الحدائق الناضرة - ج ٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


المحقق: محمّد تقي الإيرواني
الموضوع : الفقه
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٩٠

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الباب الخامس

في الطهارة من النجاسات وما يتبعها من ذكر النجاسات وأحكامها وأحكام الأواني والجلود ، فالبحث في هذا الباب يقع في مقاصد ثلاثة :

المقصد الأول

في النجاسات وتحقيق الكلام فيها في فصول عشرة :

(الأول والثاني) ـ البول والغائط ، المشهور ـ بل ادعى عليه في المعتبر والمنتهى إجماع العلماء كافة عدا شذوذ من العامة ـ هو نجاسة البول والغائط مما لا يؤكل لحمه إذا كان ذا نفس سائلة ، والمراد بالنفس السائلة الدم الذي يجتمع في العروق ويخرج بقوة ودفع إذا قطع شي‌ء منها ، وهو أحد معاني النفس كما ذكره أهل اللغة ، ومقابله ما لا نفس له وهو الذي يخرج لا كذلك بل رشحا كدم السمك.

أقول : اما ما يدل على نجاسة البول والعذرة من الإنسان فأخبار مستفيضة : منها ـ صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما‌السلام) (١) قال : «سألته عن البول يصيب الثوب؟ فقال اغسله مرتين». وصحيحة ابن ابي يعفور (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البول يصيب الثوب؟ فقال اغسله مرتين». وحسنة الحسين

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ١ من أبواب النجاسات.

٢

ابن ابي العلاء (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين فإنما هو ماء. قال وسألته عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله مرتين. الحديث». وحسنة الحلبي (٢) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن بول الصبي؟ قال تصب عليه الماء وان كان قد أكل فاغسله غسلا. الحديث». وحسنة أبي إسحاق النحوي عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن البول يصيب الجسد؟ قال صب عليه الماء مرتين». ورواية الحسن بن زياد (٤) قال : «سئل أبو عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يبول فيصيب بعض فخذه نكتة من بوله فيصلي ثم يذكر بعد انه لم يغسله؟ قال يغسله ويعيد صلاته». وصحيحة محمد بن مسلم (٥) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال اغسله في المركن مرتين فان غسلته في ماء جار فمرة واحدة». وأكثر هذه الأخبار وان كان مطلقا إلا ان المتبادر منه انما هو بول الإنسان واما الغائط فيدل على نجاسته اخبار الاستنجاء وقد تقدمت في بابه (٦)

وما رواه الشيخ في الصحيح عن عبد الرحمن بن ابي عبد الله (٧) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن الرجل يصلي وفي ثوبه عذرة من انسان أو سنور أو كلب أيعيد صلاته؟ قال ان كان لم يعلم فلا يعيد». ومفهومه وجوب الإعادة مع العلم وهو دليل النجاسة ، وهذا المفهوم حجة عند المحققين وقد مر ما يدل عليه من الأخبار في مقدمات الكتاب (٨) وفي الصحيح عن موسى بن القاسم عن علي بن محمد (٩) قال : «سألته عن الفأرة والدجاجة والحمام وأشباهها تطأ العذرة ثم تطأ الثوب أيغسل؟ قال ان كان استبان من أثره شي‌ء

__________________

(١ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ١ من أبواب النجاسات.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٣ من أبواب النجاسات.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ١٩ و ٤٢ من أبواب النجاسات.

(٥) المروية في الوسائل في الباب ٢ من أبواب النجاسات.

(٦) ج ٢ ص ٢٦.

(٧) رواه في الوسائل في الباب ٤٠ من أبواب النجاسات.

(٨) ج ١ ص ٥٨.

(٩) رواه في الوسائل في الباب ٣٧ من أبواب النجاسات.

٣

فاغسله وإلا فلا بأس». وصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (١) قال : «سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثم تدخل في الماء يتوضأ منه للصلاة؟ قال لا إلا ان يكون الماء كثيرا قدر كر من ماء. الحديث» وفي باب البئر في رواية ابن مسكان عن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «سألته عن العذرة تقع في البئر؟ فقال ينزح منها عشرة دلاء». وفي رواية علي بن أبي حمزة عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «سألته عن العذرة تقع في البئر؟ قال ينزح منها عشرة دلاء فان ذابت فأربعون أو خمسون». وفي صحيح زرارة (٤) قال : «قلت لأبي جعفر (عليه‌السلام) رجل وطأ على عذرة فساخت رجله فيها أينقض ذلك وضوءه وهل يجب عليه غسلها؟ قال لا يغسلها إلا ان يقذرها ولكنه يمسحها حتى يذهب أثرها ويصلي». ورواية حفص بن ابي عيسى عن الصادق (عليه‌السلام) (٥) «في من وطأ عذرة بخفه فمسحه حتى لم ير فيه شيئا؟ فقال : لا بأس». ورواية موسى بن أكيل عن بعض أصحابه عن الباقر (عليه‌السلام) (٦) «في شاة شربت بولا ثم ذبحت؟ قال يغسل ما في جوفها ثم لا بأس به وكذلك إذا اعتلفت بالعذرة ما لم تكن جلالة. الحديث». حسنة محمد بن مسلم (٧) قال : «كنت مع ابي جعفر (عليه‌السلام) إذ مر على عذرة يابسة فوطأ عليها فأصابت ثوبه فقلت جعلت فداك قد وطأت على عذرة فأصابت ثوبك؟ قال أليس هي يابسة؟ فقلت بلى. فقال لا بأس ان الأرض يطهر بعضها بعضا». ورواية الحلبي في الكافي عن الصادق (عليه‌السلام) (٨) «في الرجل يطأ في العذرة أو البول أيعيد الوضوء؟ قال لا ولكن يغسل ما أصابه».

