محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض

محاضرات في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إسحاق الفيّاض


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة أنصاريان للطباعة والنشر
المطبعة: الصدر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٤٧

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(بحث الأوامر)

الكلام فيها يقع في مقامين : (الأول) في مادة الأمر (أ م ر) (الثاني) في هيئة (افعل) وما شاكلها من الهيئات ، كهيئة فعل الماضي والمضارع ، ونحوهما.

اما الأول فالكلام فيه من جهات :

(الأولى) ـ ذكر جماعة ان مادة الأمر موضوعة لعدة معان : الطلب. الشيء. الحادثة. الشأن. الغرض. الفعل. وغير ذلك ، وقد أنهاها بعضهم إلى خمسة عشر معنى.

واختار صاحب الفصول (قده) انها موضوعة لمعنيين من هذه المعاني أي الطلب والشأن.

وذكر صاحب الكفاية (قده) ان عد بعض هذه المعاني من معاني الأمر من اشتباه المصداق بالمفهوم فان الأمر لم يستعمل في نفس هذه المعاني ، وانما استعمل في معناه ، ولكنه قد يكون مصداقاً لها ثم قال : ولا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشيء.

وذهب شيخنا الأستاذ (قده) إلى ان لفظ الأمر موضوع لمعنى واحد وهو الواقعة التي لها أهمية في الجملة ، وجميع ما ذكر من المعاني يرجع إلى هذا المعنى الواحد حتى الطلب المنشأ بإحدى الصيغ الموضوعة له ، وهذا المعنى قد ينطبق على الحادثة ، وقد ينطبق على الشأن ، وقد ينطبق على الغرض ، وهكذا. نعم لا بد أن يكون المستعمل فيه من قبيل الأفعال والصفات ، فلا يطلق على الجوامد

٥

بل يمكن أن يقال ان الأمر بمعنى الطلب أيضا من مصاديق هذا المعنى الواحد ، فانه أيضا من الأمور التي لها أهمية ، فلا يكون للفظ الأمر الا معنى واحد يندرج الكل فيه ، وتصور الجامع القريب بين الجميع وان كان صعباً الا انا نرى وجداناً ان استعمال الأمر في جميع الموارد بمعنى واحد وعليه فالقول بالاشتراك اللفظي بعيد.

ما أفاده (قده) يحتوي على نقطتين : (الأولى) ان لفظ الأمر موضوع لمعنى واحد يندرج فيه جميع المعاني المزبورة حتى الطلب المنشأ بالصيغة. (الثانية) ان الأهمية في الجملة مأخوذة في معناه.

ولنأخذ بالنقد على كلتا النقطتين :

اما الأولى فلان الجامع الذاتي بين الطلب وغيره من المعاني المذكورة غير معقول. والسبب في ذلك ان معنى الطلب معنى حدثي قابل للتصريف والاشتقاق ، دون غيره من المعاني ، فانها من الجوامد ، وهي غير قابلة لذلك ، ومن الواضح ان الجامع الذاتي بين المعنى الحدثي والمعنى الجامد غير متصور.

وبكلمة أخرى ان الجامع بينهما لا يخلو من ان يكون معنى حدثياً أو جامداً ، ولا ثالث لهما ، وعلى كلا التقديرين لا يكون الجامع المزبور جامعاً ذاتياً إذ على الأول لا ينطبق على الجوامد ، وعلى الثاني لا ينطبق على المعنى الحدثي وهذا معنى عدم تصور جامع ذاتي بينهما.

ومما يشهد على ذلك اختلافهما (أي الأمر بمعنى الطلب والأمر بمعنى غيره) في الجمع ، فان الأول يجمع على أوامر ، والثاني على أمور ، وهذا شاهد صدق على اختلافهما في المعنى ، ولهذا لا يصح استعمال أحدهما في موضع الآخر ، فلا يقال بقي أوامر ، أو ينبغي التنبيه على أوامر ، وهكذا. فالنتيجة بطلان هذه النقطة ،

٦

وأما الثانية فلأنه لا دليل على أخذ الأهمية في معنى الأمر بحيث يكون استعماله فيما لا أهمية له مجازاً ، وذلك لوضوح ان استعماله فيه كاستعماله فيما له أهمية في الجملة من دون فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

وان شئت قلت ان الأهمية لو كانت مأخوذة في معناه لكانت متبادرة منه عرفاً عند إطلاقه ، وعدم نصب قرينة على الخلاف ، مع انها غير متبادرة منه كذلك ، ومن هنا صح توصيفه بما لا أهمية له ، وبطبيعة الحال انها لو كانت داخلة في معناه لكان هذا تناقضاً ظاهراً ، فالنتيجة ان نظرية المحقق النائيني (قده) في موضوع بحثنا نظرية خاطئة ولا واقع موضوعي لها.

