نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

سيواس ومن معهما من التتر ، فكسر الناصري أولا ثم ثبت هو ونحو ألف جندي معه ، وكسروا منطاش ومن معه وكانوا نحو عشرين ألفا. وفيها حدث في حلب وأنطاكية زلزلة عظيمة هلك تحت الردم في أنطاكية خلق كثير.

عصيان الناصري على السلطان

وفي أوائل سنة ٧٩١ عصى يلبغا الناصري وخرج عن طاعة السلطان فأرسل السلطان عسكرا لمحاربته ، والتقى الجمعان بظاهر دمشق فانهزمت العساكر السلطانية وتبعهم يلبغا بمن معه إلى مصر وانحاز إليه أكثر الأمراء واختفى السلطان وطلب الأمان من يلبغا فأمنه ، ثم قبض عليه وأرسله إلى الكرك مقيّدا وأعاد السلطان صالح حاجي كمشبغا الحموي الأمير سيف الدين.

قتال بين أهل بانقوسا وكمشبغا

وفي شوالها ظهر أحمد بن عمر بن محمد أبي الرضا شهاب الدين ، أحد قضاة حلب السابقين في زمن الملك برقوق ، وكان مستخفيا بحلب فاتفق مع أهل بانقوسا وبعض الأمراء وركبوا على كمشبغا الحموي نائب حلب ، فقاتلهم ثلاثة أيام في البياضة وانتصر عليهم وأمسك القاضي وأخذ ماله وسيره معه إلى دمشق ومات في الطريق ، كما سنحكيه في ترجمة القاضي المذكور. وسنة ٧٩٢ أطلق الأمير كمشبغا نائب حلب الأمير طرنطاي الذي كان نائبا بدمشق ، وبكلمس ـ أحد الأمراء المصريين ـ وكانا محبوسين بالقلعة من قبل يلبغا الناصري ، وبعد أن أطلقهما اتفق على قتال البنقوسيين لأنهم كرهوا فعله هذا ولم يحبوا توليته على حلب لظلم سابق منه. فاستمر القتال بينه وبين البنقوسيين بالبياضة ثلاثة أيام ثم جدّ في قتالهم وقتل منهم جماعة ، وبعدها استماتوا في قتاله وحاصروه في القلعة فلم يتمكنوا منه وبقي الحصار أربعة أشهر إلا يومين. ثم تصالحوا أياما قلائل. وجدّ القتال بينهم وظفر بهم وقتل من أعيانهم وجندهم جمعا كثيرا ونهب بانقوسا كما نهبها قبلا في غير هذه المرة.

وفيها نزل على حلب منطاش بمن معه من العساكر والعربان في نحو عشرين ألف مقاتل ، فجدّوا بالحصار وقطعوا القناة بحلب واجتهدوا في قتال الحلبيين قريبا من عشرين يوما فلم ينجح سعيهم ، وذلك لأن الأمير كمشبغا كان بنى بعض أسوار القلعة وأصلحها وعمل

١٦١

لها أبوابا ورمم أسوار حلب وأحكمها وكانت خرابا من زمن مجيء هولاكو بن جنكز خان.

قلت : منطاش المذكور أحد الأمراء الذين وافقوا يلبغا الناصري على خلع الملك الظاهر برقوق وإعادة الملك الصالح حاجي ، ثم لما تغيرت نية الناصري على الملك الصالح ورجع الملك إلى الظاهر برقوق ـ كما تقدم ـ أظهر منطاش مخالفة الناصري لكونه صار من حزب برقوق ، وسار إلى البلاد بالخراب والفساد وقصد دمشق وحمص وحماة وحلب وغير ذلك. وفي هذه السنة ولي نيابة حلب من قبل الظاهر برقوق الأمير سيف الدين قراد مرداش الأحمدي. وفي شوال سنة ٧٩٣ وصل الظاهر برقوق إلى حلب بعد أن مر على دمشق وغيرها. وفي العشر الأخير من ذي القعدة من هذه السنة بلغ السلطان عن يلبغا الناصري أمور رديئة ، أوجبت اعتقاله هو وجماعة من أصحابه ومماليكه فقتلهم في قلعة حلب. وفي مستهل ذي الحجة من هذه السنة ولّى السلطان نيابة حلب سيف الدين جلبان رأس نوبة الظاهري ، وخرج من حلب عائدا إلى الديار المصرية ونزل على العين المباركة بظاهر حلب ثم سار منها إلى جهة منحاه.

القبض على منطاش وقتله :

وفي سنة ٧٩٤ قبض الأمير محمد نعير بن مهنا أمير العرب على منطاش وكان السلطان وعده بنيابة إن قبض عليه ، فأحضر منطاش إلى حلب وحبس بقلعتها ثم قتل بها بعد أن عذب وأرسل رأسه إلى مصر.

وباء عظيم :

وفي سنة ٧٩٥ حصل بحلب فناء عظيم بلغت فيه الوفيات اليومية خمسمائة نسمة.

ثم تناقص في آخر السنة ومات فيه كثير من الأعيان والعلماء ، وكان غالبا في الصغار.

قدوم السلطان إلى حلب لحرب تيمورلنك :

وفي سنة ٧٩٦ بلغ السلطان الملك الظاهر برقوق أن تيمور تحرك نحو بلاده ووصل إلى الرها. فتوجه السلطان من مصر إلى جهة البلاد الشامية ووصل إلى حلب وأقام بها أربعين يوما ومهد أمور الملك ورجع إلى مقر سلطنته بمصر وصحب معه الأمير جلبان نائب

١٦٢

حلب وولى مكانه الأمير سيف الدين تغري بردي صاحب جامع الموازيني الذي تكلمنا عليه في محلة ساحتبزّة في الجزء الثاني. وفي سنة ٧٩٩ ولي نيابة حلب أرغون شاه ، نقل إليها من طرابلس فبقي في حلب مدة قليلة ومات. وفي سنة ٨٠٠ ولي نيابة حلب الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي الهذباني ثم خرج على السلطان. وفي سنة ٨٠١ ولّى السلطان الملك الناصر أبو السعادة فرج نيابة حلب الأمير دمرداش المحمدي الخاصكي.

أول تحرش العثمانيين بالمملكة المصرية :

في هذه السنة ٨٠١ استولى السلطان بايزيد يلدم خان على ملطية ، وتقدمت طلائع جيوشه إلى البستان للزحف على حلب. فاهتمت حكومة مصر بهذا الأمر وأعدت جيشا لكفاح السلطان با يزيد وقررت أن يؤخذ من الأملاك أجرة شهر تنفق على الجيش. ثم رجع السلطان إلى بلاده دون أن يحصل منه ضرر ، فعدلت الحكومة المصرية عن إرسال جيشها.

اقتراب شرور تيمورلنك من حلب :

وفي سنة ٨٠٢ قصدت طلائع جيش تمرلنك بغداد ، فكسرهم سلطانها السلطان أحمد قان فصحبوا معهم قره يوسف بن محمد التركماني ، صاحب ديار بكر وماردين وما والاهما ، وقدموا حلب بمن معهم من العساكر ونزلوا على نهر الساجور ، فخرج إليهم الأمير دمرداش نائب حلب واستنجد بالأمير دقماق نائب حماة ، وتوجّها بعسكرهما إلى الساجور فالتقى الفريقان هناك واقتتلا قتالا شديدا انجلى عن كسر دمرداش ، وأسر دقماق ونهب جميع ميرة (١) العسكر وخيوله وأثاثه وقماشه ، وجفلت البلاد الحلبية ، ورجع دمرداش في نحو عشرة أشخاص. ثم افتدى دقماق نفسه ولحق بمكانه.

