آية الله ناصر مكارم الشيرازي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمانزاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-003-3
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٢
مضمون حديث النجوم :
إن حديث أو أحاديث النجوم تشير إلى امور مختلفة :
١ ـ إنّ هذا الحديث في واقع الأمر إشارة إلى آيات القرآن التي تبيّن أنّ لنجوم السماء أثرين مهمين :
أولاً : قوله تعالى : (وَبالنَّجْمِ هُم يَهتَدُونَ). (النحل / ١٦)
ويقول في مكان آخر : (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحرِ). (الانعام / ٩٧)
إنّ هذا في الواقع إشارة إلى احدى الفوائد المهمّة للنجوم ، فقبل اختراع البوصلة كان من المتعذر تشخيص الطرق لاسيما في الأسفار البحرية ـ حيث لا وجود للجبال والأشجار ـ إلّا عن طريق النجوم ، لهذا فإنّ السفن تتوقف عن المسير خلال الليالي التي تغطي فيها الغيوم السماء ، وإذا واصلت طريقها فإنّ خطر الموت يهددها.
وهذا يعود إلى أنّ نجوم السماء متجمعة ماعدا النجوم الخمسة السيارة (عطارد ، الزهرة ، المريخ ، المشتري ، وزحل) ولا تغير مكانها ، وكأنّها جواهر قد رصعت قطعة قماش سوداء ، وهذه القطعة سحبت باتّجاه معين وهنّ يأخذن بها في الاتّجاه المعاكس ، لهذا فقد سميت «الثوابت» بالإضافة إلى النجمة القطبية الثابتة في مكانها التي لاتبزغ أو تأفل كسائر النجوم ، وهذا الوضع أدّى إلى أن يتعرفوا على سائر النجوم ويعرفوا مكانها على مدار السنة ، وأن يلتمسوا طريقهم نحو مقاصدهم من خلال الخارطة التي كانت لديهم.
والفائدة الاخرى هي مايقوله القرآن في أنّ بعض النجوم «رجومٌ» للشياطين ، أي أّنها بمثابة السهام التي تنطلق نحو الشياطين وتحول دون نفوذهم إلى السموات ، إذ يقول القرآن : (انَّا زَيّنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَواكِبِ* وَحِفْظاً مِّنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مّارِدٍ* لَّا يَسَّمَّعُونَ الَى المَلَا الاعْلَى وَيُقذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُم عَذابٌ وَاصِبٌ). (الصافات / ٦ ـ ٩)
من هذه الآيات وسائر آيات القرآن يمكن أن ندرك مفهوم أمان النجوم لأهل الأرض.
فكيف توصد النجوم أو «الشهب» الطريق أمام الشياطين ، وتمنعها عن النفوذ إلى السموات؟ إنّ هذه المسألة يجب أن تبحث على حدة ، وقد أوردنا شرحها في ذيل هذه الآيات في التفسير الامثل ، وما يتوجب الاهتمام به هنا هو المفهوم الإجمالي للآيات التي تبين أنّ النجوم هي سبب تقهقر الشياطين عن الملأ الأعلى ، ويصبح منطقة منزهة للملائكة والكروبيين وهذا المقدار كاف لتفسير حديث النجوم.
نعم فآل النبي صلىاللهعليهوآله كنجوم السماء ، فمن جهة ينقذون الناس من الضلالة في ظلمات الكفر والفساد والذنوب ، ويشخصون لهم سبيل بلوغ غاياتهم ، ويحفظون سالكي سبيل الحق من الغرق وسط أمواج الضلالة.
ومن جهة اخرى عندما يحاول شياطين الجن والانس النفوذ إلى حرم الإسلام ليقوموا بتحريف أحكام القرآن والسنّة فإنّهم عليهمالسلام يردونهم على أعقابهم كالشهب الثاقبة ، ويردون كيدهم إلى نحورهم ويحولون دون اطلاعهم على الأسرار.
وهذه النكتة جديرة بالاهتمام أيضاً لاسيما وأنّها تبيّن أنّ أهل البيت عليهمالسلام أمان للُامة ازاء الاختلافات ، فلو استمرت الاختلافات لصار الناس من حزب ابليس كما قال الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله : «اختلفوا فصاروا حزب ابليس» وهذا التعبير مفعم بالمعاني.
٢ ـ يستفاد من هذا الحديث أن خطَّ هداية أهل البيت عليهمالسلام متواصل حتى فناء الكون ، كاستمرار أمان النجوم لأهل السماء أو أهل الأرض.
٣ ـ أنّه يثبت عصمتهم من الخطأ والذنب أيضاً ، فلو أمكن صدور الخطأ والذنب عنهم لم يتسن لهم أن يكونوا أماناً ـ بشكل كامل ومطلق ـ لأهل الأرض في مواجهة الاختلاف والضلال ، (تأملوا جيداً).