ويمكن أن نقول : ان مادة الأمر موضوعة لغة لمعنيين ، على سبيل الاشتراك اللفظي :

أحدهما ـ الطلب في إطار خاص ، وهو الطلب المتعلق بفعل الغير ، لا الطلب المطلق الجامع بين ما يتعلق بفعل غيره وما يتعلق بفعل نفسه ، كطالب العلم ، وطالب الضالة ، وطالب الحق ، وما شاكل ذلك. والسبب فيه ان مادة الأمر ـ بما لها من معنى ـ لا تصدق على الحصة الثانية وهي المتعلقة بفعل نفس الإنسان ، وهذا قرينة قاطعة على انها لم توضع للجامع بينهما. ومن هنا يظهر ان النسبة بين الأمر والطلب عموم مطلق.

وثانيهما ـ الشيء الخاصّ وهو الّذي يتقوم بالشخص من الفعل أو الصفة أو نحوهما في مقابل الجواهر وبعض أقسام الاعراض وهي بهذا المعنى قد تنطبق على الحادثة ، وقد تنطبق على الشأن ، وقد تنطبق على الغرض وهكذا.

الدليل على ما ذكرناه امران : أحدهما ـ ان لفظ الأمر بمعناه الأول قابل للتصريف والاشتقاق ، فتشتق منه الهيئات والأوزان المختلفة ، كهيئة

٧

الماضي ، والمضارع ، والفاعل ، والمفعول ، وما شاكلها ، وهذا بخلاف الأمر بمعناه الثاني حيث انه جامد فلا يكون قابلاً لذلك.

وثانيهما ـ ان الأمر بمعناه الأول يجمع على أوامر ، وبمعناه الثاني يجمع على أمور ، ومن الطبيعي ان اختلافهما في ذلك شاهد صدق على اختلافهما في المعنى.

وعلى ضوء هذا قد اتضح فساد كلا القولين السابقين : (الاشتراك اللفظي) (الاشتراك المعنوي) (اما الأول) فقد عرفت ان جميع المعاني المشار إليها آنفاً ليست من معاني الأمر على سبيل الاشتراك اللفظي ، كيف فان استعماله فيها غير معلوم لو لم يكن معلوم العدم ، فضلا عن كونه موضوعاً بإزائها ، ومن هنا لا يكون المتبادر منه عند الإطلاق ، وعدم نصب قرينة على إرادة الخلاف الا أحد المعنيين السابقين لا غير. وأما (الثاني) فلعدم تصور جامع ماهوي بينها ليكون موضوعاً له. فالنتيجة انه موضوع بإزاء المعنيين الماضيين على نحو الاشتراك اللفظي : (الحصة الخاصة من الطلب) (الحصة الخاصة من مفهوم الشيء) وهي ما يتقوم بالشخص في قبال الجواهر وبعض أقسام الاعراض ، ولأجل ذلك لا يصح ان يقال رأيت امراً عجيباً إذا رأى فرساً عجيباً ، أو إنسانا كذلك ، ولكن يصح ان يقال رأيت شيئاً عجيباً إذا رأى فرساً أو إنسانا كذلك. والسبب في هذا ظاهر وهو ان الشيء بمفهومه العام ينطبق على الأفعال والأعيان والصفات بشتى ألوانها واشكالها ، ولذلك قالوا انه عرض عام لجميع الأشياء.

وعلى أثر هذا البيان يظهر نقد ما أفاده شيخنا المحقق (قده) من ان الأمر وضع لمعنى جامع وحداني على نحو الاشتراك المعنوي ، وهو الجامع بين ما يصح ان يتعلق الطلب به تكويناً وما يتعلق الطلب به تشريعاً مع عدم ملاحظة شيء من الخصوصيّتين في المعنى الموضوع له ، والأصل فيه

٨

ان يجمع على أوامر.