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ٩ من أبواب الماء المطلق.

(٢ و ٣) المروية في الوسائل في الباب ٢٠ من الماء المطلق. وهما متفقان في المتن.

(٤ و ٨) رواه في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب نواقض الوضوء.

(٨ و ٧) المروية في الوسائل في الباب ٣٢ من أبواب النجاسات.

(٦) المروية في الوسائل في الباب ٢٤ من أبواب الأطعمة المحرمة.

٤

واما ما يدل على بول غيره وغائطه مما لا يؤكل لحمه ـ زيادة على الإجماع المتقدم وعموم جملة من الأخبار المتقدمة ـ ما رواه الشيخ في الحسن عن عبد الله بن سنان (١) قال : «قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه». وصحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله المتقدمة ، ورواية أبي يزيد القسمي عن ابي الحسن الرضا (عليه‌السلام) (٢) «انه سأله عن جلود الدارش التي يتخذ منها الحفاف؟ فقال لا تصل فيها فإنها تدبغ بخرء الكلاب». وما رواه سماعة عن الصادق (عليه‌السلام) (٣) قال : «ان أصاب الثوب شي‌ء من بول السنور فلا تصلح الصلاة فيه حتى تغسله». ويؤيد ذلك ما رواه زرارة في الحسن (٤) «انهما قالا لا تغسل ثوبك من بول شي‌ء يؤكل لحمه». وما رواه في قرب الاسناد عن أبي البختري عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٥) «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال لا بأس ببول ما أكل لحمه». وفي الموثق عن عمار الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (٦) قال : «كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه». وما رواه علي بن جعفر في المسائل عن أخيه (عليه‌السلام) (٧) قال : «سألته عن الدقيق يقع فيه خرء الفأر هل يصلح أكله إذا عجن مع الدقيق؟ قال إذا لم تعرفه فلا بأس وان عرفته فاطرحه». أقول : قوله (عليه‌السلام) «إذا لم تعرفه» اي لم تعلم دخوله في الدقيق وانما تظن ظنا فلا ب. س وان علمته وجب عليك طرحه وإخراجه ، ويوضح ما ذكرناه ما رواه في دعائم الإسلام (٨) قال : «سئل الصادق (عليه‌السلام) عن خرء الفأر يكون في الدقيق؟ قال ان علم به اخرج منه وان لم يعلم به فلا بأس».

__________________

(١ و ٣) رواه في الوسائل في الباب ٨ من أبواب النجاسات.

(٢) المروية في الوسائل في الباب ٧١ من أبواب النجاسات.

(٤ و ٥ و ٦) رواه في الوسائل في الباب ٩ من أبواب النجاسات.

(٧) البحار ج ٤ ص ١٥٥.

(٨) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ٤ من أبواب النجاسات.

٥

وروى العلامة في المختلف نقلا من كتاب عمار بن موسى الساباطي عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «خرء الخطاف لا بأس به هو مما يؤكل لحمه ولكن كره أكله لأنه استجار بك وأوى إلى منزلك وكل طير يستجير بك فاجره».

قال في المدارك بعد الاستدلال بحسنة عبد الله بن سنان المذكورة على نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه : «وجه الدلالة ان الأمر حقيقة في الوجوب واضافة الجمع تفيد العموم ، ومتى ثبت وجوب الغسل في الثوب وجب في غيره إذ لا قائل بالفصل ، ولا معنى للنجس شرعا إلا ما وجب غسل الملاقي له بل سائر الأعيان النجسة انما استفيد نجاستها من أمر الشارع بغسل الثوب أو البدن من ملاقاتها مضافا الى الإجماع المنقول في أكثر الموارد كما ستقف عليه في تضاعيف هذه المباحث» انتهى وهو جيد. واما قوله في الذخيرة بعد نقل هذا الكلام «وفيه تأمل» فالظاهر انه بناء على ما تكرر في كلامه من عدم دلالة الأمر في الاخبار على الوجوب وقد أوضحنا ضعفه في غير مقام. ثم قال في المدارك : «أما الأرواث فلم أقف فيها على نص يقتضي نجاستها من غير المأكول على وجه العموم ولعل الإجماع في موضع لم يتحقق فيه المخالف كاف في ذلك» انتهى. وهو جيد. والعجب ان المحقق في المعتبر بعد ان ادعى الإجماع المشار اليه آنفا نقل خلاف الشيخ في المبسوط في رجيع الطير كما سيأتي.

وبالجملة فالمفهوم من كلام الأكثر البناء على قاعدتين كليتين : الاولى ـ ان كل ما يؤكل لحمه فبوله وروثه طاهر ، والثانية ـ ان كل ما لا يؤكل لحمه فبوله وروثه نجس ، والخلاف قد وقع في الكليتين ، وها انا اذكر مواضع الخلاف فأقول :

(الأول) ـ رجيع الطير وهذا من الكلية الثانية ، فذهب الصدوق الى طهارته مطلقا حيث قال في الفقيه : «ولا بأس بخرء ما طار وبوله» وهو ظاهر في إطلاق القول بالطهارة ، ونقله الأصحاب أيضا عن ابن ابي عقيل والجعفي ، وهو قول الشيخ في

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٩ من أبواب النجاسات.

٦

المبسوط إلا انه استثنى منه الخشاف قال : بول الطيور وذرقها كله طاهر إلا الخشاف. وقال في الخلاف : ما أكل فذرقه طاهر وما لم يؤكل فذرقه نجس. وبه قال جمهور الأصحاب.

ويدل على القول بالطهارة موثقة أبي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «كل شي‌ء يطير فلا بأس بخرئه وبوله». ونقل شيخنا المجلسي في البحار قال : وجدت بخط الشيخ محمد بن علي الجبعي نقلا من جامع البزنطي عن ابي بصير عن الصادق (عليه‌السلام) (٢) قال : «خرء كل شي‌ء يطير وبوله لا بأس به».

