نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

واعلم أن مثل هذا الغلط الفاحش وقع كثيرا في السالنامة المذكورة ، وفي ذكر أسماء الولاة العثمانيين ، بحيث قدّم بعضهم على بعض ، وذكر منهم من لم يتولّ حلب بالمدة (١) ، وأهمل من تولاها زمنا طويلا. ولهذا لم نعول عليها في ذكر الولاة إلا من لم نقدر على تحرير زمنه ذكرناه وعزوناه إليها لتكون العهدة عليها. وبعد أن حررنا أسماء الولاة على قدر ما في وسعنا صححنا جدول الولاة في سلنامة الولاية على مقتضى ما حررناه ، وذلك منذ فتح حلب إلى يومنا هذا. ومن يراجع السالنامة المطبوعة سنة ١٣٠٣ وما قبلها يظهر له ذلك جليا.

وفي سنة ٩٣٠ حدث طاعون مهول لم يبق ولم يذر.

صلب نائب حلب أي قاضيها :

وفي سنة ٩٣١ دخل إلى حلب ـ مجتازا منها إلى آمد ـ إبراهيم باشا ابن عبد الله باشا الرومي ، وأمر بصلب نائبها محمد بن حمزة لما بلغه عنه من الظلم والتجاهر بالرشوة وشرب الخمر وحضوره إلى المحكمة ورائحته مشمومة منه.

مقتل قرا قاضي :

في سنة ٩٣٤ كان قرا قاضي علي بن أحمد علاء الدين الرومي متوليا على خطة تفتيش أوقاف حلب وأملاكها والنظر على الأموال السلطانية. فبالغ في جمعها وتثميرها حتى أخرج حكما سلطانيا بمنع توريث ذوي الأرحام من الشافعية بخصوصهم ، وضبط التركة لبيت المال. وأراد أن يجعل ملح المملحة المضبوط لبيت المال أغلى من الفلفل ، زاعما أن الناس أحوج إلى الملح منه ، ومنع بيع حنطة كانت مخزونة للسلطان سليمان خان مع أن السنة كانت مجدبة والقحط والغلاء مستوليين.

ولما اجتمعت هذه الأسباب وأراد الله إنفاذ أمره فيه حضر لصلاة الجمعة خامس شعبان من السنة المذكورة في الجامع الكبير ، فقام عليه غوغاء الناس وأسافلهم وكثر لغطهم فيه ، ثم كبّروا ووثبوا عليه وقتلوه ضربا بالنعال ورجما بالحجارة وقتلوا معه أحمد بن أبي بكر الأصلي العريقي الحلبي لأنه كان يعضده في أعماله. ومن العجب أن قصابا شق بطن أحمد

__________________

(١) كذا ، ولعلها : بالمرّة.

٢٠١

المذكور وأخذ من شحمه شيئا بيده والناس يرونه ولم يردعه أحد عن فعله. وقد سحبوه إلى تلة عائشة بالقرب من السفاحية ليحرقوه ، فترامى عليه أهله وسحبوه وخلصوه. كما أن السفلة المذكورين جرّوا جثة قرا قاضي وجردوه من ثيابه ليحرقوه ، فخلصه جماعة من أهل الخير وخبئوه في الميضأة إلى ثاني يوم ثم غسلوه ودفنوه.

ولما بلغت هذه الفعلة مسامع الدولة أرسلت للتفتيش على قاتليه ـ والانتقام منهم ـ عيسى باشا حفيد إبراهيم باشا المتقدم ذكره. وعندما قارب حلب حصل للناس فزع عظيم وقلق جسيم ، وذلك أنه نزل بالميدان الأخضر في غرة محرم سنة ٩٣٥ ودعا إليه سائر الأكابر والأعيان والتجّار وحبس مشايخ المحلات وأئمتها إلا من عصم الله. ثم أطلق الأئمة وقبض على بعض الموظفين بالجامع الكبير وشدد عليهم ووضع بعضهم في السلاسل وأخذ في الفحص عن المتهمين ، فمنهم من أقرّوا ومنهم [من](١) اضطرب ، ومنهم من عرّاه ليضربه فلم يقرّ. ثم استخرج من السجلات أسماء آخرين وجمع المتهمين عن آخرهم وأمر بتقييد جميع الحاضرين من الخواص والعوام. ثم عفا عن الخواص إلا أنه لم يطلق منهم أحدا بل كلهم باتوا عنده في الميدان ، ورجعت خيولهم إلى دورهم لا يدرون ما يفعل بهم.

ولم يزل العسكر متسلحين واقفين بين يديه حتى ظن أنه يضرب أعناق الجميع. وفي ثاني يوم أرسل شرذمة من العسكر إلى سجن حلب وأحضروا منه بضعا (٢) وعشرين إنسانا من المتهمين بهذه الحادثة فقتلهم في نهار واحد وسجن الباقين. وبقي الأكابر من العلماء وغيرهم عنده إلى عصر اليوم الثاني وهم في وجل عظيم بحيث لا يجسر أحد من المتخلفين من أهل حلب على أن يأتي بخبر المرسم عليهم عنده أو يصل إليهم من بعيد. ثم أطلق طائفة منهم وأخرى من المتهمين وأبقى عنده العلماء ليلة ثانية لكن مع الإكرام والاحترام في الغداء والعشاء. ثم أمر أن يسجن في سجن القلعة وجامعها طائفة من العلماء وغيرهم بعد أن عيّن معهم طائفة من عسكره متسلحين ، يسوقونهم إلى القلعة ما بين ماش مربوط اليدين وآخر مسلسل العنق على وجه ، لا يعلمون عاقبة أمرهم ، ثم كان مآله أن نفى أكثرهم إلى رودس وأقاموا بها أعواما حتى أطلق سراحهم بشفاعات وكفالات إلا البعض منهم.

__________________

(١) ما بين مربعين زيادة يقتضيها السياق.

(٢) الصواب : «بضعة» لأن المعدود مذكر ، فتخالفه.

٢٠٢

عيسى باشا وحالته :

وفي سنة ٩٣٥ استقر عيسى باشا واليا في حلب ، وكان عالما فاضلا في عدة فنون حتى في الطب إلا أنه كان عنده قوة غضبية بحيث إذا اشتد غضبه خمش يديه بيديه فأدماها.

وهو لا يشعر بذلك ، فإذا سفك دم المغضوب عليه سكن ما به. وكان يعتاد لبس الثوب الأحمر يوم الغضب كما كان ذلك عادة لبعض المتقدمين من الجراكسة. ولم أعلم من تولى حلب بينه وبين قراجا باشا.

وفي سنة ٩٣٩ حدث طاعون شديد أهلك خلقا كثيرا.

مجيء السلطان سليمان إلى حلب :

وفي سنة ٩٤٠ عاد السلطان سليمان خان من فتح تبريز ، ومرّ بطريقه على حلب وطاف على مزاراتها ، وكان بركابه إبراهيم باشا الوزير الأعظم المتقدم ذكره. وفي سنة ٩٤١ نقل خسرو باشا من ولاية حلب إلى كفالة مصر ، ولم أر من صرّح بتاريخ دخوله واليا على حلب. ويفهم من در الحبب أن والي حلب قبله موسى بك ، المشهور بابن أسفنديار الخالدي (١). وعلى هذا فيكون موسى بك بين خسرو باشا وبين عيسى باشا.

