسالنامة فأهملت وما زالت مهملة حتى الآن.

عارفي بك هذا أول من قال في السالنامة : إن نهر قويق سمي باسم قويق آغا الذي جرّه من منبعه إلى حلب. وقد آخذته بهذه الغلطة وشافهته بها حين مرّ من حلب متوجها إلى مرعش متصرفا في لوائها وقلت له : إن كلمة قويق محرفة عن قواق التي يطلقها الأتراك على شجر الحور ، وإن هذا النهر سمي بنهر قويق لما يزرع عليه من هذا الشجر حتى إنه ليوجد في نفس مدينة عينتاب منتزه يعرف باسم (قواقلق) أي مزرعة الحور. فأقرّ رحمه الله بغلطه وصوّب رأيي فيما رأيته بهذه الكلمة.

غرائب الخلق :

في هذه السنة (١٢٨٤) ولد في أنطاكية مولود برأسين ، أحدهما بشعر وأذن وأنف وفم ، والآخر بعين واحدة فقط. وقد ولد حيّا ومات بعد دقائق.

وفيها اهتمت الحكومة بجمع بزر الجراد من أطراف الولاية فجمعت منه نحو عشرين ألف شنبل ، الشنبل وزن خمسين أقة. وقد وزعت على كل فرد مقدارا معلوما من البزر ، وفتح لشرائه من التجار مسواق ، فاشتغل الفقير وربح التاجر وخفّ الضرر في تلك السنة.

الشروع بفتح طريق إسكندرونة :

وفيها كان الشروع بتعبيد طريق إسكندرونة وقد فرض على كل ذكر بالغ عمل أربعة أيام إما بنفسه وإما ببدل نقدي عن كل يوم عشرة قروش. وكان ابتداء العمل به في اليوم الثاني عشر ربيع الأول تبركا وتيمنا. وحضر وقت الابتداء به عدة من أشياخ حلب وعلمائها وصلحائها ومن جملتهم العالم الكبير الشيخ أحمد الترمانيني ، وهو أول من أعطى عن نفسه البدل النقدي أربعين قرشا فاستبشر الناس بنجاح المشروع فيه وتفاءلوا خيرا. وفي هيار هذه السنة اختنق تسعة حجارين من الملة المسيحية في مغارة البختي خارج حلب إلى شماليها وذلك أن المذكورين التجئوا من المطر إلى المغارة المذكورة فلم يشعروا إلا وقد كبسهم السيل فاختنقوا عن آخرهم.

٣٠٢

وفي ليلة الجمعة سابع وعشرين صفر منها المصادف حزيران الرومي تغير الجو في قصبة ريحا وبرد الهواء بردا شديدا لم يعهد مثله في الشتاء الشديد حتى اضطر الناس للتدثر بالملابس الشتوية وإيقاد النار في بيوتهم وفيها صدرت إرادة سنية بمنع زرع التبغ المعروف بالتوتن. وفيها كان إخضاع الأعراب المتمردين على الدولة في صحراء حلب بعد مقاومة شديدة وكثرة القتل والأسر في رؤسائهم. وقد أخذت منهم قرعة شرعية واستفلحوا وعانوا الزرع والفلح. وفي ربيعها الثاني زينت البلدة زينة حافلة فرحا بعود المرحوم السلطان عبد العزيز خان من سياحته في أوروبا إلى العاصمة.

حريق أسواق حلب :

وفي الساعة السادسة من ليلة الأحد ثالث جمادى الأولى ، المصادف الليلة الحادية والعشرين من آب سنة ١٢٨٧ رومية ، شبّت النار من دكان في وسط سوق الصاغة ولم يدركها رجال الدرك إلا وقد سرت إلى ما جاورها ، ثم انتقلت إلى الأسواق المتصلة بذلك السوق فاستعرت والتهبت وانفتحت منها أبواب جهنم ، وأخذ الناس يفرّغون حوانيتهم إلى الجامع الكبير حتى صار فيه تلال من الأرزاق ومنهم من لم يتمكن من تخليص رزقه. وكان الدخان يعلو في الجو طبقات متراكما بعضه فوق بعض ، أسود حالكا كأنه قطع السحاب المكفهرّ ، وقد ارتفع من أسفله مارج النار يتلظى كالطّود العظيم الذي يسمع منه دوي وفرقعة تقشعر منها النفوس.

ولم تزل هذه النار الحاطمة في اضطرام وهيجان حتى أتت على سوق الصيّاغين والبزازين المعروف بسوق البالستان ، مع جميع تشعباته وزواياه وخلاياه ، وسوق العقّادين وسوق الطرابيشية وسوق القوّافين ، وبعض سوق استانبول الكائن وراء شرقية الجامع الكبير. وقد أحصي ما احترق من الحوانيت والدكاكين فكانت ٣٢٣ دكانا وحرر ما احترق من الأموال المنقولة تقريبا فكان يساوي ما قيمته عشرة آلاف كيس (الكيس خمسمائة قرش). ومن لطف الباري تعالى على عباده أن النار لم تصل إلى سوق العطارين ، مع أنها لم يبق بينها وبينه إلا مسافة بضعة أذرع. ورأيت عند بني المركوبلي مكتوبا مذيلا بنحو مائتي توقيع من تجار الملل الثلاثة في حلب يتضمن عبارات الشكر من الخواجه نقولا

٣٠٣

المركوبلي على ما أبداه من الرأي والإشارة إلى هدم زابوقي (١) سوق الذراع وسوق الباطية لقطع الطريق على النار منعا لها من الوصول إلى سوق العطارين ، فإنها لو اتصلت به لانعدمت حلب حرقا وهدما ، لما اشتمل عليه هذا السوق من أنواع البضائع الملتهبة كالبارود والنفط والسّندروس (٢) والزفت والقير وغير ذلك ، بحيث كان فيه من هذه البضائع قناطير مقنطرة.

وقد اختلف الناس في أسباب هذا الحريق العظيم : فمنهم من قال إنه مفتعل من الحكومة بقصد التمكن بعده من توسيع هذه الأسواق لأنها كانت غاية في الضيق. ومنهم من زعم أن السبب نار تركها بعض الصاغة في كانونه ، فطارت منها شرارة على مفرش فيها وعلقت (٣). والله أعلم بحقيقة الحال. وفي الساعة السابعة والدقيقة العاشرة من الليلة الخامسة عشرة من جمادى الأولى ابتدأ القمر بالخسوف وكمل انجلاؤه في الساعة العاشرة والدقيقة العاشرة. وفي هذه السنة كان تشكيل كثير من أقضية حلب وألويتها.