ولم أقف على خبر يدل على المشهور من التفصيل في الطير بين المأكول وغير المأكول إلا ان المحقق في المعتبر استدل على ذلك بما دل على نجاسة العذرة مما لا يؤكل لحمه وأضاف الى ذلك دعوى ترادف الخرء والعذرة ، قال بعد الإشارة إلى قول الشيخ في المبسوط : ولعل الشيخ استند إلى رواية أبي بصير ، ثم ساقها ثم احتج لما ذهب اليه من مساواة الطير لغيره في التفصيل المذكور بان ما دل على نجاسة العذرة مما لا يؤكل يتناول موضع النزاع لان الخرء والعذرة مترادفان ، ثم أجاب عن رواية أبي بصير بأنها وان كانت حسنة لكن العامل بها من الأصحاب قليل.

واعترضه في هذا المقام المحققان السيد في المدارك والشيخ حسن في المعالم ، قال في المدارك بعد نقل ذلك عنه : «وهو غير جيد لما بينا من انتفاء ما يدل على العموم ، ولأن العذرة ليست مرادفة للخرء بل الظاهر اختصاصها بفضلة الإنسان كما دل عليه العرف ونص عليه أهل اللغة ، قال الهروي العذرة أصلها فناء الدار وسميت عذرة الإنسان بها لأنها كانت تلقى في الأفنية فكني عنها باسم الفناء» انتهى.

أقول : فيه (أولا) ـ انه يمكن ان يكون صاحب المعتبر أشار بما دل على نجاسة العذرة مما لا يؤكل لحمه الى ما ورد عنهم (عليهم‌السلام) من النهي عن الوضوء والشرب

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب النجاسات.

(٢) ج ١٨ ص ٢٦.

٧

من الماء الذي دخلته الحمامة والدجاجة وفي رجلها العذرة ، وأمرهم (عليهم‌السلام) بغسل الثوب الذي وطأته الدجاجة وفي رجلها العذرة ، والأمر بغسل الرجل التي وطئت بها العذرة ، وقد تقدمت الأخبار الدالة على ذلك وأمثال ذلك مما دل على نجاسة العذرة بقول مطلق فإنه بإطلاقه شامل لعذرة الإنسان وغيره.

و (ثانيا) ـ انه قد ورد في الروايات إطلاق العذرة على فضلة غير الإنسان صريحا كما تقدم في رواية عبد الرحمن بن ابي عبد الله ، وروى الشيخ بسنده الى محمد بن مضارب عن الصادق (عليه‌السلام) (١) قال : «لا بأس ببيع العذرة».

وعن سماعة بن مهران في الموثق (٢) قال : «سأل رجل أبا عبد الله (عليه‌السلام) وانا حاضر فقال أني رجل أبيع العذرة فما تقول؟ قال حرام بيعها وثمنها ، وقال لا بأس ببيع العذرة». ولا ريب ان المراد بالعذرة في الحديث الأول وآخر الثاني منهما انما هو عذرة غير الإنسان لتحريم بيع عذرة الإنسان اتفاقا.

و (ثالثا) ـ ان صاحب القاموس والصحاح فسرا الخرء بالعذرة وهو يؤذن بالمرادفة ، ويؤيده أيضا ما صرحوا به من تفسير الخرء بالغائط الذي هو في ظاهر كلامهم مخصوص بفضلة الإنسان ، قال في المجمع : الخرء الغائط. ومثله في المصباح المنير قال : خرئ بالهمزة يخرأ من باب تعب إذا تغوط. مع انهم قالوا في الغائط انه مخصوص بفضلة الإنسان لما ذكروه في سبب التسمية من ان أصل الغائط المكان المنخفض من الأرض وكانوا إذا أرادوا قضاء الحاجة أتوا في تلك الأمكنة فكني بها عن الحدث.

وبذلك يظهر ان كلام المعتبر لا يخلو من قوة وان ما أورده عليه غير وارد. إلا انه يمكن ان يقال ان لفظ العذرة وان كان عاما بحسب اللغة والعرف الشرعي لكن لا يبعد ادعاء انه في الروايات حال الإطلاق وعدم القرينة مخصوص بعذرة الإنسان أو انه يعمها وغيرها لكن لا على وجه يشمل خرء الطير ، لما أشرنا إليه في غير موضع

__________________

(١ و ٢) رواه في الوسائل في الباب ٦٩ من أبواب ما يكتسب به.

٨

وصرح به جملة من المحققين من ان الإطلاق انما ينصرف الى الافراد المتكثرة المتعارفة

وبما ذكرنا ايضا يسقط كلام صاحب المعالم واعتراضه كلام المحقق حيث انه حذا حذو صاحب المدارك في الإيراد عليه وأغرب في كلامه بما اسداه اليه ، قال (قدس‌سره) بعد نقل كلام المعتبر : «ولي في كلامه ههنا تأمل لأن الإجماع الذي ادعاه على نجاسة البول والغائط من مطلق الحيوان غير المأكول ان كان على عمومه فهو الحجة في عدم التفرقة بين الطير وغيره. وان كان مخصوصا بما عدا الطير فأين الأدلة العامة على نجاسة العذرة مما لا يؤكل؟ والحال انا لم نقف في هذا الباب إلا على حسنة عبد الله بن سنان ولا ذكر أحد من الأصحاب الذين وصل إلينا كلامهم في احتجاجهم لهذا الحكم سواها ، وهي ـ كما ترى ـ واردة في البول ولم يذكرها هو في بحثه للمسألة بل اقتصر على نقل الإجماع كما حكيناه عنه فلا ندري لفظ العذرة أين وقع معلقا عليه الحكم ليضطر الى بيان مرادفة الخرء له ويجعلها دليلا على التسوية التي صار إليها؟ ما هذا إلا عجيب من مثل المحقق» انتهى.