وفهم من در الحبب أيضا أن الوالي على حلب بعد خسرو باشا حسين بك. قال(٢):«وكان كثير القتل بغير سجل شرعي ، سفاكا للدماء على صورة قبيحة من تكسير الأطراف والإحراق بالنار والمحرق حيّ متناولا للرّشا (٣) لا نفع له. توفي وهو وال على حلب في جمادى الأولى سنة ٩٤٩ ودفن خارج الكلاسة» ، ولم أقف على من تولى حلب بعده إلى أن دخلها واليا مصطفى باشا البيوقلي ، كما يأتي. وفي سنة ٩٥٠ حدث طاعون جارف لم تعلم وفياته اليومية. وفي سنة ٩٥١ دخل حلب واليا عليها مصطفى بن بيوقلي باشا الرومي ، فتتبع قطاع الطريق ليلا ونهارا بنفسه وعسكره ، وأظهر سطوته في اللصوص وربما جاءه النذير عن طائفة من دعّار الأكراد وغيرهم من مكان كذا ، فركب عليهم في الحال بثياب البذلة.

__________________

(١) در الحبب : لابن الحنبلي ج ٢ / ٥٠٠.

(٢) در الحبب : ج ١ / ٥٥٧.

(٣) جمع رشوة.

٢٠٣

حريق :

وفي هذه السنة وقع الحريق ليلا بالحوانيت الكائنة تجاه جامع الأطروش والسوق الذي وراءه. فحضر الوالي بنفسه ووقف ونادى مناديه ألّا يقرب الحوانيت إلا أربابها وقطع النار عنها. ثم نادى أن يرفع أهل حلب السقائف المعمولة من البواري (١) لسرعة عمل النار فيها وأن يعملوا السقائف من الخشب. ففعلوا وجدّد في أيامه سقائف لم تكن قبلا حتى ارتفع ثمن الخشب لكثرة العمل بحلب.

طاعون وغلاء وغيرهما :

وفي هذه السنة وقع طاعون جارف توفي فيه ما لا يحصى من الأشراف والأعيان والعلماء. وحصل مع هذا الطاعون غلاء عظيم. واحترق نهر قويق بحيث صار الناس يمرون به ، وخاف الناس من اللصوص خوفا شديدا بسبب سطوة مصطفى باشا والي حلب ، وقامت زوبعة عظيمة قصمت ظهور الناس رعبا. ووقع مطر غزير في عينتاب والناس في صلاة الجمعة فلم يشعروا إلا والسيول حفّت بهم وأغرقت كثيرا من بيوتهم.

وفي سنة ٩٥٢ (٢) قدم إلى حلب عمر بن محمد بن محمد الحصكفيّ الأصل متوجها إلى الباب العالي بقطعة من خشب ، ذكر أنها من قدح النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وأخبر أن القدح كان في بيت أبيه برمّته فأخذ منه السلطان الغوري نصفه وسيباي نائب دمشق ربعه وبقي منه ربع شرب به بعض أركان الدولة الرومية مستغيثا (٣) به من فالج اعتراه فشفي ، فأخذ منه قطعة ثمّ وثمّ (٤) ، إلى أن بقي منه أحد عشر قيراطا طلبها من أبيه السلطان سليمان خان ، فأرسلها معه بعد أن رفقه بحجة شاهدة بصحّة أنها من القدح الشريف. ودخل بها الشيخ المذكور إلى الحضرة السلطانية ثم عاد وهو منعم عليه ذاكرا أن ربع القدح الذي كان أخذه سيباي وصل إلى الخزائن المعمورة السليمانية ، وجعل في رأس رايته التي تصحبه للجهاد. وفي أثناء هذه السنة عزل عن ولاية حلب مصطفى باشا ووليها سنان باشا بن عبد الله الخادم الرومي ، كان في أول أمره خادما عند السلطان سليم خان.

__________________

(١) جمع بورية وهي الحصير.

(٢) في الأصل ٩٢٥ خطأ والتصويب من درّ الحبب ج ١ / ١٠٣٥.

(٣) كذا. وأجود منه ما في در الحبب : «مستشفيا».

(٤) أي هنا وهناك.

٢٠٤

توريث ذوي الأرحام من الشافعية :

وفي هذه السنة حكم قاضي حلب بتوريث ذوي الأرحام من الشافعية من مورثهم مخالفا للحكم السلطاني الذي أخرجه قرا قاضي المتقدم ذكره. وفي سنة ٩٥٦ عاد السلطان سليمان خان من غزو بلاد العجم ودخل حلب وأمر بعمارة القسطل المنسوب إليه في ظاهر باب الفرج بحلب. وكان مع السلطان ولده جهانكر فمرض بحلب وتوفي بعد أيام من مرضه. فأمر والده بغسله فغسل وصلّي عليه تحت القلعة وأم بالناس إمام السلطان الذي كان معه ، ثم ساروا بالنعش إلى الفردوس تفاؤلا بأن يسكنه الله جنة الفردوس ، وهناك شقوا بطنه وجوفوه ودفنوا أمعاءه ووضعوه في صندوق ، فساروا به إلى القسطنطينية فدفنوه بها.

قدوم كوهر ملكشاه إلى حلب :

وفي سنة ٩٥٩ قدمت إلى حلب كوهر ملكشاه ابنة عائشة السلطانة بنت السلطان بيازيد خان ، وكان قدومها من الحج الشريف على ولدها محمد باشا ابن توقه كين والي حلب ، صاحب جامع العادلية. فخرج الحلبيون لملاقاتها وأدخلوها حلب في أبهة زائدة ومشهد عظيم. ثم توفيت في السنة نفسها (١) ودفنت ببيت اشتراه لها ولدها المذكور قرب السفاحية. ثم حصل بجواره بعد خرابه مسجد رتب فيه ثلاثون قارئا يقرءون في كل يوم ختمة ، ولكل قارىء درهم.

والمفهوم من هذه الحادثة أن والي حلب في هذه السنة هو محمد باشا عادلي (٢) وغلط في السالنامة المتقدم ذكرها ، إذ ذكره في سنة ٩٧٢ فإنه في هذه السنة لم يكن حيا ، فضلا عن كونه واليا في حلب ، فقد توفي بالروم سنة ٩٦٤ كما نبّه على ذلك في در الحبب. ولم أقف على من كان بينه وبين سنان باشا من الولاة ، ولم أطلع على تاريخ انفصال سنان باشا وابتداء ولاية محمد باشا في حلب.

وفي سنة ٩٦٠ ولي حلب بيربك بن خليل أخو قباد باشا الآتي ذكره قريبا. وفي سنة ٩٦١ ولي حلب قباد باشا بن خليل بن رمضان القرماني.

__________________

(١) أي سنة ٩٥٩ ه‍. وانظر درّ الحبب ج ٢ / ٦٩.

(٢) يعني ولد «كوهر ملكشاه» ، المذكورة قبل بضعة أسطر. انظر درّ الحبب ج ٢ / ٢٦٣.

٢٠٥

طاعون :

وفي سنة ٩٦٢ حدث طاعون جارف أهلك العباد وأطار الرقاد وتلف فيه ما لا يعدّ ولا يحصى. وقدر بعضهم أنه هلك فيه عشر سكان حلب.

إحضار ماء السمرمر إلى حلب :

وفي سنة ٩٦٤ أرسل قباد باشا والي حلب رجلا أعجميا إلى ما وراء أصبهان لإحضار ماء السمرمر (١) إلى حلب بسبب جراد مهول كان بها ، وحقيق عوده إليها. وحسّن قباد باشا لأرباب الأموال أن يجمعوا للرسول مالا فجمعوا له ما ينوف على مائتي دينار سلطاني ، ودفعوا له بعضها ووعدوه بالباقي إذا عاد بالمراد. فذهب وعاد في سنته ومعه الماء فخرج الناس إلى لقائه ودخلوا به بالتهليل والتكبير.