إجمال في تمرلنك

هو تيمور بن طرغاي بن جغتاي. ونسبه بعضهم إلى جنكز خان من جهة النساء ، وكان طويل القامة عريض الأطراف أبيض مشربا بحمرة أعرج اليمناوين ، جبارا عنيدا قهر

__________________

(١) الميرة : المؤنة والأقوات المدّخرة.

١٦٣

الملوك والجبابرة ، وهو من غلاة الشيعة وكان في ابتداء أمره يقطع السبيل هو ورفقاء له فظفر بهم حاكم هراة (١) السلطان غياث الدين ، فضرب تيمور وأمر بصلبه ، فشفع به ولده وأخذه ووكل به من داوى جراحه حتى برىء وقربه إليه وزوّجه شقيقته. ثم إن تيمور غاضبها في بعض الأيام فقتلها وخرج على السلطان واستصفى ممالك ما وراء النهر ثم صاهر المغل وقصد مخدومه الملك غياث الدين ليدخل في طاعته فظفر به وقتله في الحبس جوعا لأنه حلف له ألّا يريق له دما. ثم عاد إلى خراسان ووضع السيف في أهل سجستان فأفناهم عن بكرة أبيهم ، وخرب المدينة واستخلص جميع ممالك العجم ، واستولى على بغداد وقتل أهلها وبنى من رؤوسهم مآذن ، ولم يترك كبيرا ولا صغيرا ولا ذكرا ولا أنثى إلا قتله. ثم خرب المدينة بعد أن نهبها ثم مشى منها إلى الجزيرة وديار بكر وإلى الفرات.

واستعد الظاهر برقوق لمدافعته ونزل تيمور بالرها وأخذها ونهبها. وبلغه أن طقتمش خان سلطان دشت قفجق في جهات القريم قد وصل في جموع المغل إلى الأبواب فأحجم تيمورلنك وتأخر إلى قلاع الأكراد وأطراف بلاد الروم وأناخ على قره باغ ما بين أذربيجان والأبواب ، ثم قوي على طقتمش وأخذ بلاده وانضمت جموع التتر إليه. ثم مشى على الهند واستولى عليها ، وبلغه خبر وفاة الملك الظاهر برقوق ووفاة أحمد حاكم سيواس ، فاستناب في الهند وقصد بلاد الإسلام فأتى بغداد وفتحها ثانيا وقصد سيواس وفتحها عنوة وحلف لأهلها أنه لا يريق لهم دما ، فغدر بهم وألقى منهم في الحفر نحو ثلاثة آلاف إنسان.

ثم نهب البلد وخربها ومشى إلى بهسنى فحاصر قلعتها مدة طويلة وفتحها صلحا مع ما هو عليه من العتوّ والعناد. ولذلك سببان أحدهما متانة القلعة وحصانتها وثانيهما أن نائب قلعة المسلمين التي كانت تعرف بقلعة الروم ـ وهو الناصري محمد بن موسى بن شهري ـ كان يخرج للغارات على معسكر تيمور عندما كان مقيما على حصار قلعة بهنسى. وكان الناصري المذكور ذا قوة وشجاعة ورأي وتدبير ، فلم يسع تيمور إلا الانصراف عن قلعة بهسنى إلى قلعة المسلمين فكاتب نائبها الناصري المذكور بقوله : إني أتيت من أقصى بلاد سمرقند ولم يقف أحد أمامي وسائر ملوك الأرض حضروا إليّ ، وأنت سلّطت على جموعي من يشوّش عليهم ويقتل من ظفر بهم ، والآن قد مشينا عليك

__________________

(١) هراة : بلدة عظيمة مشهورة في بلاد خراسان.

١٦٤

بعساكرنا فإن أشفقت على نفسك ورعيّتك فاحضر إلينا لترى من الرحمة والشفقة ما لا مزيد عليه وإلا نزلنا عليك وخربنا بلدك ، وقد قال تعالى (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) فاستعدّ لما يحيط بك إن أبيت الحضور.

فلم يلتفت الناصري إلى كلامه وحبس رسوله. فمشى إليه تيمور وبرز له الناصري في أوائل عسكره وقاتله قتالا شديدا رأى فيه تيمور من الناصري شدة حزم ، فرجع عن محاربته وأخذ في مخادعته فطلب منه الصلح وأن يرسل له مالا وخيلا فلم ينخدع وتنازل معه إلى أن طلب منه جانبا فلم يعطه ، وعاد عنه تيمور خائبا وعساكر الناصري في أواخر عسكر تيمور قتلا ونهبا وأسرا مع أنهم كانوا زهاء ثمانمائة ألف عسكري. كل ذلك وباب قلعة الناصري لم يغلق يوما واحدا وفيه يقال :

هذا الأمير الذي صحّت مناقبه

ليث الوغى عمّت الدنيا مفاخره

ولّى تمرلنك مكسورا أوائله

منه فارا ومذعورا أواخره

كان الناصري من السلالة العمرية ذا مروءة وصدق ودين وعلم. ثم إن تيمور استولى على حلب ودمشق ، وما بينهما على الوجه الذي نبسطه ، ثم رجع إلى ممالك الروم فكاتب سلطانها السلطان با يزيد خان الغازي فلم يلتفت إلى كتابه وتوجه لقتاله وجمع العساكر على ميل من مدينة أنقرة ، ونشبت الحرب بينهم وكانت وقعة عظيمة انكشفت عن أسر السلطان يلدرم با يزيد خان ولما أيقن بالهلاك قال لتيمور : أوصيك ألّا تترك التتر بهذه البلاد فإنهم يفسدونها وألّا تقتل رجال الأروام فإنهم ردء الإسلام ، وألّا تخرب قلاع المسلمين ، ولا تجلهم عن مواطنهم.

قال هذا وهو مكبل بقفص من حديد قد فغر الموت له فاه لابتلاع حياته بعد سويعات ، فلم يذهله هذا الموقف الرهيب عن المحاماة عن رعيته ، ولم تضطره الأثرة بروحه إلى التوسل بالدفاع عنها دون الدفاع عن رعاياه.

وقد قبل منه تيمور تلك الوصايا. وبعد سويعات توفي السلطان با يزيد في قفصه ورجع تيمور إلى بلاده فمرض في مدينة أنزار وجعل يشرب من عرق الخمر إلى أن تفتت كبده ومات في ليلة الأربعاء سابع عشر شعبان سنة ٨٠٧ وحملوا عظامه إلى سمرقند وعمره فوق

١٦٥

الثمانين ، وخلّف ولدين أمير شاه وشاه رخ ، ولم يكونا معه. فجلس على سرير الملك حفيده خليل بن أمير شاه ، وكان أبوه واليا على ممالك تبريز فقتله قره يوسف حاكم أذربيجان ولما مات خليل المذكور تولّى الملك عمه الشاه رخ. ثم سطا على ملكهم الفاتحون وتلاشت دولتهم سوى بعض أعقاب لتيمور كانوا سلاطين في جهات من الهند.

