نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]

نهر الذّهب في تاريخ حلب - ج ٣

المؤلف:

كامل البالي الحلبي [ الغزي ]


المحقق: الدكتور شوقي شعث ومحمود فاخوري
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: منشورات دار القلم العربي ـ حلب
المطبعة: مطبعة الصباح
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٤٠

إجمال في الأتراك

نتكلم بهذا الإجمال على الأتراك لأن حلب دخلت تحت حكم الكثير من دولهم ، كما علمت مما أسلفناه ومما نثبته بعد ، فوجب أن نعرف شيئا من أحوالهم فنقول :

أجناس الترك ومساكنهم :

اتفقت كلمة أهل التاريخ على أن أجناس الترك أكثر أجناس العالم ، وأن مساكنهم بلاد الشرق. منهم أمة تقطن فيما بين البحر المتجمد إلى أصفهان يقال لأولهم (ياقوت) ولأخرهم (تركمان).

ومنهم أمم تقطن فيما بين سواحل (هوانغ هو) إلى أواسط روسيا في آسيا يقال لأولهم (يغور) ولأخرهم (تاتار) ثم الأتراك العثمانيون.

وأمم تقطن أواسط آسيا وشرقي أوروبا وكثير منهم من يعيش في ليتوانيا.

ويمكن أن تقسم هذه الأمم إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : شعوب شرقية ، أي سكان شرقي آسيا.

القسم الثاني : وسطية.

القسم الثالث : غربية.

فالشعوب الشرقية يقال لهم (ياقوت) و (التاي) (١) ويقال لهم (يغور) و (بولو) و (تارانج) و (سبيريا).

والشعوب الوسطية يقال لهم قيز غير وهم القازاق. وكلمة خير سز مأخوذة من هذه الكلمة و (أزبك) وهم من نسل أويغور المعروفين الآن في أوربا باسم (أوار) وهم

__________________

(١) كلمة التاي أصلها (آلاتايغ) وهي اسم لجبال آلاطاغ. ومعنى آلا باللغة التركية الساطع. ومعنى طاغ الجبل ، فيكون معنى هذه الكلمة الجبل الساطع. وسبب تسميته بهذا الاسم إشراقه ولمعانه لوجود الثلج عليه في أكثر الأوقات ، كما قاله صاحب كتاب تلفيق الأخبار. اه (المؤلف).

١٠١

يسكنون بلادا قريبة من ختن وكاشغر وتورقان وخاميل ، جنوبي جبال هملايا ، وهم يميلون إلى العثمانيين وإن كانوا منفكين عنهم. وكلمة «أويغور» اسم للصحراء المعروفة بآسيا العليا وتركستان هي المحاطة شرقا بالخطاي ـ وهي الصين الشمالي ـ وغربا بخوارزم وبحيرة آرال ، وشمالا بسبيريا ، وجنوبا بالتّبت وبخارى الكبرى ، ولغة أويغور من لغة الأتراك الأصلية وتسمى جغتاي نسبة إلى جغتاي بن جنكزخان.

ومن الشعوب الوسطية أيضا : تاتار نهر (وولغا) و (باشقير) أو (باشقرد) تحريف (بوزقير) وهي البرية البيضاء. ومن تلك الشعوب أيضا (قاراجاي) و (جوواش) و (جرمش) وهي شعوب تحكمها الروس ، نصارى ومسلمون ووثنيون. والشعوب الغربية يقال لهم تركمان و (أذربايجان) و (يوروك).

تركستان وتاتارستان :

في كتاب تلفيق الأخبار أن القبائل المعروفة باسم تركستان وتاتارستان يحدّها شرقا مملكة الصين ، وجنوبا ممالك الهند والفرس والروم والبحر الأسود ، وشمالا منتهى المعمور ، وغربا نهر الطونه ودنيستر وويستولة. على أن من كان من هذه القبائل في إقليم ما وراء النهر وفرغانة وكاشغر وتبت ، وفي حدود الفرس والروم وأوربا ، لم يزل يوجد فيهم طوائف رحالة نزالة ، خصوصا من كان منهم باقيا في إقليمهم الأصلي المعروف باسم دشت قبجق ، وهو المشهور بصحراء قزاق وقزغير ، فهم حتى الآن في حالة البادية يسكنون خركاهات ، أي خياما على هيئة قباب بيض مخروطة الشكل ، قطر المتوسط منها ثمانية أذرع وارتفاعها ما بين سبعة أو ستة أذرع ، مصنوعة من قضبان صلبة مشبكة ببعضها على طرز جميل مغشاة بلبد بيضاء متينة ملونة في كل قبة منها سرير مفروش بديع مزين بعظام الجمل على شكل جميل. وهي تقوّض في كل خمسة عشر يوما إلى ثلاثين يوما وتضرب في مروج يجاورها غدران ، فما هي إلا رياض مزدانة بأنواع الزهور صحيحة الهواء لا يحسّ فيها بقمل ولا ببرغوث ولا نمل ولا بعوض ولا ذباب ، كأنها نموذج من جنة الخلد تسمع في أشجارها تغريد الأطيار التي تسبح في غدرانها ، فالنوم فيها لذيذ واليقظة ألذ وأجمل.

وسكان هذا الإقليم يعانون تربية المواشي كالغنم والبقر والجمال والخيل. وأعز ماشية عندهم الخيل لأنهم يتغذّون من لحمانها وألبانها. وهم على جانب عظيم من السخاء وقرى

١٠٢

الضيوف والعطف على الفقراء. هذا مع تسلط الدولة الروسية عليهم واستئثارها بكثير من خيرات أراضيهم الخصبة دونهم ، وسلبها منهم حقوقهم المدنية وحريتهم القومية والوطنية والشخصية ، وتداخلها في معتقداتهم وعاداتهم وأخلاقهم بحيث ماتت هممهم وذهب نشاطهم وتساوت عندهم الحياة والممات.

كلمة تورك :

قال بعض الباحثين في طبقات الأمم : إن كلمة «تورك» مأخوذة من كلمة توكو وهي اسم أمم كانت في العصر السادس من الميلاد تسكن قرب (التاي) وحوالي أو يغور.

وإن هذه الأمة من نسل (هونغ نو) المذكورين في تواريخ الصين الذين كانوا قبل عصرين من الميلاد يشنون الغارات على ممالك الصين مدة أربعة قرون حتى اضطرت ملوك الصين إلى بناء السد الكبير. وإن أمة التوكو هذه أقامت في هذه المدة دولة عظيمة انقسمت بعد ذلك إلى قسمين : أحدهما التوكو ، ومنها تناسل جميع أمم الترك. والقسم الآخر : الأويغور ، ومنها تناسلت أمم المجر ، والفينوا وهم أهل فينلانديا.

لغة الأتراك :

لغة الأتراك ولغة المغول والفينوا : كل منهما متفرع من لغة التاتار الذين يقال لهم (أولو التاي) أي الخطاي ، أو يقال لهم (توران) أو (أويغور) وهي قريبة من لغة التركمان.