وفيه ما عرفت من الأخبار التي قدمناها دالة على نجاسة العذرة الشاملة بإطلاقها لعذرة الإنسان وغيره مع ان صريح صحيحة عبد الرحمن بن ابي عبد الله إطلاق العذرة على فضلة غير الإنسان ، ومما يدل ايضا على إطلاق العذرة على فضلة غير الإنسان رواية محمد بن مضارب المتقدمة ، فإنكاره وجود العذرة في الأخبار معلقا عليها الحكم لا وجه له بعد ما عرفت. واحتمال حمل كلامه على منع العموم في تلك الاخبار مع بعده عن سياق كلامه مدفوع بما صرح به هو وغيره من ان ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يدل على عموم المقال ، مع ان المحقق ذهب الى ان المفرد المحلى باللام في المقامات الخطابية حيث لا عهد يكون للعموم ويقوم مقام الألفاظ العامة. وهو في المعالم قد ساعد على ذلك وقال به وتبعه فيه ، والحال ان ما نحن فيه كذلك حيث لا عهد فيكون للعموم ، وحينئذ فلا عجب من المحقق فيما نسبه اليه انما العجب منه (قدس‌سره) في تشنيعه عليه. نعم يمكن

٩

تطرق المناقشة من الوجه الذي أشرنا إليه من حيث بعد شمول هذا العموم لخرء الطير.

واستدل في المختلف للقول المشهور بحسنة عبد الله بن سنان المتقدمة وقوله (عليه‌السلام) فيها : «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه». وهي ـ كما ترى ـ انما تضمنت حكم البول مع ان البول من الطير غير معلوم. وما ذكره بعضهم في تقريب الاستدلال بها ـ من انها لما تضمنت حكم البول ودلت على نجاسته وجب القول بذلك في الخرء لعدم القائل بالفرق ـ فهو وان اشتهر مثله في كلامهم من الضعف عندي بمكان لا يحتاج الى بيان كما ستعرفه ان شاء الله تعالى في مسألة أبوال الدواب الثلاث.

ثم ان القائلين بالقول المشهور اختلفوا في الجواب عن رواية أبي بصير التي أسلفنا ذكر دلالتها على خلاف القول المشهور ، فأجاب عنها في المختلف بأنها مخصوصة بالخشاف إجماعا فتختص بما شاركه في العلة وهو عدم كونه مأكولا.

واعترضه في المدارك بان فساده واضح (أما أولا) فلمنع الإجماع على تخصيص الخشاف فإنه (قدس‌سره) قد حكى في صدر المسألة عن ابن بابويه وابن ابي عقيل القول بالطهارة مطلقا ونقل استثناء الخشاف عن الشيخ (قدس‌سره) في المبسوط خاصة. و (اما ثانيا) ـ فلخروج الخشاف من هذا العموم بدليل لا يقتضي كون العلة فيه انه غير مأكول اللحم بل هذه هي العلة المستنبطة التي قد علم من مذهب الإمامية إنكار العمل بها والتشنيع على من اعتبرها. انتهى. وهو جيد.

وأجيب أيضا عن الرواية المذكورة بالحمل على المأكول خاصة جمعا بينها وبين حسنة عبد الله بن سنان المذكورة من حيث دلالتها على نجاسة أبوال ما لا يؤكل لحمه من الطير وغيره.

وفيه (أولا) ان الحسنة المذكورة كما عرفت انما تضمنت حكم البول خاصة والمدعى أعم من ذلك ، ونجاسة البول لا تستلزم نجاسة الذرق بوجه كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى في مسألة أبوال الدواب الثلاث.

١٠

و (ثانيا) انه لو فرض تضمنها لحكم الذرق لأمكن الجمع بحمل الحسنة المذكورة على غير الطير وإبقاء عموم «كل شي‌ء يطير» على حاله ، وترجيح أحد الجمعين على الآخر يحتاج الى دليل ، بل الأظهر هو جعل التأويل في جانب الحسنة المذكورة لو فرض دلالتها وإبقاء عموم تلك الكلية على حاله من حيث ترجيحه بمطابقة الأصل والتأييد بالعمومات الدالة على الطهارة مثل قولهم (عليهم‌السلام) (١) : «كل شي‌ء طاهر حتى تعلم انه قذر». ومن جهة أظهرية «كل شي‌ء يطير». في العموم للطير الغير المأكول اللحم من قوله : «ما لا يؤكل لحمه». وذلك مناط التخصيص.

و (ثالثا) تأيد رواية أبي بصير بالرواية التي نقلناها من جامع البزنطي بنقل شيخنا المشار اليه فترجح بذلك على ما عارضها ويصير التأويل في الجانب المرجوح.

وبذلك يظهر لك قوة القول بالطهارة في ذرق الطير مطلقا إلا انه يبقى التردد في بوله ان فرض له بول ، والأظهر أيضا ترجيح الطهارة لما ذكرناه في الجمع بين روايتي أبي بصير والبزنطي وبين حسنة ابن سنان من جعل التأويل في جانب الحسنة المذكورة بالحمل على غير الطير للوجوه التي ذكرناها. وبالقول بالطهارة هنا صرح في المدارك واختاره في المعالم إلا انه قيده بشرط ان لا يكون الإجماع المدعى مأخوذا على جهة العموم وإلا كان هو الحجة والمخرج عن الأصل. وفيه نظر إذ لم يقم على حجية مثل هذه الإجماعات ـ سيما في مقابلة الروايات وظهور الخلاف في المسألة من جملة من أجلاء الأصحاب ـ دليل يعتد به.