والناس في أمر تيمور مختلفون : فمنهم من يعدّه كافرا باغيا لإفراطه بإراقة دماء المسلمين ، وتسلّط جيوشه على نهب الأموال والأرواح وهتك الأعراض. ومنهم [من] يقول بإسلامه ويعدّه عاصيا ويكل أمره إلى الله تعالى. ومنهم من يزعم أنه مصلح كبير لم يقصد من غاراته على بلاد المسلمين غير ردع ملوك الإسلام وجهادهم كي يكفوا عن مظالمهم التي كانوا يعاملون بها رعاياهم ، ويرعووا عن قتل بعضهم البعض ، حتى إنني سمعت من بعض علماء الأتراك القاطنين في بخارى ـ وقد جمعتني وإياهم باخرة كنت ركبتها في سفري إلى جهات غزّة ـ أن عددا كبيرا من علماء تركستان وخواصهم يعدّون إيقاع تيمور بالبلاد الإسلامية جهادا مقدسا ، ويعتقدون فيه الولاية والكرامة ويترضون عنه كما يترضون على أولياء الله وأصفيائه ، وأن ما كان يصدر من جيوشه وعساكره من قتلهم البريئين وهتك أعراض المخدّرات لم يكن عن علم منه ولا رضاء به.

وقد وضع العلماء والمؤرخون كتبا قيمة وأخبارا طوالا في سيرة تيمور وترجمته ، أكثرها مطبوع متداول ، وأعمّها كتاب «عجائب المقدور في أخبار تيمور» لابن عربشاه. وقد اقتصرنا على ذكر هذه النبذة في الكلام عليه طلبا للإيجاز.

مجيء تيمور إلى حلب

وما أحله فيها من الويل والصخب

هذه الحادثة من أعظم الحوادث التي دهت حلب قديما وحديثا وأضرّت بها ضررا مخلّدا ، محت آثارها وأطفأت أنوارها وأخذ بها تيمور من الأموال وأفنى من النفوس ، وأسر من العلماء وأرباب الحرف والصناعات ما لا تحصيه الأقلام ولا يعلم عدده إلا العليم العلام ، وذلك أن تيمور بعد أن أقلع عن قلعة الروم ـ كما حكيناه ـ تقدّم إلى عينتاب فأجفل أهل القرى بين يديه وجفل أهل البلاد الحلبية. ثم اجتاز بمرج دابق ، وفي يوم الخميس تاسع ربيع الأول سنة ٨٠٣ نازل حلب ، وكان نائبها المقرّ السيفي دمرداش الخاصكي

١٦٦

وقد حضرت إليه عساكر الملكة الشامية كعسكر دمشق مع نائبها سودون ، وعسكر طرابلس مع نائبها المقرّ السيفي شيخ الخاصكي ، وعسكر حماة مع نائبها دقماق ، وعسكر صفد وغزّة فاختلفت آراؤهم فمن قائل : ادخلوا المدينة وقاتلوا من الأسوار ، وقائل : اخرجوا إلى ظاهر البلد تلقاء العدو بالخيام.

فلما رأى نائب حلب اختلافهم أذن للناس في إخلائها والتوجه حيث شاؤوا ، وكان نعم الرأي لو فعلوا ، فلم يوافقوا على ذلك وضربوا خيامهم في ظاهر البلد تلقاء العدو ، وحضر قاصد تيمورلنك فقتله نائب دمشق قبل أن يسمع كلامه ، وبئسما فعل. ثم إن النواب ومعهم بعض العساكر والعامة خرجوا إلى جهة بابلّي تحت مشهد الشيخ فارس ، وسمع بعضهم دمرداش وهو يقول للتتر : إنا إذا حملتم أنكسر ، أو كلاما مثل هذا. ولما وقف الحلبيون والتقى الجيشان قرأ ابن القلعيني قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) الآية وكان صيّتا. واستمر القتال يوم الخميس والجمعة.

ولما كان يوم السبت حادي عشر الشهر المذكور ركب تيمور وجمع وحشد ، والفيلة تقاد بين يديه وهي ثمانية وثلاثون فيلا وزحف على حلب فانخذل دمرداش وانحاز إليه سرا يعلمه المخازي ، وانهزم المسلمون بين أيدي التتر وجعلوا يلقون أنفسهم من الأسوار والخنادق ، والتتر في أثرهم يقتلون ويأسرون وقد أحالت العساكر بالحوافر أجساد العامة ، وجرى من دخول المنهزمين بالأبواب من فساد الأجساد وذهاب المهج ما أذهب العقول.

وأما سودون نائب دمشق فإنه قاتل على باب النيرب قتالا عظيما وحمل عليه معظم جيش تيمور وهو ثابت صابر ، إلا أنه لما شاهد الغلبة دخل حلب. ودخلها جيش تيمور ينهبون الأموال ويحرقون المباني ويخربونها ويقتلون الكبار والصغار ويفتضّون الأبكار ، ويأخذون المرأة ومعها ولدها الصغير على يدها فيلقونه من يدها ويفسقون بها. فلجأ النساء عند ذلك إلى الجامع الكبير ظنا منهنّ أن هذا يقيهنّ من أيدي الكفرة ، وصارت المرأة تطلي وجهها بطين أو بشيء يشوّه محاسنها ، فيأتي ذلك العلج إليها ويغسل وجهها ويتناولها ويتمسح بالأوراق الشريفة. ودام هذا الحال من يوم السبت إلى يوم الثلاثاء. ومع ذلك فإن طائفة من عساكر التتر لم يزالوا يشتغلون بنقب القلعة وبها جميع النواب وخواص الناس وأكثر أموالهم ونفائس أمتعتهم.

١٦٧

وفي يوم الثلاثاء المذكور ـ وهو رابع عشر ربيع الأول ـ أخذ تيمور القلعة بالأمان ، ونزل إليه دمرداش ، وخلع تيمور عليه وصعدها في اليوم الثاني فدخل مقام الخليل وأسفّ رأسه (١) عند عتبته وقبّلها. ثم جلس في المقام وطلب علماء حلب وقضاتها ، فحضر إليه القاضي شرف الدين موسى الأنصاري ، والعلامة محب الدين بن الشحنة. وكمال الدين بن العديم ، وعلاء الدين أبي الحسن (٢) علي بن خطيب الناصرية وغيرهم فوقفهم ساعة ثم أمر بجلوسهم وطلب من كان معه من أهل العلم وقال لأميرهم وهو المولى عبد الجبار ابن العلامة نعمان الدين الحنفي ، وكان والده من العلماء المشهورين بسمرقند : قل لهم إني سائلهم عن مسألة سألت عنها علماء سمرقند وبخارى وغيرهما من البلاد التي فتحتها ، فلم يفصحوا عن جوابها فلا تكونوا مثلهم ، ولا يجاوبني إلا أعلمكم وأفضلكم ، وليعرف ما يتكلم فإني خالطت العلماء ولي بهم اختصاص وألفة ، ولي في العلم طلب قديم.