وكانت هي لغة السلاجقة والعثمانيين وقد صارت الآن هي اللغة التركية. على أن الشبه بين لغة العرق التركي وبين لغة العرق المغولي بعيد ، غير أن تشابه الأوصاف البدنية بينهما يدل على قربهما من بعضهما.

توران أو طوران :

الأتراك العثمانيون يقولون إنهم من أصل توراني ، نسبة إلى توران وهو ـ كما قال صاحب تلفيق الأخبار ، نقلا عن العمري ـ اسم مملكة الخواقين ، كانت بيد أفراسياب التركي ملك الترك ، وهي من نهر بلخ إلى مطلع الشمس على سمت الوسط فما أخذ عنه جنوبا كان بلاد الهند ، وما أخذ عنه شمالا كان بلاد القفجق ، والجراكسة والروس والماجار ومن جاورهم من طوائف الأمم المختلفة سكان الشمال. ويدخل في توران ممالك

١٠٣

كثيرة وأمم مختلفة منها غزنة والباميان والغور وما وراء النهر وهو جيحون نحو بخارى وسمرقند والخجند والخوقند وغير ذلك. وبلاد تركستان وأستروشنة وفرغانة وبلاد صاغون وسرام وبلاد الخطا والمايغ إلى قراقوم ، وهي قرية جنكزخان ، وفيها كان مولده ومنشؤه ، ثم ما وراء ذلك من بلاد الصين وصين الصين ، كل هذه الممالك العظيمة : سلاطينها وملوكها مسلمون (أي في عصر العمري ، المنقولة عنه هذه المقالة).

أصل الأتراك ودياناتهم :

الأتراك من نسل يافث ، وكانوا بادية رحّلا نزّلا يعيشون عيشة البدو ويأكلون الكلاب والفأر وما يجدونه من الصيد ، ويدينون بالوثنية المعروفة باسم (بت برست). ومنهم من يعبد النار ، وبعضهم يعبد إلها في الشمس ، ويسمون رهبانهم شامان. ومن هؤلاء بقية تقطن في شمال سبيريا والجزائر الملحقة بالمحيط الهادي. ورهبانهم يشدون في أوساطهم أذناب الخيل ويعلقون عليها الطبول أحيانا ليطردوا بها الشيطان على زعمهم ، ويدّعون علم السحر ويعتقدون الجن والملائكة ويسمون أكبرهم الشيطان.

متى بدأ الدين الإسلامي ينتشر في الأتراك

لم أظفر بقول صريح يبين التاريخ الذي بدأ فيه بزوغ شمس الإسلام على عالم الأمم التركية. وأنا لا أستبعد أن يكون بدأ نجم الإسلام يسطع في سماء الممالك التركية منذ سنة ٢٢ ه‍ في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وذلك حينما فتحت قزوين وزنجان عن يد البراء بن عازب ، وأذربيجان عن يد سماك بن خرشة الأنصاري ، والباب عن يد عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي. ثم حينما غزا عبد الرحمن هذا بلنجر وهي المدينة البيضاء وراء الباب في بلاد الخزر ـ وقيل هي بلدة حاجي طرخان وهو الصحيح ـ غزاها عبد الرحمن بأمر الخليفة عمر ولم يجسر أحد من أهلها على لقائه فهربوا منه واعتصموا في الجبال وقالوا : ما اجترأ علينا إلا ومعه الملائكة تمنعهم من الموت.

ثم تتابعت غزوات المسلمين على الخزر والترك فتذامروا سنة ٣٢ في خلافة عثمان رضي الله عنه وقالوا : كنا لا يقرن بنا أحد حتى جاءت هذه الأمة القليلة فصرنا لا نقوم لها. فقال بعضهم : إن هؤلاء لا يموتون وما أصيب منهم أحد ، فلهذا ظنوا أنهم لا يموتون.

١٠٤

فقال بعضهم : أفلا تجرّبون؟ فكمنوا لهم في الغياض فمرّ بالكمين نفر من الجند فرموهم منها فقتلوهم.

قال ابن الأثير في كتابه «الكامل» : ثم غزا عبد الرحمن نحو بلنجر ، وكان الترك قد اجتمعت مع الخزر فقاتلوا المسلمين قتالا شديدا وقتل عبد الرحمن ، فأخذ أهل بلنجر جسده وحملوه في تابوت فهم يستسقون به. وفي معجم البلدان أن الذي قتل في هذه الوقعة : سليمان بن ربيعة الباهلي لا عبد الرحمن ، فليحرّر. والقصة مذكورة في المعجم في الكلام على باب الأبواب.

وسطع نجم الإسلام في الأتراك أيضا حينما فتحت الجبال المحيطة بأرمينية ، وقد قيل في أهلها إنهم استحلوا الإسلام وعدله ، إذ من المستبعد عقلا أن يحترم أهل بلنجر جسد عبد الرحمن ـ أو سليمان على الرواية الأخرى ـ ويعتقدوا فيه البركة والكرامة ويضعوه في تابوت ويستسقوا به ، وأن يكون أهل الجبال المحيطة بأرمينية قد استحلوا الإسلام وعدله وألّا يكون الإسلام خامر قلوب بعض أناس منهم طابت سرائرهم وصفت قرائحهم ، وتنورت بصائرهم فميزوا الرشد من الغي واتضح لهم ما هم عليه من العمى وما عليه دين الإسلام من الهدى فاستهجنوا نحلتهم واستحسنوا ذلك الدين فقبلوه ودانوا به.

وأنا لا أدعي بأنهم في ذلك التاريخ ارتضوا هذا الدين ودخلوا فيه أفواجا ، وإنما أقول : إنه لا بد وأن يكون دخل فيه أفراد منهم فأخفوا إسلامهم حين لا يمكن إعلانه. على أن عدم تصريح المؤرخين ببدء انتشار الإسلام في الأمم التركية لا يستلزم عدم انتشاره فيهم في ذلك التاريخ ، وإلا للزم ألّا يكون الإسلام انتشر إذ ذاك في الفرس أيضا لأن المؤرخين لم يصرحوا ببدئه فيهم ولا في غيرهم ، كأنهم استغنوا عن ذلك لأن شيوع هذا الدين قديما في الأمم التي حاربها المسلمون كان معلوما بالضرورة ، إذ كانت الدعوة إلى التدين بالإسلام أو بذل الجزية تتقدم كل مناجزة ، فكانت الأمة التي يحاربها المسلمون لا تخلو عمن يرضى منها بالإسلام أو بالجزية فيقبل منه ويناجز الباقون من الأمة الذين لا يرضون بأحد الأمرين. ومما يستبعده العقل أيضا أن تكون الأمم التركية خالية عمن اتبع هدى الإسلام واتخذه دينا في جميع الحروب التي أدار رحاها عليهم قتيبة بن مسلم وابنه مسلم ويزيد بن المهلب ومسلم بن سعيد الكلابي ونصر بن سيّار وغيرهم من قادة المسلمين ، مع أنه لم يصرّح

١٠٥

أحد من المؤرخين بإسلام أحد من الأتراك في أثناء جميع تلك الحروب.