إذا عرفت ذلك فاعلم ان السيد في المدارك استدل للقول بالطهارة هنا بما رواه الشيخ في الصحيح عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه‌السلام) (٢) «انه سأله

__________________

(١) قد تقدم في ج ١ ص ٤٢ التعليقة رقم (١) وص ١٤٩ التعليقة رقم (٤) ما يرجع الى المقام.

(٢) رواه في الوسائل في الباب ٢٧ من قواطع الصلاة.

١١

عن الرجل يرى في ثوبه خرء الطير أو غيره هل يحكه وهو في صلاته؟ قال لا بأس». قال : وترك الاستفصال في مقام الاحتمال يفيد العموم.

أقول : فيه (أولا) ـ ان هذه الرواية ليست من روايات الشيخ كما يدل عليه كلامه لعدم وجودها في كتابيه وانما هي من روايات الصدوق في الفقيه رواها عن علي ابن جعفر (رضي‌الله‌عنه) وطريقه إليه في المشيخة صحيح.

و (ثانيا) ـ ان ما ذكره من تقريب الاستدلال بها ـ من ان ترك الاستفصال مع قيام الاحتمال يفيد العموم ـ ليس على وجهه هنا إذ ذاك انما يتم بالنسبة إلى الغرض المقصود من سياق الكلام ، وما ذكره يتم لو كان الغرض من سوق الكلام بيان حكم الطير وخرئه وانه يجب الاجتناب عنه أم لا وقيل في الجواب عن ذلك «لا بأس» من دون تفصيل فان الظاهر حينئذ هو العموم لما قرروه ، واما إذا لم يكن الغرض متعلقا بذلك كما فيما نحن فيه فلا إذ الظاهر ان الغرض من السؤال انما هو عن حك شي‌ء من الثوب وانه هل ينافي الصلاة أم لا؟ وذكر خرء الطير انما وقع من قبيل التمثيل في الجملة فإذا أجيب حينئذ بأنه لا بأس به ولم يفصل في الطير بأنه مما يؤكل لحمه أم لا لا يدل على العموم أصلا ، وما قلناه ظاهر لمن تأمل وتدبر في أساليب الكلام ، ويؤيده انه قال في الرواية المذكورة بعد ذلك : «وقال لا بأس ان يرفع الرجل طرفه الى السماء وهو يصلي» ويؤكد ذلك إيراد الأصحاب الرواية المذكورة في مسألة ما يجوز للمصلي فعله في الصلاة وما لا يجوز حيث دلت على انه يجوز للمصلي أن يحك خرء الطير من ثوبه وهو في الصلاة.

و (ثالثا) ـ ان لفظ «غيره» في كلام السائل سواء جعل عطفا على الطير أو الخرء عام مع ان الامام (عليه‌السلام) لم يفصل فيه فلو كان العموم على ما ذكره ملحوظا لجرى في لفظ الغير ولزم من ترك الاستفصال فيه جواز الصلاة في النجاسة عمدا بالتقريب الذي ذكره في خرء الطير ، فلو أجيب بأنه لعل الإجمال هنا انما كان من حيث معلومية

١٢

الحكم فلم يفصل ، قلنا ذلك في خرء الطير ايضا من غير تفاوت.

ويعضد ما ذكرناه ما صرح به شيخنا البهائي في الحبل المتين حيث قال : «وقد احتج بعض الأصحاب بالحديث السابع على طهارة خرء مطلق الطير ، وظني انه لا ينهض دليلا على ذلك فان نفي البأس فيه لا يتعين ان يكون عن الخرء لاحتمال ان يكون عن حكه في الصلاة عن الثوب ويكون سؤال علي بن جعفر انما هو عن ان حكه في أثناء الصلاة هل هو فعل كثير لا يجوز في الصلاة أم لا؟ فأجاب (عليه‌السلام) بنفي البأس عنه فيها ، ولفظة «غير» يجوز قراءتها بالنصب والجر وعلى التقديرين ففيها تأييد تام لهذا الاحتمال إذ لو لم يحمل عليه لم يصح إطلاقه (عليه‌السلام) نفي البأس عما يراه المصلي في ثوبه من خرء الطير وغيره ، وايضا فاللام في الطير لا يتعين كونها للجنس لجواز كونها للعهد والمراد المأكول اللحم ومع قيام الاحتمال يسقط الاستدلال» انتهى. والظاهر ان مراده ببعض الأصحاب (رضوان الله عليهم) انما هو السيد المذكور فإنه لم يتعرض غيره لذكر هذه الرواية في المقام. وبالجملة فالاستدلال بهذه الرواية بعيد من مثله (قدس‌سره) والمتناقل في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) انما هو الاستدلال برواية أبي بصير خاصة.

فروع : (الأول) الظاهر انه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في طهارة رجيع ما لا نفس له كالذباب ونحوه ، وفي التذكرة انما نسب الخلاف إلى الشافعي وابي حنيفة وابي يوسف (١) ولم ينسبه الى أحد من علمائنا وهو مؤذن بعدم الخلاف فيه عندنا واستدل عليه في المنتهى بأصل الطهارة ، وبان التحرز عنه متعذر وفيه حرج فيكون منفيا

__________________

(١) لم نجد المسألة فيما وقفنا عليه من المصادر بهذا العنوان نعم في بدائع الصنائع للكاساني الحنفي ج ١ ص ٦٢ تعليل نجاسة الأرواث كلها بان معنى النجاسة موجود فيها وهو الاستقذار في الطبائع السليمة لاستحالتها الى نتن وخبث رائحة مع إمكان التحرز عنه. وفي المحلى لابن حزم ج ١ ص ١٩١ تعليل وجوب غسل خرء الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش فيما إذا لم يكن حرج في ذلك بأنه بول ورجيع.