٤ ـ كما أنّ نجوم السماء تتبادل البزوغ فكلما أفل منها واحدٌ بزغ آخر ، وكلما اختفت منها مجموعة في الافق ،
طلعت اخرى ، فإنّ أهل البيت عليهمالسلام كذلك أيضاً.
وقد وضح علي عليهالسلام هذا الأمر بصريح العبارة في نهج البلاغة :
«ألا أن مثل آل محمد صلىاللهعليهوآله كمثل نجوم السماء إذا هوى نجمٌ طلع نجمٌ» (١).
__________________
(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٠.
ولعل الأمر لا يحتاج إلى تذكير بعدم إمكانية تفسير أهل البيت عليهمالسلام في هذه الروايات بنساء النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله ، لأنّه يتحدث عن أشخاص يمثلون أساس هداية الامّة ونجاتها من الغرق في الضلالة ، ويتصدون للاختلافات في كل عصر ، ونحن نعلم أنّ نساء النبي كن يعشن في زمان خاص ، بالإضافة إلى أنهنَّ لم يكن لهنّ دور خاص في التصدّي للاختلافات.
* * *
سؤال :
ربما يقال : إننا نقرأ في الحديث المروي عن النبي صلىاللهعليهوآله في مختلف الكتب : «أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيّما أخذتم به اهتديتم» (١).
فهل أنّ هذا الحديث لا يتعارض والأحاديث المذكورة التي وردت بحق أهل البيت عليهمالسلام؟
للاجابة عن هذا السؤال ، لابدّ من الالتفات إلى بعض الامور :
١ ـ على فرض أنّ حديث «أصحابي كالنجوم» حديث معتبر فهو لا يتعارض مع ما ورد بحق أهل البيت عليهمالسلام ، لأنّ وجود مرجع واحد في بيان حقائق الإسلام لا يتعارض مع وجود المراجع الآخرين ، لاسيما وأنّه لم يرد الكلام في حديث «أهل بيتي كالنجوم» عن القرآن الكريم ، بينما يمثل القرآن الكريم أهم سند للمسلمين.
٢ ـ إنّ هذا الحديث «موضوع» و «مقدوح به» من ناحية السند لدى الكثير من علماء أهل السنة ، أو مشكوك على أقل تقدير.
ومن الذين صرحوا بهذا المعنى «أحمد بن حنبل» أحد الأئمّة الأربعة لأهل السنّة ، و «ابن حزم» ، و «أبو إبراهيم المزني» ، أحد أصحاب الشافعي و «الحافظ البزاز» و «الدار قطني» و «الذهبي» وطائفة اخرى ، حيث يخرجنا نقل كلام كل منهم عن إطار البحث التفسيري ، ولكن بإمكانكم مراجعة «خلاصة كتاب عبقات الأنوار» بغية الاطلاع الواسع على جميع هذه الأقوال (٢).
__________________
(١) جامع الاصول ، ج ٩ ، ص ٤١٠.
(٢) خلاصة العبقات ، ج ٣ ، ص ١٢٤ إلى ١٦٧ (وفي هذا الكتاب بين ضعف سند هذا الحديث عن أكثر من ثلاثين من علماء أهل السنة مع شرح لأحوالهم).
٣ ـ إنّ مضمون هذا الحديث لا يتناسب مع المعايير المنطقية ، فانّنا نعلم أنّ اختلافات شديدة قد وقعت بين أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله (الأصحاب بالمعنى الشامل للكلمة ، نعني جميع الذين أدركوه صلىاللهعليهوآله وكانوا إلى جانبه) ، وقد أُريقت دماء كثيرة بسبب هذه الاختلافات ووقعت حروب رهيبة ، فأي منطق يرتضي لنا أن نعتبر فرقتين متخاصمتين وكل منهما متعطش لدم الآخر ، أنوار هداية ، ونخيرُّ الناس بأنّ لا فرق بالنسبة لكم في أن تلتحقوا بمعسكر أمير المؤمنين عليهالسلام أو بمعسكر معاوية؟ أي : أنّ الأمر سيان للقوم في حرب الجمل سواء كانوا مع علي عليهالسلام أو مع طلحة والزبير! فكلهم أنوار هداية ويأخذون بأيديكم إلى الجنّة؟
فلا عقل يقبل مثل هذا المنطق ، والنبي الأكرم صلىاللهعليهوآله أسمى وأرفع من أن ينسب إليه مثل هذا.
إنَّ القرائن تبرهن على أنّ حكام «بني أُمية» ومن لف لفهم قد ابتدعوا هذا الحديث ونسبوه إلى النبي الأكرم صلىاللهعليهوآله من أجل ترسيخ دعائمهم أو إضعاف معنى حديث النجوم والتقليل من أهميّة أهل البيت عليهمالسلام ، ليفهموا أهل الشام أن لو كانت حكومة علي عليهالسلام على الحق ومشعل هداية ، فإنّ حكومة معاوية كذلك بحكم كونه من أصحاب رسول الله ، فلا فرق في أن تكونوا مع هذا أو مع ذاك ، والله العالم بحقائق الامور.
