الشيخ جعفر السبحاني
المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٨٠
قتل محمّد ، ألا قد قتل محمّد.
ولقد زاد هذا الخبر الكاذب من جرأة العدوّ فتحركت جحافله وأفراده نحو المسلمين يسعى كل واحد منهم أن يقتطع من جسم رسول الله صلىاللهعليهوآله عضوا ، وبذلك ينال فخرا في أوساط المشركين!!
وبقدر ما ترك هذا الخبر الكاذب من أثر ايجابي في نفوس المشركين ، ترك أثرا سيئا جدا في نفوس المسلمين ، وأضعف معنوياتهم بشدة بحيث تخلّى عدد كبير من المسلمين عن القتال ، ولجئوا إلى الجبل فرارا بأنفسهم ، ولم يثبت الاّ عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد من الرجال.
هل يمكن أن ينكر أحد فرار البعض؟
لا يمكن أبدا أن ينكر أحد فرار أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله إلاّ من يعدّون بالاصابع في تلك المعركة ، ولا يمنع كونهم صحابة ، أو كونهم أصبحوا في ما بعد ذوي مكانة أو مناصب في المجتمع الإسلامي في ما بعد ، من القبول بهذه الحقيقة التاريخية المرّة.
فهذا هو ابن هشام المؤرخ الاسلامي الكبير يكتب في هذا الصدد قائلا : انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بايديهم (١) فقال : ما يجلسكم؟ ( اي ما يقعدكم عن القتال والمقاومة ).
قالوا : قتل رسول الله صلىاللهعليهوآله .
قال : فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلىاللهعليهوآله .
ثم عاد الى المشركين فقاتلهم حتى قتل.
أو قال : حسب رواية كثير من المؤرخين : ـ ان كان محمد قد قتل فان ربّ محمّد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآله فقاتلوا على
__________________
(١) اي استسلموا.
ما قاتل عليه رسول الله ، وموتوا على ما مات عليه ثم قال : اللهم إنّي اعتذر إليك مما يقوله هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شد بسيفه على الكفار فقاتل حتى قتل.
ويروي ابن هشام عن أنس بن مالك ( ابن أخ انس بن النضر ) لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين جراحة فما عرفه إلاّ اخته عرفته ببنانه (١).
وكتب الواقدي في مغازيه يقول :
حدثني ابن أبي سبرة عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم واسم أبي جهم عبيد قال : كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام يقول : الحمد لله الذي هداني للاسلام ، لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب حين جالوا وانهزموا يوم احد وما معه أحد وأنّي لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له فنظرت إليه موجّها إلى الشعب (٢).
وقد بلغ الانهزام والضعف النفسي ببعض الصحابة في هذه المعركة بحيث أخذ يفكر في التبري من الاسلام لينجو بنفسه فقال : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان!! (٣).
القرآن يكشف عن بعض الحقائق :
إن الآيات القرآنية تمزق كل حجب الجهل والتعصب التي اسدلت على هذه المسألة ، وتفيد بوضوح أن طائفة من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله اعتقدوا بأن ما أخبر به رسول الله صلىاللهعليهوآله من الظفر ، والنصر لا أساس له من الصحة ، فان الله تعالى يقول في هذا الصدد :
« وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ » (٤).
وفي امكانك أيها القارئ الكريم أن تحصل على الحقائق المكتومة في هذا
__________________
(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٨٣ راجع تفسير المنار : ج ٤ ص ١٠٢.
(٢) المغازي : ج ١ ص ٢٣٧.
(٣) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢٧
(٤) آل عمران : ١٥٤.
المجال بالتمعن في آيات من سورة آل عمران (١).
فهذه الآيات تكشف بصورة كاملة عن عقيدة الشيعة حول أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله .
فان الشيعة تعتقد بأنه لم يكن جميع صحابة النبيّ صلىاللهعليهوآله أوفياء لعقيدة التوحيد ، متفانين في سبيله ، بل كان منهم الضعيف في ايمانه والمنافق ، والمتردد ، ومع ذلك لم يكن المؤمنون الأتقياء والصالحون الأبرار قلة أيضا.
ومن العجيب والمؤسف أن يسعى بعض الكتاب من أهل السنة اليوم إلى التغطية على كثير من المواقف والاعمال المشينة التي بدرت من بعض الصحابة كالذي مرّ عليك في معركة احد ، ويحاول تجاوزها بنوع من التبرير البعيد عن روح الحقيقة كمحاولة للمحافظة على شأن جميع الصحابة ، ومكانتهم على حين أن هذه التبريرات الفجة ، وهذا التعصب اللامنطقي لا يمكنها أن تمنع من رؤية الحقيقة كما هي.
فأي كاتب يستطيع إنكار مفاد هذه الآية التي تصرح قائلة :
« إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ » (٢).
إن هذه الآية تقصد اولئك الّذين رآهم أنس بن النضر ، ومن شابههم من الذين تركوا ساحة المعركة ، ولجئوا إلى الجبل ، وجلسوا يفكّرون في نجاة أنفسهم!!
والأوضح من الآية السابقة قول الله تعالى :
« إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ » (٣).
إن الله تعالى يعاتب ويوبّخ الّذين تذرّعوا ـ لفرارهم من المعركة ـ بنبإ مقتل رسول الله صلىاللهعليهوآله على يد العدوّ ، وراحوا يفكرون في الحصول على أمان من أبي سفيان بواسطة عبد الله بن أبي اذ يقول :
« وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ » (٤).
__________________
(١) الآيات : ١٢١ ـ ١٨٠.