ميت عاش :

في رمضان هذه السنة توفي لرجل يقال له الشيخ محمد ـ من سكان محلة مستدام بك في حلب ـ ولد صغير عمره ثمانية أعوام ، فجهز وحمل إلى المقبرة ، وبينما الحمالون سائرون به لم يشعروا إلا وقد تحرك وأخذ بالبكاء. فرجعوا به إلى بيت أبيه وعاودته الصحة. وفيها كان الشتاء شديدا والمطر غزيرا ، ولا سيما في شباط ، فقد طغت فيه الأنهار وضجر الناس من كثرة المطر والثلج والجليد والبرد القارس. وفي أواخر محرّم سنة ١٢٨٥ وصل إلى حلب واليا عليها ناشد باشا. وفي اليوم الرابع عشر صفر خرج الوالي مع الهيئة المرتبة لترميم القناة وكاشفوا أحوالها ورتبوا عملها. وقد تكلمنا على ما كان منه في قناة حلب عند الكلام عليها في الجزء الأول فراجعه.

وفيها صدرت إرادة سنية بجواز زرع التبغ بشرط أن يأخذ الزرّاع رخصة من إدارة الرسومات. وفيها أمر الوالي بتوسيع حجرة الميقاتي بإضافة حجرة أخرى إليها على باب

__________________

(١) الزابوق : الزقاق الصغير الضيّق. والكلمة عامية.

(٢) نوع من الصمغ ، وهو من المفردات الطبية.

(٣) أي التهبت واشتعلت. والكلمة بهذا الاستعمال عامية.

٣٠٤

الجامع من جهة سوق الطيبية ، وأمر بجلب ساعة كبيرة توضع فيها. وفي جمادى الأولى أمر الوالي بتبديل سقوف أسواق حلب بالسقوف المعروفة بالجملون ، وكانت قبلا من الحصر المنسوجة من البردي والقصب ، كثيرة الاستعداد للالتهاب. فشرعوا بذلك مبتدئين من باب النصر. وفي هذا الشهر كان تعديل الأوزان ورسمها بطابع البلدية. وفيه كان افتتاح دار الإصلاح المعروفة باسم إصلاحخانة.

سفر الوالي إلى طريق إسكندرونة وما أجراه من الإصلاح :

وفي أواخر جمادى الثانية سافر الوالي لمشارفة طريق إسكندرونة. وفي التاسع والعشرين منه ورد منه إلى وكيله حسني باشا الفريق العسكري محرّرات ، مثالها أن الطريق المذكور تبلغ مسافته ٣٢ ساعة ، وفيه عدة محلات تحتاج إلى جسور وخنادق ، ومنها عفرين فإنه محتاج إلى جسر يعسر بناؤه. قال : ولذا عوّلنا على سلوك طريق آخر هو بالجانب الفوقاني من ذلك الطريق في مسافة ٢٢ ساعة ، ويكون تمديده من جهة قلعة الكوبة لي ، وبسلوكه تقرب المسافة عشر ساعات ويكتفى بجسر جزئي على عفرين ، ثم قال : ووجدت الجبل الكائن فوق خان العسل المتوسط بين عدة قرايا كالأثارب وإبزمو وتلعدة ، على مسافة سبع ساعات من حلب ، خاليا من الشجر ، فحملنا أهل تلك القرى على غرسه بشجر التين والعنب والزيتون وأخذنا منهم كفلاء على ذلك. ووجدت إدارة الريحانية غير منظمة لخلوها عن مركز حكومة واستبداد أغواتها ، فعزمنا على بناء مركز للحكومة في تلك الجهة ورفعنا عنها سلطة أغواتها وفرقنا أراضيها المملوكة لهم بحق عن غيرها ، ومكنت الفقراء من العمل فيها.

وفي هذه السنة فرش مقدار كبير من أزقة حلب بالبلاط على نسق الجملون. وهذه أول مرة فرش فيها البلاط على هذه الصفة. وفي اليوم الثاني عشر من شعبان رجع الوالي إلى حلب. وفي شوالها بدأ الوالي أن يجعل (١) بعض الخرائب الكائنة تجاه باب القلعة منتزها عاما وأناط إجراء ذلك بحسني باشا. فغرست الأشجار وحوّط بدائر ، وحفر لسقايته دولاب في شرقي باب القلعة على غلوة منه فلم يمض سنة إلا وتعطّل وأهمل وعاد كما كان. وفي

__________________

(١) الصواب حذف «أن» هنا قبل الفعل المضارع.

٣٠٥

الساعة التاسعة من الليلة الخامسة عشرة ذي (١) الحجة هطلت السماء في مرعش بالأمطار الغزيرة وأعقبها زلزال انهدم به هناك منزلان.

تولي الحكومة بريد إسكندرونة :

وفي اليوم الرابع عشر ذي القعدة أنيط البريد ـ الذي كان يتردد من حلب إلى إسكندرونة ـ بالحكومة العثمانية. وكان قبلا يسافر عن يد قنصل فرنسة المقيم في حلب. وفي ذي الحجة قصدت جماعة البغّالة ـ من الفرقة النظامية ـ الأعراب بسبب كثرة فسادهم ، وأوقعت بعشيرة المهيد وهريب والشميلات والعجاجرة والسباعة. وكانت الوقعة في مفاوز الزور فانخذل الأعراب ، واستولى العسكر على نحو عشرين ألف رأس غنم ومئة وخمسين جملا ، وأتوا بها إلى حلب. وفي يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول سنة ١٣٨٦ سافر الوالي إلى جهة المعرة التي ألحقت في تلك الأيام بولاية حلب ، فرتّب أمورها وكاشف قراها ، وكانت قبلا ملحقة بولاية دمشق مضافة إلى حماة. وفي الساعة التاسعة من ليلة الاثنين ، غرّة شوال المصادف اليوم الحادي والعشرين من كانون الأول سنة ١٢٨٥ رومية حصل زلزلة بحلب مرتين من الشمال إلى الجنوب ، فانهدم بها بعض جدران في ظاهر حلب مشرفة على الخراب ، ولم يحدث منها ضرر غير ذلك. وفي هذه السنة ولي حلب درويش باشا.