هذا وإن كثيرين من الأتراك كانوا ينشؤون على دين الإسلام وهم مماليك الخلفاء والوزراء وأهل الوجاهة من المسلمين ، وقد التفت إليهم الخلفاء العباسيون واعتنوا بشأنهم وأحلّوهم لديهم المنزلة العليا لما كانوا يرونه من شجاعتهم وصدقهم ، حتى إن الخليفة المعتصم ومن بعده من الخلفاء صار لا يثق ولا يعتمد إلا على الجندي التركي. وقد بنى الخلفاء للأتراك بلدة خصوصية وصاروا يزوجون رجالهم بنسائهم ويدرّون عليهم الإنعامات ، فنموا وكثروا ونالوا من الدولة العباسية الرتب العالية ، ونشأ منهم رجال أولو كفاءة واقتدار فتولّوا باستعدادهم الولايات والإقطاعات ، وشاع ذكرهم في الأقطار ، وغبطهم إخوانهم الأتراك في أصقاعهم وشاهدوا حسن أحوالهم ، وتحققوا بأن تدينهم بدين الإسلام هو الذي رفعهم إلى تلك المراتب العالية وبدّل ما كانوا عليه من الهمجية بالمدنية الحقّة والرقي إلى معارج الكمالات الإنسانية ، فاعتقدوا صحة الإسلام وأقبلوا عليه يدخلون فيه أفواجا. وفي سنة ٣٤٩ أسلم منهم دفعة واحدة نحو مائتي ألف خركاه (١) على ما ذكره ابن الأثير في كتابه الكامل في حوادث السنة المذكورة ، وهو عدد عظيم لا شك. ولا ريب أنه لم يدخل (٢) في الإسلام إلا اقتفاء لآثار غيره من قومه.

وذكر في تاريخ الدولة العثمانية ـ الذي ترجمه من النمسوية محمد عطاء الله أفندي أحد أفاضل الأتراك العثمانيين ـ أن سالور من أعقاب طاغ خان دان بدين الإسلام مع ألفي بيت من قومه بعد سنة ٣٥٠ ه‍ وأن سالور تسمى من ذلك التاريخ بجناق خان ، أو قره خان ، وسمى من تبعه على الإسلام (تركمان).

وقد يؤاخذ محمد عطا الله أفندي بعدم ذكره مائتي ألف بيت التي ذكر إسلامها ابن الأثير ، واقتصاره على ذكر إسلام ألفي بيت ، إلا أن يكون غلط في بيان العدد وظنه ألفي بيت. وهذا الاحتمال يصح فيما لو كان تاريخه الذي بينه موافقا للتاريخ الذي بينه ابن الأثير وليس الأمر كذلك كما علمت. كما أن ابن الأثير قد قصّر بالإفصاح عن اسم زعيم تلك الطوائف العظيمة التي أسلمت في التاريخ المذكور وعن بيان اسمها وسبب إسلامها. وذكر

__________________

(١) الخركاه : الخيمة الكبيرة. وقد سبق ذكرها. وقد تطلق على البيت ، كما سيأتي بعد عدة أسطر.

(٢) الفاعل يعود إلى قوله «عدد عظيم».

١٠٦

ابن الأثير في كتابه المذكور في حوادث سنة ٣٥١ أن طائفة من الأتراك نزلت في هذه السنة على بلاد الخزر فانتصر الخزر بأهل خوارزم فلم ينصروهم وقالوا لهم أنتم كفار فإن أسلمتم نصرناكم. فأسلموا إلا ملكهم ، فنصرهم الخوارزميون وأزالوا الأتراك عنهم ثم أسلم ملكهم بعد ذلك.

قال محمد عطاء الله أفندي ما معناه : إن كلمة «تركمان» مركبة من «ترك إيمان» أو من «ترك مان» أي إنسان ترك ، لأن «مان» معناه الإنسان ، ونظيره : قره مان وششمان ، أي (١) إنسان أسود وإنسان سمين.

ثم إن هؤلاء التركمان نزح بعضهم إلى غربي أرمنستان ، والبعض الآخر إلى السواحل الشرقية من بحر خزر ، وانقسموا إلى تركمان غربيين وإلى تركمان شرقيين ، والمواضع التي أقاموا فيها تسمى اليوم بلاد التركمان. وقد خلف جناق خان ابنه موسى خان فنشأ على الإسلام واجتهد في رقيّ قومه وجمع إليه العلماء وأنشأ الجوامع والتكايا والمكاتب. اه كلام محمد عطاء الله أفندي.

قلت : ثم خلف موسى خان ابن عمه شهاب الدولة هارون بغرا خان بن سليمان إيلك خان ، وكان خيّرا دينا يحب أن يكتب عنه : مولى رسول الله. وهو الذي استولى على بخارى من يد السلالة السامانية. وفي سنة ٤٣٥ حارب إيلك خان الأتراك الباقين على الوثنية فأسلموا وضحّوا يوم عيد النحر بعشرين ألف رأس غنم ، وكانوا عشرة آلاف خركاه وكانوا قبل الإسلام يطوفون البلاد بنواحي بلاد ساغون وكاشغر ويفسدون في الأرض ، ولا يأوون المدن لخوفهم. فلما أسلموا أمنوا على أنفسهم فتفرقوا في البلاد ودخلوا مدنها.

قال ابن الشحنة ما ملخصه : وفي سنة ٦٩٥ قدمت الفورانة إلى بلاد المسلمين هاربين من قازان بن أرغون بن بغا بن هلاكو ، وكانوا نحو عشرة آلاف إنسان ، فأنزلهم السلطان كتبغا بالساحل وأحسن إليهم لأنهم جاؤوا مسلمين وأعطاهم الإقطاعات. وسيأتي لنا أن سلجوق أسلم هو وقومه وأن أكثر أولاد جنكز خان وأحفاده أسلموا متتابعين وأسلم معهم

__________________

(١) في الأصل : «أن» فصوّبناها إلى «أي».

١٠٧

أكثر شعوبهم. وسنذكر ذلك مفصلا في الفصل الآني الذي عقدناه في الكلام على جنكز خان.

والخلاصة أن الأتراك قد نشطوا إلى الإسلام منذ أوائل القرن الثاني إلى أواخر القرن السابع من الهجرة فدخلوا فيه أفواجا ، ولم يبق منهم من لم يسلم سوى التاتار والخطاي في نواحي الصين ، وسوى أمة ياقوت وجوواش المتقدم ذكرهما.

١٠٨

السلاجقة والعثمانيون من أصل واحد

السلاجقة والعثمانيون ينتسبون إلى أب واحد وهو «أوغوز خان بن قره خاه». وهو أول من وضع للأتراك قوانين واعتنى بمدينتهم. ومن جملة آثاره الهلال الذي هو شعار الدولة العثمانية ، وكان العلم الذي يركز فيه الهلال يقال له «ماهجه توغ» أي العلم الهلالي ، والعرب يسمونه «طوق». وكان مرفوعا على أعالي دار الملك ، في مدينة سراي ، هلال من ذهب زنته قنطاران بالمصري. وكان أوغوز خان معاصرا لخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام ، وكان يدين بالوثنية ثم دان بدين إبراهيم وخرج على أبيه وحاربه مدة أربعين سنة. ثم ترك مقر أبيه «قره قوم» وقيل «أور» وسار إلى الجنوب واستقر في مدينة (ياسي) أشهر مدن تركستان في ذلك الزمان ، وهي البلدة التي ينسب إليها المرشد الشيخ أحمد الياسوي النقشبندي.