وجه الظهور ما عرفت من انه لا جامع ذاتي بين المعنى الحدثي والمعنى الجامد ليكون الأمر موضوعاً بإزائه ، واما الجامع الانتزاعي فهو وان كان امراً ممكنا وقابلاً للتصوير ، الا أنه لم يوضع بإزائه يقيناً ، على انه خلاف مفروض كلامه (قده) : واما الوضع العام والموضوع له الخاصّ يرده ـ مضافاً إلى ذلك ـ ما حققناه في مبحث الصحيح والأعم من ان نتيجة الوضع العام والموضوع له الخاصّ كنتيجة الاشتراك اللفظي ، فلاحظ. هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ان اختلاف لفظ الأمر في الجمع قرينة قطعية على اختلافه في المعنى ، ضرورة ان معناه لو كان واحداً لن يعقل اختلافه في الجمع.

هذا على ما بيناه في الدورات السابقة.

ولكن الصحيح في المقام ان يقال ان مادة الأمر لم توضع للدلالة على حصة خاصة من الطلب ، وهي الحصة المتعلقة بفعل الغير ، بل وضعت للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفسانيّ في الخارج. والسبب في ذلك ما حققناه في بحث الإنشاء من أنه عبارة عن اعتبار الأمر النفسانيّ ، وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى ما ذكرناه في بحث الوضع من انه عبارة عن التعهد والالتزام النفسانيّ. فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين هي وضع مادة الأمر أو ما شاكلها بطبيعة الحال لما ذكرناه أي للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفسانيّ ، لا للطلب والتصدي ، ولا للبعث والتحريك. نعم انها كصيغتها مصداق للطلب والتصدي ، والبعث والتحريك ، لا انها معناها.

وبكلمة أخرى اننا إذا حللنا الأمر المتعلق بشيء تحليلاً موضوعياً فلا نعقل فيه سوى شيئين : أحدهما ـ اعتبار المولى ذلك الشيء في ذمة

٩

المكلف من جهة اشتماله على مصلحة داعية إلى ذلك. وثانيهما ـ إبراز ذلك الأمر الاعتباري في الخارج بمبرز كمادة الأمر أو نحوها ، فالمادة أو ما شاكلها وضعت للدلالة على إبراز ذلك الأمر الاعتباري النفسانيّ ، لا للطلب ، ولا للبعث والتحريك.

نعم قد عرفت ان المادة أو ما شاكلها مصداق للطلب والبعث ، ونحو قصد إلى الفعل ، فان الطلب والبعث قد يكونان خارجيين ، وقد يكونان اعتباريين ، فمادة الأمر أو ما شابهها مصداق للطلب والبعث الاعتباري ، لا الخارجي ، لوضوح انها تصد في اعتبار المولى إلى إيجاد المادة في الخارج ، وبعث نحوه ، لا تكويناً وخارجاً ، كما هو ظاهر.

ونتيجة ما ذكرناه امران : (الأول) ـ ان مادة الأمر ، أو ما شاكلها موضوعة للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفسانيّ في الخارج ، وهو اعتبار المولى الفعل على ذمة المكلف ، ولا تدل على أمر آخر ما عدا ذلك الثاني انها مصداق للطلب والبعث ، لا انهما معناها.

إلى هنا قد تبين ان القول بالاشتراك اللفظي بين جميع المعاني المتقدمة باطل ، لا واقع موضوعي له ، وكذلك القول بالاشتراك المعنوي ، فالصحيح هو القول بالاشتراك اللفظي بين المعنيين المتقدمين.

ثم لا يخفى انه لا ثمرة عملية لذلك البحث أصلا ، والسبب فيه ان الثمرة هنا ترتكز على ما إذا لم يكن المراد الاستعمالي من الأوامر الواردة في الكتاب والسنة معلوماً ، وحيث ان المراد الاستعمالي منها معلوم ، فاذن لا أثر له.

١٠

المعنى الاصطلاحي للأمر

حكى المحقق صاحب الكفاية (قده) ان الأمر قد نقل عن معناه الأصلي إلى القول المخصوص ، وهو هيئة (افعل).