ولما كان من تمام خاصّة هذا الماء ألّا يدخل تحت سقف ـ كما زعموا ـ كان مستصحبه إذا وصل إلى بلدة يسحبه بحبل من فوق بابها ، حتى وصل إلى حلب ، فسحب من فوق سور باب قنّسرين إلى أن أريد سحبه من أعلى سور القلعة فعارض دوز دارها (٢) ومنع ذلك. وعندها وضعوه على قبة التكية الخسروية ، وكان الجراد قد غرس في الأرض ، فأخذت الحكومة بجمعه من أطراف حلب وهو كالذباب (٣) فجمعوا منه ـ بضبط قاضي حلب ـ مائتي ألف كيل استانبولي ، على كل بيت كيلان فيما زعموا ، وألقوه في الحفر والآبار المهجورة. فلم يمض القليل من الزمان إلا وكبر ما بقي وزحف على البساتين ، فحرّك الماء المذكور ليجيء السمرمر بتحريك الشيخ محمد الكواكبي ومعه مريدوه فلم يفد ، فزعم الناس أن خاصيته انقطعت إذ لم يكن الوارد به من أهل الصلاح والشرط أن يكون منهم.

قلت : أدركنا في زماننا أن جماعة من الدراويش المنسوبين إلى الطريقة البكداشية يحضرون إلى البلاد الشامية في أكثر السنين التي يشيع فيها غرس الجراد ، ويحضرون معهم

__________________

(١) السّمرمر : طائر يعادي الجراد ويقتله. ومن خواص ذلك الماء ـ في زعمهم ـ أنه يكون سببا في جلب طير السمرمر من الأماكن القاصية فيدفع عنهم جيوش الجراد.

(٢) الدوزدار : محافظ القلعة ، أو ماسك القلعة. والكلمة فارسية.

(٣) في در الحبب ٢ / ٥٩ : «وهو يومئذ كالذباب صغرا» وهي أوضح.

٢٠٦

أباريق من الصفيح ضمنها ماء السمرمر ، فيعلقونها على جبهة منبر الجامع الكبير ويأخذون عليها من ولاة حلب عطية جرت العادة على أخذها منهم. وقد لاحظتها في سنين كثيرة فلم أر منها أقل فائدة.

غدر والي حلب بالحلبيين :

وفي هذه السنة أيضا انفصل قباد (١) باشا. فسرّ الناس بذلك سرورا عظيما إذ تخلصوا من ظلم صوباشيّه (٢). وأظهر واحد من الحلبيين لقاضي حلب أمرا بالتفتيش على الصوباشي المذكور ، فأرسله القاضي مع الأمر صحبة المحضرباشي (٣) إلى قباد باشا ، وتبعه باقي المدعين على الصوباشي وجماعة من غوغاء الناس ، ينتظرون ما ذا يؤول إليه حال المتخاصمين ، ووقفوا بباب دار الحكومة ودخل المدعي المذكور والمحضرباشي إلى قباد باشا ، فأمسكه عنده يومين ثم جدع أنفه وأطلقه ، وأظهر أن القاضي أشار إليه بذلك مع المحضرباشي ، وأنه لو لم يفعل به ذلك لهجم الناس عليه وقتلوه كما قتلوا قرى قاضي السالف ذكره. ثم كتب قباد باشا إلى الباب العالي أن الحلبيين اجتمعوا متسلحين بباب الحكومة ليقتلوه ويدخلوا منزل الحضرة السلطانية الذي حلّ ركابها فيه قديما.

وأما قاضي حلب فإنه حامى عن الحلبيين وكتب عكس ما كتب الوالي ، غير أن عرض الوالي وصل إلى الباب العالي قبل عرض القاضي ، وشاع في حلب أنه سينفي منها جماعة إلى بغداد. ولما وصل عرض القاضي طلب المحضرباشي إلى الباب العالي ، فأحضره القاضي لديه وأشهد على إقراره جماعة ثقات بأنه لم ير أحدا متسلحا بباب الحكومة. ثم توجه إلى الباب العالي وبرّأ الحلبيين عن تهمة قباد باشا ثم أمر الباب العالي فرهاد باشا أن يسير إلى حلب ويفحص عن حقيقة هذه المادة فحضر وفحصها من دوزدار القلعة وغيره ، وظهر له أن الحلبيين مظلومون فيها.

وفي هذه السنة استقر فرهاد باشا واليا في حلب. وكان عادلا عفيفا ظريفا مطّرح الكلفة ، له ولع بالحديث حتى إنه كان يقول : أنا أحفظ ثلاثمائة حديث. إلا أنه أكب

__________________

(١) في در الحبب ٢ / ٥٩ «قباذ» الذال. وكذا في المواضع الأخرى.

(٢) الصوباشي : موظف عسكري يعيّن متسلما على مدينة أو يرسل في مهمة خاصة.

(٣) المحضرباشي : الذي يدعو المتخاصمين للحضور إلى القاضي لكي يبتّ في دعواهما.

٢٠٧

على صنعة الكيمياء. ولما كان يوم الجمعة بعد دخوله إلى حلب صلى الجمعة بالجامع الكبير ، وبعد فراغ الصلاة طلب الخطيب وأمره أن يذكر في الخطبة الحسن والحسين قبل الستة الباقين من العشرة فاضطرب الناس لذلك.

خروج الجراد :

وفي سنة ٩٦٥ شاع أن الجراد خرج في بعض القرى فخرج بعض الناس لجمعه بأمر فرهاد باشا. وكان الناس في قحط عظيم وصل فيه رطل الخبز إلى عشرة دراهم. وبينما هم على هذه الحالة إذ نادى مناد من قبل الوالي بخروج أهل حلب إلى ظاهر المدينة لاستقبال ماء السمرمر فخرج الناس إلى قرية بابلّي ورجعوا كأنهم جراد منتشر مع الماء ، فرفع إلى مئذنة القلعة دون أن يدخل تحت سقف لئلا تزول خاصيته ، وبات أهل حلب في سرور عظيم. وبعد أيام ظهر الجراد في بعض معاملات حلب ، فخرج الوالي بنفسه إليه وأخرج خلائق كثيرة ما بين عوامّ يجمعونه وخواص يناظرونهم. وبقي الجمع نحو أسبوع إلى أن دفنوا منه بالحفر والآبار ما لا يدخل تحت حصر ، وانتفع الناس بذلك منفعة بالغة.

وفي سنة ٩٦٧ ظهر جراد صغير في حلب العتيقة ، فنادى القاضي أحمد بن محمود ابن عبد الله الخالدي بالصيام ثلاثة أيام والتوجه إلى الله تعالى بالدعاء لرفعه ، بعد أن خرج والي حلب فرهاد باشا إلى المكان الذي هو فيه ، في خلائق من أهل حلب ونواحيها يزيدون على عشرة آلاف رجل ، يجمعون الجراد في قلاع التوت والبسط ويدفنونه في الأرض بعد قتله. وبقوا هناك نصف شهر وهم في مسافة نصف يوم ، وعندهم سوق وبينهم لهو ولعب. وبينما هم كذلك إذ مطرت السماء لا على ناحيتهم بل على ناحية حلب بردا كالبندق والعفص ، وربما وقعت واحدة نحو وقية في ساعة كادت الصواعق تقع بها ، فأتلف كثيرا من الخضر والبقول وما بدا انعقاده من الفواكه. وفي سنة ٩٧٢ ولي حلب أرناود سنان باشا كما في حديقة الوزراء.