ابتداء العمل في محلة العزيزية :

وفيها كان ابتداء تأسيس الأبنية في حارة العزيزية على جبل النهر. وسببها أنه لما فتحت دار الإصلاح المتقدم ذكرها أرادت الحكومة أن تجعل لها جهة دخل تقوم بالنفقات التي صرفت عليها ، فباعت جبل النهر لجماعة من المسيحيين ، وعمروه محلة لهم على نسق جديد من الأبنية وسعة الشوارع. وفي هذه السنة كان الجدب مستوليا على حلب وبرّها بحيث لم ينبت فيها حبّة ولا نزل من السماء قطرة ، واشتد الغلاء حتى بيع رطل الخبز بتسعة قروش ونصف القرش ، بدل قرش وربع القرش. واستمر هذا الحال إلى دخول سنة ١٢٨٧.

__________________

(١) التركيب يقتضي إضافة «من» قبل : «ذي الحجة» ولكن المؤلف ترخصّ في التعبير ، أو سبق إلى وهمه أنه تركيب إضافي ، وليس بذاك. ومثله ما سيأتي في أول الفقرة التالية.

٣٠٦

زلزلة أنطاكية :

في آذار الرومي هذه السنة (١٢٨٧) في ضحوة يوم من أيامه زلزلت حلب زلزلة قوية بحيث أيقظت من كان نائما وسقط بها بعض شرفات من سور القلعة وعدة جدران متوهنة. ولم يمض غير بضع ساعات حتى ورد من أنطاكية للوالي تلغراف يفيد أنه في الوقت المذكور حدث هناك زلزال قوي أتى على جميع أبنية أنطاكية ، بحيث لم يبق منها إلا القليل النادر ، فانهدمت البيوت والجوامع والخانات وبعض الحمّامات ، ومات تحت الردم خلق كثير ، والأحياء كلهم خرجوا على وجوههم إلى الصحراء ليس عندهم قوت ولا خيمة يأوون إليها مسلمين أنفسهم لحر الشمس وبرد الليل. ثم أخذ يتوارد من التجار وغيرهم المقيمين في أنطاكية تلغرافات ، مثالها ما ذكر. فشاع الخبر عند الحلبيين فضجوا واضطربوا ، وخرج كثير منهم إلى البساتين والبرية ، فمنهم من ضرب خياما وأقام تحتها هو وأهله وولده ، ومنهم من باشر عمل بيوت من الخشب ليقيم بها كذلك. ثم بعد ليلة أو ليلتين في أواسط الليل اهتزت الأرض مرة ثانية هزة خفيفة لم يحدث منها ضرر.

وهكذا استمر الحال في كل بضع ليال تهتزّ هزة خفيفة دون أن يحصل منها ضرر. وكانت في أنطاكية كلما اهتزت أضرّت ، حتى بقي أهلها في أسوأ حالة. وأخذت الحكومة تتدارك لهم الإعانة من القوت والخيم وأرسلت ذلك إليهم ، إلى أن فرّج الله عن عباده ، ودخل شهر نيسان وانقطع الزلزال واطمأن الناس ورجع أكثرهم إلى منازلهم وباشر أهل أنطاكية تعمير بيوتهم. وفي سنة ١٢٨٨ ولي حلب ثريّى باشا ثانية. ثم في سنة ١٢٨٩ وليها الحاج علي باشا ، ثم سامح باشا. وفي سنة ١٢٩٠ وليها كورد أحمد باشا. وفي سنة ١٢٩١ وليها رشدي باشا الشرواني ، الصدر الأسبق ، فلم يلبث غير تسعة أيام واليا وصرف عنها إلى ولاية الحجاز ، وصحبني معه إماما. وولي حلب مكانه محمد رشيد باشا ثانية وكان وليها سنة ١٢٧٥ وفي سنة ١٢٩٢ وليها سامح باشا ثانية ، ثم أسعد مخلص باشا.

انقضاض صاعقة :

وفي نيسان الرومي من هذه السنة انقضت صاعقة في محلة البياضة فقطّت (١) نحو

__________________

(١) أي قطعت عرضا. وأما إذا قطع الشيء طولا فيقال فيه : «قدّ» بالدال.

٣٠٧

النصف من منارة جامع الحموي ، وكأنما انفصل منها شظيّة فصدمت جدار قبلية الجامع المذكور من أعلاه ، فغاصت به وثقبته ثقبا منتظما ، وخرجت من نجف الشباك وأصابت رجلا يصلي المغرب فقتلته دون أن يبقى لها أثر به ، وأصابت رجلا في رجله فلم يمت لكنه بقي في رجله أثر كأنه كي نار. وكانت المنارة قد سقطت على سّواس مارا (١) من تحت القلعة فقتلته أيضا. وفي سنة ١٢٩٣ ولي حلب أمين باشا وفيها حصل بحلب هيضة (٢) ابتدأت من شعبان واستمرت إلى أواخر شوال وبلغت وفياتها اليومية مئة وخمسين نسمة.

وفي ٢٧ ربيع الأول من هذه السنة خلع السلطان عبد العزيز وجلس مكانه السلطان مراد خان ، فبقي سلطانا ثلاثة أشهر وثلاثة أيام ، ثم خلع وجلس بدله على عرش السلطنة السلطان عبد الحميد خان الثاني. وفي محرّم سنة ١٣٩٤ رفعت رتبة كامل باشا إلى الوزارة وعين واليا على قوصوه. وقبل أن يسافر إليها حوّل إلى ولاية حلب ، فقدم عليها في اليوم ال ١٤ صفر واستقام بها سنتين وشهرا. ذكر ذلك في ترجمة حاله وغلط في السالنامة إذ ذكر ولايته سنة ١٢٩٥ وقد اختارني إماما له في صلاة التراويح.

صدور جريدة في حلب :

وفيها صدر في حلب جريدة عربية عنوانها «الشهباء» لصاحب امتيازها السريّ الماجد الحاج هاشم العطار المعروف أيضا بالخراط. وقد تولى تحريرها الكاتب البارع المرحوم عبد الرحمن أفندي الكواكبي بمساعدة جماعة من أدباء حلب. غير أن الجريدة ما لبثت سوى أيام قلائل حتى أمر بإبطالها والي حلب كامل باشا المعروف بكراهية صحف الأخبار.