١٣

واحتج في التذكرة بأن دم ما لا نفس له وميتته طاهر فرجيعه ايضا كذلك.

أقول : اما الاستدلال بأصالة الطهارة فجيد ، واما تعذر التحرز عنه فكذلك فيما لا يمكن التحرز عنه ، واما ما ذكره في التذكرة فهو قياس محض لا يجري في مذهبنا

وقال المحقق في المعتبر : «واما رجيع ما لا نفس له كالذباب والخنافس ففيه تردد أشبهه انه طاهر لان ميتته ودمه ولعابه طاهر فصارت فضلاته كعصارة النبات» وظاهر كلامه يؤذن باحتمال تناول الأدلة على نجاسة فضلة الحيوان غير المأكول له ، ولهذا قال في المدارك بعد ذكر عبارة الشرائع المشتملة على التردد ايضا : «ربما كان منشأ التردد في البول عموم الأمر بغسله من غير المأكول وان ما لا نفس له طاهر الميتة والدم فصارت فضلاته كعصارة النبات».

أقول : والظاهر عندي ضعف هذا التردد فان المتبادر من مأكول اللحم وغير مأكول اللحم في اخبار المسألة بل مطلقا انما هو ذو النفس السائلة فلا يدخل مثل الذباب والخنافس والنمل ونحوها. واما تعليله الطهارة بما ذكره ففيه ما عرفت مما أوردناه على كلام التذكرة. والعجب من جمود صاحب المدارك عليه وتعليله الطهارة بذلك. وبالجملة فأصالة الطهارة أقوى متمسك في المقام حتى يقوم ما يوجب الخروج عنها ، والاستناد الى عموم الأمر بغسله من غير المأكول مدفوع بما عرفت.

(الثاني) ـ قد عرفت ان المشهور في كلام الأصحاب (رضوان الله عليهم) هو نجاسة رجيع الطير الغير المأكول اللحم ومنه الخشاف ، والشيخ مع قوله بطهارة رجيع الطير مطلقا في المبسوط استثنى الخشاف من ذلك ، ويأتي على قول من ذهب الى الطهارة مطلقا طهارته. والذي يدل على المشهور رواية داود الرقي (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن بول الخشاشيف يصيب ثوبي فاطلبه فلا أجده؟ قال اغسل ثوبك». وهذه الرواية هي مستند الشيخ في استثناء الخشاف في المبسوط.

__________________

(١) المروية في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب النجاسات.

١٤

قال في المدارك بعد نقله عن الشيخ انه احتج بهذه الرواية : «والجواب انها مع ضعف سندها معارضة بما رواه غياث عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (١) قال : «لا بأس بدم البراغيث والبق وبول الخشاشيف». وهذه الرواية أوضح سندا وأظهر دلالة من الرواية السابقة ، وأجاب عنها في التهذيب بالشذوذ والحمل على التقية ، وهو مشكل» انتهى.

أقول : أنت خبير بما فيه فاني لا اعرف لهذه الأوضحية سندا ولا الأظهرية دلالة وجها بل الروايتان متساويتان سندا ومتنا كما لا يخفى ، ويمكن ترجيح الرواية الثانية بما رواه شيخنا المجلسي في البحار (٢) عن الراوندي في كتاب النوادر انه روى بسنده فيه عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم‌السلام) قال : «سئل علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) عن الصلاة في الثوب الذي فيه أبوال الخفافيش ودماء البراغيث فقال لا بأس». وحينئذ فيمكن القول بالطهارة للروايتين المذكورتين ، ويؤيدهما عموم موثقة أبي بصير مع رواية البزنطي المتقدمتين لدلالتهما على ان كل شي‌ء يطير فلا بأس بخرئه وبوله ، وقد عرفت طريق الجمع بينهما وبين حسنة ابن سنان بحملها على غير الطير.

بقي الكلام فيما تحمل عليه رواية داود المذكورة ، وجمع من الأصحاب حملوها على الاستحباب ، ولا يحضرني الآن مذهب العامة (٣) إلا ان الشيخ ـ كما عرفت ـ حمل رواية غياث على التقية فإن ثبت كونهم كلا أو بعضا أكثريا على ذلك وجب طرح هاتين

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب النجاسات.

(٢) ج ١٨ ص ٢٦.

(٣) في بدائع الصنائع للكاشاني الحنفي ج ١ ص ٦٢ «بول الخشاف وخرؤه ليس بنجس» وفي الفروع لابن مفلح الحنبلي «لا يعفى عن يسير بول الخفاش» وفي المحلى لابن حزم ج ١ ص ١٩١ فصل في خرء الذباب والبراغيث والنحل وبول الخفاش بين ما إذا كان في التحفظ منه وفي غسله حرج فلم يوجب غسله وما إذا لم يكن فيه حرج فأوجبه لانه بول ورجيع.

١٥

الروايتين للتقية وتخصيص موثقة أبي بصير مع الرواية الثانية برواية داود فيستثنى الخشاف من عموم الطير كما ذهب اليه الشيخ. إلا ان ما ذكره من الحمل على التقية غير معلوم عندي وبه يظهر ان الأظهر هو الطهارة ، والاحتياط بالعمل بالمشهور مما لا ينبغي إهماله. ومورد الأخبار المذكورة وان كان هو البول مع عدم معلوميته يقينا من الخشاف ولا غيره من الطيور إلا ان الذرق يكون حكمه أيضا كذلك بل هو اولى بالقول بالطهارة لدخوله تحت عموم موثقة أبي بصير مع الرواية الأخرى وعدم المعارض سوى الإجماع المدعى في المسألة.