تنبيه : لم أظفر بمادة تسفر عن حوادث حلب من سنة ٩٦٨ إلى سنة ٩٨٨ أما ولاة حلب في هذه المدة فإني ذاكرها نقلا عن سالنامة الولاية ، وإن كان بعضها خطأ فإن العهدة على مرتبها.

حرر في سالنامة سنة ١٣٠٣ أن والي حلب سنة ٩٧٣ عاد إلى محمد باشا وقد علمت

٢٠٨

ما فيه. قلت : ذكر المجبّي في الخلاصة أن حسن باشا ابن محمد باشا صرف من كفالة حلب إلى دمشق سنة ٩٨٥ ولعل والي حلب سنة ٩٨٧ ألوند علي باشا ، كما يستفاد مما كتب على الباب الشمالي ، أحد أبواب الجامع الكبير. وفهمت من كتاب وقف جامع البهرمية أن بهرام باشا كان واليا في حلب سنة ٩٩١ ولم أعلم متى عيّن ثم متى انقضت ولايته. اه.

قال في السالنامة المذكورة : وفي سنة ٩٩٤ ولي حلب رضوان باشا. وفي سنة ٩٩٥ حسن باشا. وفي سنة ٩٩٩ الحاج أحمد باشا. وفي سنة ١٠٠٢ محمد باشا. اه.

الشركة الشرقية في حلب :

قال في محلة المقتطف : وفي سنة ٩٨٩ تشكلت الشركة الشرقية بأمر الملكة إليصابات الإنكليزية ، وبعد ذلك بزمن يسير فتحت محلا للتجارة في حلب مع بلاد فارس والهند في الطريق البري ، وعيّن للدولة الإنكليزية قنصل عرفه السلطان مراد خان الثالث. وكان في حلب وغيرها من الممالك العثمانية كثير من المحلات التجارية الفرنسوية. اه.

وفي سنة ١٠٠٨ كانت وفاة «أحمد بن موتياب باشا» أمير الأمراء بحلب وواليها ، ودفن بمحلة الجلوم.

حريق في حلب وفساد من العرب :

وفي إبّان ولاية «موتياب أحمد باشا (١)» وقع الحريق في سوق العطارين وذهب للناس أموال كثيرة. قيل : سببه أن بعضهم نسي في الكانون بعض النار. وقيل : إن جماعة الباشا فعلوا ذلك ليغرّموا الناس بالأموال. والأول أولى. وفي أيام هذا الوالي أيضا وقع من العرب فساد كثير لم يعهد مثله. وقد بنى الوالي المشار إليه مدرسة وشرط لمدرّسها في اليوم عشر قطع فضية ، وقيل عشرين عثمانيا صحيحا ، ورتب ثلاثين قارئا يختمون في كل يوم ختما ، وبنى له مدفنا ووقف على ذلك خانا وبعض دكاكين. اه. ذكر ذلك كله الشيخ أبو الوفا العرضي في معادن الذهب ، ولم يذكر متى ولي الباشا المذكور حلب ، ولا عيّن مكان

__________________

(١) قلب المؤلف اسم الوالي هنا ، خلافا لما ذكره قبل سطرين. وهو في معادن الذهب ١٨٧ وخلاصة الأثر ١ / ١٨٧ هكذا : «أحمد بن مطاف». وانظر كتاب الآثار الإسلامية والتاريخية في حلب ٢٨٩ ، ٣٥٨.

٢٠٩

مدرسته وما وقفه عليها وعلى المدفن. وفي هذه السنة أعني سنة ١٠٠٨ عين واليا على حلب أمير الأمراء الحاج إبراهيم باشا.

فتك إبراهيم باشا بالانكشارية وذكر شيء من فظائعهم :

وفي ربيعها الآخر فتك إبراهيم باشا بالانكشارية الدمشقيين ، وكانوا قد استطالوا على فقراء حلب وأفحشوا في ظلم الرعايا جاعلين وسيلة ذلك تحصيل الأموال السلطانية فيتوصلون إلى أغراضهم الفاسدة ، حتى تزوجوا النساء في حلب وصارت لهم قرى وأملاك. فعرض الوالي ذلك إلى السلطان فورد أمره بإجلائهم عن حلب إلى بلادهم دمشق ، فأمرهم بالرحيل فلم يرحلوا وجمعوا جموعهم بالقصير واستعدوا للمحاربة ونهبوا الأموال ، فتمكن إبراهيم باشا منهم وقتل سبعة عشر من أعيانهم ورفع رؤوسهم على الرماح. ثم عرض على الدولة أن تجعل قولا ـ أي جيشا ـ لمدينة حلب ، فلم تجبه ، وعزل عن ولاية حلب في اليوم الحادي عشر شوال سنة ١٠٠٩ صرح بعزله مصطفى نعيما في تاريخه «الروضتين».

وبعد أن عزل إبراهيم باشا من ولاية حلب ولي مكانه علي باشا ، وكانت الدولة استصوبت رأي إبراهيم باشا ـ الذي سبق ذكره ـ بتخصيص حلب بقسم من الجنود.

ولما دخل حلب علي باشا الجديد كتب «القول» الجديد ورتبه على هيئة «قول» الشام وغيرها فلم يجد ذلك نفعا ، وزاد الدمشقيون في عتوّهم وغلوائهم وبقيت في أيديهم خدمة الدفتردار ودار الوكالة وأبواب قناصل الإفرنج. وكان من جملة أعمالهم الفظيعة أنهم يعطون مال السلطنة عن القرية ويأخذون من أهلها أضعافا مضاعفة ، وتبقى أهل القرية جميعا خدمة لهم يأخذون منهم جميع محاصيلهم. ولما وصل ضررهم إلى هذه الرادة جمع علي باشا زعماءهم بمحضر من العلماء والأمراء وأمرهم بالخروج من حلب ، ونادى الناس عليهم ألّا يستوطنوا بحلب. فخرجوا وقوي عليه الحلبيون وطردوهم وأساؤوا إليهم ، حتى إنهم قتلوا منهم عسكريا.

فتوجه الدمشقيون إلى الشام وحشدوا وجمعوا واستعانوا ورجعوا إلى محاربة الحلبيين. وفي أثناء غيابهم عيّن واليا على حلب بشير باشا ، ثم سعى بولاية حلب شريف باشا كافل دمشق ، فعيّنه إليها السردار حسن باشا ورفقه بعساكر دمشق وسيّره معهم إلى حلب.

٢١٠

فوصل شريف باشا إليها ودخلها من باب المقام وخرج من باب بانقوسا إلى الميدان. فوجد بشير باشا والعساكر الحلبية ناصبين خيامهم هناك وهم على عزم التوجه إلى حسن باشا ، السردار المذكور ـ وكان في دمشق ـ فنزل شريف باشا مع الدمشقيين في قرية بابلّي ، وإذا بالمساء ورد تقرير بشير باشا بولاية حلب من جانب السردار المذكور متأخر التاريخ. ففي اليوم الثاني وقعت محاربة عظيمة بين الأميرين واتخذ كل منهما متاريس وأمر بشير باشا بإطلاق المدافع من قلعة حلب على شريف محمد باشا والدمشقيين فتوقف شريف باشا عن المحاربة وارتحل بعسكره ليلا.