قال ابن الشحنة : وكان بلغنا عنه أنه يعنّت العلماء في الأسئلة ويجعل ذلك سببا لقتلهم أو تعذيبهم ، فقال القاضي شرف الدين عن ابن الشحنة : هذا شيخنا ومدرّس هذه البلاد وفقيهنا اسألوه والله المستعان. فقال عبد الجبار لابن الشحنة : سلطاننا يقول إنه بالأمس قتل منّا ومنكم فمن الشهيد : قتيلنا أم قتيلكم؟ فوجم الجميع وقالوا في أنفسهم : هذا الذي بلغنا عنه من التعنّت. فسكت القوم. قال ابن الشحنة : وفتح الله عليّ بجواب سريع بديع وقلت : هذا سؤال سئل عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأجاب عنه ، وأنا مجيب بما أجاب به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

قال ابن الشّحنة : قال لي صاحبي القاضي شرف الدين بعد انقضاء الحادثة : والله العظيم ، لما قلت : هذا سؤال سئل عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأجاب عنه ، وإنك لمحدّث زماننا وعالمنا ، قد اختل عقله. وهو معذور ؛ فإن هذا سؤال لا يمكن الجواب عنه في مثل هذا المقام. ووقع في نفس عبد الجبار مثل ذلك ، وألقى تيمور سمعه وبصره إلي ، وقال لي : عبد الجبار يسخر من كلامي كيف سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكيف أجاب؟ قلت : جاء أعرابيّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله إن الرجل يقاتل حميّة ويقاتل شجاعة ويقاتل ليعرف مكانه ، فأيّنا في سبيل الله؟ فقال عليه السلام : من قاتل لتكون كلمة الله هي

__________________

(١) أي أدناه من الأرض.

(٢) كذا ، والصواب : أبو الحسن.

١٦٨

العليا فهو في سبيل الله ، ومن قاتل منّا لإعلاء كلمة الله فهو الشهيد. فقال تيمور : خوب. وقال عبد الجبار : ما أحسن ما قلت. وانفتح باب المؤانسة ، وقال تيمور : إني رجل نصف آدمي وقد أخذت بلاد كذا وكذا وعدد سائر ممالك العجم والعراق والهند وسائر بلاد التتر. فقلت : اجعل شكر هذه النعمة عفوك عن هذه الأمة ولا تقتل أحدا. فقال : إني والله لم أقتل أحدا قصدا وإنما أنتم قتلتم أنفسكم في الأبواب ، وو الله لا أقتل منكم أحدا وأنتم آمنون على أنفسكم وأموالكم.

وتكررت الأسئلة منه والأجوبة منّا ، وطمع كل أحد من الفقهاء الحاضرين ، وجعل يبادر إلى الجواب ويظن أنه في المدرسة ، والقاضي شرف الذين ينهاهم ويقول : اسكتوا ليجاوب هذا الرجل فإنه يعرف ما يقول. يريد بالرجل ابن الشحنة. وآخر سؤال سأل عنه : ما تقولون في عليّ ومعاوية ويزيد؟ فأسرّ شرف الدين إلى ابن الشحنة ـ وكان إلى جانبه ـ أن أعرف كيف تجاوبه فإنه شيعي. فلم يفرغ ابن الشحنة من سماع كلام تيمور إلا وقد قال القاضى علم الدين بن القفصي الصيفي المالكي كلاما معناه أن عليا اجتهد وأصاب وله أجران ، ومعاوية اجتهد وأخطأ وله أجر واحد. فتغيظ تيمور لذلك. ثم أجاب القاضي أبو البركات موسى الأنصاري الشافعي بأن معاوية لا يجوز لعنه لأنه صحابي. فقال تمرلنك : ما حدّ الصحابي؟ فأجابه : إنّه (١) كل من رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال تمرلنك : فاليهود والنصارى رأوه. فأجابه : بشرط أن يكون [الرّائي (٢)] مسلما. وأجاب شرف الدين أيضا بأني رأيت حاشية على بعض الكتب أنه يجوز لعن يزيد فقط. فتغيظ لذلك ووعدهم بالقتل وقال : علي على الحق ومعاوية ظالم ويزيد فاسق وأنتم حلبيون تبع لأهل دمشق ، وهم يزيديون قتلوا الحسين.

فأخذ ابن الشحنة في ملاطفته بالاعتذار عن المالكي بأنه أجاب بشيء وجده في الكتاب لا يعرف معناه. قال في كنوز الذهب : فلم يقبل وقال : أريد منكم مالا وأنتم أعلم ببعضكم بعضا. فأخذوا الورقة وكتبوا فيها أسماء من عليهم المال ، وقدر ما على كل واحد. وقصد بذلك أن يعلم درجتهم في المال. ثم أخذ بعد ذلك في مصادرة الناس وعقوبتهم. ثم إن

__________________

(١) في الأصل : «إن» والتصويب من البدر الطالع ١ / ١٧٦.

(٢) زيادة من البدر الطالع ، ويقضيها السياق.

١٦٩

تيمور عاد حلمه في ذلك المجلس. قال ابن الشحنة : وأخذ عبد الجبار يسأل مني ومن شرف الدين ، فقال عن ابن الشحنة : هذا عالم مليح ، وعن شرف الدين : هذا رجل فصيح. قال ابن الشحنة : فسألني تيمور لنك عن عمري فقلت : مولدي سنة تسع وأربعين وسبعمائة وقد بلغت الآن أربعا وخمسين. وقال للقاضي شرف الدين : كم عمرك؟ قال : أنا أكبر منه بسنة. فقال تيمور لنك : أنتم في عمر أولادي ، أنا عمري اليوم بلغ خمسا وسبعين سنة.

وحضرت صلاة المغرب وأقيمت الصلاة وأمامنا عبد الجبار وصلّى تيمور لنك إلى جانبي قائما يركع ويسجد ثم تفرقنا. وفي اليوم الثاني غدر بكل من في القلعة وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والأقمشة والأمتعة مما لا يحصى. قال ابن الشحنة : أخبرني بعض كتابه أنه لم يكن أخذ من مدينة قطّ مثل ما أخذ من هذه القلعة ولا ما يقاربه ، وعوقب غالب المسلمين بأنواع العقوبات وحبسوا بالقلعة ما بين مقيّد ومزنجر ومسجون ومرسم عليه. ونزل تيمور لنك من القلعة بدار النيابة وصنع وليمة على زي المغل ووقف سائر الملوك والنواب في خدمته وأدار عليهم كؤوس الخمر ، والمسلمون في عقاب وعذاب وسبي وقتل وأسر ، وجوامعهم ومساجدهم ومدارسهم وبيوتهم في هدم وحرق وتخريب ونبش إلى آخر ربيع الأول.