ويرد عليه أنه ان كان هذا مجرد اصطلاح ، فلا مشاحة فيه ، والا فلا وجه له أصلا ، وذلك لأن الظاهر ان الاشتقاق منه بحسب معناه الاصطلاحي ، وعليه فلو كان معناه الاصطلاحي القول المخصوص لم يمكن الاشتقاق منه لأنه جامد ، ومن الطبيعي ان مبدأ المشتقات لا بد ان يكون معنى حدثياً قابلاً للتصريف والتغيير ، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان يكون المبدأ خالياً عن جميع الخصوصيات ، ليقبل كل خصوصية ترد عليه ، ومن ثمة قلنا في بحث المشتق ان المصدر لا يصلح ان يكون مبدأ له ، لعدم توفر الشرط الأساسي للمبدإ فيه ، وهو خلوه عن جميع الإشكال والصور المعنوية ، واللفظية ، حتى يقبل أيّة صورة ترد عليه ، نظير الهيولى في الأجسام ، حيث انها فاقدة لكل صورة افترضت ، ولذا تقبل كل صورة ترد عليها بشتى أنواعها واشكالها ، وبطبيعة الحال انها لو لم تكن فاقدة لها فلا تقبل صورة أخرى ، لوضوح إباء كل صورة عن صورة أخرى ، وكل فعلية عن فعلية ثانية.

فالنتيجة على ضوء هاتين الناحيتين : هي ان القول المخصوص لا يصلح ان يكون مبدأ للمشتقات ، وان يجعله شقة شقة ، لاستحالة تصريفه وورود هيئة أخرى عليه ، فيكون نظير الجملة ، والمفرد ، والكلمة ، والكلام ، وما شاكل ذلك مما هو اسم لنفس اللفظ ، فانها غير قابلة لأن تشتق منها المشتقات ، لعدم توفر الركيزتين الأساسيتين للمبدإ فيها (المعنى الحدثي) (الخلو من الخصوصيات)

١١

نعم التلفظ بالقول المخصوص قابل لأن تشتق منه المشتقات ، وتر ـ عليه الهيئات والصور ، وذلك لأن التلفظ ان لوحظ بنفسه. مع عدم ملاحظة شيء معه من الخصوصيات الخارجة عن حدود ذاته ، فهو مبدأ وان لو حظ قائماً بغيره فحسب ، فهو مصدر. وان لو حظ زائداً على هذا وذاك وجوده وتحققه في الخارج قبل زمان التكلم فهو ماض ، وفي زمانه وما بعده فمضارع ، وهكذا. ولكن من المعلوم انه لا صلة لذلك بما ذكرناه أصلا.

ولكن لشيخنا المحقق (قده) في هذا الموضوع كلام ، وهو ان الأمر بهذا المعنى أيضاً قابل للاشتقاق والتصريف. وقد أفاد في وجه ذلك ما إليك نصه : «وان كان وجه الإشكال ما هو المعروف من عدم كونه معنى حدثياً ففيه ان لفظ اضرب صنف من أصناف طبيعة الكيف المسموع ، وهو من الاعراض القائمة بالمتلفظ به ، فقد يلاحظ نفسه ، من دون لحاظ قيامه وصدوره عن الغير ، فهو المبدأ الحقيقي الساري في جميع مراتب الاشتقاق وقد يلاحظ قيامه فقط ، فهو المعنى المصدري المشتمل على نسبة ناقصة. وقد يلاحظ قيامه وصدوره في الحال ، أو الاستقبال ، فهو المعنى المضارعي وهكذا ، فليس هيئة اضرب كالأعيان الخارجية ، والأمور غير القائمة بشيء ، حتى لا يمكن لحاظ قيامه فقط ، أو في أحد الأزمنة ، وعليه فالامر موضوع لنفس الصيغة الدالة على الطلب مثلا أو للصيغة القائمة بالشخص وأمر موضوع للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في المضي ويأمر موضوع للصيغة الملحوظة من حيث الصدور في الحال ، أو الاستقبال».

ولنأخذ بالنقد على ما أفاده (قده) وحاصله. ان ما ذكره في إطاره وان كان في غاية الصحة والمتانة ، إلا انه لا صلة له بما ذكرناه.

والسبب في ذلك ان لكل لفظ حيثيتين موضوعيتين :

١٢

(الأولى) ـ حيثية صدوره من اللافظ خارجاً وقيامه به ، كصدور غيره من الأفعال كذلك.