ثم إن أوغز خان عظم شأنه وامتدت فتوحاته من سيروم إلى بخارى فقسم مملكته بين أولاده الستة ، وهم كون خان ، وكوك خان ، وآي خان ، ويلديز خان ، وطاغ خان ، ودكز خان. وخرج أولاده مرة للصيد على نيّة أن يصطادوا شيئا يتفاءلون به على مستقبلهم ، فظفروا بقوس وثلاثة أسهم فقدّموها إلى أبيهم ، فأعطى الأسهم كوك خان ودكز خان ، وأعطى القوس أولاده الآخرين ، فأخذوه وكسروه ليقتسموه فيما بينهم ، فسمى الأوّلين (أوجوق) أي الأسهم الثلاثة ، وسمى الآخرين (بوزيجيلر) أي المخربين ، وأعطى ميسرة جيشه الأولين ، وميمنته الآخرين.

وبعد وفاته اقتسم أولاده مملكته فيما بينهم : فأخذ أصحاب الميسرة عشائر الأتراك الشرقيين ، وأصحاب الميمنة عشائر الأتراك الغربيين. ويقال إن كل واحد من أولاده المذكورين ولد له أربعة أولاد وصار كل واحد منهم أبا عشيرة. فانقسم الأوغوزيون إلى أربع وعشرين عشيرة. ثم إن أمراء الميمنة المقيمين قبلا في تركستان استولوا على ما بين سيحون وجيحون في الغرب ، وتقدموا إلى داخل المضايق حتى بلغوا نهر الطونة. وذكر

١٠٩

مؤرخو الأتراك أن الملوك من الأغوزيين والسلاجقة والعثمانيين منسوبون إلى خانات الميمنة : الأغوزيون من أعقاب طاغ خان ، والسلاجقة من أعقاب دكز خان ، والعثمانيون من أولاد كوك خان. وكان الأغوزيون قبل الإسلام يحاربون الأكاسرة ، وبعده صاروا يحاربون خلفاء المسلمين إلى أن دانوا بدين الإسلام.

السلاجقة

الدولة السلجوقية تنسب إلى سلجوق بن تقاق ، أي القوس الجديد. وكان تقاق شهما عاقلا ، وكان مقدّم الأتراك الأوغوز عند ملك الترك بيغو ، وقد أراد الملك أن يسير إلى بلاد الإسلام ليوقع بها فنهاه تقاق ووبخه وشج رأسه ثم اصطلح معه. وولد له سلجوق ، ولما كبر قدمه ملك الترك لنجابته ، ثم سعت به امرأة الملك إلى زوجها فخافه سلجوق وسار بجماعته ومن أطاعه من الجند من ديار الحرب إلى دار الإسلام فأسلموا جميعا واستمروا على غزو كفار الترك. وتوفي سلجوق عن ١٠٧ سنين من عمره وترك من الأولاد : أرسلان وميكائيل وموسى. ومن هؤلاء الأولاد وأعقابهم نشأت الدولة السلجوقية التي عم حكمها المملكة العباسية سوى قليل منها وامتد حكمها في العالم الإسلامي من حدود الصين إلى آخر حدود الشام مدة ٢٧٠ سنة وذلك من سنة ٤١٩ إلى سنة ٦٩٩ وقد تفرع منها فروع ، بعضها من أصل آل سلجوق : وهي الفروع التي حكمت في كرمان وحلب ودمشق وبقية بلاد الشام والعراق وكردستان وآسيا الصغرى المعروفة بالأناضول وهي أطول الفروع عمرا. وبعضها متفرع عنها من مماليكها ووزرائها وهي عشرون فرعا أشهرها : الفرع الزنكي الذي منه نور الدين محمود زنكي ، والأرتقيّة حكام ماردين وديار بكر ، والخوارزمية حكام خوارزم. وقد امتد حكم هذا الفرع من سنة ٤٩٨ إلى ٧٠٣ ثم دخلت في حوزة العثمانيين وغيرهم.

جنكز خان

قال في كتاب تلفيق الأخبار وغيره ما خلاصته : لما مات كون خان بن أغوز خان خلفه أخوه آي خان. ثم خلف هذا يلدز خان أحد أحفاد أوغوز خان ، ثم ولده نيكز خان ، ثم ولده منكلي خان. ولما أسن هذا فوض أمر السلطنة إلى ولده إيل خان. جميع

١١٠

هذه الملوك تعد من ملوك المغل. وإن إيل خان هذا هو الذي تحارب مع ملوك التاتار وانجلى الحرب بينهم عن قتله وتشتت شمل أمة المغل وأسر التاتار ولده قيان وولدا آخر لأخي إيل خان اسمه نكوز ، فهربا من الأسر مع زوجتهما ولجأ إلى الجبال ودخلا إليها من شعب (١) ضيق لا يمكن أن يسلكه سوى إنسان واحد ، وداخل هذا الشعب فضاء واسع فيه مياه غزيرة ومروج واسعة وأشجار ملتفة. فأقاما هناك وتناسلا وكثرت أعقابهما حتى ضاق بهم ذلك الفضاء. وقد مضى عليهم مدة أربعمائة سنة وكانوا يتناقلون عن أسلافهم أن وراء هذا الشّعب ممالك واسعة كانت وطنهم ، فعمدوا إلى مكان من الجبل فيه معدن الحديد والنحاس فجمعوا فيه الأحطاب وأضرموا فيها النار حتى ذاب ما فيها من الحديد والنحاس وانفتح الممر (وهذا هو السدّ على رأي بعضهم) فخرجوا من هذا الممر كالجراد المنتشر إلى فضاء واسع وملكهم يومئذ (برته جينه) من أعظم ملوك الأتراك المغل قوة وبأسا فتحارب مع التاتار هو وأعقابه من بعده أدهارا طويلة إلى أن كانت الغلبة للمغل على التاتار.

ولما آلت سلطنة المغل إلى يولدز خان بن منكلي خان بن تميرتاش خان ـ من نسل قيان المأسور الهارب ابن إيل خان ـ كان له ولدان فماتا وخلّف أحدهما ولدا اسمه (ديون بيان) وترك الآخر بنتا اسمها «ألان قوا» فتزوج ديون بيان ابنة عمه ألان قوا وتسلطن على المغل بعد جده. ثم مات ديون بيان فخطب زوجته كثيرون من كبراء قومها فلم تجبهم. فزعم مؤرخو المغل بأن ألان قوا بينما كانت ذات ليلة نائمة مع طائفة من النساء إذ ظهر لها نور ساطع في خلاله شخص أبيض اللون مشرب بصفرة فلامسها ـ وقيل بل رأت النور فقط قد دخل فمها أو جيبها ـ فحملت منه وولدت ثلاثة أولاد ، أحدهم بوزنجر خان وهو الجد الأعلى لجنكز خان وجميع خواقين التاتار والمغل. ويقال لذرية هؤلاء الأولاد الثلاثة (نيرون) أي الأصيل. والقازاق يسمون ذرية جنكز خان (آق سوياك) أي العظم الأبيض. ومن نسل بوزنجر خان بيسوكا خان والد جنكز خان وهو أكبر أولاده.