النفير العام :

في هذه السنة ١٢٩٤ أعلنت الدولة العثمانية في بلادها النفير العام لمحاربة روسيا. فحشدت العساكر من جميع بلادها ، ومن جملتها حلب التي جندت منها عددا عظيما حتى كادت تخلو من الشبيبة. ولذا أصبحت الحكومة تخشى من قيام الغوغاء للنهب والسلب ،

__________________

(١) كذا في الأصل ، والوجه : «مارّ» بالجرّ ، صفة لسوّاس.

(٢) الهيضة : مرض الكوليرا.

٣٠٨

فجعل كامل باشا شيخنا محمد آغا المكانسي كمتسلّم لحلب لأجل حفظها ، فجمع محمد آغا عصابة من شبيبة محلة باب النيرب وجعل يطوف بهم ليلا في شوارع حلب ومحلاتها إلى أن انتهت الحرب ، وعاد المتجندون إلى أوطانهم ولم يحصل في حلب ما يخل بالسلام.

شتاء شديد :

في سنة ١٢٩٥ كان الشتاء شديدا وتوالى سقوط الثلج على حلب وأكثر أعمالها نحوا من أربعين يوما ، حتى هجمت الظباء والذئاب على العمران وانقطعت الطرق والمواصلات ومات في البر عدة أوادم وهلك ألوف من الغنم والمواشي.

تشكيل عدلية حلب :

وفي هذه السنة (١٢٩٥) شكلت عدلية حلب. وقد أسلفنا ذكر (محكمة البداية) في الجزء الأول من هذا الكتاب. وفي سنة ١٢٩٦ ولي حلب غالب باشا ثم سعيد باشا.

غلاء شديد :

وفيها ارتفع سعر الحبّ في تشرين الأول ، واستمر إلى حزيران ، واشتد الغلاء وبيع رطل الخبز باثني عشر قرشا بدل قرش ونصف ، وارتفع سعر بقية المأكولات على هذه النسبة كالرز والعدس والبرغل واللحم ، فاضطرب الفقراء وثاروا في أحد الأيام ، ومشى منهم جمهور إلى السوق الكبير المعروف باسم (المدينة) وأخذوا يتخطفون المأكولات من سوق العطارين ، وبعض البضائع من بقية الأسواق ، فأسرع الناس إلى إغلاق حوانيتهم وخيف من حدوث ثورة عامة. وكان الفريق على الجندية جميل باشا ابن نامق باشا ، فنزل من الثكنة العسكرية مع ثلّة من الجنود وهددوا الثوار فارتاعوا وسكنت الثائرة.

وهذا أول عمل اشتهر به جميل باشا بين الحلبيّين فأحبوه ومالت نفوسهم إليه ، وقدموا له محضرا عاما يتضمن طلبهم منه أن يكون واليا عليهم. وكان سعيد باشا يرى ولاية حلب دون مرتبته فكان قيامه بأمور الولاية قياما يصحبه سآمة وفتور. ثم لما علم بميل الناس إلى جميل باشا الفريق العسكري استقال من خدمته. وكان جميل باشا قد أرسل محضر أهل حلب ـ الناطق بطلبه واليا عليهم ـ إلى استانبول فقبله الباب العالي وجعله واليا على

٣٠٩

حلب علاوة على وظيفته الفريقية العسكرية ، فجمع بين الوظيفتين وكان ذلك في سنة ١٢٩٧.

صدور جريدة في حلب :

في هذه السنة صدر في حلب جريدة عنوانها (الاعتدال) أحد وجهيها عربي والآخر تركي ، لصاحب امتيازها السيد هاشم الخراط السالف الذكر. وقد تولى تحريرها المرحوم عبد الرحمن أفندي الكواكبي وسعيد بك ابن علي باشا شريف ، أحد أدباء حلب فلم تلبث الصحيفة غير قليل حتى أمر جميل باشا بتعطيلها.

حريق في مرعش :

في ليلة الجمعة ثالث شوال سنة (١٣٠١) شبت النار من أحد أفران مدينة مرعش وسرت إلى ما جاوره ، وكان الهواء شديدا فقوي استعارها ولم تخمد إلا بعد أن التهمت ألفا ومائتي دكان ، وأربعين دارا وخمسة جوامع وحماما وخانين والرباط العسكري ودائرة البلدية وقدرت قيمة ما أتت عليه هذه النار بمائة وخمسين ألف ذهب عثماني. وقد تدارك أهل حلب جمع إعانة وافرة لإسعاف المنكوبين من أهل مرعش بهذا الحريق.

سقوط نيزك من الجو :

في يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة من هذه السنة ١٣٠١ المصادف الحادي والعشرين أيلول سنة ١٣٠٠ رومية ، في رادة (١) الساعة الثانية عشرة منه صباحا ، سقط حجر من الجو على تل قريب من قرية قره دينك في بعد خمس ساعات عن عينتاب ، وعند سقوطه كان الجو خاليا من الغيم بالكلية والهواء معتدلا. وقبله بنحو عشر دقائق سمع له دوي شديد كأنه رعد قاصف ، ولما سقط غاص في الأرض نحو نصف ذراع فلما أرادوا إخراجه على أثر سقوطه لم يتمكنوا من القبض عليه لشدة حرارته ، فلمسه بعضهم بثوبه فأحرقه. وهو حجر أسود صلب شديد شكله على هيئة السلحفاة ، وثقله نحو ألف وثمانمائة درهم. وقد أرسل من عينتاب إلى حلب ، وشاهدته ثم أرسل إلى استانبول.

__________________

(١) الرادة : الدرجة والمنزلة. والكلمة تركية.

٣١٠

فتح الجادة العظيمة :

وفي هذه السنة كان افتتاح الجادة العظيمة المعروفة بجادة باب الفرج بحلب. وكان في العزم أن يجعلوها مسامتة طريق العربية ، مبتدئة من جسر الناعورة ثم تقطع بمرورها بستان الكلاب حتى تتصل بالخندق الكبير فتمتد مستقيمة إلى محلة العوينة ، ومنها تنعطف حتى تنتهي إلى تجاه دار الحكومة. ثم إن هذا العزم لم يتيسر إنفاذه وفتحت الجادة المذكورة من جسر الناعورة إلى باب الفرج فقط.