(٢) آل عمران : ١٥٣.
(٣) و (٤) آل عمران : ١٥٥ و ١٤٤.
التجارب المرة :
إن في أحداث معركة « احد » ووقائعها تجارب مرة واخرى حلوة فهذه الحوادث والوقائع تثبت بجلاء صمود واستقامة جماعة ، وضعف وهزيمة آخرين.
كما أنه يستفاد من ملاحظة الحوادث التاريخية أنه لا يمكن اعتبار جميع المسلمين الذين عاصروا رسول الله صلىاللهعليهوآله أتقياء عدولا بحجّة أنهم صحبوا النبيّ صلىاللهعليهوآله ، لأن الذين أخلّوا مراكزهم على الجبل ، يوم احد وعصوا أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله في تلك اللحظات الخطيرة ، وجرّوا بفعلهم على المسلمين تلك المحنة الكبرى ، كانوا أيضا ممّن صحبوا النبيّ صلىاللهعليهوآله .
يقول المؤرخ الاسلاميّ الكبير الواقدي في هذا الصدد : « بايع رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم احد ثمانية على الموت : ثلاثة من المهاجرين علي وطلحة والزبير ، وخمسة من الأنصار » فثبتوا وهرب الآخرون (١).
وكتب العلامة أبن أبي الحديد المعتزلي أيضا : حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية رحمهالله في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة ٦٠٨ هجرية ، وقارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي ، فقرأ : حدثنا الواقدي عن ابن أبي سبرة عن خالد بن رياح عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن محمد بن مسلمة قال : سمعت اذناي ، وأبصرت عيناي رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول يوم احد ، وقد انكشف الناس الى الجبل وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه ، سمعته يقول :
« إليّ يا فلان ، إليّ يا فلان أنا رسول الله ».
فما عرّج عليه واحد منهما ، ومضيا!! فأشار ابن معد إليّ أي اسمع.
فقلت : وما في هذا؟ قال : هذه كناية عنهما. ( أي اللذين تسنّما مسند الخلافة
__________________
(١) المغازي : ج ٢ ص ٢٤٠.
بعد النبيّ صلىاللهعليهوآله )
فقلت : ويجوز أن لا يكون عنهما لعله عن غيرهما.
قال : ليس في الصحابة من يحتشم من ذكره بالفرار ، وما شابهه من العيب ، فيضطرّ القائل إلى الكناية إلاّ هما.
قلت له : هذا ممنوع.
فقال : دعنا من جدلك ومنعك ، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما ، وأنه لو كان غيرهما لذكرهما صريحا (١).
كما أنّ العلاّمة ابن أبي الحديد ذكر في شرحه لنهج البلاغة أيضا اتفاق الرواة كافة على أن عثمان لم يثبت في تلك اللحظات الحساسة يوم احد (٢).
وستقرأ في الصفحات القادمة ما قاله رسول الله صلىاللهعليهوآله عن امرأة مجاهدة متفانية في سبيل الرسالة الاسلامية تدعى « نسيبة المازنية » دافعت عن رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم احد.
فقد لمّح رسول الله صلىاللهعليهوآله في كلامه عنها وعن موقفها العظيم يومذاك ، إلى ما يقلّل من شأن الذين فرّوا من المعركة.
نحن لا نريد هنا الاساءة إلى أيّ واحد من صحابة النبيّ صلىاللهعليهوآله ، بل غاية ما نتوخّاه هو الكشف عن الحقيقة ، وإماطة اللثام عن الواقع ، فبقدر ما نستنكر ، ونقبّح فرار من فرّ ، نكبر صمود من صمد وثبات من ثبت ممن سنأتي على ذكرهم في الصفحات القادمة ، وهذا هو ما تمليه علينا روح التحليل الصادق أو تقتضيه أمانة النقل ، وما يسمى بالامانة التاريخية على الأقل.
خمسة يتحالفون على قتل النبيّ :
في تلك اللحظات التي تشتت فيها جيش المسلمين ، وانفرط عقده ، وفي الوقت الذي تركزت فيه أن حملات المشركين من كل ناحية على رسول الله صلّى
__________________
(١) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج ١٥ ص ٢٣ و ٢٤.
(٢) المغازي : ج ١ ص ٢٧٨ و ٢٧٩.
الله عليه وآله تعاهد خمسة أنفار من صناديد قريش المعروفين أن يضعوا نهاية لحياة النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآله ويقضوا عليها مهما كلّفهم من الثمن (١).
وهؤلاء هم :
١ ـ عبد الله بن شهاب الذي جرح جبهة النبيّ صلىاللهعليهوآله .
٢ ـ عتبة بن أبي وقاص الذي رمى رسول الله صلىاللهعليهوآله بأربعة أحجار فكسر رباعيته صلىاللهعليهوآله ، وجرح باطنها ، من الجهة اليمنى.
٣ ـ ابن قميئة الليثي الذي رمى وجنتي رسول الله صلىاللهعليهوآله وجرحهما بحيث غاب حلق المغفر في وجنته صلىاللهعليهوآله فأخرجها أبو عبيدة الجراح بأسنانه فكسرت ثنيتاه العليا والسفلى.
٤ ـ عبد الله بن حميد الذي قتل على يد بطل الإسلام أبي دجانة وهو يحمل على النبيّ صلىاللهعليهوآله .
٥ ـ ابيّ بن خلف وكان من الذين قتلوا بيد رسول الله صلىاللهعليهوآله نفسه.