(الثانية) ـ حيثية تحققه ووجوده في الخارج ، فاللفظ من الحيثية الأولى وان كان قابلا للتصريف والاشتقاق ، الا ان لفظ الأمر لم يوضع بإزاء القول المخصوص من هذه الحيثية ، والا لم يكن مجال لتوهم عدم إمكان الاشتقاق والصرف منه ، بل هو موضوع بإزائه من الحيثية الثانية ، ومن الطبيعي انه بهذه الحيثية غير قابل لذلك ، كما عرفت. فما أفاده (قده) مبنى على الخلط بين هاتين الحيثيتين.

(الجهة الثانية) ـ هل ان العلو معتبر في معنى الأمر أم لا؟ الظاهر اعتباره إذ لا يصدق الأمر عرفاً على الطلب الصادر من غير العالي ، وان كان بنحو الاستعلاء وإظهار العلو.

وعلى الجملة فصدوره من العالي منشأ لانتزاع عنوان الأمر والبعث والتحريك والتكليف وما شاكل ذلك ، دون صدوره عن غيره ، بل ربما يوجب توبيخه باستعماله الأمر. ويدلنا على ذلك ـ مضافاً إلى مطابقة هذا للوجدان ـ صحة سلب الأمر عن الطلب الصادر من غير العالي ، بل يستحق التوبيخ عليه بقوله أتأمر الأمير مثلاً ومن المعلوم ان التوبيخ لا يكون على امره بعد استعلائه ، وانما يكون على استعلائه واستعماله الأمر.

(الجهة الثالثة) ـ لا إشكال في تبادر الوجوب عرفاً من لفظ الأمر عند الإطلاق ، وانما الإشكال والكلام في منشأ هذا التبادر ، هل هو وضعه للدلالة عليه أو الإطلاق ومقدمات الحكمة أو حكم العقل به؟ وجوه بل أقوال :

المعروف والمشهور بين الأصحاب قديماً وحديثاً هو القول الأول. واختار جماعة القول الثاني ، ولكن الصحيح هو الثالث ، فلنا دعويان : (الأولى) ـ بطلان القول الأول والثاني. (الثانية) صحة القول الثالث

١٣

اما الدعوى الأولى فلأنها تبتني على ركيزتين : إحداهما ما حققناه في بحث الوضع من انه عبارة عن التعهد والالتزام النفسانيّ. وثانيتهما ما حققناه في بحث الإنشاء من انه عبارة عن اعتبار الأمر النفسانيّ ، وإبرازه في الخارج بمبرز من قول أو فعل أو ما شاكله.

وعلى ضوء هاتين الركيزتين يظهر أن مادة الأمر وضعت للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفسانيّ في الخارج ، فلا تدل على الوجوب لا وضعاً ولا إطلاقاً. اما الأول فظاهر. واما الثاني فلأنه يرتكز على كونها موضوعة للجامع بين الوجوب والندب ، ليكون إطلاقها معيناً للوجوب ، دون الندب باعتبار ان بيان الندب يحتاج إلى مئونة زائدة والإطلاق غير وافٍ به. ولكن قد عرفت انها كما لم توضع لخصوص الوجوب أو الندب ، كذلك لم توضع للجامع بينهما ، بل وضعت لما ذكرناه هذا مضافاً إلى عدم الفرق بين الوجوب والندب من هذه الناحية ، واذن فلا يكون الإطلاق معيناً للأول ، دون الثاني ، فحاله حال الوجوب من هذه الناحية من دون فرق بينهما أصلا.

وأما الدعوى الثانية : فلان العقل يدرك ـ بمقتضى قضية العبودية والرقية ـ لزوم الخروج عن عهدة ما أمر به المولى ، ما لم ينصب قرينة على الترخيص في تركه ، فلو أمر بشيء ولم ينصب قرينة على جواز تركه فهو يحكم بوجوب إتيانه في الخارج ، قضاء لحق العبودية ، وأداء لوظيفة المولوية ، وتحصيلا للأمن من العقوبة ، ولا نعني بالوجوب الا إدراك العقل لا بدية الخروج عن عهدته فيما إذا لم يحرز من الداخل أو من الخارج ما يدل على جواز تركه (الجهة الرابعة) ـ في الطلب والإرادة. قد سبق منا في الجهة الثالثة ان الأمر موضوع للدلالة على إبراز الأمر الاعتباري النفسانيّ في الخارج ، فلا يدل على شيء ما عداه. هذا من ناحية.