ثم طلبني ورفيقي القاضي شرف الدين وأعاد السؤال علينا فقلت له : الحق كان مع علي ، وليس معاوية من الخلفاء ، فإنه صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال : الخلافة بعدي ثلاثون سنة. وقد تمت بعلي. فقال تيمور لنك : قل على عليّ الحق ومعاوية ظالم. فقلت : قال صاحب الهداية : يجوز تقلّد القضاء من ولاة الجور ، فإن كثيرا من الصحابة والتابعين تقلدوا القضاء من معاوية وكان الحق لعلّي في نوبته. فانسرّ لذلك وطلب الأمراء الذين عينهم للإقامة بحلب وقال لهم : إن هذين الرجلين نزول عندكم بهذه البلدة فأحسنوا إليهما وإلى ألزامهما وأصحابهما ومن ينضم إليهما ولا تمكّنوا أحدا من أذيتهما ورتّبوا لهما علوفة ولا تدعوهما في القلعة بل اجعلوا إقامتهما بالمدرسة ، يعني السلطانية التي تجاه القلعة. وفعلوا ما أوصاهم به إلا أنهم لم ينزلونا من القلعة ، وقال لنا الذي ولي الحكم منهم بحلب الأمير موسى ابن الحاجب طغاي : إني أخاف عليكما ، والذي فهمته من نسق تيمور أنه إذا أمر بسوء فعل بسرعة ولا محيد عنه ، وإذا أمر بخير فالأمر فيه لمن وليه.

١٧٠

وفي أول يوم من ربيع الآخر برز إلى ظاهر حلب متوجها نحو دمشق ، وثاني يوم أرسل يطلب علماء البلد ، فرحنا إليه والمسلمون في أمر مريج وقطع رؤوس ، فقلنا : ما الخبر؟ فقيل : إن تيمور يطلب من عسكره رؤوسا من المسلمين على عادته التي كان يفعلها في البلاد التي أخذها. فلما وصلنا إليه أرسلنا رسولا يقول له : إننا قد حضرنا وهو حلف ألّا يقتل أحد منا صبرا. فعاد إليه ونحن ننظره وبين يديه لحم سليق في طبق يأكل منه ، فتكلم معه يسيرا ثم جاء إلينا شخص بشيء من ذلك اللحم فلم نفرغ من أكله إلا وزعجة قائمة ، وتيمور صوته عال ، وساق شخصا هكذا وآخر هكذا وجاءنا أمير يعتذر ويقول : إن سلطاننا لم يأمر باحضار رؤوس المسلمين وإنما أمر بقطع رؤوس القتلى وأن يجعل منه قبة إقامة لحرمته على جاري عادته ، ففهموا عنه غير ما أراد وإنه قد أطلقكم فامضوا حيث شئتم.

قلت : وحكى القرماني عن بعض الثقات أنه شاهد بظاهر حلب قد بني شبه المآذن من رؤوس الرجال مرتفعة البناء ، دورها نيّف وعشرون ذراعا وعلوّها في الهواء نحو عشرة أذرع بارزة وجوهها تسفي عليها الرياح وعدّتها عشرة. ثم قال ابن الشحنة : وركب تيمور لنك من ساعته وتوجه نحو دمشق فعدنا إلى القلعة ورأينا المصلحة في الإقامة بها. وأخذ الأمير موسى في الإحسان إلينا وقبول شفاعتنا وتفقد أحوالنا مدة إقامته بحلب وقلعتها ، وتأتينا الأخبار بأن السلطان الملك الناصر فرج قد نزل إلى دمشق وأنه كسر تيمور ، ومرة نسمع بالعكس ، إلى أن انجلت القضية عن توجه السلطان إلى مصر بعد أن قاتل تيمور قتالا شديدا أشرف منه تيمور على الكسرة والهزيمة.

ولما كان سابع عشر شعبان المعظم من السنة المذكورة وصل تيمور عائدا من الشام إلى الجبّول شرقي حلب ولم يدخل حلب بل أمر المقيمين بها من جهته بتخريب القلعة وإحراق المدينة ففعلوا ونزلوا من القلعة ، وطلبني الأمير السيد عز الدين ، وكان من أكبر أمرائه وقال : إن الأمير «تيمور قان» يسلم عليك ويقول : إن عنده مثلك كثيرا وهذه البلاد باب مكة وليس بها عالم فلتكن أنت بها ، وقد رسم بإطلاقك ومن معك من القضاة ، فاطلب من شئت وأكثر لأروح معكم إلى مشهد الحسين وأقيم عندكم حتى لا يبقى من عساكرنا أحد. وكان القاضي شرف الدين لا يفارقني ، وطلبنا من تأخر من القضاة في القلعة واجتمع منا نحو ألفي مسلم ، وتوجّهنا صحبة المشار إليه لمشهد الحسين وأقمنا به

١٧١

ننظر إلى حلب والنار تضرب في أرجائها. وبعد ثلاثة أيام لم يبق من التتر أحد ونزلنا إلى بيوتنا بالمدينة فاستوحشنا منها ولم يقدر أحد منا على الإقامة ببيته من النّتن والوحشة ، ولم يمكن السلوك في الأزقة من ذلك ، كما قال :

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا

أنيس ، ولم يسمر بمكة سامر (١)

قال أبو ذر في تاريخه : وأما الجامع الكبير فكانت القتلى فيه من الباب الشرقي إلى البركة ، وصار الناس يمشون على القتلى إلى بعد ذهاب هذه المحنة فدفنوا بالحجازية (٢) من الجامع.

قال ابن خطيب الناصرية في تاريخه : وقال الشعراء في هذه الحادثة المدلهمة عدة قصائد ، فمن ذلك ما قاله بعض أهل الأدب :

يا عين جودي بدمع منك منسكب

طول الزمان على ما حلّ في حلب

من العدوّ الذي قد أمّ ساحتها

ناح الغراب على ذاك الحمى الخرب

ويلاه ويلاه يا شهبا عليك وقد

كسوتني ثوب حزن غير منسلب

من بعد ذاك العلا والعزّ قد حكمت

بالذل فيك يد الأغيار والنّوب

وحين جاء قضاء الله ما دفعت

عنك الجيوش ولا الشجعان بالقضب

وأصبح المغل حكّاما عليك ولم

يرعوا لجارك ذي القربى ولا الجنب

وفرقوا أهلك السادات وانتشروا

في كلّ قطر من الأقطار بالهرب

وبدّلوا من لباس اللين ذا خشن

نعم ، ومن راحة الأبدان بالتعب

وكلّ ما كان من مال لديك غدا

في قبضة المغل بعد الورق والذهب

وخرّبوا ربعك المعمور حين غدوا

يسعون في كل نحو منك بالنكب

وخرّقوا من بيوت الله معظمها

وحرّقوا ما بها من أشرف الكتب

كذا بلادك أمست وهي خالية

وأصبحت أهلها بالخوف والرعب

لكن مصيبتك الكبرى التي عظمت

سبي الحريم ذوات الستر والحجب

من كل آنسة لا شمس تنظرها

ولا يراها سوى أم لها وأب

يأتي إليها عدوّ الدين يفضحها

ويجتليها على لاه ومرتقب

__________________

(١) البيت للحارث بن مضاض الجرهميّ.

(٢) غرفة واسعة ملحقة بالجامع.