فهو واجه رسول الله صلىاللهعليهوآله عند ما وصل صلىاللهعليهوآله إلى الشعب ، وقد عرفه بعض أصحابه وأحاطوا به ، فجعل يصيح بأعلى صوته : يا محمّد لا نجوت ان نجوت ، وحمل على النبيّ صلىاللهعليهوآله ولما دنا تناول رسول الله صلىاللهعليهوآله الحربة من « الحارث بن الصمّة » ، ثم انتفض انتفاضة شديدة وطعن « ابيّا » بالحربة في عنقه ، وهو على فرسه ، فجعل ابيّ يخور كما يخور الثور!
ومع أن ما أصاب ابيّا من جراحة كان يبدو بسيطا ، إلاّ أنه تملّكه رعب وخوف شديدان إذ لم ينفعه معهما تطمينات رفاقه ، ولم يذهب عنه الروع بكلامهم ، وكان يقول : واللات والعزى لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز (٢) لماتوا أجمعون.
__________________
(١) المغازي : ج ١ ص ٢٤٣.
(٢) كان ذو المجاز سوقا من أسواق العرب وهو عن يمين الموقف بعرفة قريبا من كبكب ( معجم ما استعجم على ما في حواشي المغازي : ص ٥٠٨ ).
أليس قال : ( أي النبيّ يوم كان بمكة ) أنا أقتلك إن شاء الله ، قتلني والله محمّد!!
وقد فعلت الطعنة ، وكذا خوفه فعلتهما فمات في منطقة تدعى سرف ( وهو موضع على ستة أميال من مكة ) فيما كانت قريش قافلة من احد الى مكة (١).
حقا إن هذا ينمّ عن منتهى الدناءة والخسة في خلق قريش وموقفها ، فمع أنها كانت تعرف صدق رسول الله صلىاللهعليهوآله وتعترف به ، وتنكر أن يكون قد صدر منه كذب في قول ، أو خلف في وعد ، كانت تعاديه أشدّ العداء ، وتمدّ نحوه يد العدوان ، وتبغي مصرعه ، وتسعى إلى اراقة دمه!!
كما أنه من جهة اخرى يدل على شجاعة رسول الاسلام صلىاللهعليهوآله وبطولته ومقدرته الروحية الكبرى ، من ناحية اخرى ، وثباته في عمله من ناحية ثالثة.
أجل لقد كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يدافع عن رسالته السماوية ، وعن حياض عقيدته التوحيدية العظمى ، ويصمد لاعداء صمود الجبال الرواسخ مع أنه ربما دنا من الموت وكان منه قاب قوسين أو أدنى.
ومع أنه كان صلىاللهعليهوآله يرى أن كل همّ المشركين وكل حملاتهم موجهة نحوه بشخصه ، إلاّ أنه لم يشهد أحد منه أي قول أو فعل يشعر بتوجسه واضطرابه ، ولقد صرح المؤرخون بهذا الأمر فقد كتب المقريزي ونادى المشركون بشعارهم [ يا للعزى ، يا لهبل ] فارجعوا في المسلمين قتلا ذريعا ، ونالوا من رسول الله صلىاللهعليهوآله ما نالوا. ولم يزل صلىاللهعليهوآله شبرا واحدا بل وقف في وجه العدوّ ، وأصحابه تثوب إليه مرة طائفة وتتفرق عنه مرة ، وهو يرمي عن قوسه أو بحجر حتى تحاجزوا (٢).
نعم غاية ما سمع من صلىاللهعليهوآله هو ما قاله عند ما كان يمسح الدم
__________________
(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٨٤ ، المغازي : ج ١ ص ٢٥١.
(٢) امتاع الاسماع : ج ١ ص ١٣١ ، المغازي : ج ٢ ص ٢٤٠.
عن وجهه المبارك اذ قال :
« كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدّم وهو يدعوهم إلى الله؟! » (١).
إن هذه العبارة الخالدة تكشف عن عمق رحمة النبيّ صلىاللهعليهوآله وعاطفته حتى بالنسبة إلى اعدائه الألدّاء.
بينما تكشف كلمة قالها علي عليهالسلام عن شجاعته صلىاللهعليهوآله الفائقة إذ قال :
« كنّا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلىاللهعليهوآله فلم يكن احد أقرب منّا إلى العدوّ منه » (٢).
من هنا فان سلامة النبيّ الاكرم صلىاللهعليهوآله في الحروب تعود في أكثر أسبابها إلى حسن دفاعه عن دينه ، وعن نفسه ، والى شجاعته في المعارك.
ولقد كانت ثمة علل وأسباب صانت هي الاخرى حياة رسول الله صلىاللهعليهوآله من أن يلحقها خطر أو ضرر ، الا وهو تضحية وتفاني تلك القلة القليلة من أصحابه الأوفياء الذين بذلوا غاية جهدهم للحفاظ على حياة رسول الاسلام العظيم صلىاللهعليهوآله وبذلك أبقوا على هذا المشعل الوقاد ، وهذا السراج المنير.
لقد قاتل رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم احد قتالا شديدا ، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه ، وانقطع وتره (٣).
على أن الّذين دافعوا عن رسول الله صلىاللهعليهوآله لم يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد (٤) ، وحتى هذه القلة القليلة المدافعة ثباتهم معه جميعا غير مقطوع به من منظار علم التاريخ ، ومن زاوية التحقيق التاريخي.
نعم ما هو متفق عليه بين المؤرخين ، وأرباب السير هو ثبات أفراد قلائل نعمد هنا إلى ذكر أسمائهم ومواقفهم بشيء من التفصيل.
__________________
(١) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ١٠٢.