ولما وقعت هذه الفتنة عرض بشير باشا إلى حسن باشا السردار واقعة الحال وطلب منه الاستعفاء ، فأجابه إلى ما طلب وأرسل إلى حلب متسلما من قبل شريف باشا. وكان الدمشقيون رجعوا إلى دمشق وتقوّوا وعادوا إلى حلب ومعهم نحو عشرة آلاف عسكري ، ولم يكن عند الحلبيين سوى نحو ألف وخمسمائة عسكري ، فخرج الحلبيون لمحاربة الدمشقيين وهم في قرية الراموسة ، ودام الحرب بينهم من الصباح إلى قرب العصر ، فانكسر الحلبيون ورجعوا وأكثرهم مثخن بالجراح. وفي الليل دخل الدمشقيون إلى المحلات الخارجة عن السور. فلما طلع النهار أغلق الحلبيون أبواب المدينة ـ سوى باب قنسرين ـ ووضعوا عليها المدافع. واتخذ الدمشقيون المتاريس عند باب النصر وباب بانقوسا وصاروا يرمون بعضهم بالمدافع. وفي كل ثلاثة أيام يخرج الحلبيون إلى جانب باب قنّسرين ويحاربون الدمشقيين. وقد خرج غالب أكابر حلب إلى القلعة خوفا من هجوم الدمشقيين على أسوار حلب. وكان معظم ذلك في شهر رمضان سنة ١٠١٠.

ولما قدم حلب يحيى أفندي ابن بستان ـ قاضيا عليها ـ أنزله الدمشقيون عندهم خارج البلد ونسبوا الحلبيين إلى العصيان على السلطان ، فأحضر القاضي علماء حلب وأمراءها وكتبوا محضرا إلى حسين باشا الجانبلاط ـ كافل كلّز ـ يطلبون حضوره ليصلح بينهم وبين الدمشقيين. فحضر بعد ثلاثة أيام بعساكر كثيرة ودخل الجامع الكبير وأحضر العلماء والأعيان وقال : هذه فتنة لا تنطفىء إلا بقتل خليل كيخيه كبير «القول» الحلبي ، ومحمد جاويش من الشوربجية ، وجمال الدين منهم أيضا. فأبى الحلبيون أن يعطوا واحدا منهم ، وطال الكلام وكثر اللغط حتى رضي الدمشقيون بوضع الثلاثة في القلعة ساعة من النهار إهانة لهم وإطفاء للفتنة. فرضي الحلبيون بذلك وحلفوا بالله على المصحف

٢١١

أن الدمشقيين الذين لهم دور في حلب يقيمون في دورهم ، ومن لم يكن له دار منهم يرجع إلى وطنه.

ثم فتحوا باب الفرج لقضاء حوائج الدمشقيين ووقف به ثلاثون رجلا من «القول» الحلبي حرسا ورقباء على من دخله من الدمشقيين بسلاح. وفي ثالث يوم هجم الدمشقيون وقتلوا من كان بباب الفرج وأخذوا في نهب دار محمد جاويش المتقدم ذكره. فثار الحلبيون وخرجوا إلى القلعة. فأرسل يقول لهم حسين باشا الجانبلاط : كان عند الدمشقيين حرارة فانطفأت بنهب دار محمد جاويش وعفا الله عما مضى. فانخدع الحلبيون وسكنوا. أما الدمشقيون فإنهم زادوا في طغيانهم واستطالوا على نهب دور الحلبيين. ولما رأى حسين باشا أن الداء عضال ولّى إلى كلّز وقال : سلّط الله الكلاب على البقر. وأخذ الدمشقيون في محاصرة القلعة ووضعوا المتاريس في سوق السراجين ، وكان الحلبيون يهجمون على الدمشقيين ويقتلون منهم. فدخل الدمشقيون ليلا من تحت القسطل المقارب لباب القلعة ووضعوا النفط والقطران وأحرقوا جسر باب القلعة. وعجز الحلبيون بعده من الوصول إلى الدمشقيين.

وفي غضون ذلك ورد حلب واليا عليها حسن باشا ابن علي باشا ألوند ، فرشاه الدمشقيون بخمسين ألف قرش فأمر برفع القتال حتى يصدر أمر الدولة باستخدام أحد القولين في حلب. ثم لما نزل الحلبيون من القلعة ورأوا دورهم متهدمة وأموالهم منهوبة وأمارات الغدر تلوح على الدمشقيين ، قالوا في أنفسهم : تغدّوا بهم قبل أن يتعشّوا بكم. فهجموا عليهم وأثخنوهم بالجراح والقتل ثم وقع الفشل فيهم وعادوا إلى حصار قلعتهم ، وشدد الدمشقيون الحصار عليهم حتى رضوا بترك الخدمة بالكلية إلى الدمشقيين. فرفع الدمشقيون عنهم الحصار وأمنّوهم إذا نزلوا. فانخدع الحلبيون ونزلوا من القلعة فلم يشعروا إلا والدمشقيون قد هجموا عليهم وأخذوا في قطع رؤوسهم بحضور الوالي والقاضي وهما ساكنان ، حتى جمعوا من رؤوس الحلبيين مقدار القبة وكان ذلك في يوم عرفة من السنة المذكورة وهي سنة ١٠١٠ وصفا الوقت للدمشقيين ، وأخذوا استخدام بيت القاضي وبيت الصّوباشي وبيت القنصل وبيت الدفتردار ، واستولوا على حلب أكثر من استيلائهم الأول ، وتزوجوا ببنات أعيان حلب ، وعاد ظلمهم وعسفهم.

٢١٢

وفي أوائل سنة ١٠١١ قدم حلب واليا عليها نصوح باشا المشهور بناصيف باشا فأخذ يمهد أسباب إزالة ضرر الدمشقيين سرا ويستعدّ لكبتهم خفية ، لأنهم صاروا أولي قوة ومنعة ، وطغوا وبغوا وخافهم الكبير والصغير من أهل حلب ، واستولوا على أكثر قراها بحيث قلّت الأموال السلطانية وصار أهل القرى كالأرقّاء لهم. ولما استحكم نصوح باشا من أمره واستعد لكبحهم أخذ في رفع أيديهم عن القرى وإجلائهم إلى بلادهم ، وحصل بينه وبينهم وقعة عظيمة وكان مساعده عليهم حسين باشا كافل كلّز ، ففروا بين يديه هاربين إلى حماة ثم جمعوا وحشدوا وجاؤوا إلى كلّز وحاصروها وخربوا ما حواليها من القرى كالباب وعزاز وقرى حلب ونهبوا الأموال وهتكوا النساء وافتضت عدة أبكار ، ودخل بعض أشقيائهم بكلّز الحمّام وفعلوا أفاعيل جاهلية. ثم تلاقوا مع نصوح باشا وابن الجانبولاط خارج كلّز يوما واحدا ثم انهزموا وعادوا إلى دمشق.

ثم رجعوا إلى قرب حماة وتظاهروا بقطع الطريق وضربوا على حمص وحماة ضرائب من المال ، واعترضوا القوافل وجرّموهم. فتقدم إليهم نصوح باشا وأطلق عليهم المدافع ، فلم يكن غير ساعة حتى انهزموا وعادوا إلى دمشق ونهبوا قراها وعاثوا خلالها في الفساد. وكان ذلك في سنة ١٠١٢ ولما استهلت سنة ١٠١٣ تفرقوا عن بعضهم لعجزهم وانقطع أمرهم عن حلب ، وكفى الله المؤمنين القتال.