* * *
٤ ـ حديث «الأئمّة الأثنى عشر»
الحديث الآخر الذي يكشف عن منزلة أهل البيت عليهمالسلام في الولاية والإمامة بشكل عام ، وبإمكانه الاجابة عن الكثير من الأسئلة التي ترد بهذا الصدد ، هو ذلك الحديث الذي يذكر أنّ الأئمّة اثنى عشر وهو من أشهر الأحاديث ، وقد نقل في أكثر كتب الصحاح ، وفي البداية نتجه نحو سند الحديث ، ومن ثم نتطرق إلى مضمونه :
روي هذا الحديث عن جملة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله إذ تنتهي أكثر الأسانيد إلى «جابر بن سمرة» ، ثم إلى «عبد الله بن مسعود» و «عبد الله بن عمر» ، و «عبد الله بن عمرو بن العاص» ، و «عبد الملك بن عمير» ، و «أبي الجلد» ، و «أبي جحيفة» (وهم سبعة أشخاص على الأقل) ، إلّاأنّ حفاظ الحديث والذين نقلوه في كتبهم بلغوا العشرات ، والآن نلفت انتباهكم إلى جانب منها :
١ ـ روي في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة أنّه قال : «سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : «لايزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة ـ ثم قال كلمة لم افهمها! فقلت لأبي : ما قال؟ فقال : كلّهم من قريش» (١).
وينقل في هذا الكتاب بسند آخر عن جابر ، وجاء : «لايزال هذا الأمر» بدلا عن «لايزال هذا الدين عزيزاً» ، وجاء في تعبير ثالث وبسند آخر : «لايزال هذا الدين عزيزاً منيعاً».
ويروى عن عامر بن سعد بن أبي وقاص بتعبير رابع : إنني كتبت إلى جابر بن سمرة أن اكتب لي الأخبار التي سمعتها من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فكتب لي : سمعت رسول الله يقول : «لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ، أو يكون عليكم اثنى عشر خليفة كلهم من قريش».
__________________
(١) صحيح مسلم ، ج ٣ ، ص ١٤٥٣.
وسمعت أيضاً : «عصيبة من المسلمين يفتتحون بيت أبيض ، بيت كسرى أو آل كسرى». وسمعته يقول أيضاً : «إنّ بين يدي الساعة كذّابين فاحذروهم» (١).
وعن طريق آخر جاء في صحيح مسلم نفسه عن جابر : «لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة» ، وفي آخر هذا الحديث تلاحظ أيضاً جملة «كلهم من قريش» (٢).
٢ ـ جاء هذا الحديث في صحيح البخاري وبعبارات مشابهة ، يقول جابر : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول :
«يكون اثنى عشر أميراً فقال كلمة لم اسمعها ، فقال أبي إنّه قال كلهم من قريش» (٣).
٣ ـ وذكر هذا المعنى في صحيح الترمذي أيضاً مع شيء من الاختلاف ، ويقول الترمذي بعد نقله : «هذا حديث حسن صحيح» (٤).
٤ ـ كما جاء هذا الحديث في صحيح أبي داود أيضاً مع اختلاف بسيط ، ويبرهن نمط الحديث على أنّ النبي صلىاللهعليهوآله أدلى به على الملأ العام ، فقد جاء فيه أنّ النبي صلىاللهعليهوآله حينما قال : «لا يزال هذا الدين عزيزاً إلى اثني عشر خليفة فكبر الناس وضجوا ثم قال كلمة خفية : كلهم من قريش» (٥).
٥ ـ ذكر هذا الحديث في مسند أحمد أيضاً وفي عدّة موارد ، بحيث عدّ بعض المحققين في هذا الكتاب طرقه إلى جابر أربعةً وثلاثين طريقاً (٦).
وجاء عن «مسروق» أنّه قال : كنا جلوساً ليلة عند عبد الله بن مسعود يقرئنا القرآن فسأله رجل فقال : ياأبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلىاللهعليهوآله كم يملك هذه الامّة من خليفة؟ فقال عبد الله : ما سألني عن هذا أحد منذ قدمت العراق قبلك ، قال : سألناه فقال :
__________________
(١) صحيح مسلم ، ج ٣ ، ص ١٤٥٣.
(٢) المصدر السابق.
(٣) صحيح البخاري ، ج ٣ ، الجزء ٩ ، ص ١٠١ (في الباب الذي أورده قبل باب اخراج الخصوم وأهل الريب).
(٤) صحيح الترمذي ، ج ٤ ، ص ٥٠١ ، باب ما جاء في الخلفاء ، الحديث ٢٢٢٢٣.
(٥) صحيح أبي داود ، ج ٤ ص ١٠٣.
(٦) يراجع كتاب منتخب الأثر ، ص ١٢ ؛ واحقاق الحق ، ج ١٣.
«اثني عشر كعدة نقباء بني اسرائيل» (١).