(٢) نهج البلاغة : فصل في غريب كلامه رقم ٩.
(٣) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ١٠٧.
(٤) شرح نهج البلاغة : ج ١٥ ص ٢٠ و ٢١.
الدفاع الموفق أو النصر المجدّد :
لو أننا أسمينا هذه المرحلة من تاريخ الاسلام بمرحلة النصر المجدّد لما قلنا جزافا ، فان المقصود من هذا الانتصار هو أن المسلمين استطاعوا ـ وخلافا لتوقعات العدو الحاقد ـ أن يصونوا رسول الله صلىاللهعليهوآله من خطر الموت الذي كاد أن يكون محققا ، وهذا هو انتصار مجدّد أصابه جند الاسلام.
أما إذا عزونا هذا الانتصار إلى جيش الاسلام برمّته فان ذلك انما هو لأجل تعظيم مقام المجاهدين المسلمين ، وإلاّ فان ثقل هذا الانتصار العظيم وقع على عاتق عدد معدود جدا من رجال الاسلام الذين صانوا حياة الرسول الاكرم عن طريق المخاطرة بحياتهم ، وتعريضها للخطر الجدي.
وفي الحقيقة فإنّ بقاء الدولة الاسلامية ، وبقاء جذوة هذا الدين المبارك مشتعلة إنما هو نتيجة تضحيات تلكم القلة القليلة المتفانية في سبيل الله ورسوله.
وإليك فيما يلي استعراضا إجماليا لتضحيات اولئك الرجال المتفانين في سبيل العقيدة والدين :
١ ـ إن أول وأبرز الرجال الصامدين الثابتين على طريق الجهاد والتضحية في هذه الواقعة هو شاب بطل لم يتجاوز ربيعه السادس والعشرين من عمره ... ، هو الذي رافق رسول الله صلىاللهعليهوآله من سني صغره وبدايات حياته وحتى لحظة وفاة الرسول الاكرم صلىاللهعليهوآله .
إن بطل الاسلام الاكبر وان ذلك الفدائي الواقعي هو الامام « عليّ بن أبي طالب » عليهالسلام الذي تحفظ ذاكرة التاريخ الاسلامي عنه الكثير الكثير من مواقف التضحية والفداء في سبيل نشر الاسلام والدفاع عن حوزة التوحيد ، وارساء دعائمه.
وفي الاساس ان هذا الانتصار المجدّد ـ على غرار الانتصار الأول ـ إنما جاء نتيجة لبسالة وبطولة هذا المجاهد المتفاني في سبيل الاسلام ذلك لأن السبب الجوهري في هزيمة قريش وفرارها في بداية المعركة كان هو سقوط لوائها بعد
مقتل كل حملة اللواء على يد الامام علي عليهالسلام ، وبالتالي نتيجة للرعب الذي القي في قلوبهم لما رأوا من تساقط صناديدهم الواحد تلو الآخر ، الأمر الذي سلبهم القدرة على المقاومة.
إن الكتّاب المصريين المعاصرين الذين تناولوا حوادث التاريخ الاسلامي بالتحليل والدراسة ، لم يعطوا عليا عليهالسلام ـ وللأسف ـ حقه في هذه الموقعة ، أو على الأقلّ لم يذكروا ما اتفق عليه المؤرخون ، وتطابقت في اثباته التواريخ ، بل جعلوا تضحيات الإمام عليّ عليهالسلام ومواقفه الشجاعة والعملاقة في عداد مواقف الآخرين ، وفي مستواها.
من هنا ينبغي أن نسلّط بعض الضوء على تضحيات ذلك الفدائيّ الواقعيّ ، وذلك البطل الشجاع الذي شهدت له ساحات الوغى مواقف لا نظير لها في العظمة ، والسمو.
١ ـ يقول ابن الاثير في تاريخه (١) : كان الذي قتل أصحاب اللواء علي ـ قاله ابو رافع ـ ، ( قال ) فلما قتلهم أبصر رسول الله صلىاللهعليهوآله جماعة من المشركين فقال لعليّ : احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرّقهم ، وقتل منهم ، ثم أبصر جماعة اخرى فقال له : احمل عليهم ، فحمل عليهم وفرّقهم وقتل منهم ، فقال جبرئيل : يا رسول الله هذه المواساة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله إنه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما قال : فسمعوا صوتا :
« لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلا علي » (٢).
وقد شرح ابن أبي الحديد هذه القضية بتفصيل أكثر اذ كتب في شرحه لنهج البلاغة يقول : لما فرّ معظم أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوآله يوم احد كثرت عليه كتائب المشركين وقصدته كتيبة من بني كنانة ، ثم من بني عبد مناة بن
__________________
(١) الكامل : ج ٢ ص ١٠٧.
(٢) ومثله في تاريخ الطبري : ج ٢ ص ١٩٧ ، ميزان الاعتدال : ج ٣ ص ٣٢٤ ، لسان الميزان : ج ٤ ص ٤٠٦.
كنانة فيها بنو سفيان بن عويف ، وهم خالد بن ثعلب وأبو الشعثاء بن سفيان وأبو الحمراء بن سفيان وغراب بن سفيان ، وانها لتقارب خمسين فارسا وهو ( أي علي عليهالسلام ) راجل ، فما زال يضربها بالسيف تتفرق عنه ، ثم تجتمع عليه هكذا مرارا حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة منها ممن لا يعرف اسماؤهم.
ثم نقل ما قاله جبرئيل ، ثم كتب يقول : قلت وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين وهو من الاخبار المشهورة وقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن اسحاق ورايت بعضها خاليا عنها ، وسألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة عن هذا الخبر ، فقال : خبر صحيح.