وفي ليلة الأربعاء ثالث عشر صفر سنة ١٣٠٢ المصادف اليوم الحادي والثلاثين من تشرين الأول سنة ١٣٠٠ رومية هطلت السماء بالأمطار الغزيرة وانكفأت كأفواه القرب في جهات الجوم ، ثم حملت على جسر عفرين فهدمت منه قنطرتين ، وكان السيل قد اقتلع ألوفا من الشجر وساقها ، وهدم طاحونين عن آخرهما ، وأغرق شخصين وبعض جمال. وفي هذه الليلة أيضا حمل نهر الذهب وأغرق شخصين ومقدارا عظيما من الحبوب والأمتعة. ودخل السيل طاحونا في قرية من أعمال منبج يقال لها «عرب حسن» فهدمه عن آخره بعد أن اختطف منه سبعين عدلا من الدقيق والحبوب.

إنشاء جامع منبج :

في هذه السنة كمل تعمير الجامع الحميدي في قصبة منبج وكانت نفقاته من الخزينة الخاصة بالسلطان عبد الحميد خان الثاني ، وتوجه للحضور في حفلة افتتاحه والي الولاية ورؤساء الحكومة وإدارة الجفتلك السلطاني ، فاجتمع هناك جمّ غفير من الأكابر والأعيان وسكان القرى المجاورة ، وأحرقت الملاعب الناريّة ، ودارت كؤوس المرطبات. وفي اليوم الخامس والعشرين رمضان المصادف لمثله من حزيران سنة ١٣٠١ وقع مطر خفيف وانتشر معه جراد كثير من الشمال إلى الشرق ، وهذا الجراد لم يزل يتردد على حلب وبلادها إلى سنة ١٣٠٨ وفي ليلة السبت ٢٨ صفر سنة ١٣٠٣ المصادف الثالث والعشرين تشرين الثاني سنة ١٣٠١ رومية في رادة الساعة الخامسة منها ، سطع شيء في السماء كالكوكب المحترق ، ثم أخذت الكواكب الصغار تتطاير ألوفا ، ثم انعكس الهواء بغتة واشتد إيماض البرق وانكفأت السحب كأفواه القرب. وفي شهر ربيع الأول سبق رديف ولاية حلب إلى جهة الروملّي الشرقي وقدره أحد عشر طابورا.

٣١١

تقديم كتاب المجلة إلى القاضي :

وفي اليوم ٢٦ من هذا الشهر أهدى أعيان حلب من المسلمين والنصارى نسخة من كتاب مرآة المجلة إلى حسين توفيق أفندي ، حاكم الشريعة الغراء في حلب ، مكافأة له على عدله في أحكامه واستقامته وعفّته. وكان جلد هذه النسخة من المخمل الأحمر مزركشا بالقصب الذهبي ، وفيه صورة قمر ونجمة مرصعة بالماس مكتوب تحتها بالزركشة هذه العبارة: «تهدى لحضرة الفقيه العلامة فضيلتلو حسين توفيق أفندي ، حاكم الشريعة الغرّاء تذكرة من أهالي الشهباء لالتزامه جانب العدل والاستقامة في مدة مأموريته في حلب سنة ١٣٠٣».

وفي ربيع الآخر من هذه السنة كانت حفلة افتتاح طريق إسكندرونة. وفي غرة جمادى الأولى ورد وسام الامتياز من رتبة مدالية إلى والي الولاية جميل باشا مكافأة له على إكمال تمهيد طريق الإسكندرونة ، فجرت له حفلة عظيمة في ذلك اليوم. وفي اليوم الثامن والعشرين رجب المصادف اليوم السابع عشر نيسان سنة ١٣٠٢ رومية وقع في جهة قلعة الروم مطر شديد وبرد كبار ، حصل منه سيل أتى على اثنتي عشرة قرية فهدمها ، وأهلك سبعين رأسا من البقر وخمسة خيول ، ومئة وأربعين من الغنم والمعز ، وهدم ثمانية طواحين.

وفي شهر شعبان كان الشروع بتمهيد الطريق الكائن بين كلّز وطريق إسكندرونة وأوله من قرية قاطمة من أعمال كلّز.

عزل جميل باشا من حلب وما يتعلق به :

في يوم الثلاثاء ثالث وعشرين ذي الحجة سنة ١٣٠٣ قدم إلى حلب صاحب بك رئيس دائرة المحاكمات في شورى الدولة ، ومعه معاون مدعي العموم في تمييز شورى الدولة ، وأحد كتاب محكمة تمييز الحقوق في دائرة العدلية. والسبب في قدومهم هو أن الوالي جميل باشا شدّد على جماعة من أغنياء حلب ـ ومن جملتهم آل الكتخدا ـ بطلب إعانة لتسديد بدل تحويلات الاستقراض الداخلي ، فامتنعوا عن دفع المبلغ المطلوب منهم لأنه فوق ما طلب من أمثالهم ، فتوصل بذلك لحبسهم وضيّق عليهم لغرض يقصده ، فلم يفعلوا ورفعوا قصتهم إلى الباب العالي والسلطنة السنية ، وورد الأمر بإطلاقهم فأطلقوا. ثم انضم إليهم عدة أفراد واسترحموا من الدولة أن تتكرم عليهم بإرسال حكم ينظر في أحوالهم مع الوالي ،

٣١٢

ويقف على حقيقة الظالم من المظلوم ، فأجابت الدولة استرحامهم وصدرت إرادة سنية بإرسال «صاحب بك» ومن معه لأجل ما ذكر. ولما وصلوا إلى حلب أخذوا بتحقيق المسائل واستقصاء الأحوال ، وأقبل المتظلمون عليهم يقدّمون إليهم اللوائح في ظلاماتهم إلى أن مضى عليهم شهران ولم يظهر أثر لفعلهم.

قصد زيرون اغتيال الوالي :

وفي يوم الثلاثاء سادس عشر صفر سنة ١٣٠٤ وهو اليوم الحادي عشر تشرين الثاني سنة ١٣٠٢ بينما كان الوالي متوجها من دار الحكومة إلى منزله في جنينة البلدية قرب العبارة ، وذلك في الساعة الحادية عشرة ونصف مساء اليوم المذكور ، إذ وثب عليه ـ وهو في ظاهر باب الفرج على بعد نحو مئة قدم منه ـ رجل يقال له زيرون جقماقيان المرعشي ، وخاطبه بقوله : «قف كيف تتخلص مني؟» ثم أطلق عليه الرصاص من مسدس كان بيده فأخطأه ، فأطلقه ثانية وثالثة فأخطأه أيضا. وكان قد هجم عليه ياور الوالي وجاويشيّته فقبضوا عليه وأرسلوه للسجن.