مانقلناه يتعلق بأشهر كتب السنة وأكثرها اعتباراً التي نقل فيها هذا الحديث عن طرق مختلفة ، ومن بعدها جاء في كتب اخرى أيضاً ، حيث نشير إلى أسماء بعضها تجنّبا للاطالة في الحديث ، وبإمكانكم الحصول على مزيد من التفصيل في كتب «احقاق الحق» ، وفضائل الخمسة» ، و «منتخب الأثر» وأمثالها.
* * *
مضمون حديث «الأئمّة عليهمالسلام اثنى عشر» :
إنَّ التعابير التي جاءت في هذه الروايات متفاوتة ، فقد عبر في بعضها بـ «اثني عشر خليفة» وفي بعض «اثني عشر أميراً» وفي بعض جرى الحديث عن ولاية وحكم اثني عشر رجلاً «ماولاهم اثنى عشر رجلاً» ، ولكن غالباً ما عبر بـ «خليفة» ، وفي بعضها جاء التعبير أيضاً بالعدد فقط «اثني عشر كعدة نقباء بني اسرائيل» ، كما عبر في بعضها بـ «اثني عشرة قيماً».
ولكن من الواضح أنّها جميعا تشير إلى مسألة الخلافة والولاية والحكومة ، وبالتالي فهي واحدة.
ومن ناحية اخرى فقد ورد في بعضها : «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعاً» ، وفي بعضٍ : «لا يزال أمر امتي صالحاً» ، وفي بعض : «لا يزال أمر هذه الامة ظاهراً» ، وفي بعض : «ماضياً» وفي بعض : «لا يضرهم من خذلهم».
وتعابير اخرى من هذا القبيل حيث تشير جميعها إلى حقيقة واحدة وهي : صلاح أمر الامّة واقتدارهم وظفرهم ونجاتهم.
ومن جهة ثالثة تلاحظ جملة «كلهم من قريش» في أغلب هذه الروايات التي نقلت بأساليب مختلفة ، ما عدا بعض الروايات مثل الرواية التي نقلها القندوزي الحنفي في ينابيع
__________________
(١) مسند أحمد ، ج ١ ، ص ٣٩٨.
المودة ، إذ ينقل في ذيل هذه الرواية عن كتاب «مودة القربى» عن «جابر بن سمرة» أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : «كلهم من بني هاشم» (١).
وجاء في أغلب هذه الروايات أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله خفض صوته أثناء ذكره هذه الجملة ، وصرح بها سرّاً ، وهذا يدل بوضوح أنّ ثمّة أشخاص كانوا يعارضون أن يكون الخلفاء الاثنى عشر لرسول الله صلىاللهعليهوآله في قريش أو بني هاشم ، ممّا أدّى إلى أن يصرح النبي صلىاللهعليهوآله بذلك بشكل سري!
على أيّة حال فإنّ تفسير هذا الحديث الشريف الذي ورد في المصادر المشهورة والمعتبرة ونظراً لاعتراف جميع علماء الإسلام به فإنّه واضح لأتباع أهل البيت عليهمالسلام ، وأنّهم لا يرون معنى له سوى الأئمّة الاثنى عشر ، إلّاأنّ تفسيره بالنسبة لأتباع المذاهب الاخرى أصبح عبارة عن مسألة غامضة ومعقدة ومعضلة ، بنحو يمكن معه القول بكل اطمئنان : إنّ أيّاً منهم لم يقدم تفسيراً واضحاً له ، والسر في ذلك معلوم ، فالخلفاء الأوائل كانوا أربعة ، وحكام بني امية كانوا اربعة عشر ، وبلغ عدد حكام بني العباس سبعاً وثلاثين شخصاً.
وإنّ أيّاً منهم لم ينطبق عليه حديث «الأئمّة اثنى عشر» ، كما أنّ الجمع والتمييز بينهم لن يحل المشكلة ، إلّاأن نلغي البعض ونقبل بالبعض الآخر وفقاً لميولنا ، وننتخب اثني عشر منهم بمشقة وعناء ، وهذا أيضاً لاينسجم مع أي منطق.
من الأفضل لنا أن نضع زمام الحديث بيد «الحافظ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي» فهو يقول في الكتاب المعروف «ينابيع المودة» :
قال بعض المحققين : إنّ الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلىاللهعليهوآله اثني عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة فبشرخ الزمان وتعريف الكون والمكان علم أنّ مراد رسول الله صلىاللهعليهوآله من حديثه هذا الأئمّة الاثني عشر من أهل بيته وعترته ، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأموية لزيادتهم عن اثني عشر ، ولظلمهم الفاحش ـ إلّاعمر بن عبد العزيز ـ ولكونهم غير
__________________
(١) ينابيع المودة ، ص ٤٤٥ ، الباب ٧٧.