فقلت له : فما بال الصحاح ( أي مثل صحيح البخاري ومسلم وما شاكلهما ) لم تشتمل عليه؟
قال : أو كلّ ما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح؟ كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة؟! (١).
٢ ـ ولقد اشار الامام علي عليهالسلام نفسه في كلام مفصل له مع رأس اليهود إلى هذا الموقف اذ قال :
« ذهب النبيّ صلىاللهعليهوآله وعسكر بأصحابه في سد احد واقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد واستشهد من المسلمين من استشهد ، وكان ممّن بقي من الهزيمة ، وبقيت مع رسول الله صلىاللهعليهوآله ومضى المهاجرون والانصار الى منازلهم من المدينة كلّ يقول قتل النبيّ صلىاللهعليهوآله وقتل أصحابه ، ثم ضرب الله عزّ وجلّ وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوآله نيفا وسبعين جراحة ، منها هذه ، وهذه ».
ثم انه عليهالسلام ألقى رداءه ، وأمرّ يده على جراحاته ، وقال :
« وكان منّي في ذلك ما على الله عزّ وجلّ ثوابه إن شاء الله » (٢).
__________________
(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ١٤ ص ٢٥٠ و ٢٥١.
(٢) الخصال : ص ٣٦٨.
وقد بلغ عليّ عليهالسلام ـ حسب رواية علل الشرائع ـ من كثرة ضربه لطوائف المشركين الذين كانوا يحملون على رسول الله صلىاللهعليهوآله يوم احد ، ان انكسر سيفه ، فجاء الى النبيّ صلىاللهعليهوآله وقال : يا رسول الله إنّ الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي ، فأعطاه عليهالسلام سيفه ذا الفقار فما زال يدفع به عن رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقال جبرئيل في حقه وفي سيفه ما مرّ (١).
وقد اشار ابن هشام في سيرته إلى العبارة التي نادى بها جبرئيل إذ قال : وحدثني بعض أهل العلم ان ابن أبي نجيح قال : نادى مناد يوم احد : لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ (٢).
كما عد ابن هشام في سيرته (٣) القتلى من المشركين في احد (٢٢) رجلا ، وقد ذكر أسماءهم واحدا واحدا وذكر قبائلهم ، وغير ذلك من خصوصياتهم ، وقد قتل منهم (١٢) رجلا بيد علي عليهالسلام ، وقتل البقية بايدي المسلمين ، ونحن نعرض هنا عن ذكر اسماء اولئك المقتولين رعاية للاختصار.
هذا ونحن نعترف بأننا لم نستطع بيان كل ما قام به علي عليهالسلام من خدمات كبرى في هذه الصفحات القلائل على نحو ما جاء في كتب الفريقين السنة والشيعة وبخاصة في موسوعة بحار الأنوار.
إن ما نستفيده من مطالعة الروايات والأخبار الثابتة والمتعددة في هذا المجال هو انه لم يثبت أحد في معركة « احد » كما ثبت علي عليهالسلام (٤).
٢ ـ أبو دجانة ، وهو البطل المسلم الثاني بعد الامام علي عليهالسلام في الصمود ، والتضحية ، والبسالة والفداء دفاعا عن حياة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله .
فقد بلغ من حرصه على حياة النبيّ صلىاللهعليهوآله ودفاعه عنه أن
__________________
(١) علل الشرائع : ص ٧ ، بحار الانوار : ج ٢٠ ص ٧١.
(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٠٠.
(٣) السيرة النبوية : ج ٢ ص ١٢٧ و ١٢٨.
(٤) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٨٤.
جعل من نفسه ترسا يقي النبيّ صلىاللهعليهوآله من سيوف الكفار ورماحهم ، وسهامهم وأحجارهم ، وقد وقعت سهام كثيرة في ظهره ولكنه ظل مترسا بجسمه دون النبيّ ، وبذلك حافظ على حياته الشريفة (١).
وقد جاء أن رسول الله صلىاللهعليهوآله قال له يوم « احد » بعد ان فرّ وانهزم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله وحاصره الكفار من كل جانب يا أبا دجانة أما ترى قومك ، قال : بلى ، قال : « الحق بقومك وأنت في حل من بيعتي ، أمّا عليّ فهو أنا وأنا هو ».
فبكى أبو دجانة بكاء مرا وقال :
لا والله ، لا جعلت نفسي في حل من بيعتي إني بايعتك ، فالى من أنصرف يا رسول الله الى زوجة تموت ، أو ولد يموت ، او دار تخرب ، او مال يفنى ، أو أجل قد اقترب؟
فرّق له النبيّ صلىاللهعليهوآله فلم يزل يقاتل حتى اثخنته الجراحة وهو في وجه و « عليّ » في وجه ، فلما سقط احتمله علي عليهالسلام فجاء به إلى النبيّ صلىاللهعليهوآله فوضعه عنده فقال : يا رسول الله أوفيت ببيعتي؟ قال : نعم (٢).
وقد ذكر في كتب التاريخ أشخاص آخرون كعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وطلحة بن عبيد الله ، وغيرهم ممن يبلغ ـ حسب بعض الكتب ـ ٣٦ شخصا ادعي أنهم ثبتوا ولم يفروا ، إلاّ أنّ ما هو مسلم به تاريخيا هو ثبات علي عليهالسلام وأبي دجانة ، وحمزة وامرأة تدعى أم عامر ، وأما ثبات غير هؤلاء الأربعة فامر مظنون بل ومشكوك في بعضهم.