١٤

ومن ناحية أخرى تعرض المحقق صاحب الكفاية (قده) في المقام للبحث عن جهة أخرى ، وهي ان الطلب هل يتحد مع الإرادة أولا فيه وجوه وأقوال : قد اختار (قده) القول بالاتحاد ، وإليك نصّ مقولته.

«فاعلم ان الحق كما عليه أهله ، وفاقاً للمعتزلة ، وخلافاً للأشاعرة هو اتحاد الطلب والإرادة بمعنى ان لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد ، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائية. وبالجملة هما متحدان مفهوماً وإنشاءً وخارجاً ، لا ان الطلب الإنشائي الّذي هو المنصرف إليه إطلاقه ، كما عرفت متحد مع الإرادة الحقيقية التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا ، ضرورة ان المغايرة بينهما أظهر من الشمس ، وأبين من الأمس ، فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد ، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة كفاية ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان ، فان الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب غيرها ، سوى ما هو مقدمة تحققها عند خطور الشيء ، والميل ، وهيجان الرغبة إليه ، والتصديق لفائدته ، والجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها ، وبالجملة لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة ، والإرادة هناك صفة أخرى قائمة بها يكون هو الطلب ، فلا محيص الا عن اتحاد الإرادة والطلب ، وان يكون ذاك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو اراده ، لا كذلك مسمى بالطلب والإرادة ، كما يعبر به تارة ، وبها أخرى كما لا يخفى».

ما أفاده (قده) يحتوي على عدة نقاط : ١ ـ اتحاد الإرادة الحقيقية مع الطلب الحقيقي. ٢ ـ اتحاد الإرادة الإنشائية مع الطلب الإنشائي. ٣ ـ مغايرة الطلب الإنشائي للطلب الحقيقي ، والإرادة الإنشائية للإرادة

١٥

الحقيقة ولم يبرهن (قده) على هذه النقاط ، بل أحالها إلى الوجدان.

ولنأخذ بالنظر في هذه النقاط :

أما الأولى فهي خاطئة جداً والسبب في ذلك ان الإرادة بواقعها الموضوعي من الصفات النفسانيّة ، ومن مقولة الكيف القائم بالأنفس. وأما الطلب فقد سبق أنه من الأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان بالإرادة والاختيار ، حيث أنه عبارة عن التصدي نحو تحصيل شيء في الخارج. ومن هنا لا يقال طالب الضالة ، أو طالب العلم الا لمن تصدى خارجاً لتحصيلهما ، وأما من اشتاق إليهما فحسب وأراد فلا يصدق عليه ذلك ، ولذا لا يقال طالب المال أو طالب الدنيا لمن اشتاق وأرادهما في أفق النّفس ، ما لم يظهر في الخارج بقول أو فعل.

وبكلمة أخرى ان الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً ، فلا يصدق على مجرد الشوق والإرادة النفسانيّة ، ويظهر ذلك بوضوح من مثل قولنا طلبت زيداً ، فما وجدته ، أو طلبت من فلان كتاباً مثلا ، فلم يعطني ، وهكذا ، ضرورة أن الطلب في أمثال ذلك عنوان للفعل الخارجي ، وليس إخباراً عن الإرادة والشوق النفسانيّ فحسب ، ولا فرق في ذلك بين ان يكون الطلب متعلقاً بفعل نفس الإنسان وعنواناً له كطالب الضالة وطالب العلم وما شاكلها وان يكون متعلقاً بفعل غيره وعلى كلا التقديرين فلا يصدق على مجرد الإرادة. وقد تحصل من ذلك أن الطلب مباين للإرادة مفهوماً ومصداقاً ، فما أفاده (قده) من أن الوجدان يشهد باتحادها خطأ جداً.

وأما النقطة الثانية فقد ظهر نقدها مما أوردناه على النقطة الأولى ، وذلك لما عرفت من أن الطلب عنوان للفعل الخارجي أو الذهني ، وليس منشأ بمادة الأمر ، أو بصيغتها ، أو ما شاكلها. فاذن لا موضوع لما

١٦

أفاده (قده) من ان الطلب الإنشائي عين الإرادة الإنشائية.