وذكر بعض من كان حاضرا هذه الحادثة أن زيرون المذكور لم يطلق الرصاص على الوالي ، إنما الوالي لما رأى بيده المسدس خاف منه وأمر جنديا كان معه أن يطلق عليه الرصاص تهديدا له ، ففعل فظن الناس أن الرصاص خرج من المسدس. قال : والدليل على ذلك أن جماعة الوالي لما أخذوا المسدس من زيرون وجدوا جميع عويناته مملوءة مع أنه لم تسنح له فرصة بإملائها.

أما السبب في وثوب هذا الرجل على الوالي فهو أنه كان أحد وكلاء الدعاوي في عدلية حلب ، وكان مشهورا بالعلم والصدق والاستقامة ، فصادف أن بعض الناس وكلّه في خصام بينه وبين الوالي فاغتاظ منه الوالي ومنعه من وكالة الدعاوي في حلب ، فسافر إلى بلده مرعش فمنعه من وكالة الدعوى أيضا. فترك مرعش وسافر أنطاكية فكاتب الوالي الحكومة فيها بمنعه من الوكالات أيضا. ولما رأى هذا الرجل أن الأرض قد ضاقت عليه بما رحبت ولم يبق له وجه يسترزق به ، خولط في عقله وزينت له الماليخوليا (١) أن يعترض

__________________

(١) الماليخوليا ، والمالنخوليا : مرض سوداوي ، من أهم أعراضه الاكتئاب والأرق ورفض الغذاء وانعدام الاهتمام بالعالم الخارجي.

٣١٣

للوالي ويهدده بالقتل لعله ينفك عنه. ففعل ذلك فأخفق سعيه واتسع الخرق عليه ، لأنه بعد أن بقي مدة محبوسا في حلب نقل إلى دمشق وحكم عليه بالحبس مدة خمس عشرة سنة فمات محبوسا بعد ثلاث سنين من حبسه.

ثم إن الوالي بعد أن مرّت عليه هذه الحادثة في ذلك اليوم توجه إلى منزله وأقبل عليه الناس يهنّونه بالسلامة وأمر بإيقاع القبض على جماعة من الوجهاء كانوا يتصدون لمناضلته ، وقد زعم أنهم هم الذين أغروا زيرون وحملوه على ما فعل. فوقع القبض عليهم في تلك الليلة وهم في منازلهم لم يبرحوا منها ، لأنهم كانوا على غفلة لا يدرون الخبر ، فأودعوا السجن وأمر الوالي بالتضييق عليهم وأن يوضع كل واحد منهم في حجرة على حدته ، وأن لا يدخل إليه أحد من ظاهر السجن ولا من داخله ولا من رفقائه ، ولا يمكّن من أداة كتابة ولا من أخذ خبر من ظاهر الحبس ، لا كتابة ولا شفاها. فكان خدمة الحبس يشقّون رغيف الخبز المبعوث إلى المحبوسين المومأ إليهم خوفا من أن يكون فيه ورقة ، ويفتشون جميع ما يدخل إليهم من الطعام والملبوس. وكان الوالي قد أحضر من الثكنة عساكر نظامية أمرهم بأن يقف على كل حجرة من حجر المحبوسين المذكورين جنديان متأبطان سيوفهما معتقلان بنادقهما.

ولما اطلع «صاحب بك» على هذه الأحوال عرف بها استانبول وأظهر أنه عازم على السفر من حلب لينظر ما ذا يكون من الوالي. فسار إلى تكية المولوية لينام ليلته هناك ويتوجه من الصباح إلى جهة استانبول. فلما سمع الوالي خبر سفره ظنه صحيحا فاغتنم الفرصة وأمر بإحضار دوابّ المكارية (١) ليركب عليها المحبوسين وينفيهم ، وحينئذ فهم «صاحب بك» نيته وأظهر أنه عدل عن السفر فتوقف الوالي عن نفي المشار إليهم ، لكنه لم يبرح عن إصراره في حبسهم والتضييق عليهم ، بل كان يزيدهم تضييقا يوما فيوما. فلما كان اليوم السابع من ربيع الأول من هذه السنة (١٤٠٤) أبرق «صاحب بك» للدولة يقول : أنا عازم على الشخوص لاستانبول لأنني لا أستطيع البقاء في بلدة لا يعرف فيها النظام ولا القانون. وأبرق قائد الجندية النظامية في النهار المذكور للدولة يقول ما معناه : إنني غير مسئول إذا حدث في حلب ما يخلّ بالسلام لأنني لم يبق لي نفوذ على القوة العسكرية.

__________________

(١) جمع المكاري ، وهو الذي يؤجر الدوابّ ، ويغلب على الحمّار والبغّال.

٣١٤

فلما اطّلعت الدولة على هاتين الرسالتين رأت أن الأمر قد أخذ بالتفاقم ، وحينئذ اتفق رأي أولياء الأمور على تلافي القضية وصرف جميل باشا عن حلب ، وأنفذت إلى شاكر باشا ـ أحد الفرقاء في دمشق ـ أن يسافر إلى حلب في أسرع مدة ويتسلم بها زمام العسكرية ويعرّف استانبول. فركب شاكر باشا في الحال وذلك في صباح اليوم الثامن من ربيع الأول وتوجه إلى جهة حلب ، فوصلها بغتة عشية يوم الثلاثاء ثاني عشر ربيع الأول ، ونزل في رباط الشيخ يبرق رأسا وتسلّم زمام العسكرية وعرّف بذلك استانبول. وكان الخبر بلغ جميل باشا فأمر العسكر الذين كانوا يحافظون المحابيس بالصعود إلى الرباط.

ثم في صبيحة يوم الأربعاء ثاني عشر ربيع الأول ورد التلغراف من استانبول بأن يكون جميل باشا واليا على ولاية الحجاز ، وعثمان باشا والي الحجاز يكون واليا على حلب ، ويكون شاكر باشا وكيلا عنه إلى أن يحضر الوالي. في الحال حضر وكيل الوالي المشار إليه وصاحب بك ، وخلّيا سبيل المحبوسين ، وبعد يومين ورد الأمر إلى جميل باشا بتعجيل الانصراف عن حلب ، فبارحها يوم الخميس سادس وعشرين ربيع الأول متوجها إلى مكة المكرمة. ثم في يوم الخميس تاسع عشر ربيع الثاني وصل إلى حلب عثمان باشا واليا عليها. وفي يوم الاثنين سابع جمادى الأولى أزمع صاحب بك الرحيل من حلب إلى استانبول ، فأسف الناس على فراقه ودعوا بسلامته.