وكانت ولادة جنكز خان في غرة محرّم سنة ٥٤٩ والطالع في الميزان والسبعة السيارة كلها مجتمعة في البروج المذكورة. ولما ولد كان كفّه مملوءا من الدم ، فقال العراف : سيكون سفّاكا للدماء ، ويملك أكثر الربع المسكون. وسماه والده تموجين. ولما بلغ من

__________________

(١) الشعب ، بكسر الشين : الطريق في الجبل.

١١١

العمر ثلاث عشرة سنة مات أبوه بيسكا ، فتسلطن تموجين بعده إلا أن قبائل المغل استضعفته لصغر سنه فتفرقوا عنه ، وقامت الفتن فيما بينهم. وتقلبت الأيام على تموجين وجرّعته مرارتها عدة مرات ثم ساعدته الأقدار وتغلب على من ناوأه من الأعداء والأغيار ، وكسر أكبر أعدائه في ذلك الزمان وهو علي أونك خان ، أكبر خواقين تركستان. ومن ذلك الوقت تلقب بلقب جنكز خان ومعناه ملك الملوك ، وذلك في سنة ٥٩٩ وكان بلغ من العمر ٤٩ سنة وقد غلب على ممالك الخطا وألتون خان وكان خوارزم شاه محمد خان أوقع بهم وأضعفهم.

وغلب جنكز خان على الصين واستولت هيبته على القلوب وانتشر صيته في العالم ، وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب وليس له قانون ولا كتاب شرعي ، فأمر وزراءه وخواصّه أن يضعوا له خطا وكتابا قانونيا سماه «اليسق» ، من أحكامه : صلب السارق وخنق الزاني والاكتفاء بشهادة الواحد عليه ، وأن الحقّ لمن سبق بالشكوى إلى الحكومة صادقا كان أم كاذبا ، واستعباد الأحرار ، وتوارث الفلاح ، وتوريث نكاح الزوجة لأقارب الزوج ، وعدم العدّة والاقتصار على زوجات معدودات ، والعمل بقول الجواري والصبيان ، وأخذ الجار بالجار ، ومعاقبة البريء بالمجرم ، ومنع عفو الحاكم وإن عفا المحكوم له ، وغير ذلك.

أسباب خروجه إلى الممالك الإسلامية :

وأما أسباب خروجه إلى الممالك الإسلامية فهي أن السلطان محمد خوارزم شاه خالف الخليفة الناصر لدين الله وحاربه. وأراد الخليفة أن ينتقم منه فأرسل إلى جنكز خان يحرّضه على خوارزم شاه ، غير أن جنكز خان لم يجب الخليفة لطلبه ، لعهد سابق بينه وبين خوارزم شاه لم يرد نقضه ، وذلك أنه لما ضخم ملكه واستولت على الأرض هيبته أراد أن يمضي باقي عمره بالراحة والدعة وأن يسالم من حوله من الملوك ويلتفت إلى تعمير ملكه ورفاهية رعيته. وكان يحب المسلمين ويعظم شعائر الدين الإسلامي ، فأرسل في حدود سنة ٦١٢ رسلا إلى خوارزمشاه وهم محمود بلواج الخوارزمي ، وعلي خواجه البخاري ، ويوسف الانزاري ، فعقدوا مع خوارزمشاه معاهدة وأسسوا بين المملكتين مودة ومحبة ، ثم عادوا إلى جنكز خان فسرّ بما فعلوا. وبسبب ذلك لم يجب الخليفة على طلبه.

وبعد ثلاث سنوات على هذه المعاهدة قدم جماعة من بلاد جنكز خان إلى أنزار (بلدة

١١٢

بثغر بلاد خوارزمشاه فيها وال من قبله اسمه إينالجق ، له قرابة من خوارزمشاه ثم غيّر اسمه وسماه غاير خان) فلما وصل التجار الجنكيزيّون إلى هذه البلدة وهم زهاء أربعمائة رجل ، معهم الأموال الكثيرة ، خاطب بعضهم غاير خان باسمه الأول لأنه لم يعرف أن اسمه قد تبدل ، فغضب عليه غاير خان وعلى من معه وطمع فيما لديهم من الأموال ، فأرسل إلى خوارزمشاه يقول له : ورد على ثغرنا من أطراف مملكة جنكز خان جواسيس بزيّ التجار. فأمره بقتلهم ، فقتلهم جميعا وكانوا مسلمين ولم يسلم منهم سوى واحد عاد إلى جنكز خان وأخبره بالحال ، فأرسل جنكز خان يطلب من خوارزمشاه غاير خان ليقتصّ منه فقتل خوارزمشاه الرسول.

ولما علم بذلك جنكز اشتد غضبه وعزم على قصد خوارزمشاه فخرج أولا إلى فضاء واسع وصعد على تلّ وكشف رأسه ووضع خده على التراب وتضرع إلى الله تعالى وطلب منه النصر على خوارزمشاه. فعل ذلك مدة ثلاثة أيام حتى سمع صوت هاتف يبشره بنيل مراده. وهكذا كان دأبه كلما عزم على أمر يهمه. ولهذا يقول بعضهم إن جنكز كان مقرا بوجود الباري تعالى. ثم إن جنكز خان مشى على بلاد الإسلام واستولى على جنديسابور وأندر كان وبخارى وغيرها من بلاد فارس وتركستان ، وأزال مملكة خوارزمشاه وشتّت شمله ، فمات شرّ ميتة ، وقتل وسبى وعظمت بليّته على الإسلام حتى قال بعضهم : ما دهي الإسلام بداهية أعظم منها. وذكر بعضهم أن جملة من قتل جنكز خان وولده هولاكو من المسلمين سبعة عشر ألف ألف نسمة.

ولما مات جنكز خان قام بعده حفيده هولاكو بن تولي خان بن جنكز خان واستولى على العراقين ، وقوّض (١) الخلافة العباسية ببغداد ، وملك الموصل وديار بكر والجزيرة والشام وغير ذلك من البلاد.

وذكر بعضهم لقيام جنكز خان على بلاد الإسلام ، وتسلطه على خوارزمشاه وبلاده ، سببا آخر روحانيا. وهو أن المولى بهاء الدين البلخي ـ والد المولى جلال الدين الرومي صاحب كتاب المثنوي (٢) ـ كان ابن أخت السلطان خوارزمشاه ، وكان مريدوه وأتباعه

__________________

(١) في الأصل : «وقرض» خطأ مطبعي.

(٢) في الأصل : «المثوى» والصواب ما أثبت.