ومن هنا يظهر حال النقطة الثالثة ، فانها انما تتم إذا كانت متوفرة لأمرين : (الأول) القول بان الطلب منشأ بالصيغة ، أو نحوها. (الثاني) القول بالإرادة الإنشائية في مقابل الإرادة الحقيقية ، ولكن كلا القولين خاطئ جداً.

واما النقطة الرابعة فالامر وان كان كما أفاده (قده) ، الا ان عدم تحقق الطلب حقيقة ليس بملاك عدم تحقق الإرادة كذلك في أمثال الموارد بل بملاك ما عرفت من ان الطلب عنوان لمبرز الإرادة ، ومظهرها من قول أو فعل ، وحيث لا إرادة هاهنا فلا مظهر لها ، حتى يتصف بعنوان الطلب.

وعلى ضوء هذا البيان يظهر فساد ما قيل : من ان الطلب والإرادة متباينان مفهوماً ، ومتحدان مصداقاً وخارجاً ، ووجه الظهور ما عرفت من تباينهما مفهوماً ومصداقاً ، فلا يمكن صدقهما في الخارج على شيء واحد كما مر بشكل واضح.

ثم لا يخفى ان غرض صاحب الكفاية (قده) من هذه المحاولة نفى الكلام النفسيّ الّذي يقول به الأشاعرة ، بتخيل ان القول بتغاير الطلب والإرادة يستلزم القول بثبوت صفة أخرى غير الصفات المعروفة المشهورة وبطبيعة الحال ان مرد ذلك هو التصديق بما يقوله الأشاعرة من الكلام النفسيّ.

ولكن قد عرفت ان هذه المحاولة غير ناجحة. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى انا سنذكره بعد قليل ان نفي الكلام النفسيّ لا يرتكز على القول باتحاد الطلب والإرادة ، حيث انا نقول بتغايرهما ، فمع ذلك نبرهن بصورة قاطعة بطلان محاولة الأشاعرة لإثبات ان كلامه تعالى نفسي لا لفظي.

١٧

بحث ونقد حول عدة نقاط

(الأولى) ـ نظرية الأشاعرة : الكلام النفسيّ ، ونقدها.

(الثانية) ـ نظرية الفلاسفة : إرادته تعالى من الصفات الذاتيّة ونقدها.

(الثالثة) ـ نظرية الأشاعرة : مسألة الجبر ، ونقدها.

(الرابعة) ـ نظرية المعتزلة : مسألة التفويض ، ونقدها.

(الخامسة) ـ نظرية الإمامية : مسألة الأمر بين الأمرين.

(السادسة) ـ نظرية العلماء : مسألة العقاب.

(١) نظرية الأشاعرة

الكلام النفسيّ ونقدها

ذهب الأشاعرة إلى ان كلامه تعالى من الصفات الذاتيّة العليا ، وهو قائم بذاته الواجبة ، قديم كبقية صفاته العليا ، من العلم ، والقدرة ، والحياة ، وليس من صفاته الفعلية كالخلق ، والرزق ، والرحمة ، وما شاكلها ولأجل ذلك قد اضطروا إلى الالتزام بان كلامه تعالى نفسي ، ما وراء الكلام اللفظي ، وهو قديم قائم بذاته تعالى ، فان الكلام اللفظي حادث فلا يعقل قدمه ، وقد صرحوا (١) به في ضمن محاولتهم ، واستدلالهم على الكلام النفسيّ ، وإليكم نصّ مقولتهم.

وهذا الّذي قالته المعتزلة لا ننكره نحن ، بل نقوله ، ونسميه كلاماً لفظياً ، ونعترف بحدوثه ، وعدم قيامه بذاته تعالى ، ولكنا نثبت أمراً وراء ذلك ، وهو المعنى القائم بالنفس ، الّذي يعبر عنه بالألفاظ ، ونقول

__________________

(١) شرح المواقف مبحث الإلهيات ص ٧٧.