١٧٢

غلّت يمينك يا من مدّها لسنا

ذاك الجمال وشلّت منك بالعطب

ولا نقول سوى سبحان من نفذت

أحكامه في الورى حقا بلا كذب

قضى وقدّر هذا الأمر من قدم

بحكم عدل جرى في اللوح والكتب

فنسأل الله بالمختار سيدنا

محمد ذي التقى والطهر والحسب

أن لا يرينا عدوا ليس يرحمنا

ولا يعاملنا بالمقت والغضب

صلى عليه إله العرش خالقنا

والآل والصحب سادات الورى النجب

قال ابن الشحنة : وكانت نواب الشام مع تيمور مأسورين فانفلتوا منه أول بأول. وذكر في كنوز الذهب أن تيمور عرض أسرى بلد الشام ونواحيها فكانوا ثلاثمائة ألف أسير وستين ألف أسير. قال ابن الشحنة : وكان السيفي دمرداش الخاصكي حين انفلت منه من حماة ـ حال توجهه إلى نحو دمشق ـ توجّه نحو السلطان واتفق معه وجاءه تقليد شريف من السلطان باستمراره في نيابة حلب ، فدخلها وأخذ في عمارتها ورمم دار النيابة وسكن بها وتراجعت الناس.

نزول أمير العرب على حلب

وفي هذه السنة نزل على حلب الأمير نعير بن جبار ـ أمير العرب ـ قاصدا إخراج الأمير دمرداش منها لوحشة سبقت بينهما. فحاصرها مدة أيام وضايقها. وغلا السعر وحصل لأهل حلب شدة عظيمة ، وكان العسكر بحلب قليلا جدا فاستنجد الأمير دمرداش بأحمد بن رمضان أمير التركمان فلباه وأقبل إليه بخيله ورجله ، وجاء حلب ودخلها من باب النصر وخرج من باب قنسرين لأن القتال بين الحلبيين وبين العرب كان فيما بين حلب وجبرين. فاشتد القتال بين الفريقين وأشرف الحلبيون والتركمان على النصرة فحال الليل بينهم ، فرجع الحلبيون والتركمان إلى المدينة وعوّل نعير أمير العرب على الهزيمة. ولما أصبح الحلبيون والتركمان خرجا للقتال فلم يروا أحدا. فتتبع التركمان آثار العرب فلم يظفروا بهم غير أنهم صادفوا بعض أغنام استاقوها ودخلوا بها إلى حلب.

وفي سنة ٨٠٤ ولي حلب دقماق عوضا عن دمرداش لأنه أظهر العصيان بحلب ، فأرسل السلطان عسكرا مع دقماق وحاربه وقبض عليه وأرسله إلى القاهرة.

١٧٣

وسنة ٨٠٦ ولي حلب الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي الهذباني ، عائدا إليها ، فأقام بها أربعين يوما ومات ودفن بتربة أنشأها بسوق الخيل. واستقر في نيابة حلب السيفي دمرداش عائدا إليها.

قتال فارس بن صاحب الباز

وفيها استفحل أمر فارس بن صاحب الباز التركماني ـ أمير التركمان ـ بناحية العمق فاستولى على أنطاكية والقصير ودركوش ، فخرج إليه دمرداش ومعه العساكر الحلبية ووصل إلى جب الحيّات في العمق بين القصير وأنطاكية والتقى الفريقان هناك ، فكسر الأمير دمرداش وقتل من عسكره وأمرائه جماعة وعاد إلى حلب بكرة عيد الأضحى ، وقوي أمير التركمان جدا. ثم جمع دمرداش العسكر وتوجه إلى أنطاكية لقتاله ، وكتب إلى الأمير علي باك بن دلغادر ، وإلى أحمد بن رمضان مقدّمي التركمان في البلاد يستنجدهما عليه ، فوافياه وهو على أنطاكية وابن صاحب الباز بها ومعه الأمير جكم. فأقام العسكر عليها مدة فلم يظفروا بطائل ورجعوا عنه خائبين.

واستفحل أمره وعظم خطره واستولى على البلاد الغربية بأسرها ووصل إلى جبل سمعان ، وتوجه إليه من حلب جماعة أقاموا عنده لأجل إقطاعاتهم ، واستولى على جانب من بلاد طرابلس كصهيون وصار له من باب الملك إلى صهيون وأطراف بلد سرمين. وبقي نواب حلب ليس لهم حكم في تلك البلاد بالكلية وصاروا كالمحصورين ، فإن هذه البلاد التي استولى عليها هي التي كانت عامرة من أعمال حلب وهي : أنطاكية والقصير والشّغر ودير كوش وحارم وبغراس والحلقة وسائر أعمالها وبرزيه وصهيون واللاذقية وجبلة وتلك النواحي ، وعجز النواب عن دفعه ، للخلف بينهم وقلة العساكر فيهم ، وصار ابن صاحب الباز في عسكر عظيم إلى أن قدّر الله كسره على يد جكم حينما تولى نيابة حلب ، فاستنقذ منه البلاد وأراح منه العباد ، ثم تبعه إلى أنطاكية وقطع جسر الحديد ونزل شرقيّه واستمر يحاصره أياما ، ثم شرع في حفر نهر لتحويل العاصي إليه ففر التركماني إلى جهة القصير ، وتبعه الأمير «جكم» بمن معه حتى حاصره في قلعة هناك فطلب الأمان فأعطاه فنزل ، ثم سلمه إلى عدو له فقتله. وكان على شجاعة عظيمة محبا للخير ، بنى بحضرة سيدي حبيب النجار بأنطاكية مدرسة.

١٧٤

قصد دمشوخجا بلد حلب

وفي هذه السنة أعني سنة ٨٠٦ نزل على حلب دمشوخجا بن سالم التركماني ـ نائب قلعة جعبر ـ فأفسد القرى ونهبها وقطع السبل ، وعاقب الرجال ببلد عزاز وارتكب أمورا عظيمة من المفاسد ، ولم يأخذه رأفة على المسلمين. فقدم عليه عدوه نعير ابن جبار بن مهنا أمير العرب من ناحية الشرق ، واشتبك القتال بينهما أياما فانتصر نعير عليه وفرق حزبه ونهب أمواله ومزقه كل ممزق. وكان دمشوخجا من المفسدين في الأرض رئيس اللصوص وقطاع الطريق ، فأراح الله منه البلاد والعباد.

زلزال عظيم :

وفي صبيحة يوم الخميس عاشر شعبان من هذه السنة زلزلت حلب زلازل كثيرة ، منها واحدة مزعجة أخربت كثيرا من الأماكن والمساجد بحلب ، وأخربت كثيرا من مدينة الشّغر ولم يعهد من قديم الزمان زلزلة مثلها ، فاجتمعت الفتن والزلازل.

تملك جكم :

وفي سنة ٨٠٧ هرب «جكم» من السجن في قلعة دمشق وتوجه إلى حلب وأقام بها مدة يسيرة. فلما قويت شوكته قبض على دمرداش نائب حلب وعلى الحاجب وعلى نائب القلعة ، وملك المدينة وقلعتها وقطع اسم الملك الناصر من الخطبة ، وركب بشعار السلطنة ، وباس له الأمراء الأرض بحلب وتلقب بالملك العادل.

تواتر الزلازل :

وفيها زلزلت حلب يوم الجمعة ثالث جمادى الأولى وقت الاستواء زلزلة عظيمة فزع الناس لها ولجؤوا إلى الله تعالى ، ثم سكنت بعد لحظة. ثم زلزلت زلازل كثيرة في السنة المذكورة ولطف الله بعباده.