١١٣

في طريقته لا يحصون كثرة ، وكان فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير ينكر على البهاء طريقته ومسلكه. فقال الفخر يوما لخوارزمشاه : إن لك اسم السلطنة ولابن أختك معناها. فاغتاظ خوارزمشاه من هذا الكلام وأرسل يقول لابن أخته : ليتفضل علينا مولانا باستلام الملك منا والجلوس مكاننا. ففهم البهاء المقصود من كلامه وقال للرسول : قل لمن أرسلك : نحن نذهب ، ولكن يجيء مكاننا قوم آخرون ولا يتركون خوارزمشاه أيضا. ثم خرج البهاء بأهله وعياله وكثير من أتباعه إلى بلاد الروم (برّ الأنضول) وتوطن في قونية ، وأكرمه سلطانها علاء الدين السلجوقي. ثم كان ما كان من قيام جنكز خان على خوارزمشاه واستيلائه على بلاده بسبب انكسار قلب بهاء الدين وتأثره من خاله.

وهناك سبب آخر روحاني يذكرونه لمصيبة خوارزمشاه بحادثة جنكز خان : وهو أن تركان خاتون ـ أم السلطان علاء الدين محمد خوارزمشاه ـ كانت تحضر مجلس وعظ الشيخ مجد الدين البغدادي ، وكان له أضداد يحسدونه على ذلك فأخبروا خوارزمشاه وهو سكران بأن والدته تزوجت بالشيخ مجد الدين فقال في الحال : ارموه في البحر ، فرموه في جيحون. فلما بلغ خبره الشيخ نجم الدين البكري دعا على خوارزمشاه وخر ساجدا ثم رفع رأسه وحمد الله وقال : طلبت من الله دية ولدي مجد الدين فأعطاني ملك خوارزمشاه. ولما سمع بذلك خوارزمشاه ـ وكان قد صحا من سكره ـ ندم على ما فعل وسار حافيا مكشوف الرأس حاملا فوقه طستا مملوءا ذهبا ، وقابل الشيخ في المسجد ، ووقف في صفّ النعال وقال للشيخ : هذا الذهب دية مجد الدين وهذا السيف ورأسي إن أردت القصاص. فقال الشيخ نجم الدين : كان ذلك في الكتاب مسطورا ، دية مجد الدين جميع ملكك ويذهب فيه رأسك ورؤوس كثيرين من الأكابر والأعيان ونحن على إثرك فرجع خوارزمشاه مغتما مكسوف البال. ثم كان من أمر جنكز خان ما كان.

هذا وإن جنكز خان ـ بعدما فعله ببلاد الإسلام من القتل والتخريب مدة سبع سنين ـ عاد إلى بلاده فمرّ في طريقه على بخارى وطلب من صدر جهان قاضي القضاة وشيخ الإسلام أن يرسل له عالما بشريعة المسلمين ، فأرسل إليه اثنين من العلماء فسألهما جنكز خان عن حقيقة دين الإسلام فذكرا له الشهادتين والصلاة والصوم والحج والزكاة ، فاستحسن الجميع وصدّق به ، إلا أنه لما ذكرت له الكعبة باسم «بيت الله» قال : إن جميع الدنيا بيت الله وبيته لا يختص بمكان. ولما رجع الاثنان من عنده إلى شيخ الإسلام

١١٤

أخبراه بما كان من جنكز خان فحكم بإسلامه.

ثم مات جنكز خان عن ذرية كثيرة تبلغ أربعين ولدا ما بين ذكر وأنثى ، إلا أن المعتبر من أولاده أربعة فقط وهم جوجى ـ والعرب يقولوه له طوشى أو دوشى ـ وجغتاي ، وتولى ، وأو كداي. وقبل وفاته قسم ملكه بينهم فأعطى «جوجى» دشت قفجق بأسرها وبلاد داغستان وخوارزم وبلغار وقسقسين والروس وسواحل البحر المحيط الغربي وما يؤمل أخذه إلى منتهى المعمور. وأعطى «جغطاي» بلاد إيغور وما وراء النهر بأسرها. وأعطى «تولى» خراسان وما يؤمل أخذه من ديار بكر والعراقين إلى منتهى حوافر خيولهم. وأعطى «أو كداي» بلاده الأصلية والخطا والصين إلى منتهى المعمور من طرف الشرق.

إسلام أولاد جنكز خان :

أول من أسلم من أولاد جغطاي بن جنكز خان : مبارك شاه بن قرا هلاكو ، ثم أسلم بعده براق خان ، ثم طرما شيرين خان. وأسلم بعده جميع أولاد جغطاي وسائر طوائف المغل والتاتار الغربيين بما وراء النهر. ثم أسلم توغلق تمير خان ببلاد كاشغر والمغل ، وأسلم معه مائة وستون ألفا من المغل.

وفي سنة ٦٩٤ أسلم محمود غازان خان وأسلم معه جميع قومه وسبعون ألفا وقيل أربعمائة ألف من أكابر المغل وأعيان التاتار. وكان جوجى مات قبل أبيه جنكز خان وآل ملكه إلى ولده أبي المعالي ناصر الدين السلطان بركه خان ابن جوجى بن جنكز خان وذلك في سنة ٦٥٢.

وكان بركه خان اختار الإسلام دينا. وسبب إسلامه أن سيف الدين الباخرزي كان مقيما في بخارى فبعث إلى بركه خان يدعوه إلى الإسلام ، فأسلم. وبعث إليه كتابه بإطلاق يده في سائر أعماله بما شاء ، فرد عليه كتابه ولم يقبله. فأعمل بركه الرحلة إلى لقائه فلم يأذن له في الدخول عليه حتى تطارح عليه أصحابه وسهّلوا الإذن لبركه فدخل عليه وجدّد إسلامه ، وعاهد الشيخ على إظهاره فأنجز بركه وعده وحمل سائر قومه على الإسلام فأسلموا جميعا ، واتخذ المساجد والمدارس في جميع بلاده ، وقرّب العلماء والفقهاء ووصلهم ، وكان يحملهم إليه من أقطار العالم الإسلامي ويبالغ بالإحسان إليهم.

١١٥

وروى غير واحد أن بركه خان هو أول من دخل في دين الإسلام من أعقاب جنكز خان ، وأنه هو الذي أتم بناء بلدة سراي وكان أخوه باتو بدأ ببنائها وهي عاصمة دشت قفجق ، ويقال عنها إنها هي البلدة المعروفة الآن باسم أردهان ـ المحرّفة عن أوردي خان ـ وكانت من أعظم المدن وضعا وأكثرها للخلق جمعا ، مبنية على شط من نهر أتل (وولغا) الذي لا نظير له في العظم وعذوبة الماء ، وهو قدر النيل ثلاث مرات وأكثر.

كان عند بركه خان وعند أوز بك خان ـ وجان بك بعده ـ العلامة فخر الدين الرازي ، والشيخ سعد الدين التفتازاني ، والشيخ جلال الدين شارح الحاجبية ، وغيرهم من الفضلاء الحنفية والشافعية. وكانت بلدة سراي مجمع العلماء والأدباء. وكان انتهاء بنائها سنة ٦٥٥ وابتداء خرابها عن يد تيمورلنك سنة ٧٩٨.