١٨

هو الكلام حقيقة ، وهو قديم قائم بذاته تعالى ، ونزعم انه غير العبارات إذ قد تختلف العبارات بالأزمنة ، والأمكنة ، والأقوام ، ولا يختلف ذلك المعنى النفسيّ ، بل نقول ليس ينحصر الدلالة عليه في الألفاظ ، إذ قد يدل عليه بالإشارة والكتابة ، كما يدل عليه بالعبارة ، والطلب الّذي هو معنى قائم بالنفس واحد لا يتغير مع تغير العبارات ، ولا يختلف باختلاف الدلالات ، وغير المتغير أي ما ليس متغيراً وهو المعنى مغاير للمتغير الّذي هو العبارات ، ونزعم انه أي المعنى النفسيّ الّذي هو الخبر غير العلم ، إذ قد يخبر الرّجل عما لا يعلمه ، بل يعلم خلافه أو يشك فيه وان المعنى النفسيّ الّذي هو الأمر غير الإرادة ، لأنه يأمر الرّجل بما لا يريده كالمختبر لعبده هل يطيعه أم لا؟ فان مقصوده مجرد الاختبار ، دون الإتيان بالمأمور به وكالمتعذر من ضرب عبده بعصيانه ، فانه قد يأمره ، وهو يريد ان لا يفعل المأمور به ، ليظهر عذره عند من يلومه. واعترض عليه بان الموجود في هاتين الصورتين صيغة الأمر ، لا حقيقته ، إذ لا طلب فيهما أصلاً ، كما لا إرادة قطعاً ، فإذاً هو أي المعنى النفسيّ الّذي يعبر عنه بصيغة الخبر والأمر صفة ثالثة مغايرة للعلم والإرادة ، قائمة بالنفس ، ثم نزعم انه قديم لامتناع قيام الحوادث بذاته تعالى».

ومن الغريب جداً ما نسب إلى الحنابلة في شرح المواقف (١) وهذا نصه : «قال الحنابلة : كلامه حرف وصوت يقومان بذاته تعالى وانه قديم وقد بالغوا فيه حتى قال بعض جهلاً الجلد والغلاف قديمان فضلاً عن المصحف».

تتضمن هذا النص عدة خطوط : ١ ـ ان لله تعالى سنخين من الكلام : النفسيّ واللفظي ، والأول من صفاته تعالى ، وهو قديم قائم بذاته الواجبة

__________________

(١) الموقف الخامس من الإلهيات ص ٧٦.

١٩

دون الثاني. ٢ ـ ان الكلام النفسيّ عبارة عن المعنى القائم بالنفس ، ويبرزه في الخارج بالألفاظ والعبارات بشتى ألوانها واشكالها ، ولا يختلف ذلك المعنى باختلافها ، كما لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. ٣ ـ انهم عبروا عن ذلك المعنى تارة بالطلب ، وأخرى بالأمر ، وثالثاً بالخبر ، ورابعاً بصيغة الخبر. ٤ ـ ان هذا المعنى غير العلم إذ قد يخبر الإنسان عما لا يعلمه ، أو يعلم خلافه ، وغير الإرادة ، إذ قد يأمر الرّجل بما لا يريده كالمختبر لعبده ، فان مقصوده الامتحان والاختبار ، والإتيان بالمأمور به في الخارج.

ولنأخذ بالنقد على هذه الخطوط جميعاً.

اما الأول فسنبينه بشكل واضح في وقت قريب إن شاء الله تعالى ان كلامه منحصر بالكلام اللفظي ، وان القرآن المنزل على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هو كلامه تعالى ، بتمام سوره وآياته وكلماته ، لا انه حاك عن كلامه ، لوضوح ان ما يحكي القرآن عنه ليس من سنخ الكلام ، كما سيأتي بيانه. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ان السبب الّذي دعا الأشاعرة إلى الالتزام بالكلام النفسيّ هو تخيل ان التكلم من صفاته الذاتيّة ، ولكن هذا الخيال خاطئ جداً ، وذلك لما سيجيء إن شاء الله تعالى بصورة واضحة ان التكلم ليس من الصفات الذاتيّة ، بل هو من الصفات الفعلية.

واما الثاني فيتوقف نقده على تحقيق حال الجمل الخبرية والإنشائية.

اما الأولى فقد حققنا في بحث الإنشاء والاخبار ان الجمل الخبرية موضوعة للدلالة على قصد المتكلم الحكاية والاخبار عن الثبوت ، أو النفي في الواقع ، هذا بناء على نظريتنا. واما بناءً على نظرية المشهور ، فلأنها موضوعة للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع ، أو نفيها عنه. ومن الطبيعي ان مدلولها على ضوء كلتا النظريتين ليس من سنخ الكلام ، ليقال إنه

٢٠