تبييض القلعة : وفي هذه السنة بيض نصوح باشا قلعة حلب وأجرى عليها بعض الترميم ، فقال بعضهم مؤرخا :

يمينا قلعة الشهباء أضحت

عروسا عرفها مسك يفوح

وقالت : أرّخوا ، أعني بياضي

فأرّخها مبيّضها نصوح

قيام نصوح باشا على حسين باشا الجانبولاط وما جرى بينهما :

ولما صفا الوقت لنصوح باشا والي حلب صار يشيع بين الناس أنه يريد قتل حسين باشا الجانبولاط والي كلّز زاعما أنه عاص على الدولة ، مع أن حسين باشا المذكور لا يستحق من نصوح باشا هذا الجزاء بعد أن ساعده على انكشارية دمشق ، وليس هو

٢١٣

عاص (١) على الدولة ـ كما زعم نصوح باشا ـ بل كانت الدولة تراعيه نظرا لما عنده من الشهامة والشجاعة ، وبقاؤه في كلّز واليا زمنا طويلا لا لعصيانه على الدولة إنما كانت الدولة ترى في عزله بعض الصعوبة ، وتخشى من وقوع فتنة من عشيرة الجانبلاط إذا هي عزلته ، فكانت تغضي عنه الطرف وتقنع منه بالمال وهو في غاية الطاعة. ولما بلغه تهديد نصوح باشا إياه أخذ في جمع العساكر فسمع بذلك نصوح باشا وخرج بعساكره جريدة إلى كلّز فقابله حسين باشا بعساكره الكثيرة وكسره كسرة شنيعة ، وانهزم نصوح باشا في عسكر قليل إلى حلب.

وبعد أيام قلائل أخذ في الاستعداد ثانيا لمحاربة حسين باشا وبذل الأموال وحشد الأبطال. وبينما هو كذلك إذ ورد على حلب قبجي باشي من قبل السردار سنان باشا ابن جفال يخبر نصوح باشا بالأوامر السردارية أنه قد صار حسين باشا كافل الممالك الحلبية ، وعزل نصوح باشا منها. فغضب لذلك نصوح باشا غضبا شديدا وامتنع عن تسليم حلب لحسين وقال : إذا ولّوا حلب عبدا أسود فإني أطيعه إلا ابن الجانبولاط. وكتب إلى الدولة أن أمراء العشائر لا تصلح أن تكون ولاة للدولة. فما مضى أسبوع إلا وقد أقبلت عساكر حسين باشا إلى قرية هيلانة فاستقبلهم نصوح باشا فانكسر وعاد إلى حلب.

ونزل حسين باشا مع عساكره في محلات حلب خارج السور ، وأغلق نصوح باشا أبواب المدينة وسدّها بالأحجار وفتح باب قنّسرين وحرسه بعساكر وقفهم هناك ، وقطع حسين باشا الماء عن حلب ومنع الميرة والطعام عن داخل حلب ونصب المتاريس على أسوار البلد ، وحفّ نصوح باشا عساكره على الأسوار مع المدافع ، وقام بين الفريقين حرب مهولة وأخذ حسين باشا في حفر اللّغوم والاحتيال على أخذ البلد ، وأخذ نصوح في حفر السراديب لدفع اللغوم ، وعمّ الحلبيين أنواع الكدر من المبيت على الأسوار وحفر السراديب ومصادرة الفقراء والأغنياء كل يوم لطعام السكبانية وعلافتهم (٢) ، وإغلاق الدكاكين وتعطل الصناعات وحرق الأخشاب للطعام والقهوة بسبب قطع حسين الميرة حتى الحطب ، ونزل البلاء من جانب السماء على حلب ، فبيعت الحنطة : المكوك بمائة

__________________

(١) الصواب نصب خبر ليس : «عاصيا».

(٢) السكبانية : عساكر غير منظمة. والعلافة ، وكذا العلوفة : أعلاف الدوابّ. وتطلق أيضا على ما يشبه التعويضات والاستحقاقات كالرواتب وما إليها.

٢١٤

قرش ريالي ، وجرّة الشيرج بثمانية قروش ، ورطل لحم الخيل الكدش بنصف قرش ، والتينة الواحدة بقطعة ، وأوقية بزر البطيخ بأربع قطع. وأعظم من في البلد يجد أكل البصل والخل من أحسن الأطعمة. وكان بعضهم يأخذ الشمع الشحمي ويضعه في طعام الأرز والبرغل ، وكانت العساكر لا تجد التبن بل كانوا يأخذون الحصر وينقعونها في الماء ويطعمونها للخيل. وكان كل فقير يغرّم في اليوم قرشين والمتوسط عشرة والغني عشرين.

واستمر الحصار نحو أربعة أشهر ، وأيام كل ذلك كان في سنة ١٠١٣ وبينما كان الحال كذلك إذ قدم إلى حلب قاضيا عليها السيد محمد المشهور بشريف أفندي ، فنزل خارج المدينة وأخذ يسعى في الصلح فتم على يده ، ولم يثق نصوح إلا بأيمان السّكبانية وعهودهم ، فحلّفهم جميعا بالسيف على أن يكون آمنا على نفسه وأمواله ، وأنه إذا تعرض لها حسين باشا يقاتلونه معه. ثم أمر القاضي نصوح باشا أن يذهب بنفسه إلى حسين ويصالحه فأجابه ، وتوجه نصوح إلى منزل حسين فأكرمه وسقاه شربة سكّر بعد أن شرب منها حسين أمامه تأمينا له ، فشرب نصوح ثم خرج من البلد بعساكره وطبوله وزموره دون أن يتعرض له أحد بسوء. واستولى حسين باشا على ولاية حلب وشحنها بالسكبانية وصادر الأغنياء والفقراء لأجل علوفتهم.

قتل حسين باشا :

وفي سادس عشر جمادى الآخرة سنة ١٠١٤ كانت كسرة الوزير سنان باشا ابن جفال ببلاد العجم ، وكان قد أرسل إلى حسين باشا بالتوجه إليه ليكون معه في محاربتهم ، فتثاقل حسين باشا عن التوجه وتباطأ. ولما رجع سنان باشا من الكسرة تلاقى مع حسين باشا في «وان» فاتهمه بالمخامرة على الدولة وخنقه في الحال وقطع رأسه. وكان ذلك في السنة المذكورة.

عصيان علي باشا على الدولة وما آل إليه أمره :

ولما سمعت عشيرته بحلب أنه قتل ظلما وعدوانا ثارت فيهم الحمية وقاموا على قدم وساق ، لا سيما ابن أخي المقتول علي باشا ، فإنه استشاط غضبا وتحرّق غيظا ، وكان هو وكيل غيبة المقتول ، فحشد إليه أخلاط الناس وغوغاءهم وتغلّب على حلب. ولما

٢١٥

اتصل الخبر بالدولة أرادت أن تتدارك الخرق وتجبر الكسر ، فأرسلت بمنشور إيالة حلب إلى علي باشا فازداد عتوا ، وجمع جمعا عظيما من السّكبان حتى صار عنده ما يزيد على عشرة آلاف فارس ، ومنع المال المرتّب عليه ونهب في تلك الأطراف ، ودبّر على قتل والي حلب حسين باشا ، وكان ولاه السلطان عليها لما بلغه خروج علي باشا عن الطاعة. وكان حسين باشا المذكور وصل إلى أذنة فأرسل علي باشا إلى حاكمها الخارجي أيضا المعروف بجمشيد أن يصنع لحسين باشا ضيافة ويقتله فيها ، ففعل.