وفي سنة ٨٠٨ ثار نائب القلعة بحلب والحاجب وجماعة من التركمان على «جكم» وأخرجوه من حلب ، فبلغ السلطان ذلك وأرسل تقليدا إلى علان اليحياوي بنيابة حلب. وفي جمادى الآخرة أتى «جكم» وهجم على حلب وقتل دقماق المحمدي الذي كان نائبا بها قبلا ونهبها

١٧٥

وملك قلعتها. وسمع السلطان ذلك فأرسل له تقليدا بنيابة حلب ونيابة طرابلس مضافة لنيابة حلب فعدّ ذلك من النوادر. وفي رمضان هذه السنة تحارب جكم مع الباز التركماني الذي سلف ذكره في حوادث سنة ٨٠٦ فملك جكم جميع أمواله وقبض جكم على العجل ابن النعير أمير العرب بعد أن جرى بينهما مقتلة عظيمة عند قرية زيتان على النهر ، وولى جكم على العرب ابن العجل.

أصل قبيلة آل المهنا :

كانت هذه القبيلة من العرب تعرف بآل المهنا ، وينتهي نسبه إلى بدر بن ربيعة. وكانت مساكنهم صحراء حلب وحماة وبعض صحراء الخابور. وكانوا أولي شوكة وصولة ، كثيرا ما كان نواب حلب وحماة ودمشق يستعينون بهم على من عاداهم فيجدون منهم قوة ونجدة فوق مأملهم. وقد ذكر ابن الخطيب عدة رجال منهم يستحقون الذكر لما عندهم من الشجاعة والكرم والشهامة.

وفي ذي القعدة من هذه السنة ولي حلب دمرداش عوضا عن جكم. وفي سنة ٨٠٩ وصل السلطان إلى حلب وقرر في نيابتها جركس القاسمي ، فلما خرج السلطان من حلب رجع «جكم» إليها وملكها وفرّ القاسمي. ثم ملك «جكم» دمشق وتلقب بالملك العادل. فعند ذلك تحرك عليه قره بلك نحو آمد فتبعه «جكم» في عسكر قليل ودخل مضيقا لا يسعه الفرار فيه ، فسقط عن فرسه فقبض عليه بعض التركمان وقطع رأسه وجهزه إلى مصر.

قصد ابن دلغادر حلب :

وفي سنة ٨١٠ قدم إلى حلب علي بن خليل بن قراجا بن دلغادر ، الشهير بعلي باك التركماني ، أمير التركمان ببلاد مرعش وما والاها. قدم إليها لإنقاذ ولده المحبوس بقلعتها من قبل الأمير جكم فصادف وقت قدومه خلو حلب عن نائب ، لأن نائبها جكم كان قد قتل ولم يقم مكانه نائب. ولما وصل ابن خليل إلى دابق سيّر إليه أهل حلب بالرجوع عنهم فطلب ولده منهم ، ثم جاء إلى الميدان الأخضر شمالي حلب ونزل بمن معه من جموع التركمان الأزرعية والبياضية وغيرهم ـ وكانوا زهاء خمسة آلاف نفر ـ فخرج أهل حلب

١٧٦

لقتاله وجرت بينهم وقعة انكسر بها أهل حلب ودخلوا البلد. واستمر يحاصر حلب وكان بالقلعة جماعة عصوا ووافقوا ابن خليل المذكور وجعل الحلبيون يقاتلون ابن خليل والتركمان خارج السور ، ويقاتلون أهل القلعة داخله ، وأهل القلعة يرمون الحلبيين. وأصر ابن خليل والتركمان على حصار حلب أياما فجهزوا إليه ولده فلم يفد شيئا ولم يزده إلا بغيا ، فنهب القرى التي حول حلب وأفسد في البر فسادا كبيرا ، ثم انتقل من الجهة الشمالية ونزل قبليّ حلب على السعدي وما حوله وجدّ في الحصار واشتد أهل حلب لقتاله ولم يكن عندهم من الجند سوى عشرين فارسا ، وحصل لأهل حلب ضيق عظيم وطال عليهم ذلك نحو اثنين وأربعين يوما حتى فرج الله عليهم بقدوم نجدة لهم من طرف حماة وانهزم ابن خليل.

قتال أمير التركمان :

وفي هذه السنة ولي حلب تمربغا المشطوب. وفيها عظم شأن كردي باك أمير التركمان بالعمق ، فتوجه لقتاله تمربغا المشطوب نائب حلب وقاتله أياما فانكسر ورجع خائبا. وتمادى كردي باك في غلوائه حتى خرج عليه الملك المؤيد شيخ فقاتله بالقرب من بقراص ـ تحت جبل اللكام ـ فغلبه وكسره كسرة شنيعة وعاد المؤيد شيخ ظافرا غانما.

وفي ربيع الأول سنة ٨١١ استقر في نيابة حلب الأمير دمرداش. وفي هذه المرة أكمل بناء جامع الأطروش الذي قدمنا ذكره في الكلام على محلة الأعجام من الجزء الثاني.

إبطال مكس البيض :

وفيها نقش على جدار الجامع الأموي ما صورته : «لما كان بتاريخ سنة ٨١١ ورد المرسوم الكريم العالي المولوي كافل المملكة الحلبية الملك دمرداش بإبطال مكس البيض من المملكة الحلبية ، وملعون ابن ملعون من يعيده ويجدده».

وفي أوائل سنة ٨١٣ جاء إلى حلب شاهين بن عبد الله من قبل ملك الأمراء شيخ فنزل ببانقوسا يوم الجمعة وزحف على المدينة وبها نواب الأمير دمرداش وحاصرها إلى أن أخذها ثاني يوم نهار السبت في العشر الأول من المحرم ، واستمر بها حاكما إلى العشر الأول من ربيع الأول من السنة المذكورة ، فصالح شيخ الأمير نوروز وجاء نوروز إلى حلب

١٧٧

من قبل شيخ لأنه ملك الشام جميعه. وكان سلطان مصر ولّى حلب نوروز المذكور سنة ٨١٢ إلا أنه لم يستطع أن يدخلها خوفا من شيخ. وفي ربيع الآخر من السنة المذكورة أعني سنة ٨١٣ قرر السلطان في نيابة حلب قرقماش بعد أن قهر شيخ ونوروز وغلبهما. وفي ذي القعدة منها تصالح شيخ مع السلطان وتولى شيخ من قبل السلطان نيابة حلب ، ونوروز نيابة دمشق. وفي ربيع الآخر سنة ٨١٤ اتفق شيخ ونوروز على العصيان وخرجا.

وفي سنة ٨١٥ وصل السلطان لدمشق لمحاربتهما وصار يطردهما من بلد إلى بلد ، وكان مع هذا منغمرا في السكر فأعيت العسكر وشغبت عليه العامة وخلعوه وقتلوه في دمشق. وكان في هذه البرهة قد ولي دمرداش حلب ، فأتى إليها نوروز في الربيع الآخر وهرب منه دمرداش وعّين نوروز لنيابة حلب يشبك بن يزدمر. وكان بين نوروز وشيخ عهود ، منها أن يكون شيخ أتابك العساكر بمصر ، والخليفة هو السلطان ، ونوروز هو نائب البلاد الشامية. ثم لما تسلطن شيخ وخان العهود أظهر نوروز العصيان فحاربه السلطان في دمشق وقتله وسار إلى حلب وولى نيابتها إينال الصصلاقي وذلك سنة ٨١٧ وفي سنة ٨١٨ أظهر العصيان نائب دمشق قاني باي ، ووافقه الصصلاقي نائب حلب. فحضر السلطان إلى حلب وكان النائبان المذكوران فيها ففرا منه فتبعهما إلى العمق وقبض عليهما وذبحهما. ثم ولى نيابة حلب أقباي الدوادار وذلك كله في السنة المذكورة.