تأسيس محلة الجميلية :

وفي هذا الشهر ورد الإذن بإحداث محلة في أرض الحلبة ، مما يلي طريق عربية إسكندرونة ، وأن تسمى بمحلة السليميّة ، نسبة إلى نجل السلطان عبد الحميد خان الثاني.

فأخذ الناس بشراء الأراضي هناك وتأسيس الدور. وكان قد أقيم بها قصران عظيمان في السنة الماضية ، أحدهما لجميل باشا وثانيهما للمرحوم علي محسن باشا ، القائد العام فوق العادة على حلب وأطنه وضواحيها. وهو أول قصر عمر في هذه المحلة. وفي هذا الشهر ـ أعني شهر جمادى الأولى ـ كان الشروع بتسليط ماء رأس العين إلى قصبة إسكندرونة ، وهي على مقربة من إسكندرونة وتعرف باسم (بيكار باشي) فأجريت إلى الإسكندرونة بكيزان من الحديد وبنيت لها الحياض والقساطل ، وكانت النفقة عليها من سكان إسكندرونة.

٣١٥

التباس بين مولودين :

في شهر جمادى الثانية اتفق أن امرأتين من اليهود وضعتا في بيت وآن واحد طفلين ذكرين. وكانت القابلة ومن حضر من النسوة يشتغلن بأمهاتهما ، فلما فرغن منهن وطلبت كل واحدة ولدها التبس عليهن تعيين كل ولد إلى أمه ، ولم يظهر لهن ذلك إلا بعد مشقة زائدة.

وفي هذه السنة جمع مقدار وافر من بزر الجراد. وفي الساعة السابعة والدقيقة الخامسة عشرة من يوم السبت حادي وعشرين محرم سنة ١٣٠٥ سادس والعشرين أيلول سنة ١٣٠٣ رومية ، وقع في حلب ، وعينتاب وكلّز ومرعش ، والبستان وأورفة وسروج ، زلزال من الغرب إلى الشرق ، وامتد نحو نصف دقيقة دون أن يحدث منه خطر. وفي هذا الوقت نفسه حصل زلزال شديد في بعض قرى عينتاب فهدمت عدة دور وهلك بها تحت الردم طفلان وبعض مواش. وفي أوائل صفر كان قدوم حسن باشا والي حلب وسفر سلفه عثمان باشا.

حريق في مرعش وبيادر حلب :

وفي السادس والعشرين حزيران سنة ١٣٠٤ حدث في مرعش حريق عظيم قوّم ضرره باثني عشر ألف ذهب عثماني ، التهمت ناره (٥٢٠) دكانا و ٢١ دارا و ١١ فرنا وقسما من جامع وخان وتكية المولوية بتمامها. وفي يوم الخميس ١٧ ذي القعدة و ١٤ تموز شبت النار في بيادر قارلق بحلب فأحرقت ٢١٧ بيدرا.

تفشّي حمى التيفوس في المحابيس :

وفي رجب الفرد سنة ١٣٠٦ وشباط سنة ١٣٠٤ فشا بالمحابيس في سجن الحكومة حمّى قتّالة يقال لها حمى تيفوس ، وصار يموت بها كل يوم بضعة محبوسين. فعيّنت لهم الحكومة مستشفى في جبل الغزالات أفردتهم به. وبعد ثلاثة أشهر صرفها الله عنهم. وفي شهر ذي القعدة وحزيران شبّت النار في إحدى محلات مرعش ولم تخمد حتى أتت على عشرين دارا ، وامرأة وطفل. وفي اليوم الحادي والعشرين رمضان سنة ١٣٠٦ الثالث عشر أيار سنة ١٣٠٥ بين الصلاتين ، وقع في حلب وأطرافها مطر غزير يصحبه برق ورعد

٣١٦

وصواعق وبرد كبار في شمالي حلب ، حتى حملت السيول وساقت عدة مواش من بساتين حلب وأراضيها وأغرقت محلة الوراقة ، واختنق بها بضعة أوادم.

وفي أوائل ربيع الثاني سنة ١٣٠٧ المصادف شهر تشرين الثاني سنة ١٣٠٥ ورد الأمر من النظارة الصحية بإقامة منطقة الحجر الصحي في حدود الولاية ، مما يلي الموصل ، لما شاع من ظهور الهيضة (١) في الموصل ، فأقيمت المنطقة المذكورة في جهة الرّها وحرّان والبيرة والرقة خمسة عشر يوما على كل مارّ من هناك إذا لم يكن معه تذكرة مشعرة بنظافته. وفي هذا الشهر قدم من استانبول إلى حلب الشيخ وفا ابن الشيخ بهاء الدين ابن الشيخ «محمد وفا الرفاعي» ومعه من حلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شعرة أعطته إياها امرأة من أكابر نساء استانبول. فتلقاه الناس بالتكريم ، ووضعت الشعرة في زاوية الشيخ تراب المتصلة بجامع خسرو باشا. وفي الساعة الثامنة بعد ظهيرة يوم الثلاثاء ثامن عشر شعبان المعظم من هذه السنة المصادف لليوم ٢٧ آذار سنة ١٣٠٦ بدأ المطر ينهلّ كأفواه القرب ، واستمر بهذه القوة العظيمة إلى الساعة الأولى ليلا ، حتى طافت الشوارع وبعض جوامع وحمّامات ودكاكين ، وأغرق نحو ثلاثين حملا من الأرزّ والملح وغيرهما في خانات باب الجنان ، وخسفت الأزقّة ، وسقط صاعقة في محلة ساحة بزّة فصدّعت أربعة جدران.

وفي يوم الخميس ١٢ رمضان سنة ١٣٠٧ وصل إلى حلب واليا عليها عارف باشا.