بني هاشم ، لأنّ النبي صلىاللهعليهوآله قال : كلهم من قريش ، في رواية عبد الملك عن جابر واخفاء صوته صلىاللهعليهوآله في هذا القول يرجح هذه الرواية لأنّهم لايحسنون خلافة بني هاشم ، ولا يمكن أن يحمله على الملوك العبّاسيين لزيادتهم على العدد المذكور ولقلة رعايتهم الآية : (قُلْ لَّا أَسْئَلُكُم عَلِيهِ أَجْراً الَّا المَودَّةَ فِى القُربى). (الشورى / ٢٣)
وكذلك حديث الكساء ، فلابدّ من أن يحمل هذا الحديث على الأئمّة الاثني عشر من أهل بيته وعترته صلىاللهعليهوآله لأنّهم كانوا اعلم أهل زمانه وأجلهم وأورعهم واتقاهم وأعلاهم نسباً وأفضلهم حسباً وأكرمهم عند الله (١).
يقول الدكتور «محمد التيجاني السماوي» الذي كان من أهل السنة ثم اختار التشيع ، في الكتاب الذي ألّفه حول سبب تشيعه واسماه «كونوا مع الصادقين» في عدّة جمل قصيرة ومفعمة بالمعاني : «هذه الأحاديث لا تصح ولا تستقيم إلّاإذا فسرناها على أئمّة أهل البيت الذين تقول بهم الشيعة الإمامية ، وأهل السنّة والجماعة هم المطالبون بحل هذا اللغز إذ إنّ عدد الأئمّة الاثني عشر الذي اخرجوه في صحاحهم بقي حتى الآن لغزاً لا يجدون له جواباً» (٢).
والعجيب أنّ البعض أرادوا تفسير هذا الحديث الشريف دون الاذعان لاعتقاد اتباع أهل البيت عليهمالسلام في هذا المجال فتعرضوا لعناء مدهش ، فمن ناحية عدوا «يزيد بن معاوية» من الاثني عشر الذين سما بهم الإسلام واصبح مقتدراً ، ومن ناحية اخرى ألغوا عددا من الخلفاء وفقاً لرغبتهم.
وباعتقادنا أنّهم لو اختاروا السكوت لكان أفضل لهم من هذه التبريرات ، والأعجب من ذلك كله التفسير الذي سمعناه في احدى أسفارنا لحج بيت الله الحرام من أحد علماء مكة وفي المسجد الحرام وهو : إنّ الأئمّة الاثنى عشر أولهم الخلفاء الأربعة وثمانية منهم سيظهرون في المستقبل!
بينما كل من يقرأ هذا الحديث يعرف أنّ المراد منه الوجود المتتابع للخلفاء الاثني عشر،
__________________
(١) ينابيع المودة ، ص ٤٤٦ ، ملحق الباب ٧٧.
(٢) كونوا مع الصادقين ، ص ١٤٦.
والتعابير مثل : «لا يزال هذا الدين منيعاً عزيزاً» ، أو «لا يزال هذا الدين قائماً حتى تقوم الساعة» تفيد هذا المعنى بجلاء وصراحة بأنّ سلسلة خلفاء النبي صلىاللهعليهوآله الاثني عشر ستستمر إلى يوم القيامة.
ونختم هذا البحث بحديث عن الحافظ أبي نعيم الاصفهاني في كتاب «حلية الأولياء» فهو ينقل بسنده عن ابن عباس أنّ النبي صلىاللهعليهوآله قال : «منْ سرهُ أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن غرسها ربي ، فليوال علياً من بعدي ، وليوال وليه وليقتد بالائمة من بعدي فإنّهم عترتي» (١).
ملاحظة
وثمة ملاحظة مهمّة هنا نشير إليها ونترك شرحها للبحوث اللاحقة ، وهي ورود أسماء الأئمّة الاثني عشر ـ كما يعتقد به اتباع مذهب أهل البيت ـ في العديد من الروايات التي نقلت عن طريق السنّة والشيعة ، وفي بعض طرق هذه الروايات تمّت الإشارة إلى اسم أولهم علي عليهالسلام وآخرهم المهدي (عج) بصيغة أولهم علي وآخرهم المهدي ، وفي بعضها أشير إلى ثالثهم أي الإمام الحسين عليهالسلام بهذا الشكل الذي نقل أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أومأ إليه وقال : «هذا ابني إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمّة تسع» (٢) ، وهكذا اشير إلى جميع الأئمّة الاثني عشر.
* * *
لا تخلو الأرض من حجّة :
من المسائل المهمّة التي يستند إليها في الروايات هي أنّ الأرض لا تخلو من مندوب عن الله تعالى ، وقد تكرر هذه المضمون في الروايات المتواترة التي وصلتنا عن مصادر أهل
__________________
(١) حلية الاولياء ، ج ١ ، ص ٨٦ (وفقاً لنقل الفضائل الخمسة من الصحاح الستة ، ج ٢ ، ص ٣٤).
(٢) يقول المرحوم العلّامة في كشف المراد (شرح تجريد الاعتقاد) ، إنّ هذا الحديث روي بشكل متواتر عن النبي صلىاللهعليهوآله كشف المراد ، ص ٣١٤.