٣ ـ حمزة بن عبد المطلب ، عمّ رسول الله صلىاللهعليهوآله وكان من شجعان العرب ومن المعروفين ببطولاته في الاسلام ، وهو الذي أصرّ على أن
__________________
(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٨٢.
(٢) بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ١٠٧ و ١٠٨ عن روضة الكافي : ص ٣١٨ ـ ٣٢٢.
يخرج المسلمون من المدينة ويقاتلوا قريشا خارجها.
ولقد دأب حمزة على حماية رسول الله صلىاللهعليهوآله من أذى المشركين والوليين في اللحظات الخطيرة ، والظروف القاسية من بدء الدعوة المحمدية بمكة.
وقد ردّ على أبي جهل الذي كان قد أذى رسول الله صلىاللهعليهوآله بشدة ، وضربه ضربه شج بها رأسه في جمع من قادة قريش ولم يجرأ احد على مقابلته.
لقد كان حمزة مسلما مجاهدا وبطلا فدائيا متفانيا في سبيل الاسلام ، فهو الذي قتل « شيبة » وشيبة من كبار صناديد قريش وابطالها ، في بدر كما قتل آخرين ، ولم يهدف إلاّ نصرة الحق ، والفضيلة ، وإقرار الحرية في حياة الشعوب والامم.
ولقد كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان تحقد عليه أشدّ الحقد ، وقد عزمت على أن تنتقم من المسلمين لأبيها مهما كلّف الثمن.
فأمرت « وحشيا » وهو غلام حبشي لجبير بن مطعم الذي قتل هو الآخر عمّه في بدر بأن يحقق غرضها ، وأملها كيفما استطاع ، وقالت له : لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لاعطينّك رضاك.
فقال وحشي لها : أمّا محمد فلا أقدر عليه ، وأما علي فوجدته رجلا حذرا كثير الالتفات فلا أطمع فيه ، وأما حمزة فاني أطمع فيه لأنه اذا غضب لم يبصر بين يديه.
يقول وحشي : ولما كان يوم احد كمنت لحمزة في أصل شجرة ليدنوا مني ، وكان حمزة يومئذ قد أعلم بريشة نعامة في صدره ، فو الله إني لأنظر إليه يهدّ الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء ، فهززت حربتي ـ وكان ماهرا في رمي الحراب ـ حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه ، فوقعت في ثنته ( وهي أسفل البطن ) حتى خرجت من بين رجليه ، وذهب لينوء نحوي ، فغلب ، وتركته واياها حتى مات ، ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت الى العسكر فقعدت فيه ، ولم يكن لي بغيره حاجة ، وانما قتلته لأعتق.
فلما قدمت الى مكة اعتقت ثم اقمت حتى إذا افتتح رسول الله صلىاللهعليهوآله مكة هربت الى الطائف فمكثت بها. فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ليسلموا تعيّت عليّ المذاهب ، فقلت : ألحق بالشام أو اليمن ، أو ببعض البلاد ، فو الله إني لفي ذلك من همّي إذ قال لي رجل : ويحك إنه والله ما يقتل أحدا من الناس دخل في دينه ، وتشهّد شهادته.
فلما قال لي ذلك ، خرجت حتى قدمت على رسول الله صلىاللهعليهوآله المدينة ، فلم يرعه إلاّ بي قائما على رأسه أتشهّد بشهادة الحق ، فلمّا رآني قال : أو حشي؟!
قلت : نعم يا رسول الله.
قال : اقعد فحدّثني كيف قتلت حمزة ، فحدثته بما جرى له معه ، فلما فرغت من حديثي قال : ويحك! غيّب عني وجهك فلا أرينّك.
أجل هذه هي الروح النبويّة الكبرى ، وتلك هي سعة الصدر التي وهبها الله تعالى لنبيه صلىاللهعليهوآله قائد الاسلام الأعلى ، ومعلم البشرية الاكبر ، تراه عفى عن قاتل عمه ، مع أنّه كان في مقدوره أن يعدمه بمائة حجة وحجة!!
يقول وحشي : فكنت أتنكّب رسول الله صلىاللهعليهوآله حيث كان لئلاّ يراني ، حتى قبضه الله صلىاللهعليهوآله .
فلما خرج المسلمون الى قتال مسيلمة الكذاب خرجت معهم ، وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة ، فلمّا التقى الناس رايت مسيلمة الكذاب قائما في يده السيف ، وما أعرفه ، فتهيأت له ، وتهيّأ له رجل من الأنصار من الناحية الاخرى ، كلانا يريده فهزرت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه ، فوقعت فيه ، وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف.
هذا هو ما ادّعاه وحشي ، بيد أنّ هشام قال في سيرته : بلغني أن وحشيا لم يزل يحدّ في الخمر حتى خلع من الديوان فكان عمر بن الخطاب يقول : قد علمت أنّ الله تعالى لم يكن ليدع قاتل حمزة (١).
__________________
(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٧٢ و ٧٣.
٤ ـ أمّ عمارة :
لا ريب أن الجهاد الابتدائي مرفوع عن المرأة ساقط عنها في نظر الاسلام ، ولهذا عند ما أوفدت نساء المدينة امرأة الى رسول الله صلىاللهعليهوآله لتتحدّث معه حول الحرمان من هذه العبادة الكبرى ، فجاءت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله وقالت : يا رسول الله نحن نقوم بكل ما يحتاج إليه الرجال في حياتهم ، ليجاهدوا ببال فارغ ، فلم حرمنا نحن من هذه الفضيلة؟!