وفي صيف هذه السنة ظهر في حلب ونواحيها مرض وافد سماه الناس باسم «أبي الرّكب» وكان وفوده من الممالك الإفرنجية ، وكانت أعراضه في حلب أن يبتدئ مع الإنسان بقشعريرة خفيفة تارة وسخونة أخرى ، ثم تطبق السخونة ويلزم المريض الفراش ، ويشتد معه وجع الرأس والصداع والغثيان بضعة أيام ، ثم يشعر بوجع في مفاصله وفي ركبه إلى أن يمضي عليه نحو خمسة عشر يوما تقريبا ، فينقه من مرضه. وفي شتاء هذه السنة أيضا انقلب هذا المرض إلى علّة سماها الناس «الفولانزا» وفدت من البلاد الإفرنجية ، وهي نزلة صدرية شديدة يصحبها سخونة في الجسم ، تستمر نحو عشرين يوما وتنتهي بالشفاء غالبا.

__________________

(١) سبقت الإشارة إلى أنها الكوليرا.

٣١٧

وفي يوم الثلاثاء ٢٩ شوال المصادف اليوم الخامس حزيران سنة ١٣٠٦ في الساعة الرابعة والدقيقة الثالثة والثلاثين ابتدأت الشمس بالكسوف وانتهى الكسف في الساعة الخامسة والدقيقة الرابعة والثلاثين ، وبدأ بالانجلاء في الساعة الخامسة والدقيقة الخامسة والثلاثين ، فكانت مدة الكسوف من الابتداء إلى انتهاء الانجلاء ساعتين ودقيقتين ، ومقدار ما انكسف من قرص الشمس تسع أصابع من اثنتي عشرة أصبعا.

٣١٨

سنة ١٣٠٨ ه

في يوم الخميس ٢٦ محرّم هذه السنة ٢٩ آب سنة ١٣٠٦ تواردت الأخبار من جهة مسكنة بأنه أصيب فيها بالهيضة خمسة عساكر بواسطة ثلاثة أفراد من البدو ، وقدموا إلى مسكنة من بلد الجزيرة ، المنتقل إليها هذا المرض من ديار بكر فبغداد فالبصرة فالهند. ثم في يوم السبت ٢٨ محرم أصيب بالمرض المذكور بضعة أشخاص من النصارى في زقاق أبي ناصر في محلة قسطل الحرامي بحلب. وفي ثاني يوم مات أكثرهم فوضعت الحكومة الحجر على هذا الزقاق عشرة أيام ، وفشا المرض في أنطاكية وحمص وحماة وكلّز وعينتاب والبيرة ، ولم تزد وفياته اليومية على خمسين نسمة في حلب.

فاهتمت الحكومة بالأسباب التحفظية وبالغت بنظافة البلد ، وحظرت بيع الخضر والبقول المضرة ، ووضعت في عدة جهات داخل البلد مقدارا عظيما من الزبل اليابس. ثم في الساعة الحادية عشرة من يوم الاثنين ٢٨ ربيع الأول أمرت أن تضرم النار في هذا الزبل ، فعلا الدخان إلى طبقات الجو وانتشر ريحه في جميع البلدة. وكان الغرض من ذلك تنقية الهواء به من المكروبات التي يزعم الأطباء أنها السبب في مرض الهيضة. ثم نبهت الحكومة على مختاري المحلات أن يحملوا كل ساكن في محلتهم على أن يبخّر بيته كل يوم بالقطران والكبريت ، ويطرح في المراحيض مقدارا من الزاج والكلس ، ويرشّ البيوت بروح الفحم ، ويحرق عند باب داره مساء كل يوم مقدارا من الزبل. فامتثل البعض منهم الأمر ، فلم يفد ذلك شيئا. إلى أن كان أواخر كانون الثاني تقلّص ظل هذا المرض الذي وقف دولاب التجارة ورفع أسعار العقاقير الافرنجية كالقينا وروح الفحم والكونياك ، لانقطاع جلبها من أوروبا ، لعدم مجيء البواخر إلى ميناء إسكندرونة بسبب الحجر الصحي المضروب فيما بين أنامور وإسكندرونة برا وبحرا. وكانت مدته خمسة أيام ، واستمر ذلك إلى اليوم الثاني والعشرين من كانون الثاني ، فألغي الحجر وعادت التجارة إلى ما كانت عليه ، ورجع الناس من هربهم. على أن السبب الأعظم لتكرر هذا الداء الوبيل في حلب

٣١٩

ماء قناتها ونهرها. يؤيد ذلك فتكه بسكان المحلات التي تشرب من ماء القناة والنهر أشدّ من فتكه فيمن يشرب من ماء غيرهما.

وفي آذار هذه السنة انجس المطر عن بلاد حلب ، حتى عدم نصف الموسم. وفي شوال هذه السنة أعني ١٣٠٨ المصادف شهر مايس ، عادت الهيضة إلى حلب وأنطاكية والعمق ، وضرب النطاق الصحي على حلب وبلادها. وفي رابع عشر مايس سنة ١٣٠٧ وقع في البيرة برد واحدته في حجم البيضة واستمر سقوطه نحو ربع ساعة ، فكسر زجاجات البيوت وأضرّ بالزروع وحمل سيله فاقتلع بلاط محلّة وادي جنك ، وهدم بضعة جسور ، ونحو عشرة بيوت ، وقتل أربعة أوادم وأهلك مقدارا عظيما من الدوابّ والأمتعة. وفي هذا اليوم وقع نحو هذا في الحمّام الغربي وقرية أربه لي ، من قضاء بيلان ، فأتلف جميع الزروع ، وانقضّت صاعقة فقتلت دابتين وإنسانا. وكذا وقع في عدة قرى من قضاء عينتاب فأتلف زروعها وهدم بيوتها وأهلك كثيرا من دوابها.

وفي حزيران هذه السنة كان الجراد في ولاية حلب كثيرا أكل فيها مبلغا عظيما من زروعها ، فاجتمع في هذا العام الوباء على الناس والبرد والجراد على الزرع ، فارتفعت أسعار القوت وتعطلت التجارة. وفي ذي الحجة من هذه السنة بعث قائمقام قضاء أنطاكية إلى ولاية حلب عاديّات وجدت قرب الجبل بالموضع المعروف هناك باسم «بين الخراب» يبعد عن أنطاكية مسافة ربع ساعة ، وهي تمثال من الصّفر يمثل متصارعين ، وشمعدان عليه صورة رأسين مقطوعين متصلين ببعضهما من طرفيهما. وقد فحصها بعض العارفين بالعاديّات فزعم أنها مضى على وجودها في الدنيا ثلاثة آلاف سنة ، وقد أرسلت إلى نظارة المعارف.

٣٢٠