وبذلك يظهر لك ما في كلام صاحب المعالم حيث قال ـ بعد ذكر رواية داود ورميها بالضعف ثم رواية غياث وردها بذلك ـ ما صورته : «فان تحقق للخشاف بول وعملنا بالحديث الحسن تعين اطراح هذه لدلالة حسنة عبد الله بن سنان على نجاسة البول من كل حيوان غير مأكول اللحم فتتناول بعمومها الخشاف وتقصر هذه عن تخصيصها وكذا ان ثبت عموم محل الإجماع ، وإلا فالأصل يساعد على العمل بهذه وان ضعفت ويكون ذكر البول فيها محمولا على التجوز» انتهى.

أقول : الإشارة بهذه في كلامه راجع الى رواية غياث وهي الأخيرة من الروايتين وفيه انه على تقدير ثبوت البول للخشاف فان المنافاة لا تختص برواية غياث حتى انها تقصر عن تخصيص الحسنة المذكورة بل موثقة أبي بصير المذكورة في كلامه سابقا وهو ان عمل بالحسنة فالموثقة ايضا مثلها في قوة العمل ، وبالجملة فإنه لا بد له من الجمع بين الحسنة المذكورة والموثقة المشار إليها لتصادمهما في البول ، ووجه الجمع هو ما قدمناه من حمل الحسنة المذكورة على غير الطيور وإبقاء الموثقة على عمومها ، وحينئذ فيبقى التعارض بين رواية غياث ورواية داود مع تأيد رواية غياث بعموم موثقة أبي بصير والرواية التي معها وخصوص رواية الراوندي فيترجح العمل بها ، واما على تقدير عدم ثبوت البول والحمل على الرجيع تجوزا فالأمر كما ذكره لما عرفت آنفا.

١٦

(الثالث) ـ لا فرق في غير المأكول الذي تقدم الكلام في خرئه وبوله بين ان يكون تحريمه أصالة كالسباع والإنسان ونحوهما وبين ان يكون لعارض كالجلال ما لم يستبرأ وموطوء الإنسان وشارب لبن الخنزير حتى يشتد عليه لحمه وعظمه ، ويظهر من العلامة في التذكرة انه إجماعي ، قال فيها : رجيع الجلال من كل الحيوان وموطوء الإنسان نجس لأنه حينئذ غير مأكول اللحم ولا خلاف فيه. وفي المختلف ادعى الإجماع على نجاسة ذرق الدجاج الجلال ، والأصل في ذلك إطلاق الأخبار المتقدمة.

(الموضع الثاني) ـ بول الرضيع وهذا من الكلية الثانية أيضا ، والمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) انه لا فرق في نجاسة بول الإنسان بين الصغير منه والكبير وعن المرتضى دعوى الإجماع عليه ، وفي المختلف عن ابن الجنيد انه قال : بول البالغ وغير البالغ من الناس نجس إلا ان يكون غير البالغ صبيا ذكرا فان بوله ولبنه ما لم يأكل اللحم ليس بنجس.

ويدل على القول المشهور مضافا الى عموم الروايات المتقدمة في صدر الباب خصوص صحيحة الحلبي أو حسنته (١) قال : «سألت أبا عبد الله (عليه‌السلام) عن بول الصبي؟ قال تصب عليه الماء فان كان قد أكل فاغسله غسلا.».

واحتج في المختلف لابن الجنيد بما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم‌السلام) (٢) انه قال لبن الجارية وبولها يغسل منه الثوب قبل ان تطعم لان لبنها يخرج من مثانة أمها ، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل ان يطعم لان لبن الغلام يخرج من العضدين والمنكبين». وقد أجيب عن الرواية المذكورة (أولا) بالطعن في السند. و (ثانيا) بالقول بموجبها فان انتفاء الغسل لا ينافي الحكم بالصب ونحن انما نقول بالثاني لا الأول. وفيه نظر سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

أقول : وهذه الرواية قد نقلها مولانا الرضا (عليه‌السلام) في الفقه الرضوي

__________________

(١ و ٢) المروية في الوسائل في الباب ٣ من أبواب النجاسات.

١٧

بعد ان افتى فيه بمضمون صحيحة الحلبي حيث قال (عليه‌السلام) (١) : «وان أصابك بول في ثوبك فاغسله من ماء جار مرة ومن ماء راكد مرتين ثم أعصره ، وان كان بول الغلام الرضيع فصب عليه الماء صبا وان كان قد أكل الطعام فاغسله ، والغلام والجارية سواء ، وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) انه قال لبن الجارية يغسل منه الثوب قبل ان تطعم وبولها لان لبن الجارية يخرج من مثانة أمها ، ولبن الغلام لا يغسل منه الثوب ولا من بوله قبل ان يطعم لان لبن الغلام يخرج من المنكبين والعضدين». انتهى. وبهذه العبارة من أولها إلى آخرها عبر الصدوق في الفقيه بتغيير ما. وأنت خبير بان كلامه في الكتاب المذكور وفتواه بما ذكره أولا ظاهر في خلاف الرواية المذكورة ولم يتعرض (عليه‌السلام) لبيان الوجه فيها ، ولعل الوجه فيه هو كون هذه الرواية من مرويات العامة عنه (عليه‌السلام) فاقتصر على نقلها وعدم ردها تقية وإيهاما لجواز القول بها فإنه (عليه‌السلام) كثيرا ما يروى في هذا الكتاب أمثال ذلك كما نبه عليه ايضا شيخنا المولى محمد تقي المجلسي ، وقد تقدم ذكر ذلك في الكتاب ، والظاهر من الرواية المذكورة هو طهارة البول مثل اللبن لان ظاهر الجمع بينهما في عدم الغسل ذلك ، إذ الحكم بعدم الغسل انما تعلق أولا باللبن الذي لا خلاف في طهارته عندهم ثم عطف البول عليه فهو يقتضي كونه كذلك ، وتأويلهم الرواية بأن انتفاء الغسل لا يستلزم نفي الصب انما يتم لو لم يذكر في هذه العبارة سوى البول ونفي الغسل انما وقع في الرواية عن اللبن والبول انما عطف عليه بعد ذلك ، والقول بالتأويل المذكور لا يصح إلا بإدخال اللبن في هذا الحكم وهم لا يقولون به ، وبالجملة فإن التأويل المذكور لا يقبله سياق الخبر.