ومن أعظم حسنات بركه خان وأكبر أياديه على الإسلام أنه قام على ابن عمه هولاكو الكافر الطاغية ينتقم منه مما فعله بالمسلمين والاستيلاء على بغداد وقتله الخليفة. فإن بركه خان أشهر عليه حربا طاحنة قصد إشغاله بها عن حرب المسلمين في البلاد الشامية فأهلك من جنود هولاكو مئات الألوف ، وكسره كسرة شنيعة كانت هي السبب الحقيقي في انكسار جيوش هلاكو أيضا في الوقعة الشهيرة التي كانت بينهم وبين السلطان الملك الظاهر ببيرس سلطان مصر على عين جالوت ، ولو لا هذه الكسرة لكان هولاكو استولى على سائر بلاد الشام ومصر وغيرها وأباد العالم الإسلامي عن آخره.

وكان بين بركه خان والسلطان الملك الظاهر مكاتبات عديدة ومودة صادقة أكيدة. ومن جملة ما وصل منه إلى الملك الظاهر كتاب مسهب يذكر فيه من أسلم من قبائل التاتار وعشائرهم وعظمائهم وذراريهم وحشمهم وجيوشهم الجرّارة. ثم يقول : هؤلاء أسلموا بأسرهم وقاموا بالفرائض والسنن والزكاة والغزو والجهاد في سبيل الله ، وقالوا : الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله. وقرأنا : «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون» الآية. فليعلم السلطان أني حاربت هولاكو الذي هو من لحمي ودمي لإعلاء كلمة الله العليا تعصبا لدين الإسلام لأنه باغ والباغي كافر بالله ورسوله إلخ ...

وتاريخ هذا الكتاب سنة ٦٦١ ومات هولاكو مقهورا من بركه خان في ربيع الأول

١١٦

سنة ٦٦٣ وكان قد ارتدع قليلا عن أذيّة المسلمين وخفض من عداوتهم وقد خامر قلبه شيء من أحوال الدين الإسلامي وشاهد من جماعة الرفاعية بعض الكرامات ، فأعطاهم ولده نكودار للتربية فأسلم على يدهم وتسمى أحمد وصار سلطانا بعد أخيه أبغا ، وكتب إلى السلطان الملك الظاهر البندقداري كتابا مسهبا أخبره فيه بإسلامه وبغير ذلك من المسائل السياسية والدينية ، وأجابه عنه السلطان بكتاب مسهب أيضا أثبتهما ابن العبري في كتابه مختصر الدول فليراجعه من أحب الاطلاع عليه. اه.

وكانت وفاة بركه خان سنة ٦٦٥ وجميع سلسلة ملوك المغل الذين جلسوا على سرير السلطنة كانوا مسلمين إلا أنهم لم يكونوا مثل بركه خان في التعصب للدين والحرص على أحكامه ، إلى أن جلس على كرسي سلطنة دشت قفجق السلطان الملك غياث الدين محمد أوز بك خان ، وهو من أعقاب جوجى بن جنكز خان ، وكان شابا حسن الصورة حسن الإسلام شجاعا قتل عددا عظيما من الأمراء والأعيان أهل البطش والاستبداد ، وقتل كثيرا من الايغورية وهم البخشية ، أي الكهنة والسحرة ، وأظهر كلمة الإسلام ، وكان جلوسه على سرير على سرير الملك في أواخر رمضان سنة ٧١٢ وكان يعد من الملوك السبعة الذين هم كبراء ملوك الدنيا وعظماؤهم ، وكان عظيم المملكة شديد القوة قاهرا أهل القسطنطينية العظمى مجتهدا في جهادهم وبلاده متسعة والمؤرخون يطلقون عليها مملكة القريم وليست هي القريم وحدها وإنما من جملتها القريم والكفا والمجر وأوزاق وخوارزم وحاصرته سراي.

وجميع من كان في جواره من ملوك طوائف الجركس والروس واللاز كانوا كالرعايا له وكثيرا ما كان يسبي نساءهم وذراريهم ويحملها تجار الرقيق إلى أقطار الأرض ويبيعونها. وكان بينه وبين ملوك مصر مراسلات حبّية ، والرسل بينهما تتردد دائما ، وهداياهما إلى بعضهما في تواصل مستمر. وكان ملوك الروس يقدمون إلى أزبك خان عبوديتهم ويهابونه ولا يخرجون عن أوامره ، وكان هو الذي ينصب عليهم الكيناز ويعطيه منشور تملكه ، ومتى أراد عزله عزله ونصب غيره وكان الكيناز عند الروس كالإمبراطور. وكان أزبك خان مع هذه السطوة يرفق بالروس ويحترم كهنتهم وقد ظل الروس تحت سلطة التاتار ملوك الدشت والقريم مدة ١٥٠ سنة إلى أن وقع الخلف بينهم ودخل بلادهم تيمورلنك واستولى على قسم عظيم منها وتفرقت كلمة ملوكهم واشتغلوا بقتال بعضهم ، فاغتنم الروس هذه الفرصة وقاموا نحو بلاد الدشت فطمت بحار غلبتهم عليها وكادوا يعمّونها بالاستيلاء لو لا

١١٧

أن بزغت في ذلك الوقت شمس الدولة العثمانية على العالم الإسلامي فوقفت تيار غلبة الروس عليه من جهة القفقاس ، واستولت على كثير من بلاد خانات القريم المسلمين الذين هم من بقايا أعقاب جنكز خان.

ومن الملوك الجنكزية أو كداي خاقان بن جنكز خان جلس على سرير السلطنة في القريم سنة ٦٢٦ وكان ملكا عادلا محبا للمسلمين ، ولكنه كان كآبائه غير متدين. وفي أيام سلطنته وسلطنة من بعده من أولاد جنكز خان ـ مثل منكو خان وقبلاي خاقان ـ انتشر الإسلام في ممالك الصين قاطبة ، ودامت قطعة الصين في تصرفهم إلى سنة ٧٦٩ والجوامع الموجودة الآن في بيكين وغيرها من دواخل الصين بنيت في عصر أولئك الخواقين (١) وطائفة «دونكان» المسلمين من أهل الصين هم من الذين أسلموا في تلك المدة على أن معظم أهل الأصقاع التركية في القريم وغيرها ما زالوا من ذرية جنكز خان وأتباع أولاده وأعقابه وهم القزاق والتتار وبقية أصناف الترك الذين لم يزالوا على جانب عظيم من التمسك بالدين رغما عما تنصبه لهم روسيا من الغوائل والعراقل.

وخلاصة الكلام أن الإسلام بواسطة الخواقين الجنكزية قد امتد من الصين إلى بلاد الغرب وأنهم قد خدموا الإسلام خدمات يحق لها كل مدح وثناء ويجدر بها أن تكون كفارة عما صدر من جدهم الأعلى جنكز خان وهلاكو ابن ابنه في حق المسلمين مما هو محتم مقدور ، وفي الكتاب محرر مسطور.