فأجابها رسول الله صلىاللهعليهوآله قائلا : « إنّ حسن التبعّل يعدل ذلك كله » ، وهو صلىاللهعليهوآله يشير إلى أن لهذا المنع أسبابه الطبيعية والوظيفية في طبيعة المرأة وخلقتها ، وليس هو بالتالي يعني حرمانها من شيء فان قيامها على الوجه الصحيح بخدمة زوجها وتربية أولادها تعدل الجهاد في سبيل الله (١).
بيد أن بعض النسوة المجرّبات ربما كن يخرجن من المدينة لمساعدة جنود الاسلام كسقي العطاشى ، وغسل ثياب المقاتلين ، وتضميد الجرحى. وبذلك كنّ يقدّمن خدمة مؤثرة في نصرة المسلمين ودعمهم.
تقول أمّ عمارة ( نسيبة المازنية ) : خرجت أول النهار الى « احد » وأنا أنظر ما يصنع الناس ، ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت الى رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو في الصحابة ، والدولة والريح للمسلمين.
فلما انهزم المسلمون انحزت الى رسول الله صلىاللهعليهوآله فجعلت أباشر القتال وأذبّ عن رسول الله صلىاللهعليهوآله بالسيف ، وأرمي بالقوس حتى خلصت إليّ الجراح.
( تقول راوية هذا الكلام ) فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور ، فقلت : يا أمّ عمارة من أصابك بهذا؟.
قالت : أقبل ابن قميئة وقد ولّى الناس عن رسول الله ، يصيح : دلّوني على
__________________
(١) اسد الغابة : ج ٥ ص ٣٩٨.
محمد ، لا نجوت إن نجا. فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه ، فكنت فيهم فضربني هذه الضربة ، ولقد ضربته على ذاك ضربات ، ولكنّ عدوّ الله كان عليه درعان. هذا والنبيّ صلىاللهعليهوآله ينظر إليّ ، فنظر الى جرح على عاتقي ، فصاح بأحد اولادي وقال : « امّك امّك اعصب جرحها ». فعاونني عليه.
ثم إنها رأت أن ابنها جرح فاقبلت إليه ومعها عصائب في حقويها قد أعدّتها للجراح فربطت جرحه والنبيّ صلىاللهعليهوآله ينظر ، ثم قالت لولدها : انهض يا بني فضارب القوم.
فأعجب رسول الله صلىاللهعليهوآله باستقامتها وثباتها وايمانها وقال :
« ومن يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة »؟!
وفي الأثناء اقبل الرجل الذي ضرب ولدها فقال رسول الله صلىاللهعليهوآله هذا ضارب ابنك فاعترضت له ، وحملت عليه كالأسد المغضب وضربت ساقه فبرك.
فازداد رسول الله صلىاللهعليهوآله إعجابا بشجاعتها وتبسّم حتى بدت نواجذه وقال : « استقدت يا أمّ عمارة الحمد لله الذي ظفّرك وأقرّ عينك من عدوّك ».
وعند ما نادى منادي النبيّ صلىاللهعليهوآله الى حمراء الأسد ، بعد معركة احد ، وطلب من الجرحى أن يخرجوا لملاحقه جيش المشركين ، شدّت عليها ثيابها وقد كان بها جراح عديدة أعظمها الجرح الذي على عاتقها فما استطاعت بسبب نزف الدم ، فأرادت أن تخرج مع العسكر منعتها جراحها الباهضة من ذلك ، فلما رجع رسول الله صلىاللهعليهوآله من غزوة حمراء الاسد ما وصل الى بيته حتى أرسل إليها عبد الله بن كعب المازني يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها ، فسرّ النبيّ بذلك.
ولقد أثار موقف هذه المرأة البطلة الثابتة على درب الايمان سرور النبيّ واعجابه فقال في حقها مشيدا بموقفها البطل ومعرضا بفرار من فرّ وهروب من هرب في معركة احد :
« لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من فلان وفلان ».
وكانت نسيبة قد طلبت من النبيّ صلىاللهعليهوآله يوم احد بعد أن أشاد النبيّ صلىاللهعليهوآله بصلابتها ومواقفها أن يدعو لها بمرافقته في الجنة فقال النبيّ صلىاللهعليهوآله داعيا لها ولأهل بيتها :
« بارك الله عليكم من أهل بيت رحمكم الله. اللهم اجعلهم رفقائي في الجنّة ».
وقال ابن أبي الحديد معلقا على عبارة رسول الله صلىاللهعليهوآله : « لمقام نسبية اليوم خير من مقام فلان وفلان » قلت : ليت الراوي لم يكنّ هذا الكناية ، وكان يذكر من هما بأسمائهما حتى لا يترمى الظنون إلى امور مشتبهة ، ومن أمانة الحديث أن يذكر الحديث على وجهه ولا يكتم منه شيئا فما باله كتم اسم هذين الرجلين (١).
ولكننا نعتقد أن الرجلين هما من الشخصيات التي تسنمت مراكز القيادة العليا بعد وفاة رسول الله صلىاللهعليهوآله وقد أحجم الراوي عن التصريح بأسمائهما إما احتراما أو تقية وخوفا.
بقية واقعة « احد » :
لقد آلت تضحيات ثلة قليلة ومعدودة من رجال الاسلام المتفانين وبسالتهم الى الابقاء على حياة رسول الله صلىاللهعليهوآله وحفظها من الخطر القطعي الحتمي.