ثم انه مما يدل بظاهره على ما دل عليه الخبر المشار اليه ما رواه شيخنا المجلسي في البحار (٢) عن كتاب النوادر للقطب الراوندي بإسناده فيه عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم‌السلام) قال : «قال علي (عليه‌السلام) بال الحسن والحسين على ثوب

__________________

(١) ص ٦.

(٢) رواه في مستدرك الوسائل في الباب ٢ من أبواب النجاسات.

١٨

رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قبل ان يطعما فلم يغسل بولهما من ثوبه». والتأويل بكونه لم يغسله وان صب عليه الماء وان احتمل لكن الظاهر بعده عن السياق ، ولو كان كذلك لكان الظاهر ان يقول (عليه‌السلام) «بل صب عليه الماء» أو نحو ذلك ، إلا انه قد روى في البحار ايضا (١) عن كتاب الملهوف على قتلي الطفوف للسيد رضي الدين بن طاوس بسنده عن أم الفضل زوجة العباس «انها جاءت بالحسين (عليه‌السلام) الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فبال على ثوبه فقرضته فبكى فقال مهلا يا أم الفضل فهذا ثوبي يغسل وقد أوجعت ابني». والظاهر ان المراد بالغسل الصب.

وكيف كان فالعمل على أدلة القول المشهور لارجحيتها بوضوح الصحة فيها والظهور مع اعتضادها بعمل الطائفة قديما وحديثا وإرجاع ما عارضها الى قائله حسبما ورد به الأمر عنهم (عليهم‌السلام).

(الموضع الثالث) ـ خرء الدجاج غير الجلال وهذا من الكلية الأولى ، فالمشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) طهارته وعن الشيخين القول بنجاسته وظاهر الشيخ في التهذيب والاستبصار الموافقة على الطهارة فينحصر الخلاف في الشيخ المفيد

والمعتمد القول بالطهارة للأصل وقوله (عليه‌السلام) في موثقة عمار المتقدمة في صدر الباب (٢) «كل ما أكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه». وقول الصادق (عليه‌السلام) في موثقة زرارة الواردة في الصلاة في الجلود والأوبار (٣) «ان كان مما يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكل شي‌ء منه جائزة. الحديث». وخصوص رواية وهب بن وهب عن جعفر عن أبيه (عليهما‌السلام) (٤) «انه قال لا بأس بخرء الدجاج والحمام يصيب الثوب».

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ٨ من أبواب النجاسات.

(٢) ص ٥.

(٣) المروي في الوسائل في الباب ٩ من أبواب النجاسات.

(٤) المروية في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب النجاسات.

١٩

ويدل على قول الشيخين ما رواه الشيخ في التهذيب عن فارس (١) قال : «كتب اليه رجل يسأله عن ذرق الدجاج تجوز الصلاة فيه؟ فكتب لا». وردها الأصحاب بالطعن في الراوي فإنه مذموم جدا فان فارسا المذكور هو ابن حاتم القزويني كما يظهر من كتب الرجال ، قال الشيخ فيه انه غال ملعون ، وقال العلامة في الخلاصة أنه فسد مذهبه وقتله بعض أصحاب أبي محمد العسكري (عليه‌السلام) وله كتب كلها تخليط ونقل عن الفضل بن شاذان انه ذكر ان من الكذابين المشهورين الفاجر فارس بن حاتم القزويني. وحينئذ فيجب إسقاط روايته ، ومن العجب هنا ان العلامة في المختلف عد روايته في الحسن والحال فيه ما عرفت ، هذا مع ان المكاتب فيها ايضا غير معلوم.

وأصحابنا (رضوان الله عليهم) لم يوردوا دليلا للقول المشهور سوى رواية وهب بن وهب وردوها بضعف السند ايضا مع ان الموثقتين المذكورتين ظاهرتا الدلالة وان كان بطريق العموم على المدعى ، قال المحقق في المعتبر بعد الطعن في الروايتين المذكورتين : «وبتقدير سقوط الروايتين يكون المرجع الى الأصل وهو الطهارة ما لم يكن جلالا ، ولو قيل الدجاج لا يتوقى النجاسة فرجيعه مستحيل عنها فيكون نجسا ، قلنا : بتقدير ان يكون ذلك محضا يكون التنجيس ثابتا اما إذا كان يمزج علفه فإنه يستحيل اما عنهما أو عن أحدهما فلا تتحقق الاستحالة عن النجاسة إذ لو حكم بغلبة النجاسة لسرى التحريم الى لحمها ، ولما حصل الإجماع على حلها مع الإرسال بطل الحكم بغلبة النجاسة على رجيعها» انتهى. أقول : ما ذكره هنا ـ من انه متى كان رجيعه مستحيلا عن عين النجاسة فإنه نجس ـ أحد القولين في المسألة وهو مذهبه في كتاب الأطعمة من الشرائع على تردد فيه ، مع انه قد صرح هنا في نجاسة الدم بان الدم يطهر باستحالته قيحا ولبنا ولحما ، والمشهور هو الطهارة كما سيأتي تحقيقه في الباب ان شاء الله تعالى.

(الموضع الرابع) ـ في أبوال الدواب الثلاث الخيل والبغال والحمير وأرواثها

__________________

(١) رواه في الوسائل في الباب ١٠ من أبواب النجاسات.

٢٠