وفي سنة ٨٢٠ سافر نائب حلب «أقباي» إلى القاهرة وكان أشيع عنه العصيان ففرح به السلطان وقرره في نيابة دمشق وقرر في نيابة حلب الأمير قجقار القردمي. ثم في رجب هذه السنة تغير خاطر السلطان على قجقار القردمي فسجنه وقرر في نيابة حلب يشبك اليوسفي ، وقرر في نيابة قلعتها شاهين الأعور شاوي. وفي هذه السنة قتل علي عماد الدين النسيمي بحلب. وقد تكلمنا عليه في باب التراجم.

١٧٨

قصد قرا يوسف حلب

وفي سنة ٨٢١ قصد قرا يوسف التركماني ـ ملك بغداد ـ غزو قره بلك أحد أمراء التركمان في نواحي الموصل وما والاها ، فجفل منه قرا بلك. وجاء الخبر إلى حلب فجفل أهلها. ثم إن قرا بلك قطع الفرات فساق خلفه قرا يوسف جريدة (١) وكبسه على عينتاب فنهبها وأحرقها. ووصل الخبر بذلك إلى حلب فخاف أهلها خوفا شديدا وخرجوا جرائد على وجوههم النساء والأولاد مشاة حفاة. ومنهم من اعتصم في القلعة وسير نائب حلب إلى السلطان يخبره بذلك فتهيأ السلطان لمدافعة قرا يوسف والتوجه إلى الشام. وأما قرا يوسف فإنه وصل بنفسه إلى ناحية تل باشر ووصل قسم من عسكره إلى حلب ـ وكانت خالية ـ فتلقاهم الأمير يشبك في شرقي بابلّي وهو في نحو أربعين فارسا وهم في نحو الخمسمائة ، فنصر الله الأمير يشبك على عسكر قرا يوسف ورجع إلى حلب منصورا. ثم أرسل قرا يوسف إلى حلب رسولا يقول لهم : إني لم أرد حلب وإنما أطلب قرا بلك. فأخبره أهل حلب أن المذكور توجه من حلب منذ أيام ، وعندها أقلع عن حلب ورجع الحلبيون إلى أوطانهم.

مجيء الأمراء إلى حلب وقتل يشبك اليوسفي

وفي سنة ٨٢٣ دخل ألطنبغا القرشي الأمير يوسف حلب وصحبته عدة أمراء مظهرين أن السلطان جهزهم إليها لحفظ البلاد من قرا يوسف ، لأن السلطان بلغه أن قرا يوسف جمع من العساكر ما لا يحصى وقصد محاربة نائب حلب. فاستوحش منهم يشبك اليوسفي نائب حلب وتحفظ منهم ولم يجسروا عليه. ولما كان يوم الخميس ثاني عشر المحرم سنة ٨٢٤ ورد هجّان (٢) وبيده كتاب يخبر بوفاة السلطان الملك المؤيد شيخ. فاضطرب ألطنبغا وجماعته وتوجهوا إلى جهة مصر وخرجوا من حلب من باب المقام ، والأمير يشبك اليوسفي يراهم ولم يخرج لتوديعهم. ولما أبعدوا عن حلب قليلا ركب اليوسفي في أثرهم فلما بصروا به رجعوا عليه وتقاتلوا ساعة ، فانتصر الأمير ألطنبغا وانكسر اليوسفي وقتل

__________________

(١) الجريدة : الطائفة من الخيل لا رجّالة فيها.

(٢) الهجّان : راكب الجمل. والجمع «هجّانة». ثم أطلقت «الهجّانة» على شرطة البادية يركبون الإبل.

١٧٩

وجيء برأسه وعلق على باب القلعة. ومن العجيب أن السماط الذي أعده اليوسفي لغدائه صار غداء الأمير ألطنبغا وجماعته. واستقر ألطنبغا في نيابة حلب.

وفيها عزل ألطنبغا عن نيابة حلب ووليها إينال الجكمي. ثم في رجب منها وليها تغري ويردي. ثم في رابع ذي الحجة منها عزل تغري ويردي لأنه شاع عنه العصيان وولي نيابة حلب مكانه قان بك ، فتسلم حلب في المحرم سنة ٨٢٥ بعد أن حصل بينه بين تغري ويردي حرب شديدة وانكسر تغري ويردي وهرب. وفي سنة ٨٢٦ ولي حلب جارقطلو. وفي ربيع الآخر سنة ٨٣٠ ولي نيابة حلب قصرو ، وهو الذي احتفل بمشهد عبد الله الأنصاري الذي أسلفنا ذكره في الكلام على محلة الكلاسة في الجزء الثاني. وفي سنة ٨٣٣ كان الوباء بحلب والشام ومصر وما بينهما ، وتلف فيه خلق كثير وبلغت فيه الوفيات اليومية في مصر عشرة آلاف نسمة ، ثم صرفه الله بفضله ولطفه.

وفي سنة ٨٣٦ سار السلطان من الديار المصرية إلى الديار الشامية إلى حلب ودخلها في يوم مشهود ، وخلع على القاضي محب الدين بن الشحنة وأقرّه في قضائه. ثم توجه نحو البيرة ونزل على آمد وجرى بينه وبين «قرا بلك» وقعة عظيمة. ثم بلغ السلطان أن قرا بلك سار إلى جهة حلب ليأخذها على حين غفلة من السلطان فجهز له عسكرا وأدركوه بالقرب من الفرات فحصل بينهم وقعة عظيمة ورجع قرا بلك وعاد السلطان. وفي سنة ٨٣٧ في رجب ولي حلب قرقماش الشعباني حاجب الحجاب. وفي سنة ٨٣٩ ولي حلب إينال الجمكي ثانية ثم في رجبها وليها تغري ويرمش التركماني. وفي أواخر هذه السنة سار تغري ويرمش ومعه ثمانية مقدّمين (١) ـ وكان من جملتهم الأمير جقمق الذي صار بعد سلطانا ـ ساروا جميعا إلى طرد ابن دلغادر عن البلاد الحلبية ، فطردوه ثم عادوا إلى حلب. ثم عاد الأمراء إلى الديار المصرية حسب المرسوم السلطاني.

وفي سنة ٨٤٢ أظهر العصيان تغري ويرمش نائب حلب. وفي شعبانها ثار عليه أهل حلب ورجموه بالحجارة ونهبوه وأخرجوه. والسبب في ذلك أن تغري ويرمش حاصر القلعة واطلع على أن أهل حلب مائلون مع نائبها ، فنادى مناديه بنهب البلد فثاروا عليه. ثم في شوال سارت العساكر إلى حلب لقتال تغري ويرمش نائبها ، فلما وصلوها وجدوه

__________________

(١) في الأصل : «مقدّمون» فصحّحناها.

١٨٠