ونما خبره إلى الأقطار واستمر علي في حلب يظهر الشقاق إلى أن أرسل الأمير يوسف ابن سيفا صاحب عكا إلى باب السلطنة رسالة يطلب فيها أن يكون أميرا على عسكر الشام ، والتزم بإزالة ابن الجانبولاط عن حلب. فجاءه الأمر على ما التزم. فجمع عساكره والتقى مع ابن الجانبولاط في قرب حماة فانكسر ابن سيفا ، واستولى ابن الجانبولاط على أثقاله وفرّ ابن سيفا إلى دمشق. وسار ابن الجانبولاط إلى طرابلس واستولى عليها وضبط ما وجده فيها من الأموال. وفي يوم السبت من أواسط جمادى الآخرة سنة ١٠١٥ التقى ابن الجانبولاط بعسكره مع عساكر دمشق في وادي دمشق الغربي ، فما مرّ مقدار جلسة خطيب إلا وانكسر عسكر دمشق وتقدم ابن الجانبولاط لنهب دمشق. ثم صالحوه على مائة وعشرين ألف قرش ورحل عنهم عائدا إلى حلب. وفي طريقه صالح ابن سيفا وصاهره ثم سار إلى حلب وجاءته الرسل من جانب السلطنة تقبّح عليه ما فعله بالشام ، فكان تارة ينكر فعله وتارة يحيل الأمر على عسكر الشام. وشرع بسد الطرقات وبقتل من يعرف أنه سائر إلى طرف السلطنة ، وأخاف الخلق ونفذ حكمه من آذنة إلى نواحي غزة.

وانقطعت أحكام السلطنة من البلاد المذكورة سنتين ووقعت الوحشة وانقطعت الطرقات ، إلى أن أمر السلطان وزيره الأعظم قويجي مراد باشا السردار بالمسير إلى ابن الجانبولاط وغيره من العصاة في نواحي آذنة وسيواس وغيرهما. فخرج الوزير من «إسكدار» ومعه من العساكر الرومية ما يزيد على ثلاثمائة ألف ، ما بين فارس وراجل. فمر في طريقه على الخوارج المذكورين وأبادهم. ثم قصد جهة حلب ولما بلغ خبره مسامع ابن الجانبولاط وضع أثقاله بقلعة حلب وحصّن أسوار البلد وتأهب لملاقاة العساكر ، وأرسل فرقة من أجناده لتحصين جبل بقراص ليمنعوا العساكر من المرور. غير أن مراد باشا لم يأت من هذا الطريق الضيق إنما أتى من جبل قاز فلم يشعر ابن الجانبولاط إلا وعساكر

٢١٦

الوزير قد دهمته ، وكان الحرب نهار الثلاثاء ثالث رجب سنة ١٠١٦ بأرض مرج دابق من أعمال قنّسرين ، وكان مع ابن الجانبولاط من العسكر زهاء أربعين ألفا ، وقد انضم إلى الوزير ذو الفقار رستم باشا حاكم مرعش ومعه عساكر ذي القدرية (١). فلما اشتبك الحرب بين الفريقين كادت تكون الغلبة لابن الجانبولاط ثم عادت الكرة عليه وقتل من عسكره نحو سبعة وعشرين ألفا وولى منهزما لا يلوي على أحد حتى وصل إلى مسقط رأسه كلّز. فلم يقرّ له قرار فيها وجاء إلى حلب وصادر عدّة من أغنيائها وصعد القلعة ومعه بعض رؤساء عسكره فاستقام ليلة ونزل منها معوّلا على الفرار. فخرج من باب بانقوسا فصاحت عليه النساء من الأسطحة بالويل والثبور وعظائم الأمور وصرن يقذفن عليه القذر والنجاسات. وبعد أن خرج من حلب اختفى ببعض بساتينها.

أما مراد باشا فإنه في ثاني يوم من الوقعة توجه إلى حلب واجتاز بطريقه إلى كلّز للتفتيش على ابن الجانبلاط فلم يره ، فضبط جميع أمواله لبيت المال ، وتوجه منها إلى حلب فوصل إليها في التاسع عشر رجب وضرب خيامه في الميدان الأخضر ، واستقبله أعيان البلدة ووجهاؤها وهنّؤوه بالظفر والنصر. ثم التفت الوزير إلى استخلاص القلعة من أيدي بعض أعوان الجانبولاط فرام محاصرتها ، فتحقق من فيها بأن كل محصور مأخوذ فطلبوا من الوزير الأمان فأنزلهم بأمانه ، وكانوا نحو ألف رجل وكان منهم نساء ابن الجانبولاط. فلما نزلوا بادروا إلى تقبيل ذيل الوزير فأشار إلى النساء أن يسكنّ في مكان معلوم ، وفرق الرجال على أرباب المناصب ، وطلع إلى القلعة ورأى فيها ما لا يدخل تحت الحصر من أموال ابن الجانبولاط فضبطه كله إلى بيت المال. ثم شرع يتجسس في حلب على الأشقياء وأتباعهم فقتل منهم جماعة ، وقرر الراحة في حلب وولّى عليها حسين باشا وولّى قضاءها جشمي أفندي قاضي العسكر. ونظم أمور العسكر وأكمل الشتاء في حلب ثم أقلع عنها.

وأما ابن الحانبولاط فإنه هرب إلى ملطية ثم سار منها إلى الطويل الخارج على الدولة في بلاد الأناطولي ، وأراد أن يتحد معه فقال له الطويل : أنا وإن كنت مسمّى بالعاصي لكني ما وصلت في العصيان إلى رتبتك. فرحل عنه بعد ثلاثة أيام وسار إلى العبد السعيد ومعه ابن قلندر ، فتلقوه وعظموه وأرادوا أن يجعلوه رئيسا عليهم فشرط عليهم شروطا

__________________

(١) انظر حاشية المؤلف عند كلامه على حوادث سنة ٧٦٧ ه‍.

٢١٧

لم يقبلوها فخرج من عندهم وتوجه إلى «برصة» ودخلها ليلا واتصل بحاكمها وعرّفه بنفسه ، فتحير منه وقال له : ما سبب وقوعك؟ فقال : ضجرت من العصيان ، فأوصلني إلى السلطان. فوصله وسأله السلطان بقوله : ما سبب عصيانك؟ فقال ما أنا بعاص إنما اجتمعت عليّ فرق الأشقياء وما خلصت منهم إلا أن ألقيتهم في فم جنودك وفررت إليك فرار المذنبين ، فإن عفوت فإنت أهل لذلك ، وإن أخذت فحكمك الأقوى. فعفا عنه وأعطاه حكومة طمشوار داخل بلاد الروم ، فبقي بها سنة ثم عاد إلى ديدنه الأول وتجاهر بالعصيان فبرز الأمر بقتله وأرسل رأسه إلى باب السلطنة ، وكان ذلك في حدود ١٠٢٠.

قال مصطفى نعيما الحلبي في تاريخ الروضتين : إن عشيرة الجانبولاط من عشائر الأكراد في سنجق كلّز في قرب حلب ، وإن حسين باشا المقتول ـ عمّ علي باشا المذكور ـ هو أكبر رجالهم ، وكانت له أعمال تستحق الذكر لأن الدولة العثمانية كانت تأمره بالسفر شرقا وغربا فيسرع الإجابة هو وعشيرته ويبلي في عدوها بلاء حسنا.