ومن حسن الحظ أن أكثر أفراد العدوّ قد تصوروا يومئذ أن النبيّ صلىاللهعليهوآله قد قتل ، ومضوا يفتشون عن جسده بين القتلى ، ودفعت الحملات التي كان يقوم بها أقلية من المشركين على رسول الله صلىاللهعليهوآله قد ردّت على
__________________
(١) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج ١٤ ص ٢٦٥ ـ ٢٦٧ ، المغازي : ج ١ ص ٢٦٩ و ٢٧٠ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ١٣٤.
اعقابها بفضل ثبات علي عليهالسلام وأبي دجانة وأنفار آخرين ( احتمالا ) وقد رأى النبيّ صلىاللهعليهوآله أن من الصالح في تلك اللحظات أن لا ينتشر تكذيب شائعة مقتل النبيّ صلىاللهعليهوآله لكي لا يصرّ العدو على البقاء في أرض المعركة مع ما كان عليه المسلمون من التشتت والتفرق ، والمحنة ، ومن هنا صعد هو وبعض أصحابه إلى الشعب في جبل احد.
وفي خلال ذلك سقط رسول الله صلىاللهعليهوآله في حفيرة في الجبل حفرها أبو عمار الفاسق للمسلمين ، فأخذ علي عليهالسلام بيد النبيّ صلىاللهعليهوآله وأخرجه منها ، وكان أوّل من عرف رسول الله صلىاللهعليهوآله من المسلمين ، « كعب بن مالك » وقد رأى عينيه صلىاللهعليهوآله تزهران من تحت المغفر فنادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أبشروا هذا رسول الله صلىاللهعليهوآله فأشار إليه رسول الله صلىاللهعليهوآله أن أنصت.
وذلك لأن انتشار خبر سلامة النبيّ صلىاللهعليهوآله كان من شأنه أن يدفع المشركين ـ كما قلنا ـ الى مواصلة حملاتهم على المسلمين ، بهدف استئصال شأفتهم ولهذا أمر النبيّ صلىاللهعليهوآله كعبا بالسكوت ، فسكت كعب.
وأخيرا وصل رسول الله صلىاللهعليهوآله الى فم الشعب ، ولما عرف المسلمون بحياته صلىاللهعليهوآله سروا بذلك وأخذوا يتجمّعون عنده ، وهم يظهرون الندامة من تركه بين الاعداء ، والفرار بأنفسهم الى الجبل ، وأخرج أبو عبيدة الجرّاح حلقتي المغفر من وجه رسول الله صلىاللهعليهوآله وجاء علي عليهالسلام بماء في درقته فغسل رسول الله صلىاللهعليهوآله وجاء علي عليهالسلام بماء في درقته فغسل رسول الله صلىاللهعليهوآله به الدم عن وجهه وصبّ منه على رأسه وقال :
« اشتدّ غضب الله على من دمّى وجه نبيّه » (١).
العدوّ يحاول استغلال الفرصة :
في الوقت الذي واجه المسلمون فيه هزيمة كبرى انهارت بها الكثير من
__________________
(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٨٣.
المعنويات اغتنم العدوّ الفرصة للترويج عن معتقداته ، فأطلق شعارات متعددة ضد عقيدة التوحيد ، كان من شأنها أن تغري البسطاء ، والضعفاء في الايمان وتؤثر فيهم ، وتزلزل إيمانهم. فليست هناك حالة لبثّ العقائد وتسريبها إلى النفوس أفضل من حالة الانهزام والنكسة ، والبلاء والمصيبة ، ففي حالة كهذه يبلغ الضعف النفسي لدى المصاب والمنكوب حدّا يفقد معه العقل سيطرته على الانسان بحيث يفقد على أثر ذلك قدرة التمييز بين الحق والباطل وفي هذه الصورة تصبح مسألة بثّ الدعايات السيئة وزرعها في النفوس واستثمارها مسألة بسيطة ، اذ يكون الانسان في هذه الحالة أكثر تقبلا وأيسر قبولا.
من هنا عمد أبو سفيان وعكرمة فرفعا أصناما كبيرة على الايدي بعد الحاق الهزيمة بالمسلمين ، وأظهروا الفرح والسرور وأخذوا ينادون بأعلى أصواتهم ـ مستغلين هذه الفرصة ـ : « اعل هبل ، اعل هبل »!!
ويعنون بذلك الشعار أن الانتصار الذي أحرزه المشركون إنما هو بفضل الصنم : هبل ، وبالتالي بفضل الوثنية التي تدين بها أهل مكة. ولو كان ثمة إله سواه ، وكانت عقيدة التوحيد على حق لانتصر المسلمون ، ولما خلص إليهم من المحنة ما خلص
فادرك رسول الله صلىاللهعليهوآله عمق الخطر الذي يكمن في الاسلوب الذي أخذ العدوّ يمارسه في مثل هذه اللحظة الحساسة ، وما سيتركه ذلك من أثر سيئ في النفوس ، وبخاصة الضعيفة منها. ولهذا تناسى كل أوجاعه ومصاعبه وأمر عليّا والمسلمين فورا بأن يجيبوا منادي الشرك بشعار مضاد قوي ، فقال : قولوا :
« الله أعلى واجلّ ، الله اعلى واجلّ ».
أي انّ هذه الهزيمة ليست نابعة من عقيدة التوحيد ، بل هي ناشئة من انحراف بعض الجنود عن أوامر القائد وتعليماته العسكرية الحكيمة.
وبيد أن أبا سفيان لم يكف عن اطلاق شعاراته ، والمضيّ في الدعاية لمعتقده الباطل فقال : نحن لنا العزّى ولا عزى لكم!!