البيت عليهمالسلام ، بأنّ الأرض لا تخلو من إمام أو «نبي» أو حجّة على العموم ، وقد احتوى كتاب الكافي على بابين في هذا المجال ، وروي في باب منهما تحت عنوان : «إن الأرض لا تخلو من حجّة» ، ثلاثة عشر حديثاً عن الإمام الباقر عليهالسلام والإمام الصادق عليهالسلام والإمام علي بن موسى الرضا عليهالسلام وبعض الأئمّة ، في الباب الآخر تحت عنوان : «إنّه لو لم يبق في الأرض إلّا رجلان لكان أحدهما الحجّة» ، ورويت فيه خمسة أحاديث بهذا المضمون (١) ، حيث نشير فيما يلي إلى بعض هذه الأحاديث الواردة في كلا البابين.
نقرأ في أحد الأحاديث الواردة عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال : «إنّ الأرض لا تخلو إلّا وفيها إمام كيما إنْ زاد المؤمنون شيئاً ردّهم وإن نقصوا شيئاً أتمَّهُ لهم» (٢).
ونقرأ أيضاً في حديث آخر عنه عليهالسلام : «ان الله أجلُّ وأعظم من أن يترك الأرض بغير امام عادل» (٣) ، بل ورد في بعض هذه الأحاديث أنّ الأرض إذا خلت من الإمام والحجة ساعة واحدة لتزلزلت الأرض وساخت بأهلها (٤).
ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليهالسلام أنّه قال : «لو كان الناس رجلين لكان احدهما الإمام» ، «وان آخر من يموت الإمام» (٥).
بالاضافة إلى الأحاديث الثمانية عشر المذكورة فقد اشير إلى هذا المعنى بصراحة في نهج البلاغة أيضاً ، ففي الكلمات المهمّة التي قالها الإمام علي عليهالسلام لكميل بن زياد ، يقول : «اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، اما ظاهراً مشهوراً واما خائفاً مغموراً لئلا تبطل حجج الله وبيناته» (٦).
وقد نقل المرحوم العلّامة المجلسي أيضاً في الجزء ٢٣ من بحار الأنوار في باب «الاضطرار إلى الحجة» ١١٨ حديثاً في هذا المجال وهذه الأحاديث الموجودة في اصول
__________________
(١) اصول الكافي ، ج ١ ، ص ١٧٨ و ١٧٩.
(٢) المصدر السابق ، ج ١ ح ٢ من الباب الأول.
(٣) المصدر السابق ، ج ١ ، ح ٦ من الباب الأول.
(٤) المصدر السابق ، ح ١١ و ١٢ و ١٣.
(٥) المصدر السابق ، ح ٣ ، (باب إنه لو لم يبق إلّارجلان احدهما الإمام).
(٦) نهج البلاغة ، الخطبة ١٤٧.
الكافي هي قسم منها ، وقسم كثير اضيف إليها من سائر الكتب (١).
بناءً على ذلك فإنّ قضية وجود حجة على الأرض في كل عصر تعتبر من الامور المسلَّم بها في مذهب أهل البيت عليهمالسلام ، إلى الحد الذي نقرأ في حديث للامام موسى بن جعفر عليهالسلام : «إنّ الله لا يُخلي أرضهُ من حجةٍ طرفة عين ، إمّا ظاهر وإمّا باطن» (٢).
* * *
الإشارات القرآنية والمنطقية على وجوب الحجّة :
إنّ ما جاء في الروايات الآنفة الذكر يمكن تطبيقه مع الدليل العقلي أيضاً ، لأنّ «برهان اللطف» الذي ورد في مستهل البحث حول لزوم وجود الإمام أو النبي في كل عصر وزمان ، وكذلك المفاسد المترتبة على فقدانه تصدق على ذلك في جميع الأحوال حتى لو كان سكان الكرة الأرضية شخصين فقط.
تقول قاعدة اللطف : إنّ الذي خلق الإنسان من أجل السعادة والتكامل ، وألقى على عاتقه التكاليف ، من الواجب أن يهيء مقدمات هداية الإنسان وتربيته ، وأن يضع تحت تصرفه مستلزمات بلوغ هذا الهدف لأنّه لو لم يفعل هكذا فقد نقض الغرض ، ومن المستحيل أن يفعل الله الحكيم هكذا.
لا شك في أنّ وجود العقل أو القادة العاديين لا يصون الإنسان من الأخطاء والزلات والمعاصي ، وبتعبير آخر : إنّ علم الإنسان لايستطيع لوحده إرشاد الإنسان إلى غايته ، أي طاعة الله والسعادة الأبدية ، بل بالإضافة إلى ذلك فهو يحتاج إلى منْ يرتبط بالعلم الإلهي والمعصوم من الخطأ والزلل والمعصية ، ليتسنى له اتمام الحجة وتوضيح السبيل للناس بشكل تام.