شجاعة الأتراك

اتفقت كلمة الباحثين في طبقات الأمم ـ وما يخص كل أمة من النعوت والطباع ـ على أن الأتراك موصوفون من قديم الزمان بالشجاعة والبطولة والفروسية ومعاناة الحروب ومعالجة آلاتها والصبر على ركوب الخيل والحذق بالرمي ، وغير ذلك من الأمور التي يرافقها الظفر والغلبة على العدو مما لا يوجد إلا في الجندي التركي.

ونحن نأتي هنا بخلاصة في ذلك من رسالة للجاحظ ، وكتاب تلفيق الأخبار ، وغيرهما فنقول :

__________________

(١) الخواقين : مفردها خاقان ، وهو السلطان أو الملك عندهم.

١١٨

من صفات الجندي التركي أنه يدور حول العسكر فوق الخيول ويحيط بعدوّه بأسرع ما يكون ويشتت شمله ، لا يعرف الفرار فهو في الحرب طالب غير مطلوب. لا يغتر بعظم جثة الفرس بل هو ينتقي خيولا مدربة لا يسبقها غيرها يستنتجها عنده ويركبها وهي فلوّ (١) ويسميها بأسماء يناديها بها فتتبعه.

كل واحد من فرسان الأتراك فارس وسائس وبيطار وحدّاد وراع. وكل واحد منهم ماهر في هذه الصنائع لا يحتاج فيها إلى غيره. إذا اجتمعت قوة الجندي الفارسي والعراقي والخارجي في شخص واحد لا يعادل ذلك الشخص واحدا من الأتراك. الجيش التركي يقطع مسافة عشرين ميلا في زمن يقطع فيه غيره عشرة أميال ، فإنه يفارق سائر العساكر ويميل إلى اليمين والشمال وينزل إلى بطون الأودية ويصعد إلى قمم الجبال ويصيد بهذه الكيفية الهاربين من أعدائه ولو كانوا من مشاهير الأبطال.

متى وقع اليأس من الصلح والمسالمة وتقرّر الحرب فإن الأتراك يدافعون عن أنفسهم بتحصين مواقعهم العسكرية ويبذلون في ذلك غاية جهدهم من غير أدنى فتور. ومن علو همتهم وصفاء مداركهم لا يخطر بخواطر أعدائهم انتهاز الفرصة عليهم أو التشبث بحيلة ما لإغفالهم (٢).

قال يزيد بن مزيد في وصف الأتراك : لا ثقلة لأبدان الأتراك على الفرس والأرض. والتركي يدرك الشيء الذي يجيء من ورائه كما يدركه من أمامه ، حال كون فرساننا لا يرون الذي يجيء من أمامهم. والجندي التركي يعدّنا صيدا ويعدّ نفسه أسدا وفرسه حيّة. وإذا ألقي الجندي التركي في بئر مربوط اليد يخلّص نفسه منها من غير أن يتشبث بحيلة.

والجنود الترك يميلون بالطبع إلى الكفاف ، ويرجحون ما ينالونه بسهولة على كل شيء سواه ، ويحبون أن يكون قوتهم من الصيد وأموال الغنائم ، ويثبتون فوق ظهور خيولهم طالبين أو مطلوبين من غير هرب ولا فرار.

قال ثمامة بن الأبرش (٣) : حينما كنت أسيرا بأيدي الأتراك رأيت منهم لطفا وإكراما

__________________

(١) يستنتجها : أي تتوالد عنده. والفلوّ ، بضم الفاء واللام وتشديد الواو. مفردها : فلوّ ـ بفتح الفاء وسكون اللام ، وهو : المهر إذا فطم وبلغ السنة.

(٢) يترخص المؤلف هنا في التعبير ، ولا سيما في قوله : «لإغفالهم» وهو يريد مهاجمتهم على حين غرّة ، أو على غفلة منهم.

(٣) كذا ، والصواب «ثمامة بن أشرس» كان فصيحا بليغا عاصر الرشيد والمأمون.

١١٩

ورأيت أسبابهم مكملة. الجندي التركي لا يخاف قط بل هو يخيف غيره. والأتراك لا يطمعون في غير مطمع ولا يقعدون عن طلب شيء يريدون تحصيله فمتى حصلوه لا يضيعون شيئا منه. ويبذلون غاية جهدهم في أمر يقدرون عليه إلى أن ينالوه ، وكل أمر لا يقدرون عليه لا يضيعون وقتهم في تحصيله. وهم لا ينامون إلا إذا غلبهم النوم ومع ذلك لا يكون نومهم ثقيلا بل هو خفيف جدا بحيث ينامون بالتيقظ والانتباه.

وقال ثمامة : رأيت مرة في بعض محاربة المأمون صفوف الخيل في طرفي الطريق : في اليمين مائة خيل من الأتراك ، وفي الشّمال مائة من الفرسان المختلطة منتظرين مجيء المأمون ، وكان الوقت حارا وقد قرب نصف النهار واشتدت الحرارة ، فنزل الفرسان المختلطة عن أفراسهم سوى ثلاثة أو أربعة منهم ، ولم ينزل من الأتراك سوى ثلاثة أو أربعة.

قال الجاحظ ما خلاصته : والجندي التركي من أشد الناس تحملا للأسفار ، وأصبرهم على قشف المعيشة وقلة النوم. يخرج غازيا أو مسافرا أو متباعدا في طلب الصيد فتتبعه رمكته وأفلاؤها (١) ، إن أعياه اصطياد الناس اصطاد الوحش ، وإن احتاج إلى طعام فصد دابة من دوابّه وتغذى من دمها ، وإن عطش حلب رمكة من رماكه ، وإن أراح واحدة ركب أخرى من غير أن ينزل إلى الأرض. وليس أحد في الأرض يصبر عن اللحم كالتركي ، وكذلك دابته تكتفي بأصول النبات والعشب والشجر لا يظلّها صاحبها من شمس ولا يكنّها (٢) من برد. وهو أصبر من جميع أصناف العساكر على ركوب الخيل وقطع المسافات بحيث إذا طال السّرى (٣) واشتد الحر أو البرد على بقية أجناس العساكر وأعياهم التعب ـ حتى صمتوا عن الكلام وتمنوا أن لو كانت الأرض تطوى لهم وأخذ كلّ واحد منهم يئنّ أنين المريض ويتداوى مما به بالتمطي والتضجع ـ ترى التركي في هذه الحالة وقد سار ضعف ما سار غيره ، يرى قرب المنزل ظبيا أو ثعلبا أو غيره من الأوابد فيركض خلفه كأنه استأنف السير في ذلك الوقت. وإذا ازدحم الناس على مسلك واد أو قنطرة ضرب التركي بطن برذونه (٤) فأقحمه النهر ، أو الوادي ، ثم طلع من الجانب

__________________

(١) الرّمكة : الفرس ، أو نوع آخر من الخيول التي تتّخذ للنسل. والأفلاء : جمع الفلو ، وهو المهر.

(٢) أي لا يسترها ولا يحميها.

(٣) السّري : لسير ليلا.

(٤) البرذون : نوع من الخيول غير العربية.

١٢٠