قلت : ذكر في «درّ الحبب» في ترجمة أحد أجداد المذكور ـ على ما أظن ـ أن أصل هذه العشيرة من جبال القصير وأنهم كانوا في مبدأ أمرهم منحرفين عن السنّة. ذكر في السالنامة أن الوالي في حلب سنة ١٠١٧ حسن باشا ، والظاهر أنه تحريف حسين باشا الذي عينه مراد باشا السردار كما تقدم. وذكر في السالنامة أن الوالي على حلب في السنة المذكورة ملك محمد باشا.

قتل ملحد :

وفي سنة ١٠١٨ قتل في حلب أبو بكر الأرمنازي ، شهد عليه جماعة بالكفر فضربت عنقه تحت القلعة ، وجاء الناس بالنفط والقطران وحرقوه حتى صار رمادا. وفيها ولي حلب سنان كجك باشا. وفي سنة ١٠١٩ توفي سنان باشا المذكور بحلب. وفي أوائل سنة ١٠٢٠ ولي حلب قره دده باشا. وفي سنة ١٠٢٤ في شعبان وصل إلى حلب داماد محمد باشا الوزير الأعظم السردار متوجها إلى «وان» فبقي في الميدان هو وعسكره إلى انقضاء الشتاء. وفي ابتداء الربيع رحل عنها وكان ذلك في ربيع الآخر سنة ١٠٢٥ وفيها ولي حلب كمكجي أحمد باشا. ثم في سنة ١٠٢٦ وليها محمود باشا. ثم في سنة ١٠٢٧ وليها قره اقش محمد باشا. ثم في سنة ١٠٢٨ وليها حسن باشا. وفي سنة ١٠٢٩ قدم

٢١٨

حلب منفيا داماد محمد باشا المتقدم ذكره ، فتوفي بها ودفن في تكية الشيخ أبي بكر. وفي سنة ١٠٣٠ ولي حلب يوسف باشا. وفي سنة ١٠٣٣ وليها كوسا مراد باشا.

شغب الإنكشارية :

وفي سنة ١٠٣٥ طغت الإنكشارية في حلب وقد حضر إليها حافظ باشا ، وكان في ديار بكر ، فتواطئوا على قتل رئيس كتابهم مالقوج أفندي ، فعوّل على الفرار وسعى في تهريبه من بين أيديهم أحمد آغا المعروف بقره مذاق من الرجال الأقدمين في الوجاق الواقفين أنفسهم في خدمة السلطان عثمان. فوثب الإنكشارية وحزّوا رأسه بالموسى وطرحوا جسده في مزبلة الخندق. وفيها أعني سنة ١٠٣٥ ولي حلب مصطفى باشا. ووليها في سنة ١٠٣٧ سليمان باشا. وفي سنة ١٠٣٩ محمد باشا مرة ثانية. وفي سنة ١٠٤٠ مرتضى نوغاي باشا. وفيها وصل إلى حلب السردار الأعظم محمد باشا فتلقاه واليها مرتضى نوغاي باشا إلى قرب قلعة بقراص ، وعمل له ضيافة حافلة عند جسر مراد باشا. وبعد سبعة أيام من دخوله إلى حلب رتب في دار الحكومة ديوانا حضره أعيان البلدة وأركان استانبول وألقى خطابا بيّن فيه حسن قيام مرتضى نوغاي باشا بخدمة الدولة والملّة إلا أنه اتهمه بقصور كان منه في تأخير بعض جماعة أمر السلطان بقتلهم. ثم في الليلة الثالثة من مجيئه إلى حلب قتل رجلا أمر السلطان بقتله وأرسل رأسه إلى استانبول ، ثم عزل نوغاي باشا عن حلب ووجه رتبة الوزارة إلى أحمد باشا أحد الأغوات السلحدارية ، وجعله واليا في حلب.

وفي اليوم التاسع عشر من السنة المذكورة وصل إلى حلب أحمد باشا المذكور وتسلم زمام الأمور.

شغب الإنكشارية :

وفي عشرين شعبان اجتمعت الإنكشارية بوسيلة طلب أرزاقهم ورفضوا عدة مستخدمين ، منهم آغاتهم محمد آغا الكوسه وكاتبهم وكتخداهم. ثم تجمهروا وهجموا على المأمورين المذكورين وقتلوا آغاتهم المذكور. ثم كفّ شرهم وقتل بعض زعمائهم ورد كيدهم في نحورهم.

٢١٩

إبطال التدخين بالتبغ :

وفي سنة ١٠٤٥ وردت الأوامر السلطانية المشددة بإبطال التدخين بنوعي التتن والتنباك ونودي على من يشربهما بجزاء القتل.

استطراد في الكلام على هذه الحشيشة :

قيل إن وصول هذه الحشيشة الخبيثة إلى البلاد الشامية كان في حدود سنة ١٠٠٠ ويستدل القائل على ذلك ببيتين هما :

قال خلّي عن الدّخان أفدني

هل له في كتابكم إيماء

قلت : ما فرط الكتاب بشيء

ثم أرخت يوم تأتي السماء

جملة «يوم تأتي السماء» تبلغ بالجمّل (١٠٠٠) أو (٩٩٩) إذا لم تحسب الهمزة.

أما منشأ هذا النبات فهو جزيرة اسمها (تبغو) في أميركا أحضر بزره منها إلى بلاد البورتكيز بعض نوتية الإسبان ، ثم نقل منها إلى فرنسا بواسطة رجل اسمه (ثيفت) فزرع في فرنسة إلا أن الناس لم يلتفتوا إليه لأن النساء تكره ريحته. وبعد عشرة أعوام قدم إلى فرنسة إلا أن الناس لم يلتفتوا إليه لأن النساء تكره ريحته. وبعد عشرة أعوام قدم إلى فرنسة سفير البورتكيز ـ واسمه يوحنا ثيكوت ـ وأهدى الملكة كاترينا شيئا من بزر هذا النبات ، وزعم أن التدخين به له فوائد عجيبة. فأقبل الناس في فرنسة على استعماله وذلك في سنة ١٥٦٠ من الموافقة سنة ٩٦٨ ه‍ وسماه الناس حشيشة الملكة ، أو حشيشة السفير ، أو حشيشة الرئيس الأعظم ، أو حشيشة الصليب ، أو الحشيشة المقدسة. فلم ترق هذه الأسماء للرجل (ثيفت) واحتج على دار الفنون بتسميته باسم السفير دون اسمه مع كونه هو أول من أحضره إلى فرنسة. وحينئذ ألغى الفرنسويون اسمه ثيكوت وسموه تبغا باسم الجزيرة التي هي منشؤه. ثم حرف هذا الاسم إلى تباكو عند التليان وتبا عند الفرنسيس ، وتوبوكو عند الإنكليز ، والتبغ عند العرب ، وتنباكو عند الفرس ، وتوتون عند الأتراك ، وتتن أو دخان عند عامة العرب. اه.

وفي سنة ١٠٤٥ عزل عن حلب أحمد باشا ووليها يوسف باشا ابن أمير كونه ، فأساء السيرة في أهل حلب واستنفر قلوبهم يصبروا له واضطربوا منه لأنه صادر كثيرين منهم ، فسمعت الدولة بذلك وعزلته وأعادت أحمد باشا المتقدم ذكره. وكانت ولاية يوسف

٢٢٠