إنّ هذا البرهان يصدق في كل عصر وزمان ، ولكل مجتمع كبيراً كان أم صغيراً حتى ولو
__________________
(١) بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، من ص ١ إلى ٥٦.
(٢) بحار الأنوار ، ج ٤٧ ، ص ٤١.
كان من شخصين ، وعليه فلو لم يكن في الأرض إلّاشخصان فاحدهما النبي أو الإمام المعصوم.
على أيّة حال فكما قرأنا في الروايات الآنفة أنّ الله أجلُ من أنْ يكلف الناس بلوغ مقام السعادة من دون أنْ يرشدهم إلى الطريق الصحيح الذي يخلو من الخطأ.
يلاحظ في بعض آيات القرآن إشارات إلى هذا المعنى أيضاً.
فالآية الكريمة : (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ). (الرعد / ٧)
تدل على أنّ لكل قوم في كل عصر وزمان هادياً ، (هادٍ بالمعنى الحقيقي للكلمة حيث يجسد الهداية الكاملة والخالية من كل خطأ) ، ومن هنا نقرأ في الحديث الوارد عن الإمام الباقر عليهالسلام ، إذ قال في تفسير هذه الآية : «... وفي كلِّ زمانٍ إمامٌ منّا يهديهم إلى ما جاء به رسول الله صلىاللهعليهوآله» (١).
والتعبير الذي جاء في نهج البلاغة يضم في ثناياه دليلاً منطقياً أيضاً ، وهو : إنّ أحد واجبات الإمام هو المحافظة على آثار النبوة والتعاليم الإلهيّة من كل تحريف ، وبتعبير آخر : لو فرضنا أنّ كلَّ من على الأرض كفروا فلابدّ من وجود شخص يحافظ على تعاليم وآثار النبوة وينقلها إلى الأجيال القادمة التي تريد سلوك سبيل الهداية ، وإلّا فإنّ الحجج الإلهيّة تُمحى وتزول ، وتنتهي دلائله وبيناته «لئلا تبطل حجج الله وبيناته».
وهنا نصل إلى خاتمة البحوث المتعلقة بالولاية العامة ، والآن نتطرق إلى شروطها وخصائصها.
* * *
__________________
(١) بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، ص ٥ ، ح ٩.
الشروط والصفات
الخاصة بالإمام
الشروط والصفات الخاصة بالإمام
تمهيد :
نظراً للمسؤوليات الخطيرة الملقاة على عاتق الإمام وخليفة النبي صلىاللهعليهوآله ، فلابدّ بطبيعة الحال من أن تتوفر فيه شروط صعبة.
وتلك الشروط تشابه إلى حدٍ ما شروط وخصائص النبي صلىاللهعليهوآله لأنّهما يسيران في طريق واحد ، ويتحملان نوعاً واحداً من المسؤولية ، فالنبي صلىاللهعليهوآله يتقدم في المرحلة الاولى والأئمّة يتابعونه في المراحل اللاحقة.
وكما تحدثنا في بحث النبوّة ، فالنبي وبحكم المسؤولية المهمّة الملقاة على عاتقه يجب أن يتمتع بعلم واسع في كل مجال ، ليستطيع انقاذ البشر من أخطار الضلالة ، ويهديهم في القضايا العقائدية والأخلاقية والأحكام والأنظمة الاجتماعية إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وكمالهم ، ويوضح الأحكام الإلهيّة بلا نقصٍ أو زيادة.
أضف إلى هذا فلابدّ أن يتمتع باطلاع عن روح وجسم الإنسان ، والمسائل النفسية والاجتماعية ، وتاريخ المجتمع البشري ، والخلاصة أن يتمتع بما يساعد على معرفة الناس الذين يحتاجون إلى التربية ، بل وتم التوضيح في بحث علم الأنبياء ووجوب تمتعهم بالعلم بما يخص وقائع المستقبل نوعاً ما ، ليتسنى لهم وضع الخطط الدقيقة لذلك لشمولية رسالتهم (للمزيد من التوضيح بهذا الصدد راجعوا الجزء السابع من نفحات القرآن ، بحث المقام العلمي للأنبياء).
وهذه الامور تصدق بالنسبة لأئمّة الحق وخلفاء الأنبياء أيضاً مع شيء من التفاوت لأنّهم يواصلون طريق الأنبياء وخطهم ، وكل مايشرع به اولئك يواصله هؤلاء ، وكل ما أقامه
الأنبياء يصونه ويكمله الأئمّة عليهمالسلام فالشجيرات التي غرستها سواعد الأنبياء تسقى بسواعد الأئمّة الهداة عليهمالسلام.
ومن جهة اخرى فالائمة الصالحون كالأنبياء يجب أن يوصلوا ما يعلمونه إلى الناس سالما من الخطأ والزلل والانحراف ، وإذا لم يكونوا معصومين لا تتحقق الغاية من وجودهم.
ومن ناحية ثالثة فالأنبياء وبمقتضى مقام القيادة في الدين والدنيا لابدّ وأن يكونوا ذوي أخلاق فاضلة وصفات محمودة ظاهرية كانت أو باطنية لئلا يتذمر منهم الناس ولكي تثمر الأهداف من بعثتهم ولايعرض امرٌ ينقض الغاية.
هذا الأمر يصدق بحق الأئمّة عليهمالسلام تماما ، فهم لا ينبغي عليهم التنزه عن أسباب التذمر فحسب ، بل لابدّ من توفر الجاذبيات الأخلاقية لديهم بالقدر الكافي لجذب القلوب والعقول ، وهنا لابدّ اولاً من البحث في علم الإمام.
* * *
علم الإمام
يشير القرآن الكريم إلى هذه المسألة في عدّة آيات :
فيقول تعالى في مكان : (وَاذَا جَاءَهُم أَمْرٌ مِّنَ الامْنِ أَوِ الخَوْفِ اذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ الَى الرَّسُولِ وِالَى اولِى الامْرِ مِنْهُم لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ الَّا قَلِيلاً). (النساء / ٨٣)
ويقول في آية اخرى : (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ انْ كُنْتُم لا تَعْلَمُونَ). (النحل / ٤٣)
* * *
تدل الآية الاولى على أنّ هناك اشخاصاً بين المسلمين كانوا يسلكون ـ وبلا وعي منهم ـ سبيل بث الشائعات التي يثيرها أعداء الإسلام أحياناً ، فتارة يثيرون إشاعة الانتصار ، واخرى إشاعة الهزائم ، أو سائر الإشاعات ، وسبب هذا الأمر الغفلة والجهل ، وقد يتسبب في انهيار معنويات المسلمين ، يقول القرآن : على المسلمين أن يراجعوا النبي صلىاللهعليهوآله أو اولي الأمر في مثل هذه المسائل الاجتماعية المهمّة التي يجهلونها.
واولي الأمر تعني أصحاب القرار ، ومن المسلم به أنّها لا تعني هنا القادة الحربيين ، لأنّه تعالى يقول بعد ذلك ما معناه : إنّ الذين يستنبطون الأحكام (أي الذين يبحثون القضايا من أصلها يمتلكون الاطلاع حول هذه الامور ، وعلى الذين يجهلون مراجعة هؤلاء) ، فإنّ «يستنبطونه» من مادة «نَبَطْ» ـ على وزن «فَقَطْ» ـ وتعني في الأصل الماء الأول الذي يستخرجونه من البئر ويتفجر من باطن الأرض ، لذا يقال للحصول على الحقيقة من مختلف
الأدلة والقرائن ، استنباط.
وهذا التعبير صادق بحق العلماء فقط ، لا قادة الجيش ولا الأمراء ، من هنا فإنّه تعالى يكلف المسلمين بالرجوع إلى العلماء وأُولي الأمر في المسائل الحساسة والمصيرية.
لكن ما المقصود هنا من «اولي الأمر»؟ ثمّة جدل بين المفسرين أيضاً ، فبعض فسرها بمعنى امراء الجيش لاسيّما الجيش الذي فيه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وبعضٌ بمعنى العلماء والفقهاء ، وبعضٌ فسّرها بالخلفاء الأربعة ، وبعضٌ بمعنى أهل الحل والعقد (زعماء المجتمع) ، وطائفة اعتبرتهم الأئمّة المعصومين عليهمالسلام.
والظاهر أنّ التفسير الأخير أكثر ملائمة من البقية ، فقد ذكرت خصلتان لُاولي الأمر في ذيل الآية لايمكن لهما أن تصدقا على غير المعصوم :
الاولى : ما يقوله تعالى بما معناه : ولو ردوه إلى اولي الأمر لأرشدهم أولئك الذين يعلمون اصول القضايا ، وظاهر هذا التعبير أنّ علمهم غير مختلط بالجهل والشك ، وهذا الأمر لا يصدق على غير المعصومين.
والثانية : هي أنّه تعالى يعدُّ وجود اولي الأمر نوعاً من الفضل والرحمة الإلهيّة حيث تحول طاعتهم دون اتباع الناس للشيطان : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُم وَرَحمَتُهُ لَاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إلَّاقَلِيلاً).
ومن الواضح أنّ اتباع المعصومين فقط هو الطريق الأمثل والأصوب الذي بإمكانه الحؤول دون ضلال الإنسان واتباعه للشياطين ، لأنّ غير المعصومين ربّما يزلون ويقعون في الخطأ والمعصية ويصبحون أُلعوبة بيد الشيطان.
لهذا فقد فسّرت (اولي الأمر) في هذه الآية في العديد من الروايات التي وصلتنا عن طرق أهل البيت عليهمالسلام وأهل السنّة بمعنى الأئمّة المعصومين.
ففي رواية ذكرها المرحوم الطبرسي في مجمع البيان عن الإمام الباقر عليهالسلام قوله : «هم الأئمّة المعصومون» (١).
__________________
(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٨٢.